زكي نجيب محمود
أدب المقالة
إن معظم النار من مستصغر الشرر؛ ذلك ما قرأته في الكتب وما تعلمته من تجربة الحياة، وهو ما أجرى القلم بهذه الكلمات؛ فليس بعيدا أن ينبه هذا القلم المتواضع - الذي لا يكاد صريره يبلغ سمع صاحبه - أديبا واحدا من أئمة الأدب في هذا البلد، فيتجه وجهة جديدة في كتابة المقالة الأدبية.
فالمقالة توشك أن تكون في مصر القالب الأوحد الذي يصب فيه الأديب خواطره ومشاعره؛ فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة ليفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجج به صدره من عاطفة وما يختلج به رأسه من فكرة؛ فإن غضب أديبنا من نقص يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصب فيها ثورة غضبه؛ وإن افتتن أديبنا بجمال الطبيعة الخلاب، لجأ إلى المقالة يبث فيها ما أحس من عجب وإعجاب. أما الأديب الذي يريد أن يعالج بؤس البائسين فينشر في الناس القصة تلو القصة حتى يبلغ ما ينشره ألوف الصحائف كما فعل «دكنز»، أما الأديب الذي يعطف على العمال فيكتب في ذلك للمسرح الرواية في إثر الروية كما فعل «جولزورثي»، أما الأديب الذي يتلقى خطابا من قارئة تستفسره الاشتراكية فيرد على الرسالة بمجلدين، كما فعل «برناردشو»، أما الأديب الذي يرى علاج الإنسانية في حكومة دولية تمسك بزمام العالم كله فيكتب في ذلك كتبا تزيد على الخمسين كما فعل «ولز»؛ مثل هذا وذلك من الأدباء لم تشهده مصر، فبؤس البائسين علاجه مقالة، والعمال تكفي لنصرتهم مقالة، وحل المشكلات الدولية حسبه مقالة.
فالمقالة إذن هي عندنا ملاذ الأديب، الذي ليس له من دونها ملاذ، ولا بأس بهذا لو كانت المقالة الأدبية في مصر أدبا تعترف به قواعد الأدب الصحيح؛ ولكن الأديب المصري يكتب المقالة التي لو قيست بمعيار النقد الأدبي لطارت هباء، ولأغلقت دولة الأدب من دونها الأبواب، وإنما قصدت بمعيار النقد ما يكاد يجمع عليه النقاد من أدباء الإنجليز.
فهم هنالك يقولون: إن المقالة يجب أن تصدر عن قلق يحسه الأديب مما يحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمة هادئة خفيفة، هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل الصارخ، أو قل يجب أن يكون سخطا مما يعبر عنه الساخط بهزة في كتفيه ومط في شفتيه، مصطبغا بفكاهة لطيفة، لا أن يكون سخطا مما يدفع الساخط إلى تحطيم الأثاث وتمزيق الثياب، هذا السخط على الحياة القائمة في هدوء وفكاهة، هذا السخط الذي لم يبلغ أن يكون ثورة عنيفة، هو موضوع المقالة الأدبية بمعناها الصحيح؛ فإن تضرمت في نفس الأديب ثورة كاسحة جامحة، فلا يجيز له نقدة الأدب أن يتخذ المقالة متنفسا لثورته، وليسلك - إن أراد - سبيله إلى المنابر يلقي ثورته في موعظة؛ لأنها تحتمل من الواعظ أعنف ألوان التقريع، أو ليلتمس سبيلا إلى القصيدة - إن كان شاعرا - لأن القصائد لا تتنافر بطبعها مع الحماس المشتعل.
شرط المقالة الأدبية أن يكون الأديب ناقما، وأن تكون النقمة خفيفة يشيع فيها لون باهت من التفكه الجميل؛ فإن التمست في مقالة الأديب نقمة على وضع من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقالة الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تصبه؛ فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع في كثير أو قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة؛ وإن شئت فاقرأ لرب المقالة الإنجليزية «أدسن» ما كتب، فلن تجد إلا مازجا سخطه بفكاهته، فكان ذلك أفعل أدوات الإصلاح.
نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما، بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يسامره لا أمام معلم يعنفه، نريد من كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره يميل صلفا وتيها بورعه وتقواه، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا؛ نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب!
لهذا كله يشترط الناقد الإنجليزي في المقالة الأدبية شرطا لا أحسب شيوخ الأدب عندنا يقرونه عليه؛ يشترط أن تكون المقالة على غير نسق من المنطق، أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراش الحوشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، ويعرف «جونسون» - ومكانته من الأدب الإنجليزي في الذروة العليا - يعرف المقالة فيقول: إنها نزوة عقلية لا ينبغي أن يكون لها ضابط من نظام، هي قطعة لا تجري على نسق معلوم ولم يتم هضمها في نفس كاتبها، وليس الإنشاء المنظم من المقالة الأدبية في شيء.
أين هذا من المقالة الأدبية في مصر؟ لقد سمعت أديبا كبيرا يسأل أديبا كبيرا مرة فيقول: هل قرأت مقالي في هلال هذا الشهر؟ فأجابه: أن نعم، فسأله: وماذا ترى فيه؟ هل تراني أهملت نقطة من نقط الموضوع؟ فأجابه قائلا: العفو، وهل مثلك من يهمل في مقالة يكتبها شاردة أو ورادة؟! هذه هي المقالة عند قادة الأدب: أن تكون موضوعا إنشائيا مدرسيا، كل فضله أنه جميل اللفظ واسع النظر، فالفرق بين مقالة الأديب وموضوع التلميذ فرق في الكم لا في الكيف؛ فلله درك يا معلم اللغة العربية في المدارس المصرية! إنك لتتعقب بتأثيرك شيوخ الكتاب بين كتبهم وأوراقهم، كأني بك تضغط على أذن الكاتب بين إبهامك وسبابتك حين يحمل قلمه ليكتب، مذكرا إياه: هل وفيت نقط الموضوع؟ أين نقط الموضوع؟!
نامعلوم صفحہ