أهو صوتها الذي يناديه؟ كأنما تسمع اسمه لأول مرة. زكريا؟ اسم غريب ومألوف، سمعته طول العمر، ولم تسمعه أبدا. فوق الجدار الأبيض المصقول صورتها معلقة داخل إطار ذهبي. إلى جوارها رجل يرتدي بدلة عرس سوداء. فوق شفته العليا شارب أسود، حول عنقه رباط معقود على شكل «فيونكة». جدتها كانت تسميه «بابيون» وهي واقفة إلى جواره داخل ثوب الزفاف. أبيض بلون الكفن. بين يديها باقة ورد تتدلى منها وردة شاحبة البياض خالية من الدم، والسرير من الخشب الزان عريض يتسع للموت.
وجهه يطل من فوق السرير بلون الملاءة. وجه غريب لم تره أبدا، ومألوف تماما. رأته كل يوم. ثلاثون عاما، أصبح أكثر طولا. شعر رأسه تساقط، ذؤابة واحدة نافرة فوق كل أذن. رمادية اللون. جسده داخل المنامة الحريرية مرتخي العضلات. «النني» الأسود غارق في بياض أزرق. والزرقة ذابت في لون أصفر. شفتاه تنفرجان عن صوت يتحشرج. - جنات!
كصوت جدها حين يناديها بهذا الاسم. يجلس في غرفة المكتب وراء مكتبه الأسود من خشب الورد. ينعكس وجهه فوق بلورة لامعة. أنفه مقوس كبير علامة الانحدار من سلالة أبيه الطاهرة وجده الشيخ ذي السيرة العطرة. لم يحدث أبدا أن ولد طفل من صلب أبيه دون هذه العلامة. الأنف المقوس الكبير كمنقار البطة، إلا طفلا واحدا ولدته خالة أمها بأنف صغير مقوس، ولم يعرف أحد أين راح هذا الطفل، وأمه ماتت منتحرة في مياه النيل.
في الليل تنكمش إلى جوار جدتها في السرير النحاسي ذي الأعمدة الأربعة، ومن غرفة المكتب تسمع صوت جدها يتنحنح بلا سبب، كان يصدر عنه ذلك الصوت في سكون الليل. نحنحة غليظة فيها خشونة، كأنما يؤكد لجدتها ذكورته، أو وجوده على قيد الحياة، أو على الأقل أنه يقظ لا ينام.
وفي هدوء الليل تتسلل وتمشي في الصالة الكبيرة. تطل من باب الغرفة الموارب. ترى جدها جالسا يقرأ أو ممسكا بالقلم يكتب. تهمس في أذن جدتها النائمة: جدي بيكتب إيه يا نينه؟
تفتح جدتها فمها الخالي من الأسنان وتتثاءب: جدك بيكتب كلام فارغ في كلام فارغ!
في الصباح تتسلل إلى غرفة المكتب. كان الرف في المكتبة عاليا. أعلى من رأسها. تقف فوق الكرسي وتشب فوق أطراف أصابعها. تشد كتابا غلافه ناعم مصقول. الحروف منقوشة بماء الذهب. تمر بيدها فوق الورق الشفاف. تشد ورقة وتصنع منها طائرة بجناحين.
رآها جدها وهو يدخل من الباب. خطف منها الكتاب وهو يصيح: ده كتاب ربنا يا حمارة!
وأخذت قبل أن تنام علقة ساخنة منه بالعصا الخيزران. رقدت إلى جوار جدتها تبكي بصوت مكتوم. أعمدة السرير النحاسي تهتز مع نشيجها. لم تكن تعرف أن الله يؤلف الكتب مثل جدها. - هو ربنا بيعرف يكتب زي جدي يا نينه؟ - طبعا ربنا فوق جدك وفوق الجميع!
لم تكن تتصور أن هناك أحدا فوق جدها إلا صاحب الجلالة الملك، ولم يكن الملك يؤلف الكتب. كانت تسمع من أبيها أنه ملك فاسد يقضي الليل في شرب الخمر مع الراقصات، لكن مكتبة جدها مليئة بالكتب، جدها كتب هذه الكتب؟ سؤال كان يراودها حتى كبرت قليلا، وعرفت من أمها أن جدها لم يكتب إلا كتابين اثنين وكف عن الكتابة، ثم مات جدها بعد أن كف عن الكتابة. جاءتهم برقية تعزية من الملك، علقتها جدتها داخل إطار مذهب. تشير إليها بإصبعها لكل من أتى يعزي، وفي عينيها بريق. أبوها وأمها أيضا امتلأت عيونهما بالبريق. يتأملان البرقية ذات الحواشي المزركشة.
نامعلوم صفحہ