جريمة اللورد سافيل
جريمة اللورد سافيل
اصناف
فابتسم المستر بودجرز وأخرج من جيبه مجهرا صغيرا ومسحه بمنديله بعناية، وقال: إني على أتم استعداد.
2
اندفع لورد أرثر سافيل خارجا من بنتنك وقد تلطم وجهه من الجزع، ورأرأت عيناه من الحزن، وشق طريقه بين الخدم الواقفين وعليهم معاطف من الفرو على جانبي الظلة الكبيرة المخططة، وكأنه لا يرى أو يسمع شيئا، وكان الليل قارس البرد، وألسنة مصابيح الغاز حول الميدان ترتفع وتضطرب في الريح الباردة، ولكن كفيه كانتا وهجتين من الحمى، وكان جبينه محتدما كالنار، ومضى يخبط بما يشبه مشية السكران، ونظر إليه شرطي متعجبا له حين مر به، وخرج متسول من تحت كفاف يستجديه فاستولى عليه الفزع لما رأى شقوة أعظم من شقوته، ووقف مرة تحت مصباح وصوب عينيه إلى راحتيه فخيل إليه أنهما ضرجتان، فندت عن شفتيه المرتجفتين صرخة خافتة.
القتل ... هذا ما رآه عالم الكف في راحتيه ... حتى ظلام الليل يبدو كأن عنده علم هذا السر، وكأن الريح تعوي به في أذنيه، وكأن أركان الطريق الحالكة غاصة به، وكأن سطوح البيوت تضحك ضحكة المستهزئ.
وبلغ الحدائق العامة وكأنما فتنته أشجارها القاتمة فاستند إلى الحاجز وأراح جبينه المحموم على حديده البليل ليبترد، وأرهف أذنه لحفيف الشجر المترنح وجعل يقول ويكرر: «القتل ... القتل ...» كأن التكرار يستطيع أن يخفف من هول اللفظ، وكان صوته يرسل في بدنه رعدة، ومع ذلك ود لو جاوبه الصدى وأيقظ المدينة النائمة من أحلامها، ونازعته نفسه أن يستوقف أحد السابلة ويخبره الخبر كله.
ثم مضى يخبط في شارع أكسفورد ويدخل في أزقة ضيقة فيها ما يخجل، فتنادرت عليه امرأتان مصبوغتا الوجه وهو يمر بهما. وتأدى إليه من فناء مظلم أصوات شتائم ولكمات وضربات تلتها صرخات عالية، ورأى على عتبة مرطوبة ظهورا مقوسة من الفاقة والشيخوخة، فأدركته رحمة عظيمة وتساءل: أترى هؤلاء أبناء الإثم والشقاء قد كتب عليهم ما هم فيه كما كتب عليه؟ أتراهم مثله ألاعيب في رواية فظيعة؟
على أن مهزلة الألم، لا سره، هي التي كانت أوقع في نفسه، العبث المطلق وانعدام المعنى، ويا ما أشد التنافر في كل شيء وأقل التناسق! وأذهله التباين بين الظواهر التي تغري بالتفاؤل والرضا، وحقائق الوجود، فقد كان ما زال في عنفوان شبابه.
وبعد قليل ألفى نفسه أمام كنيسة ماريلبون، وكان الطريق الساكن يبدو له كأنه شريط طويل من الفضة المصقولة تنقطه هنا وها هنا الظلال المتموجة، وعلى آخر مدى النظر يتقوس خط المصابيح الخفاقة اللهب، وعلى باب بيت صغير مسور وقفت مركبة وسائقها نائم فيها، فمضى مسرعا في اتجاه «بورتلاند بليس» وكان يتلفت من حين إلى حين كأنما يخشى أن يكون وراءه من يتبعه. ورأى في زاوية من شارع «ريتش» رجلين يقرأان إعلانا على جدار؛ فتحركت في نفسه رغبة غريبة في الوقوف على ما فيه، فعبر إليهما، فلما دنا منهما صافحت عينيه كلمة «القتل» مطبوعة بأحرف سود غليظة، فريع! وتدفق الدم إلى وجنتيه، وكان ذلك إعلانا يعرض مكافأة لمن يفضي بما يؤدي إلى القبض على رجل ربعة في الثلاثين أو الأربعين من العمر يلبس قبعة ذات ريش، ومعطفا أسود، وسراويل مخططا وعلى خده الأيمن ندبة، فقرأه مرة أخرى، وراح يتساءل: أترى سيقبض على الرجل؟ ومم كان الجرح الذي خلف هذه الندبة؟ ومن يدري؟ لعل اسمه هو يعلق يوما ما على جدران لندن! وعسى أن يطلب يوما ما! ويكون لرأسه ثمن.
وخلع فؤاده الفزع من هذا الخاطر فدار على عقبيه وألقى بنفسه على الليل، وكان لا يكاد يدري أيان يمضي، وكل ما يذكره على نحو غامض أنه كان يجوب تيها من المنازل الحقيرة، وأنه ضل في نسيج هائل من الشوارع الحالكة، وأن الفجر كان قد طلع لما ألفى نفسه مرة أخرى في ميدان بيكاديللي، وبينما كان آخذا طريقه إلى بيته في ميدان بلجريف التقى بالمركبات الضخمة في طريقها إلى «كفننت جاردن». وكان السائقون بوجوههم التي لوحتها الشمس، وشعورهم المتلوية، يقرقعون بسياطهم وهم يسيرون، ويدعو بعضهم بعضا، وكان هناك غلام سمين على ظهر جواد وفي قبعته الخلقة طائفة من الأزهار، وهو يشد على عرف الحصان بكلتا يديه الصغيرتين ويضحك.
وقد بدت أكوام الخضر العظيمة في بلجة الصبح كأنها كتل من حجر اليرمع وراءها غلائل أرجوانية لزهرة نادرة، وكان لهذا وقع عظيم في نفس اللورد أرثر لا يدري مأتاه. ورأى في جمال الفجر ورقته ما أشجاه، وفكر في الأيام التي يطلع فجرها في حفل من الحسن، وتغرب شمسها على هجهجة العواصف، وهؤلاء الريفيون الذين يمتازون بخشونة الصوت وسجاحة النفس وقلة المبالاة، أي مدينة غريبة يقدمون عليها؟ إنها لندن البريئة من آثام الليل ودخان النهار، مدينة شاحبة كالطيف وخاوية كالمقابر، وود لو يعرف ما رأيهم فيها وما مبلغ علمهم بسناها وخزيها، ومباهجها العنيفة القانية وخماصتها الشنيعة، وكل ما تبنيه وتهدمه، وترفعه وتضعه، وتزينه وتشوهه، من الصباح إلى المساء، وعسى أن لا تكون عندهم إلا سوقا يعملون فيها ويبيعون ثمارهم، ويتلكئون ساعات على الأكثر ثم ينكفئون راجعين ويخلفون الشوارع صامتة كما دخلوها، والمساكن نائمة كما وجدوها. وسره أن يراقبهم، وهم يمضون عنه؛ فإنهم على خشونتهم وعنجهيتهم وغلظ أحذيتهم ذات المسامير، وسوء مشيتهم، يجلبون معهم روحا - بفتح الراء وسكون الواو - من النعيم والرضوان، وطاف برأسه أن هؤلاء عايشوا الطبيعة فأولتهم السكينة وجادت عليهم بالطمأنينة، وغبطهم وتمنى أن يكون له كل ما لهم وهم لا يدرون.
نامعلوم صفحہ