مُقَدِّمَة المحَقِق الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ خاتَمِ الأنبياء والمرسلين وبعد: فهذا كتاب "جواهر القرآن" للإمام الغزالي ﵁، أبرز فيه رحمه الله تعالى جواهر القرآن، ونبَّهَ على الغَوْصِ في مُحيطه، والإفادة من جواهرِهِ، والالتقاط من دُرَرِه، والظَّفَرِ بنفائِسه، للفوز بِخَيْرِ الدُنيا والآخرة، فهو كتاب يدل عنوانُهُ على نفاسَةِ موضوعه وشرف مضمونه ورِفْعَةِ غايَتِهِ. عملي في هذا الكتاب عندما وقعت بين يدي نسخة هذا الكتاب وجدتُ غالبها متصل الأسطر، غير مُجَزَّأ الفَقَرات، فعمدت إلى تجزئَةِ الكتاب في فَقَرات، وضبَطتُ الشَّكل فيها، ورتبت سَرْدَ آياتِ القرآن، خصوصًاَ عند بيان الغزالي لِنَمَطِ جواهرِ القرآن ونَمَطِ دُرَرِه، فذكرت في أول السطر في كل نَمَط عدد آيات الجواهر من كل سورة، ثم أتبعتُ ذلك بالآيات نفسها، مُبْتَدِئًا بكل مجموعة منها في السورة من أول السطر أيضًا.

1 / 5

ثم عمدت إلى الأحاديث النبوية التي ذكرها الغزالي في مقدمة كتابه فَأشَرْتُ في هامش هذه الطبعة إلى موضع روايتها في كتب الحديث؛ كما عمدت إلى الآيات القرآنية فأشرت إلى رقم كل آية ومَوْضِعها من السورة؛ كما عمدتُ أيضًا إلى الكلمات الصعبة في الكتاب فشرحتُ معناها من كتب اللغة. ولا أدعي الكمال في عملي ذلك كله، إنما هي محاولة لتقديم هذا الكتاب في صورة تُسَهِّل على القارئ مطالعة الكتاب والإفادة من موضوعه. وقد اعتمدتُ في ضبط هذا الكتاب وإخراجه على النسخة المطبوعة بالمكتبة التجارية الكبرى لصاحبها مصطفى محمد، بأول شارع محمد علي بمصر - القاهرة، الطبعة الثانية ١٣٥٢ هـ = ١٩٣٣ م. والله وليُّ التوفيق. بيروت أول رجب الخير ١٤٠٤ هجرية. محمد رشيد رضا القباني الموافق للأول من نيسان ١٩٨٤م.

1 / 6

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ ترجمة حياة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى الإمام الغزالي هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقب حجة الإسلام، زين الدين الطوسي، الفقيه الشافعي، ولد بطوس، سنة خمسين وأربعمائة. ويحكى أن والده كان صالحًا، لا يأكل إلا من كسب يده، يعمل في غزل الصوف ويبيعه في دكانه؛ ولما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف ومن أهل الخير وقال له: إن لي لتأسُّفًا عظيمًا على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولديَّ هذين، فعلِّمهما، ولا عليك أن تُنفِذَ في ذلك جميع ما أخلفه لهما. فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فنيَ ذلك النزر اليسير الذي خلّفه لهما أبوهما، فقال لهما: إعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر، لا مال لي أواسيكما به، فأرى أن تلجأا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعْينكما على وقتكما، ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما. وكان

1 / 7

الغزالي يحكي ذلك ويقول: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. وقد كان والد الغزالي ﵀ يطوف على المتفقِّهة، ويجالسهم، ويتوفرَّ على خدمتهم، ويَجِدُّ في الإحسان إليهم، والنفقة بما يمكنه عليهم، وكان إذا سمع كلامهم بكى وتضرَّع، وسأل الله أن يرزقه ابنًا واعظًا، ويجعله فقيهًا، فاستجاب الله دعْوَتَيه، أما أبو حامد فكان أفقه أقرانه، وإمام أهل زمانه؛ وأما أحمد فكان واعظًا، تلينُ الصُمُّ الصخور عند سماع تحذيره، وترتعد فرائِصُ الحاضرين في مجالس تذكيره. قرأ الغزالي في صباه طرفًا من الفقه على أحمد محمد الراذكاني، ثم قدم بعد ذلك إلى نيسابور، ولازم إمام الحرَمَيْن أبي المعالي الجُوَيني، وجدَّ واجتهد حتى برع في المذهب، والخلاف، والجدل، والمنطق، وقرأ الحكمة، والفلسفة، وأحكَمَ كل ذلك، وفهم كلام أهل هذه العلوم، وتصدى للردّ عليهم وإبطال دعاويهم، وصنَّفَ في كل فن من هذه العلوم كُتبًا أحسنَ تأليفها، وأجاد وضعها. وكان الغزالي ﵁ شديد الذكاء، سديد النظر، قويَّ الحافظة، بعيد الغَوْر، غوَّاصًا على المعاني، مُناظِرًا مِحْجاجًا. ولما مات إمام الحرَمَيْن "الجُوَيْني" خرج الغزالي قاصدًا الوزير "نظام الملك". وكان مجلسه مجمع أهل العلم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقَّاه الصاحب بالتعظيم والتبجيل، وولاه تدريس مدرسته "النظّامية" ببغداد سنة أربعٍ وثمانين وأربعمائة، فقدمها

1 / 8

في تجمُّل كبير، وتلقَّاهُ الناس، ونفذت كلمته، وعظمت حشمته حتى غلبت على حشمة الأمراء والوزراء، وأعجب الخلقَ حسنُ كلامه، وكمالُ فضله، وفصاحةُ لسانه، ونُكَتُه الدقيقة، وإشاراته اللطيفة، وأحبوه. وأقام على تدريس العلم ونشره بالتعليم والفُتيا والتصنيف مُدةً. كان عظيم الجاه، عالي الرتبة، مسموع الكلمة، مشهور الاسم، تضرب به الأمثال، وتُشد إليه الرحال، حتى شَرُفَت نفسه عن كل جاه، وترك ذلك كله وراء ظهره ورحل إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، فخرج إلى الحج في شهر ذي الحجة سنة ثمانٍ وثمانين وأربعمائة (٤٨٨ هجرية) واستناب أخاه في التدريس ببغداد. ودخل دمشق بعد عودته من الحج في سنة تسعٍ وثمانين وأربعمائة (٤٨٩ هجرية)، فلبث فيها أيامًا يسيرة، ثم توجه إلى بيت المقدس، فجاور ربه مدةً، ثم عاد إلى دمشق، واعتكف بالمنارة الغربية من الجامع، وبها كانت إقامته. وقد صادف دخوله يومًا المدرسة الأمينة فوجد المدرس يقول: قال الغزالي وهو يدرس كلامه فخشي الغزالي على نفسه العجَبَ ففارق دمشق، وأخذ يجول في البلاد، فدخل مصر، وتوجه إلى الإسكندرية، فأقام بها مدة، وقيل إنه عزم على المضي إلى السلطان يوسف بن تاشفين سلطان المغرب لِما بلغه من عدله، فبلغه موته، واستمر يجول في البلدان حتى عاد إلى خراسان ودرَّس بالمدرسة النظامية بنيسابور مدة يسيرة، ثم رجع إلى طوس، واتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء، وخانقاه للصوفية، ووزع أوقاته على وظائف من ختم القرآن، ومجالسة أرباب القلوب، والتدريس لطلبة العلم، وإدامة الصلاة والصيام وسائر العبادات، إلى أن انتقل إلى رحمة الله تعالى ورضوانه. وكانت

1 / 9