جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله: { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حكمه وبين حكم الحامل والمرضع، وذلك قول إن قاله قائل خلاف لظاهر كتاب الله ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام. وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: { وعلى الذين يطيقونه } وعلى الذين يطيقون الطعام، وذلك لتأويل أهل العلم مخالف. وأما قراءة من قرأ ذلك: «وعلى الذين يطوقونه» فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرا قاطعا للعذر، لأن ما جاءت به الحجة من الدين هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله، ولا يعترض على ما قد ثبت وقامت به حجة أنه من عند الله بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
وأما معنى «الفدية» فإنه الجزاء من قولك: فديت هذا بهذا: أي جزيته به، وأعطيته بدلا منه. ومعنى الكلام: وعلى الذين يطيقون الصيام جزاء طعام مسكين لكل يوم أفطره من أيام صيامه الذي كتب عليه. وأما قوله: { فدية طعام مسكين } فإن القراء مختلفة في قراءته، فبعض يقرأ بإضافة الفدية إلى الطعام، وخفض الطعام وذلك قراءة معظم قراء أهل المدينة بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعام مسكين فلما جعل مكان أن يفديه الفدية أضيف إلى الطعام، كما يقال: لزمني غرامة درهم لك بمعنى لزمني أن أغرم لك درهما، وآخرون يقرءونه بتنوين الفدية ورفع الطعام بمعنى الإبانة في الطعام عن معنى الفدية الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال لزمني غرامة درهم لك، فتبين بالدرهم عن معنى الغرامة ما هي وما حدها، وذلك قراءة عظم قراء أهل العراق. وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: { فدية طعام } بإضافة الفدية إلى الطعام، لأن الفدية اسم للفعل، وهي غير الطعام المفدى به الصوم. وذلك أن الفدية مصدر من قول القائل: فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين، أفديه فدية، كما يقال: جلست جلسة، ومشيت مشية، والفدية فعل والطعام غيرها. فإذا كان ذلك كذلك، فبين أن أصح القراءتين إضافة الفدية إلى الطعام، وواضح خطأ قول من قال: إن ترك إضافة الفدية إلى الطعام أصح في المعنى من أجل أن الطعام عنده هو الفدية. فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن الفدية مقتضية مفديا ومفديا به وفدية، فإن كان الطعام هو الفدية والصوم هو المفدى به، فأين اسم فعل المفتدى الذي هو فدية؟ إن هذا القول خطأ بين غير مشكل. وأما الطعام فإنه مضاف إلى المسكين والقراء في قراءة ذلك مختلفون، فقرأه بعضهم بتوحيد المسكين بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين واحد لكل يوم أفطره. كما: حدثني محمد بن يزيد الرفاعي، قال: ثنا حسين الجعفي، عن أبي عمرو: أنه قرأ «فدية» رفع منون «طعام» رفع بغير تنوين «مسكين». وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عظم قراء أهل العراق. وقرأه آخرون بجمع المساكين: «فدية طعام مساكين» بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر إذا أفطر الشهر كله. كما: حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الحسن: طعام مساكين عن الشهر كله. وأعجب القراءتين إلي في ذلك قراءة من قرأ طعام مسكين على الواحد بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين لأن في إبانة حكم المفطر يوما واحدا وصولا إلى معرفة حكم المفطر جميع الشهر، وليس في إبانة حكم المفطر جميع الشهر وصول إلى إبانة حكم المفطر يوما واحدا وأياما هي أقل من أيام جميع الشهر، وأن كل واحد يترجم عن الجميع وأن الجميع لا يترجم به عن الواحد، فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد.
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا، فقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح. وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم مدا من قمح ومن سائر أقواتهم. وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح أو صاعا من تمر أو زبيب. وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوته يومه الذي أفطره. وقال بعضهم: كان ذلك سحورا وعشاء يكون للمسكين إفطارا. وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل فكرهنا إعادة ذكرها. القول في تأويل قوله تعالى: { فمن تطوع خيرا فهو خير له }. اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم بما: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس: { فمن تطوع خيرا } فزاد طعام مسكين آخر فهو خير له، { وأن تصوموا خير لكم }. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مثله. حدثنا هناد، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله: { فمن تطوع خيرا } قال: من أطعم المسكين صاعا. حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: { فمن تطوع خيرا فهو خير له } قال: إطعام مساكين عن كل يوم فهو خير له. حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس: { فمن تطوع خيرا } قال: طعام مسكين. حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس نحوه. حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس: { فمن تطوع خيرا } قال: طعام مسكين. حدثني المثنى، قال: ثنا حجاج. قال: حدثنا حماد، عن ليث، عن طاوس، مثله. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمر بن هارون، قال: ثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ: { فمن تطوع } بالتاء خفيفة [الطاء] { خيرا } ، قال: زاد على مسكين. حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { فمن تطوع خيرا فهو خير له } فإن أطعم مسكينين فهو خير له. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني ابن طاوس عن أبيه: { فمن تطوع خيرا فهو خير له } قال: من أطعم مسكينا آخر. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرا فصام مع الفدية.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب: { فمن تطوع خيرا فهو خير له } يريد أن من صام مع الفدية فهو خير له. وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرا فزاد المسكين على قدر طعامه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: { فمن تطوع خيرا } فزاد طعاما فهو خير له. والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله: { فمن تطوع خيرا } فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض، فإن جمع الصوم مع الفدية من تطوع الخير وزيادة مسكين على جزاء الفدية من تطوع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله: { فمن تطوع خيرا } أي هذه المعاني تطوع به المفتدي من صومه { فهو خير له } أن كل ذلك من تطوع الخير ونوافل الفضل. القول في تأويل قوله تعالى: { وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون }. يعني تعالى ذكره بقوله: { وأن تصوموا } ما كتب عليكم من شهر رمضان فهو خير لكم من أن تفطروه وتفتدوا. كما: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { وأن تصوموا خير لكم } ومن تكلف الصيام فصامه فهو خير له. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب: وأن تصوموا خير لكم أي أن الصيام خير لكم من الفدية. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { وأن تصوموا خير لكم }. وأما قوله: { إن كنتم تعلمون } فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خير الأمرين لكم أيها الذين آمنوا من الإفطار والفدية أو الصوم على ما أمركم الله به.
[2.185]
قال أبو جعفر: الشهر فيما قيل أصله من الشهرة، يقال منه: قد شهر فلان سيفه إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه، يشهره شهرا وكذلك شهر الشهر إذا طلع هلاله، وأشهرنا نحن إذا دخلنا في الشهر. وأما رمضان فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمي بذلك لشدة الحر الذي كان يكون فيه حتى ترمض فيه الفصال كما يقال للشهر الذي يحج فيه ذو الحجة، والذي يرتبع فيه ربيع الأول وربيع الآخر. وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال رمضان ويقول: لعله اسم من أسماء الله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن مجاهد أنه كره أن يقال رمضان، ويقول: لعله اسم من أسماء الله، لكن نقول كما قال الله: { شهر رمضان }. وقد بينت فيما مضى أن «شهر» مرفوع على قوله:
أياما معدودات
[البقرة: 184]، هن شهر رمضان، وجائز أن يكون رفعه بمعنى ذلك شهر رمضان، وبمعنى كتب عليكم شهر رمضان. وقد قرأه بعض القراء: «شهر رمضان» نصبا، بمعنى: كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهر رمضان. وقرأه بعضهم نصبا بمعنى أن تصوموا شهر رمضان خير لكم إن كنتم تعلمون. وقد يجوز أيضا نصبه على وجه الأمر بصومه كأنه قيل: شهر رمضان فصوموه، وجائز نصبه على الوقت كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في شهر رمضان. وأما قوله: { الذي أنزل فيه القرآن } فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر من شهر رمضان، ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه. كما: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حسان بن أبي الأشرس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان، فجعل في بيت العزة. قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر، وقال ذلك السدي. حدثني عيسى بن عثمان، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حسان، عن سعيد بن جبير، قال: نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا. حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا عمران القطان، عن قتادة، عن ابن أبي المليح عن واثلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
" نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان "
حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن } ، أما أنزل فيه القرآن، فإن ابن عباس قال: شهر رمضان، والليلة المباركة: ليلة القدر، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي من رمضان، نزل القرآن جملة واحدة من الزبر إلى البيت المعمور، وهو مواقع النجوم، في السماء الدنيا حيث وقع القرآن، ثم نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رسلا رسلا.
نامعلوم صفحہ