جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات، يقول في عذاب. والثالث ما: حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون }: زعم أن أناسا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر. فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وأما النور فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت الظلمة نفاقهم. والآخر ما: حدثني به محمد بن سعيد، قال: حدثني أبي سعيد بن محمد، قال: حدثني عمي عن أبيه عن جده عن ابن عباس قوله: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } إلى: { فهم لا يرجعون } ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله: { ذهب الله بنورهم } قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم، يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال آخرون بما. حدثني به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون } وإن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وعاد بها المسلمين ووارث بها المسلمين وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في علمه. وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله } هي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو نميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: { كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله } قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم .
وقال آخرون بما: حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله } قال: أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة. وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله }: أما إضاءة النار: فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم: إقبالهم إلى الكافرين والضلالة. حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفاق فقال: { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } قال: إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة. وحدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد في قوله: { كمثل الذي استوقد نارا } إلى آخر الآية. قال: هذه صفة المنافقين، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا، فذهب الله بنورهم، فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون. وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقص قصصهم من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر
[البقرة: 8] أي لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرك. ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه: { كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون } أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق، وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبدلك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ومن الخداع بريء، فإن كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان: حال إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر، فقد سقط عن القوم اسم النفاق لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين، ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين.
وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ما ينبىء عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنين ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه إلى الكفر الذي هو نفاق، وذلك قول إن قاله لم تدرك صحته إلا بخير مستفيض أو ببعض المعاني الموجبة صحته. فأما في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحته لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه. فإذا كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة كمثل استضاءة الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة،حتى خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيء به في ظلمة وحيرة. وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه ، تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزىء مخادع، حتى سولت له نفسه، إذ ورد على ربه في الآخرة، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبر عند ورودهم عليه:
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء ألا إنهم هم الكذبون
[المجادلة: 18] ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا من الكذب والإفك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا. حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا به أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا واصلوا سعيرا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائها لقول الله جل ثناؤه:
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا ورآءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جآء أمر الله وغركم بالله الغرور * فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير
[الحديد: 13-15] فإن قال لنا قائل: إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره: { كمثل الذي استوقد نارا فلمآ أضآءت ما حوله }: خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجود في القرآن، فما دلالتك على أن ذلك معناه؟ قيل: قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عصيت إليها القلب إني لأمرها
نامعلوم صفحہ