للمتأمل. الجواب عن ذلك أنا نقول: هذا الموضع قد سبق إلى التشبث به من لم ينعم النظر، ولا رأى ما رآه القوم، وإنما ذلك لجفاء طبع الناظر، وعدم معرفته. وهو أن في قول هذا الشاعر (كل حاجة) مما يستفيد
منه أهل السبب والأهواء والرقة والمقة ما لا يستفيده غيرهم، ولا يشاركهم فيه من ليس منهم. ألا ترى أن حوائج منى أشياء كثيرة، فمنها التلاقي، ومنها التشاكي، ومنها التخلي للاجتماع، إلى غير ذلك مما هو تال له، ومعقود الكون به. فكأن الشاعر صانع عن هذا الموضع الذي أومأ إليه وعقد غرضه عليه، يقوله في آخر البيت (ومسح بالأركان من هو ماسح) أي إنما كانت حوائجنا التي قضيناها وآرابنا التي بلغناها من هذا النحو الذي هو مسح الأركان، وما هو لاحق به، وجار في القرية من الله تعالى مجراه، أي لم نتعد هذا القدر المذكور إلى ما يحتمله أول البيت، من التعريض الجاري مجرى التصريح. وأما البيت الثاني فإن فيه (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) وفي هذا ما نذكره لتراه فتحجب ممن عجب منه، ووضع من معناه، وذلك إنه لو قال: (أخذنا في أحاديثنا أو نحو ذلك) لكان فيه معنى بكيره أهل النسب، وذلك أنهم قد شاع عنهم وانسح في محاوراتهم علو قدر الحديث بين الألفين، والجذل بجمع شمل المتواصلين. ألا ترى قول بعضهم:
وحدثتني يا سعد عنها فزدتني ... جنوبًا فزدني من حديثك يا سعد
وقول الآخر:
وحديثها السحر الحلال لو إنه ... لم يجن قتل المسلم المتحرِّزِ
فإذا كان قدر الحديث عندهم على ما ترى فكيف به إذا قيده بقوله: (أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا) وذلك أن في قوله: (بأطراف الأحاديث بيننا) وحيًا خفيا ورمزًا حلوًا؟. ألا ترى إنه قد يريد بأطرافها ما يتعاطاه المحبون ويتفاوضه ذوو الصبابة المتيمون، من
1 / 71