جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
قال أبو جعفر: وهذا وإن كان وجها من التأويل فلست له بمختار، لأن الله جل ثناؤه قال { فما ربحت تجارتهم } فدل بذلك على أن معنى قوله { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } معنى الشراء الذي يتعارفه الناس من استبدال شيء مكان شيء وأخذ عوض على عوض. وأما الذين قالوا: إن القوم كانوا مؤمنين وكفروا، فإنه لا مؤنة عليهم لو كان الأمر على ما وصفوا به القوم لأن الأمر إذا كان كذلك فقد تركوا الإيمان، واستبدلوا به الكفر عوضا من الهدى. وذلك هو المعنى المفهوم من معاني الشراء والبيع، ولكن دلائل أول الآيات في نعوتهم إلى آخرها دالة على أن القوم لم يكونوا قط استضاءوا بنور الإيمان ولا دخلوا في ملة الإسلام، أو ما تسمع الله جل ثناؤه من لدن ابتدأ في نعتهم إلى أن أتى على صفتهم إنما وصفهم بإظهار الكذب بألسنتهم بدعواهم التصديق بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، خداعا لله ولرسوله وللمؤمنين عند أنفسهم واستهزاء في نفوسهم بالمؤمنين، وهم لغير ما كانوا يظهرون مستبطنون، لقول الله جل جلاله:
ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وما هم بمؤمنين
[البقرة: 8] ثم اقتص قصصهم إلى قوله: { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } فأين الدلالة على أنهم كانوا مؤمنين فكفروا؟. فإن كان قائل هذه المقالة ظن أن قوله: { أولئك الذين اشتروا الضللة بالهدى } هو الدليل على أن القوم قد كانوا على الإيمان فانتقلوا عنه إلى الكفر، فلذلك قيل لهم: اشتروا فإن ذلك تأويل غير مسلم له، إذ كان الاشتراء عند مخالفيه قد يكون أخذ شيء بترك آخر غيره، وقد يكون بمعنى الاختيار وبغير ذلك من المعاني. والكلمة إذا احتملت وجوها لم يكن لأحد صرف معناها إلى بعض وجوهها دون بعض إلا بحجة يجب التسليم لها. قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بتأويل الآية ما روينا عن ابن عباس وابن مسعود من تأويلهما قوله: { اشتروا الضللة بالهدى } أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وذلك أن كل كافر بالله فإنه مستبدل بالإيمان كفرا باكتسابه الكفر الذي وجد منه بدلا من الإيمان الذي أمر به. أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول فيمن اكتسب كفرا به مكان الإيمان به وبرسوله:
ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سوآء السبيل
[البقرة: 108] وذلك هو معنى الشراء، لأن كل مشتر شيئا فإنما يستبدل مكان الذي يؤخذ منه من البدل آخر بدلا منه، فكذلك المنافق والكافر استبدلا بالهدى الضلالة والنفاق، فأضلهما الله وسلبهما نور الهدى فترك جميعهم في ظلمات لا يبصرون. القول في تأويل قوله تعالى: { فما ربحت تجارتهم }. قال أبو جعفر: وتأويل ذلك أن المنافقين بشرائهم الضلالة بالهدى خسروا ولم يربحوا، لأن الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به. فأما المستبدل من سلعته بدلا دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته لا شك. فكذلك الكافر والمنافق لأنهما اختارا الحيرة والعمى على الرشاد والهدى والخوف والرعب على الحفظ والأمن، فاستبدلا في العاجل بالرشاد الحيرة، وبالهدى الضلالة، وبالحفظ الخوف، وبالأمن الرعب مع ما قد أعد لهما في الآجل من أليم العقاب وشديد العذاب، فخابا وخسرا ، ذلك هو الخسران المبين. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان قتادة يقول. حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة. قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله: { فما ربحت تجارتهم } وهل التجارة مما تربح أو تنقص فيقال ربحت أو وضعت؟ قيل: إن وجه ذلك على غير ما ظننت وإنما معنى ذلك: فما ربحوا في تجارتهم لا فيما اشتروا ولا فيما شروا. ولكن الله جل ثناؤه خاطب بكتابه عربا فسلك في خطابه إياهم وبيانه لهم مسلك خطاب بعضهم بعضا وبيانهم المستعمل بينهم. فلما كان فصيحا لديهم قول القائل لآخر: خاب سعيك، ونام ليلك، وخسر بيعك، ونحو ذلك من الكلام الذي لا يخفى على سامعه ما يريد قائله خاطبهم بالذي هو في منطقهم من الكلام فقال: { فما ربحت تجارتهم } إذ كان معقولا عندهم أن الربح إنما هو في التجارة كما النوم في الليل، فاكتفى بفهم المخاطبين بمعنى ذلك عن أن يقال: فما ربحوا في تجارتهم، وإن كان ذلك معناه، كما قال الشاعر:
وشر المنايا ميت وسط أهله
كهلك الفتاة أسلم الحي حاضره
يعني بذلك: وشر المنايا منية ميت وسط أهله فاكتفى بفهم سامع قيله مراده من ذلك عن إظهار ما ترك إظهاره. وكما قال رؤبة بن العجاج:
حارث قد فرجت عني همي
فنام ليلي وتجلى غمي
نامعلوم صفحہ