تسري كلمة «أحبك» في أذنيها غريبة، كأنما تسمعها لأول مرة، وهو جالس أمامها في الشرفة البحرية. يرشف من الكوب بلا صوت. يمضغ الطعام بلا صوت. ملامحه مألوفة كأنما رأتها منذ ولدت. عيناه حين يراها تمتلئ بالبريق كعيني أمها، وصوته يمشي فوق جفونها كالشعاع الدافئ. - أحبك.
تتسع عيناها وتملؤها الدهشة. تسمع الدقات تحت ضلوعها تتراقص. سنابل القمح تهتز بالإيقاع ذاته، وأجنحة الفراشات تصفق باللحن القديم. أذناها مرهفتان تتسمعان الصوت. آلاف الأجنحة تصفق. آلاف الأيدي مرفوعة في الهواء، والهتاف يسري في الكون كهدير الشلالات. - أحبك! أحبك!
الأرض من تحتها تهتز، والسرير من فوق الأرض يهتز. تصطك الأعمدة النحاسية. الجدران الأربعة تتمايل بحركة مرئية، الصورة فوق الجدار تهتز وتسقط. ينكسر الزجاج ويتناثر في الجو كرذاذ المطر. طرحة الزفاف تتطاير ومعها الكرانيش، والدانتلا تحلق في الجو مثل نتف من القطن. زبد أبيض يتراكم فوق السحب.
من وسط المطر والزجاج المكسور تراه يخرج من الصورة - داخل بدلته العسكرية والوسام فوق صدره. يرتدي وجه جدها الميت. له رأس مربع كالدب الأبيض. ثابت في الهواء كأبي الهول. له قمة مدببة كهرم خوفو، وأنفه غضروف مقوس كمنقار النسر.
رأته يمشي نحوها في الظلمة. كان الليل أسود بلا قمر ولا نجوم، إلا نجمة واحدة تغطيها السحب، والهواء ثقيل مشبع بالدخان وذرات الرمل. رءوس الأشجار تلقي ظلالا سوداء فوق الأرض، كالأشباح. عيناه تفتشان عنه بين الأشباح. نظر وراء الشماعة، داخل الدولاب، فوق السندرة. انحنى بجسده كما كان جدها ينحني، وأطل برأسه تحت السرير، وجهه إلى أسفل وإليتاه إلى أعلى كأنما يصلي. - فين إبليس؟
كانت واقفة وراء النافذة كما كانت أمها تقف. عيناها شاخصتان نحو السماء، تتعلقان بالنجمة الوحيدة في الأفق. تغني لها بصوت خافت كالنشيج: يا زهرة يا أم الكون. - يا عالمة بأسرار الكل.
من خلفها ترى صورته منعكسة في زجاج النافذة. بشرته رمادية بلون جبل المقطم. شعر رأسه تساقط. لم يبق إلا ذؤابة طويلة كالريشة يحركها الهواء. عيناه ثابتتان فوق السكين إلى جوار الزهرية. كوبان من الزجاج ينتصبان فوق المنضدة الرخامية. الأرض تهتز ومن فوقها المنضدة، والكوبان يتلامسان بصوت مسموع، له رنين البلور.
أذناها تنتصبان وهي واقفة. ظهرها ناحيته ووجهها ناحية النافذة. الدقات تحت ضلوعها تتصاعد، الكوب يلامس الكوب الآخر بالإيقاع ذاته، كاللحن القديم، وهي تجري بين الزرع الأخضر تسابق الفراشات.
من خلال الزجاج رأت يده تمتد نحو المنضدة. لمع النصل الحاد كالبرق تحت ضوء القمر، سقط الضوء على وجهها مثل الفلاش في الصورة. شاحب بلون الموت داخل فستانها الأبيض.
واستدارت قبل أن تتحرك يده. لم تصبها الحركة إلا بجرح تحت عظمة الكتف. كادت تنفذ إلى القلب، لولا أنها استدارت، وأصبحت أمامه وجها لوجه.
نامعلوم صفحہ