والصفوة الذين نعنيهم هم قوم رسخت فى مقام الإحسان أقدامهم، فهم بين مراقبة وشهود. حياتهم يبرق عليها سنا من صدق المعرفة وتمام الاستسلام، فلا يكاد يدرك نوره غروب. وتوبة هؤلاء تجىء من هبوطهم عن المستوى الذى يجب أن يبقوا محلقين فيه. ونحن لكى نستبين منازل الناس يجب أن نعرف أن الاختلاف شديد جدا بين قيم البشر، وأن المسافة بين إنسان وإنسان تصل أحيانا إلى بعد ما بين الأرض والسماء... تأمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف درجات المؤمنين فى الجنة: " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدرى الغابر فى الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم !! قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذى نفسى بيده، هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". إن الفروق القائمة بين أفراد الجنس البشرى واسعة، والله عز وجل يكلف كل امرئ على مقدار ما أوتى من سعة روحية وعقلية. وكما أن العطاء من صاحب القناطير المقنطرة يستقل إذا لم يكن غدقا، فكذلك يستقل الجهد المحدود من ذوى الهمم الضخام. وهذا معنى قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، أجل إن العمل الذى يعتبر حسنا من إنسان يعتبر تقصيرا من إنسان آخر. وذلك ما جعل أحدهم يقول: ولو خطرت لى فى سواك إرادة على خاطرى يوما حكمت بردتى دوافع هذه المبالغة فى الحكم معروفة، وآفاق الكمال الدينى بعيدة المدى، 153 (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) . والإحسان عليا منازل المؤمنين، ولكنه أدنى درجات الأنبياء، إنهم لا يهبطون دونه مهما أخطئوا. وصلتهم بالله الذى اصطفاهم لحمل رسالاته أزكى وأنقى من أن يلموا بسيئة على النحو الذى نعهد فى عامة المؤمنين. إن الأخطاء التى يستغفرون منها أنماط من الكمال لا يطيقها أمثالنا ولا ساداتنا. وإنى أقرأ سورة: (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) فأتساءل: مم يستغفر الرسول ربه وهو يستعد للقائه؟. إن الصحابة فهموا من السورة أن الله يخبر رسوله باقتراب أجله بعد أن نجح أروع نجاح فى أداء رسالته!! لقد محا الجاهلية، وبنى الأمة التى صنعت أزهى حضارة فى التاريخ، وعليه أن يتهيأ للقاء ربه بعد ما أدى واجبه كاملا، وبم يتهيأ ؟ بالتسبيح والاستغفار. إن المغفلين من الخلق هم الذين يتصورون هذا الاستغفار من أخطاء تشابه أخطاءنا. ولا عجب فالحمالون فى محطة القاهرة عندما يسمعون بيت المعرى: تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب فى ازدياد لا يتصورون التعب إلا حمل قفف وحقائب، وشد حبال وأحزمة، ذلك مبلغهم من العلم... وذلك ما فهمه المستشرقون والمبشرون من أمر الله لرسوله أن يستغفره!! زعم بعض أولئك المبشرين أن آيات القرآن تشهد بأن عيسى أفضل من محمد؟ قالوا: إن الله ذكر محمدا فى القرآن بما يفيد أنه رجل مذنب!. ألم يقل له: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) أما عيسى فإن صفته فى القرآن أرفع: (اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين) . ونحن نعرف أن موسى وعيسى ومحمد رجال عظام، وأنهم من أصحاب العزمات الشداد فى إبلاغ رسالات الله، وهداية الخلق بأنوار الوحى الأعلى. ونعلم أنهم جميعا متواضعون كرام الخلق لا يفكر أحدهم فى الاستعلاء على غيره وانتزاع الصدارة منه، وأن محمدا أبى على أمته أن تفضله على غيره من الأنبياء. ص _154
صفحہ 141