جامع البيان في تفسير القرآن
جامع البيان في تفسير القرآن
ومنه قول المسيب بن علس:
يعطى بها ثمنا فيمنعها
ويقول صاحبها ألا تشري
يعني به: بعت بردا. وربما استعمل «اشتريت» بمعنى «بعت»، و«شريت» في معنى «ابتعت»، والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت. وأما معنى قوله: { بغيا } فإنه يعني به: تعديا وحسدا. كما: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد بن قتادة: { بغيا } قال: أي حسدا، وهم اليهود. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { بغيا } قال: بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: { بغيا } يعني حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه، عن الربيع، مثله. قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بتصديقه واتباعه، من أجل أن أنزل الله من فضله، وفضله حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده يعني به على محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل. فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل: { بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله }؟ وهل يشترى بالكفر شيء؟ قيل: إن معنى الشراء والبيع عند العرب: هو إزالة مالك ملكه إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا شرا أو خيرا، فتقول: نعم ما باع به فلان نفسه، وبئس ما باع به فلان نفسه، بمعنى: نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: { بئس ما اشتروا به أنفسهم } لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم فقال: { بئسما اشتروا به أنفسهم } يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه بالنار، وما أعد لهم بكفرهم بذلك. وهذه الآية وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل نظيرة الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله:
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب يؤمنون بالجبت والطغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا * أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا * أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على مآ آتهم الله من فضله فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما
[النساء: 51-54]. القول في تأويل قوله تعالى: { أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده }. قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قوله: { بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده } أي أن الله تعالى جعله في غيرهم.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: هم اليهود، ولما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. حدثني المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله. حدثت عن عمار، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي، قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي قال: نزلت في اليهود. القول في تأويل قوله تعالى: { فباءوا بغضب على غضب }. يعني بقوله: { فباءوا بغضب على غضب } فرجعت اليهود من بني إسرائيل بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد صلى الله عليه وسلم والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا، فباءوا بغضب من الله استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب { على غضب } سالف كان من الله عليهم قبل ذلك سابق غضبه الثاني لكفرهم الذي كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت يستحقون بها الغضب من الله. كما: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما أروي عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس: { فباءوا بغضب على غضب } فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا: ثنا سفيان عن أبي بكير، عن عكرمة: { فباءوا بغضب على غضب } قال: كفر بعيسى وكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: { فباءوا بغضب على غضب } قال: كفرهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما فله أجران.
ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد صلى الله عليه وسلم فباء بغضب. حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { فباءوا بغضب على غضب } غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. حدثني المثنى قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: { فباءوا بغضب } اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، { على غضب } جحودهم النبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به. حدثنا المثنى، قال: ثنا آدم، قال: ثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: { فباءوا بغضب على غضب } يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { فباءوا بغضب على غضب } أما الغضب الأول: فهو حين غضب الله عليهم في العجل، وأما الغضب الثاني: فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: { فباءوا بغضب على غضب } قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم من تبديلهم وكفرهم، ثم غضب عليهم في محمد صلى الله عليه وسلم إذ خرج فكفروا به. قال أبو جعفر: وقد بينا معنى الغضب من الله على من غضب عليه من خلقه واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، والله تعالى أعلم. القول في تأويل قوله تعالى: { وللكافرين عذاب مهين }. يعني بقوله جل ثناؤه: { وللكافرين عذاب مهين }: وللجاحدين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم عذاب من الله إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة { مهين } هو المذل صاحبه المخزي الملبسه هوانا وذلة. فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه فيكون للكافرين المهين منه؟ قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا الذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله وأما الذي هو غير مهين صاحبه: فهو ما كان تمحيصا لصاحبه، وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب، والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير أجرامهم التي ارتكبوها ليمحصوا من ذنوبهم ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك وإن كان عذابا فغير مهين من عذب به، إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه ثم يورده معدن العز والكرامة ويخلده في نعيم الجنان.
[2.91]
نامعلوم صفحہ