من ذلك مثلا أن صديقنا الدكتور طه حسين يرى من دواعي التشكيك في قصة جميل، أنه غدر بصاحبته مرة، وأن «الغدر لا يمكن أن يصدر عن حبيب عذري كما نفهمه».
فأحصى الدكتور ألوان الشكوك ومنها اللون الثاني وهو كما قال:
شيء من الغدر لا يمكن أن يصدر عن حبيب عذري كما نفهمه، ولا كما كان يفهمه القدماء، زعموا أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلا لا ينسب بابنتهم وإنما ينسب بأمة لهم، فغضب جميل لهذه المقالة وأراد أن يكذبها، فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة فتحدثا، ثم عرض عليها جميل أن تضطجع فمانعت ثم قبلت وأخذها النوم، فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى وأصبح الناس، فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل، وقال جميل في ذلك شعرا. أتظن أن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقا، وأن رجلا كجميل كان يحب بثينة حبا كالذي نجده في شعره، يستطيع أن يعرضها لمثل هذه الفضيحة؟
فتقدير الدكتور هنا لحب جميل وما ينبغي أو لا ينبغي لمثل حبه، هو الذي أظهر التناقض في هذه القصة وجنح به إلى تكذيبها.
أما إذا أخذنا بتقدير غير هذا التقدير، فلا تناقض ولا موجب إذن للتكذيب.
وعندنا نحن أن حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة؛ لأنها لا تتجاوز معنى قصيدة من القصائد الكثيرة التي تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة، حيث قدر لها المطاف.
وجميل على ما يظهر من شعره يهتم بالنسيب والقالة حتى ليجازف في سبيلها بحظه كله من معشوقته وهو عالم بهذه المجازفة، فينسب بها وقد علم أن هذا النسيب يحرمه أن يتزوج بها ويقسمها لغيره من طلابها. ونحن مع هذا نصدق حبه ونصدق نسيبه ولا نقول: لو كان محبا حقا لترك النسيب بالمحبوبة ليظفر بها ولا يفقدها.
فالتناقض في القصة التي استشهد بها الدكتور طه تقديري يزول - أو يزول مؤداه - متى اختلف التقدير.
وربما اختلف التقدير فكان من أسباب توكيد الخبر أو ترجيحه ولم يكن من أسباب استبعاده ونفيه؛ لأن الرجل الذي يشغله النسيب هذا الشغل الشاغل يكرثه حقا أن يقال: إنه يتغزل بأمة شائهة وإنه مسلوب العقل مضيع الحياة في هواها، ويهون عليه أن يعلن حقيقة هواه، ولا يهون عليه أن يحتمل هذه الوصمة المهينة، وعلالته في ذلك أنه لا يخشى ضررا من الفضيحة على من يهوى؛ لأنها قد اشتهرت قبل ذلك بملاحقته لها، ولم يصبها مصاب من ذويها، غير الشكاية والزجر الذي لا يضيرها.
والزهو بعد عنصر من عناصر العشق لا سبيل إلى نكرانه والاستخفاف بإغرائه وتحريضه.
نامعلوم صفحہ