جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
[البقرة: 21] أن يكون تأويله ما قاله ابن عباس وقتادة، من أنه يعني بذلك كل مكلف عالم بوحدانية الله، وأنه لا شريك له في خلقه يشرك معه في عبادته غيره، كائنا من كان من الناس، عربيا كان أو أعجميا، كاتبا أو أميا، وإن كان الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين كانوا حوالي دار هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل النفاق منهم وممن بين ظهرانيهم ممن كان مشركا فانتقل إلى النفاق بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[2.23]
قال أبو جعفر: وهذا من الله عز وجل احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم الذين افتتح بقصصهم قوله جل ثناؤه:
إن الذين كفروا سوآء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم
[البقرة: 6] وإياهم يخاطب بهذه الآيات، وأخبر بأهم نعوتها، قال الله جل ثناؤه: وإن كنتم أيها المشركون من العرب والكفار من أهل الكتابين في شك وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأني الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه النبوة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوته، وأن ما جاء به من عندي، عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوله ولم يختلقه، لأن ذلك لو كان منه اختلافا وتقولا لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { فأتوا بسورة من مثله }. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: { فأتوا بسورة من مثله } يعني من مثل هذا القرآن حقا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: { فأتوا بسورة من مثله } يقول: بسورة مثل هذا القرآن. وحدثني محمد ابن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد: { فأتوا بسورة من مثله } مثل القرآن. وحدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: { فأتوا بسورة من مثله } قال: مثله، مثل القرآن. فمعنى قول مجاهد وقتادة اللذين ذكرنا عنهما، أن الله جل ذكره قال لمن حاجه في نبيه صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم.
وقد قال قوم آخرون: إن معنى قوله: { فأتوا بسورة من مثله }: من مثل محمد من البشر، لأنه محمدا بشر مثلكم. قال أبو جعفر: والتأويل الأول الذي قاله مجاهد وقتادة هو التأويل الصحيح لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى:
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله
[يونس: 38] ومعلوم أن السورة ليست لمحمد بنظير ولا شبيه، فيجوز أن يقال: فأتوا بسورة مثل محمد. فإن قال قائل: إنك ذكرت أن الله عنى بقوله: { فأتوا بسورة من مثله } من مثل هذا القرآن، فهل للقرآن من مثل فيقال: ائتوا بسورة من مثله؟ قيل: إنه لم يعن به: ائتوا بسورة من مثله في التأليف والمعاني التي باين بها سائر الكلام غيره، وإنما عنى: ائتوا بسورة من مثله في البيان لأن القرآن أنزله الله بلسان عربي، فكلام العرب لا شك له مثل في معنى العربية فأما في المعنى الذي باين به القرآن سائر كلام المخلوقين، فلا مثل له من ذلك الوجه ولا نظير ولا شبيه. وإنما احتج الله جل ثناؤه عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم بما احتج به له عليهم من القرآن، إذ ظهر عجز القوم عن أن يأتوا بسورة من مثله في البيان، إذ كان القرآن بيانا مثل بيانهم، وكلاما نزل بلسانهم، فقال لهم جل ثناؤه: وإن كنتم في ريب من أن ما أنزلت على عبدي من القرآن من عندي، فأتوا بسورة من كلامكم الذي هو مثله في العربية، إذ كنتم عربا، وهو بيان نظير بيانكم، وكلام شبيه كلامكم. فلم يكلفهم جل ثناؤه أن يأتوا بسورة من غير اللسان الذي هو نظير اللسان الذي نزل به القرآن، فيقدروا أن يقولوا: كلفتنا ما لو أحسناه أتينا به، وإنا لا نقدر على الإتيان به، لأنا لسنا من أهل اللسان الذي كلفتنا الإتيان به، فليس لك علينا حجة بهذا لأنا وإن عجزنا عن أن نأتي بمثله من غير ألسنتنا لأنا لسنا بأهله، ففي الناس خلق كثير من غير أهل لساننا يقدر على أن يأتي بمثله من اللسان الذي كلفتنا الإتيان به. ولكنه جل ثناؤه قال لهم: ائتوا بسورة مثله، لأن مثله من الألسن ألسنتكم، وأنتم إن كان محمد اختلقه وافتراه، إذا اجتمعتم وتظاهرتم على الإتيان بمثل سورة منه من لسانكم وبيانكم أقدر على اختلاقه ووضعه وتأليفه من محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكونوا أقدر عليه منه فلن تعجزوا وأنتم جميع عما قدر عليه محمد من ذلك وهو وحده، إن كنتم صادقين في دعواكم وزعمكم أن محمدا افتراه واختلقه وأنه من عند غيري.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: { وادعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صدقين } فقال ابن عباس بما: حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: { وادعوا شهدآءكم من دون الله } يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، { إن كنتم صدقين }. وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد: { وادعوا شهدآءكم } ناس يشهدون. وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، قال: قوم يشهدون لكم. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاح، عن ابن جريج، عن مجاهد: { وادعوا شهدآءكم } قال: ناس يشهدون. قال ابن جريج: شهداءكم عليها إذا أتيتم بها أنها مثله مثل القرآن. وذلك قول الله لمن شك من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: { فادعوا } يعني استنصروا واستعينوا، كما قال الشاعر:
فلما التقت فرساننا ورجالهم
نامعلوم صفحہ