لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة.
كلا! لا أريد لهذا الغرب اللعين أن ينفذ إلى جنتي، ولا لمدينة الغرب أن تفسد مدنيتي؛ وإنه لتغنيني عن سيارته حمارتي، وتكفيني دون طيارته بغلتي؛ ما دمت عن رذيلته في حصن من فضيلتي.
لكن لكل جنة إبليسها، وإبليس جنتي وسواس خناس، ما ينفك يوسوس في صدري هاتفا: يا ويح نفسك، لقد ضلت ضلالين؛ ضلالا بغفلتها، وضلالا بتضليل قادتها.
في سوق البغال
قد كنت أعلم حقا وصدقا ويقينا أن الليالي من الزمان حبالى يلدن كل عجيبة؛ لكنني لم أكن أعلم أن عجائب الزمان قد تهزأ بالخيال، ما شطح منه وما جمح، حتى سمعت أن بغلا يحتج ويحاج كما يفعل عباد الله من بني الإنسان.
فلقد حدثني صديق إنجليزي، كان ضابطا في البحرية إبان الحرب، عن زميل له طوحت به خطوب البحر إلى جزيرة نائية في عرض المحيط الهادي، لم يزد سكانها فيما رأى عن بضع مئات اختلفت طبائعهم عن طبائعه، ولسانهم عن لسانه؛ لكنه كان في خبرته بالحياة فسيح الأفق بحيث لم يدهش لاختلاف الشعوب في طرائق العيش وأساليب التفكير والتعبير، فالناس في رأيه ناس إن ابيضت جلودهم أو اقتتمت، والناس ناس إن دارت ألسنتهم في الأشداق من اليسار إلى اليمين أو دارت من اليمين إلى اليسار؛ لكن الذي أدهشه حقا من أهل الجزيرة سذاجة بلغت بهم في سرعة التصديق حدا لم يألفه فيما شهد من شعوب الأرض طرا، فهم يتناقلون رواية خلفا عن سلف يؤمنون بصدقها لإيمانهم بصدق رواتها، مع أنها تنافي أوضاع الطبيعة كلها، أو قل إنها تنافي ما ألف ذلك الزميل من هذه الأوضاع.
فقد روى له هنالك راو أنه منذ مائة عام عرضت في ساحة السوق من الجزيرة جماعة من البغال للبيع والشراء، جيء بها من أرض في شمالي أفريقيا لعلها بقعة من صحرائها لم يعرف أهل الجزيرة كيف يسمونها؛ فأخذ الأمر يجري مجراه المألوف عند القوم هناك كلما تم بينهم بيع أو شراء؛ عرضت البغال وجاء الشارون، فلم يكن بد من أن تنزع عن ظهورها السرج، ومن أفواهها اللجم، لتبدو عارية من كل زينة؛ وأخذ الخبراء يجسون عضلاتها هنا، ويختبرون مفاصلها هناك، ويفتحون أفواهها لينظروا إلى أعمارها في أسنانها، ثم يركبونها ويدورون بها في ساحة السوق دورة أو دورتين، ليروا أهي في جريها من العاديات أم الزاحفات، خفاف الحركة هي أم ثقالها؛ ويختبرون قدرتها على الحمل والجر بشتى الوسائل، ليثق الشارون أنهم لن ينفقوا مالهم عبثا إن أنفقوه ثمنا لهذه البغال.
لكن البغال فيما يظهر لم تعجبها هذه الطريقة في التقويم والتسويم؛ لأنها تختلف عما ألفته في بلادها؛ وهنا كانت المعجزة التي أدهشت صديقي وأدهشتني وستدهش كل قارئ وسامع؛ وهي أن ثارت البغال على سيدها وشقت عصا الطاعة على نحو يشبه جدا ما يصنعه البشر إذا غضبت منهم طائفة لأمر أو أعلنت عصيانها، فلم تكن ثورة البغال جموحا أو شموسا، كلا، ولا رفسا وركلا، بل كانت احتجاجا يقوم على علل وأسباب، أشبهوا فيه الآدميين لولا خلل في المنطق قل أن يزل فيه الآدميون؛ أقول لولا هذا الخلل في طريقة التفكير لخلتها في ثورتها جماعة من البشر سحرها ساحر ممن جاءتنا أنباؤهم في كتب الأقدمين، فاستحالت بغالا وما هي بالبغال، أو تقمصت أرواحها أجساد البغال فبقي لها من صفاتها الأولى شيء وزال عنها شيء.
أوشكت عملية الجس والفحص أن تنتهي بتاجر البغال أن يضع في أسفل سلم التقدير بغلا هزيلا ضئيلا رخو العود تلين عضلاته لكل غامر، فإن جرى تعثر، وإن حمل على ظهره هوى؛ لكن سرعان ما أشار هذا البغل الهزيل إلى سائر البغال فانتبذت ركنا من ساحة السوق، تتبادل الرأي والشورى؛ فإن لم تدهش لبغال تجادل وتقاول، فادهش لأن تكون الزعامة لبغل لم يكن أضخمها حجما ولا أروعها شكلا أو أسرعها حركة؛ وأغلب الظن أن قد كانت له صفات رآها البغال ولم تدركها أعين البشر!
نامعلوم صفحہ