وقد عرف صاحبنا من خصال الرؤساء في الدواوين أيام شبابه الأول ميلهم إلى أن يتتبعوا أخبار المرءوسين، ويستقصوا أسرارهم، ويستكشفوا سرائرهم، فأحسن انتهاز الفرصة السانحة، والانتفاع بالظروف المواتية، وأصبح لكل زميل صديقا حميما، وخليلا مداخلا يظهره من حياته على كل شيء، وليظهر هو من حياة صديقه وزميله على كل شيء، ولكن زميله كان يعرف من حياته ما يعرف، ثم يقف من هذه المعرفة، فأما هو فلم تكن هذه المعرفة عنده إلا الخطوة الأولى، فأما الخطوة الثانية: فهي التغيير والتبديل فيما عرف، ثم نقل ذلك إلى الرؤساء؛ ليتحفظوا، ويحتاطوا لأنفسهم ولأعمالهم، وكذلك بلغ صاحبنا من التهالك المتجسس أو من التجسس المتهالك ما كان يريد، فارتقى في المناصب والدرجات رقيا سريعا متصلا، وظفر في كل منصب شغله، وفي كل درجة ارتقى إليها بما أراد من ثقة الزملاء، وحب الرؤساء، والغريب أنه إلى تهالكه وتجسسه وإلى عقله وذكائه، قد أضاف خصلة عظيمة الخطر في حياة أمثاله، وهي قوة الذاكرة، وسعة الحافظة فلم يكن ينسى شيئا، ولم يكن ينسى أحدا، وهو بهذه الخصلة قد استطاع أن يستبقي عهده بجميع الذين عرفهم، وعمل معهم في الدواوين المختلفة التي مر بها، وفي المناصب المختلفة التي ارتقى إليها.
وقد عرف من سيرته هو ومن تجاربه الخاصة مقدار ما كان يؤدي إلى الرؤساء من خدمة بمداخلته للزملاء، وتعرفه أخبارهم وأسرارهم، وتجسسه عليهم، وعرف في الوقت نفسه مقدار ما انتفع به من هذه السيرة، وكان أذكى من رؤسائه، وأنفذ منهم بصيرة، فقرر فيما بينه وبين نفسه حين واتاه الحظ، وأتيح له التسلط أن يتخذ لنفسه الجواسيس الذين ينقلون إليه الأخبار، ويظهرونه على الأسرار كما كان هو جاسوسا، ولكن بشرط ألا ينفع جواسيسه كما نفعه الذين استخدموه، وربما كان مصدر هذه الخطة التي اتخذها لنفسه أنه كان أثرا يرى أن النفع يجب أن يكون مقصورا عليه لا يتجاوزه إلى غيره، وربما كان مصدر هذه الخطة أنه كان معتدا بنفسه يرى أن واحدا لن يحسن التجسس كما هو يحسن التجسس للرؤساء، وربما كان مصدر هذه الخطة أنه كان يرى أن التجسس خصلة وضيعة لا يستحق أصحابها مكافأة ولا حياة، لا أن تقترن ببراعة ممتازة كبراعته، وذكاء متفوق كذكائه، وشخصية نادرة كشخصيته، وإلا أن يكون الغرض منها هو تمكين هذه البراعة الممتازة والذكاء المتفوق، والشخصية النادرة من أن تؤتي ثمراتها، فترقى بهذا الإنسان الفذ إلى حيث ينبغي له من النجح والتفوق والامتياز، وليس هذا الإنسان الفذ إلا شخصه الذي عرف كيف يذلل العقاب، ويقهر الصعاب، وينفذ من الخطوب، ويعبث بهذه العقول الكثيرة التي عبث بها منذ كان تلميذا صبيا في المدرسة الابتدائية، إلى أن أصبح موظفا كبيرا يأمر فلا يخالف عن أمره أحد، وينهي فلا يتجاوز حدود نهيه أحد، وربما كان مصدر هذه الخطة كل هذه الأمور مجتمعة، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن يزدري التجسس والمتجسسين أشد الازدراء، ويستغل التجسس والمتجسسين أشد الاستغلال، وينظر إلى الحياة والأحياء نظرة غامضة تدل على النبوغ الذي لا شك فيه؛ لأنها تصور خصلتين اثنتين لا توجدان إلا في نفوس النوابغ والأفذاذ؛ الأولى: إيمانه بنفسه إلى غير حد، والثانية: احتقاره لغيره إلى غير حد.
وإذا اجتمعت هاتان الخصلتان في نفس رجل واحد كان خليقا أن يرى نفسه غاية الغايات، وغرض الأغراض، وأن يقتنع بأن العالم لم يخلق إلا له، ولم يوقف إلا عليه، وأن ينتهي به الأمر إلى غرور بغيض.
قالت السيدة، وكانت أديبة أريبة: صدق الله العظيم
يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب .
نامعلوم صفحہ