جناقو مسامیر الارض
الجنقو مسامير الأرض
اصناف
وخرج يتبعه عطره الجميل، في مشية تنم عن كبرياء وثقة في النفس لا تحدهما حدود، جريت خلفه، أمسكت به، لأول مرة أحس بنعومة يده، كانت في رقة يد الطفل، أخذ يضحك، قال لي أنه سيحكي لي ذلك في الوقت المناسب، ولكني ألححت عليه إلحاحا شديدا، وهو ليس من طبيعتي، ولكني شحنت بالرغبة في أن أعرف ماذا جرى ما بين ود أمونة وصديقي المناضل صاحب النظريات، ولو أنني طوال فترة صداقتنا التي امتدت للعمر كله، أي منذ الطفولة المبكرة إلى اليوم لم ألاحظ أي ميول مثلية لديه، نحن ليس لدينا موقف أخلاقي ضد ذلك، ولكننا نصنف نفسينا من النوع الميال للجنس الآخر، أو كما يحلو لصديقي قولها باللغة الإنجليزية
heterosexual ، لكني لا أستبعد أن يكون ود أمونة قد ساقه إلى تلك النهاية، أو أنه أراد أن يتأكد بنفسه من أن ود أمونة مثلي، وأظن أن صديقي في سبيل أن يبرهن فكرة ما أو خاطرة ما قد ينزلق إلى هوة أعظم، وحدث ذلك مرارا وتكرارا، ولكنني أريد أن أعرف ماذا حدث بالضبط، وقد لاحظ ود أمونة تلك الرغبة في، وكانت نقطة ضعف بينة وواضحة، وأعرف أن ود أمونة قد يستغلها استغلالا رهيبا، قال لي بغنج: عايز تعرف؟
قلت له، محاكيا طريقته في الكلام، وأنا أكتم غيظي: نعم، والآن؟
عاد وجلس قربي على السرير الكبير خلف رجله، وأشعل سيجارة برنجي، وعندما بدأ يحكي لي عرفت من تعبير وجهه أنه يؤلف القصة الآن، وكنت أشم عبق تخلقها طازجة في لسانه، لقد كان قبل قليل صادقا معي، كان وجهه غير ما هو عليه الآن، طلبت منه فجأة أن يتوقف، وأن يحضر لي زجاجة كونياك، ابتسم ونهض، انصرف في هدوء.
خاتم النبي سليمان
بالتأكيد ما كان لرجل عاقل مثلي أن يبقى بالحلة دقيقة واحدة أخرى، فبينما ينعس الناس الساهرون بالأمس مع مهرجان النار الذي أتى على كل مزارع الذرة، هربنا أنا وصديقي مختار والصافية، وكثير من الجنقو الآخرين، نحو الحمرة بإثيوبيا، كنا قافلة صغيرة مرعوبة وخائفة، تقودنا الأم التي كانت لا تحمل شيئا سوى صرة صغيرة ثقيلة، بها كل ثروتها في شكل ذهب، ولكنها كانت تبدو مرهقة، نسبة لسمنتها، وبعد عهدها بالجري والهرولة، مضى أكثر من ثلاثين عاما منذ أن ودعت ميدان المعركة، واعتادت على نمط عمل مريح، ورغم الخوف الذي يتملكنا جميعا لم نتركها خلفنا، بل نحيط بها ونساعدها على حمل ثروتها، فلها علي وعلى كل واحد منا فضائل كثيرة، عبرنا النهر سباحة؛ فالجميع يجيد السباحة بما فيهم الأم؛ حيث إنها تسبح في خفة ومهارة قد يفتقدها كثير منا، هرولنا على أرض صخرية قاسية، ولكنها رحيمة وطيبة، تنكمش في عطف تحت أرجلنا لتقرب لنا المسافة إلى الحدود الإثيوبية التي هي مقصدنا، وخط الأمان الأول، كثير من الجنقو يحملون هواتفا نقالة، وقد اتصلوا بأصدقائهم وأقاربهم، وعرفوا أن الجيش يتعقبنا، ولكن على أرجلهم، فآلاتهم القتالية وعرباتهم لا يمكن أن تعبر النهر.
وقالوا لنا هنالك احتمال أن يستعينوا بطائرات مقاتلة من القضارف أو كسلا؛ لذا تحتم علينا أن نسابق الريح فعليا نحو الحدود الإثيوبية، وفعلنا، وفي اللحظة التي دخلنا فيها خور الحمرة سمعنا ضجيج الطائرة الأبابيل خلفنا، كنا نظن أن الطائرة لا يمكنها أن تطلق علينا قنابلها ونحن في الأراضي الإثيوبية، إلا أن الأم وجهتنا للاحتماء بالأشجار والكهوف التي تكثر بالخور، كانت تحلق الطائرة فوق هامات الأشجار، ويثير هواؤها عاصفة غبارية كثيفة تحجب عنا الرؤية وتشتت أفكارنا، ترمي كثيرا من الرجال الجوعى صرعى، ترعبنا وتحاصرنا حصارا محكما، وكما لو كانت تريد الاحتفاظ بنا في الخور لحين وصول الجنود، وحين تتركنا للحظات ربما للمناورة، كانت الأم تعيد ترتيبنا، وقد نبهتنا مرة بأن نهرب نحو عمق الحدود في ذات الخور، ولكن متفرقين؛ لذا عندما عادت الطائرة مرة أخرى لم تجدنا هنالك، ولكنها لم تتوغل معنا في داخل الحدود الإثيوبية، فتركتنا وعادت، وبعدما تأكد لنا أن الطائرة لن تعود تجمعنا مرة أخرى عن طريق المناداة والصياح بصوت عال، كنا خمسة وعشرين جنقاويا؛ حيث إنني قمت بعدهم بعدما عبرنا النهر مباشرة، الآن أربعة وعشرون ، ولم يكن صعبا أن يتبين الناس أن الشخص المفقود هي أدي، وتفرقنا في الغابة والخور بحثا عنها، ناديناها بأقوى ما تستطيع حناجرنا أن تصدر من أصوات، تتبعنا المسالك التي مررنا بها، عدنا للموقع الذي حاصرتنا فيه الطائرة، ثم إلى المكان الذي شوهدت فيه آخر مرة، لم نجد لها أثرا، وظن بعض الجنقو أنها تتبعت طرقا تعرفها إلى عمق إثيوبيا، فالمكان ليس غريبا عليها؛ حيث إنها كانت فالولا قبل ثلاثين سنة، تتصيد السابلة على مشارف الحمرة وتسني، وقال البعض إنها ربما خشيت أن يستولي الجنود الإثيوبيون على مالها، وأدلى كل بدلوه، ولكن ظلت الحقيقة غائبة إلى أكثر من أسبوعين، إلى أن أخبرنا ضباط الرعاية في معسكر اللاجئين، أنهم وجدوا جثتها متعفنة على بعد خمسة أميال شرق خور الحمرة تحت شجرة سيال، ويرجح أنها قتلت، ولم يجدوا معها أي شيء من المال، أو العتاد.
قابلنا الإثيوبيون الرسميون والشعبيون بعد نصف ساعة من دخولنا الأراضي الإثيوبية، على مشارف الحمرة عسكر وفريق طبي، موظفون أمميون، ومنظمة الهجرة الدولية، قاموا بالتحقيق معنا، والتأكد من أنه ليس معنا أي أسلحة خطرة أو نارية، غير بعض الفئوس والأسلحة البيضاء الشخصية، ثم فحصنا طبيا، وقمنا بطلب اللجوء السياسي، وهو المصطلح الذي لم يسمع به كثير من الجنقو من قبل، تم حصرنا، وقام المسئولون بتحديد موقع لإقامتنا، وأعطينا أرقاما بدلا من أسمائنا وقدمت لنا منظمة وطنية مجهولة بعض الطعام والماء؛ بتنا ليلتنا تلك في خيام ضيقة، ثم أخذت الأمم المتحدة في صنع مبان أكثر راحة ملحقة بمراحيض، وحمامات، وعيادة صغيرة، كنا مرهقين وجائعين ومتعبين ومتسخين ومفلسين، أنا بالذات لا أمتلك ولا قرشا واحدا، فقد كان أملي في العيش الذي حصدته، وتركته في بيت أدي، التي تركته بدورها في الحلة، واختفت الآن في مجاهل إثيوبيا، وكل الجنقو مفلسين مثلي؛ لأنهم ما عملوا في هذا الموسم عملا حصلوا منه على مال، ولولا الطعام والشراب والسكن الذي يقدمه لنا المحسنون الأمميون لمتنا، ثم ما لبث أن انضمت إلينا أسر أخرى وجنقو آخرون وفدوا من همدائييت، والقرقف، وزهانة. بعد ثلاثة أشهر بالتمام، أي في بداية شهر يناير، أرسلت لي ألم قشي ما يفيد بأنها قد تنجب طفلا في الأسبوع القادم، وعلي أن أحضر السماية في همدائييت إذا كنت أضمن سلامتي، كنت في الخيمة وحدي عندما جاءني من عرفت فيما بعد أن اسمه إسحاق المسلاتي، غالبا ما أكون وحدي في الآونة الأخيرة، فصديقي مختار علي بعد أسبوع واحد فقط قضاه معنا في المعسكر ضجر، رغب في الخروج من المعسكر الذي لم يعد يطيقه، ويود الذهاب إلى فريق قرش؛ لديه أصحاب هنالك، طلب مني أن أصطحبه، وقال لي إنه يمكننا العمل في الحصاد مع المزارعين الأحباش كعمال يومية، أي كجنقو، وهو يعرف الطريق إلى مواقع العمل تلك؛ ولكن البقاء في المعسكر مثل الشحاذين تحت رحمة الخواجات هذا لا يروق له ولا يقبله، وحينما رفضت فكرته وحاولت إثناءه عن الذهاب إلى أن نتبين مجريات الأمور، ونتفهم الواقع، هرب إلى فريق قرش مع الصافية، وجنقوجورايين آخرين.
قال لي الجنقوجوراي الغريب الذي عرف نفسه بسرعة: إن ألم قشي بصحة طيبة، وإنها سعيدة جدا في بيت والد زوجها، وإنهم يحبونها جدا، ويحبون أطفالها، ووضع حقيبة قديمة تبدو عليها بعض التشققات، سوداء اللون متوسطة الحجم مصنوعة من السمسونايت، قرب رجله وهو يجلس على الكرسي الوحيد بالخيمة، بقدر سعادتي بأنها ستنجب قريبا طفلا يخصني كان حزني كبيرا، وإحباطي أعظم بمعرفة أنها سعيدة، وأن أسرة زوجها تحبها، ألا يعني ذلك أن فرصة طلاقها أصبحت هزيلة، بل تكاد تكون معدومة؟ قال لي الجنقوجوراي عندما قرأ حزني في وجهي، قال لي بهدوء أن بفريق قرش نساء كثر، وأنهن جميلات، وحلوات، ورشيقات، ووصفهن بأنهن مثل السكر، وهو الشيء الأكثر حلاوة في هذه الأنحاء من الدنيا، وطلب مني أن أذهب، وأبحث عن واحدة منهم لأتزوجها، وأنه سوف يساعدني ويسهل لي الأمر بما لديه من معارف وأقارب هنالك، وعدد لي جنسياتهن قائلا: بلالاويات، وفلاتيات، تلسيات عديل، ظبرناويات، بازاوايات، وجعليات، ودينكاويات، وتكرونيات. سيلاحظ أن ذكر قبيلة المرأة مهم جدا بالنسبة لهذا الرجل المسخوط، ويضيف لها قيمة جمالية خاصة من عنده بطريقة نطقها وتعبير وجهه، الذي تظهر منه ملامح طفيفة على ضوء المصباح، ولكنها قاتلة وتقول كل شيء، العارفون يستطيعون أن يميزوا الفرق بين المرأة والأخرى وفقا لقبيلتها، لكل طعمها المعروف، وهو بلا شك من العارفين، أضاف بأستاذية ودراية عميقة بشئون البشر، وخاصة النساء: وطبعا الحبشيات دي بلدهم، البلد كلها نساوين دي أجمل من دي، ودي تقول لدي أنت شنو، قلت له بصوت يخرج من بطني مباشرة: ما زي «ليسوا مثل» ألم قشي.
قال بتحد: في أجمل منها كتير.
نامعلوم صفحہ