الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
جداول بلا ماء
جداول بلا ماء
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
لم يكن توفيق في أول أمره واسع الثراء وإنما كان واسع الذمة، وقد استطاع بضميره المنعدم أن يجمع ثروة ما كان ليصل إليها بغير الذمة الخربة. ولو كان ضميره واعيا بعض الوعي لما بلغ الثراء الواسع الذي وصل إليه.
أبو توفيق يملك عشرين فدانا، وكان الشيخ صبحي الحسيني قنوعا ذا دين وورع وتقوى، فكان مكتفيا بما تغله أفدنته القليلة. ولم يكن له ورثة إلا ابنه توفيق، وقد نال توفيق من التعليم أيسره. فقد أمضى سنة في المرحلة الثانوية ثم خذله الجهد وكبت به الجياد، وذهب ليستقر مع أبيه في قرية الولجة، وإن كان قليلا ما يمكث بها؛ فقد كان دائم التنقل. وهو كان بلا ورع، وكان يتقاعس عن القيام بفروض الله. وكان أبوه يحاول أن يعظه فيذهب وعظه أدراج الرياح، ولا يستقبله من ولده إلا آذان صماء ونفس رافضة، فقد كان كل همه منصرفا إلى جمع المال.
وفي يوم طالع الوالد ولده قائلا: قد عزمت على الحج في عامنا هذا إن شاء الله. - الحج! ومن أين لك المال؟ - دبرته والحمد لله. - متى؟ - من قبل وفاة أمك رحمها الله، فقد كنا في عام وفاتها ننوي الحج وكنت عازما أن أبيع فدانا أحج به. - تبيع فدانا، أهذا معقول؟! - طبعا الفدان عندك أهم. على كل حال لقد اختار الله أمك إلى جواره، وأنا رأيت أن أقتطع جزءا من إيراد الأرض في كل عام، وأصبح عندي اليوم ما أظن أنه يكفيني بإذن الله. ولا تخف فإن هذا الحج لن يؤثر على ما أحفظه للزمن. - والله حرام عليك. - اخرس يا فاجر ... أحرام أن أحج؟ وتحلف أيضا. - تضيق علينا العيش وتحرمنا من الضرورات لكي تحج أنت؟ - أي ضرورات حرمتك منها؟ ها أنت ذا مثل الثور لا ينقصك طعام، وملبسك لائق. ولكن ليس عجيبا عليك أن تكفر بالنعمة ما دمت كفرت بالله سبحانه ... قبحك الله! - الحج فريضة على من استطاع إليها سبيلا. - وأنا أستطيع إليها سبيلا. - بضيق الإنفاق الذي نعيش فيه. - المال ما زال مالي وأنا حر فيه. وأنا سأحج هذا العام غصبا عنك، وسواء عندي رضيت أم لم ترض. - طيب فكر في صحتك. - ما لها صحتي، هل شكوت إليك مرضا؟ - وبغير أن تشكو. لقد كبرت في السن وأصبحت غير قادر على أداء مناسك الحج. - أرجو الله أن أموت هناك فأدفن بجوار النبي، عليه الصلاة والسلام، وأرتاح منك ومن زندقتك. - لا قدر الله ... ولكني أخاف عليك. - أنت لا تخاف علي، بل أغلب الأمر أنك تتمنى موتي لتنفرد بالأرض. - هل معقول ألا يخاف الابن على أبيه؟ - نعم إذا كان الابن جاحدا زنديقا. - أنا جاحد؟ - ها أنت ذا تجحد النعمة التي تعيشها عيشة لا ينقصك فيها شيء. - أنا فقط أرجو منك أن تجعلنا نعيش في سعة، ما دام عندك من المال ما تستطيع أن تحج به. - لقد كنت أجمع ما أحج به من حر مالي، وأنت لا تشعر بشيء ينقصك ففيم اعتراضك؟ - أنا خائف على صحتك. - كذاب. وعلى كل حال سأحج بإذن الله. - أمرك. •••
وسافر الشيخ صبحي الحسيني إلى الحج وانفرد توفيق بالأرض، ولكنه لم يستطع أن يصنع شيئا بانفراده بها فهي ما زالت ملك أبيه.
ويشاء العلي القدير أن يموت الحاج صبحي بالحجاز بعد أن أدى المناسك. وكأنما استجاب له المولى جل جلاله، وكأنما أراد له سبحانه أن يريحه من ابنه هذا الجاحد الزنديق، وله الأمر من قبل ومن بعد.
الفصل الثاني
وجد توفيق في خزانة أبيه ألفين وستمائة وخمسين جنيها كانت كافية ليبدأ حياته الجديدة، ويحقق جشعه البشع للحصول على المال.
فبعد وفاة أبيه بأيام قلائل قصد إليه عبد الموجود مصيلح: أهلا وسهلا بالشيخ عبد الموجود. - أهلا بك. كيف الحال؟ - معدن والحمد لله، لولا حزني على أبي رحمه الله. - ربنا أكرمه ودفن في أطهر مكان على البسيطة. - والله لقد طلب هو ذلك. - كلنا سنموت. ومن نعم ربنا عليه أن استجاب لدعائه. - النهاية ... شرفت يا شيخ عبد الموجود. - أنا أعلم أن الوقت غير مناسب، ولكنني معذور في قرشين. - تحت أمرك. - مائتا جنيه أردها إليك بعد شهر. - وكم تردها؟ - كم أردها؟! - طبعا، لا يمكن أن تردها كما أخذتها. - سبحان الله. - سبحانه. - أتريد أن ترابي يا ابن الحاج صبحي؟ - هذه فوائد وليست ربا. لقد كنت خليقا في هذا الشهر أن أستثمر المبلغ ويعود علي بربح. - ولو أن الحرمة تقع على المستلف بالربا وعلى من يسلفه، ولكني في حاجة شديدة لهذا المبلغ. كم تريد ربا له؟ - ليس ربا. - هو الربا بعينه، ولكني مضطر أن أعتبره كما تسميه أنت. ليكن فوائد. - كم تريد؟ - آخذ المائتين ثلاثمائة. - يا نهار أسود من الحبر! تأخذ ربا خمسين في المائة. - وأكثر ... - لا حول ولا قوة إلا بالله. - إذن تكتب وصل أمانة بثلاثمائة جنيه. - وصل أمانة؟ - لأضمن حقي. - والكمبيالة لا تضمن حقك؟ - لا أحب المحاكم. - افعل بي ما تشاء. اكتب وصل الأمانة. - ما دمت تعرف القراءة والكتابة فلتكتب أنت، وأنا أملي عليك. - أمرك. - هذه ورقة وهذا قلم ... اكتب يا سيدي. - بل أنت سيدي وسيد ظالم ... أمري إلى الله. - سبحانه جل شأنه. - أتعرفه؟ - هل ستكتب أم ستطيل لسانك؟ - أكتب. - اكتب في أول السطر: تسلمت أنا ... - ألا نقول بسم الله الرحمن الرحيم؟ - كما تشاء. - الواقع لا لزوم لذلك، فإن ما نفعله لا يصلح معه اسم الله. كره الله هذا والمؤمنون. - هل ستكتب أم نلغي الصفقة؟ - أكتب. - اكتب. •••
وهكذا لم تمض ثلاث سنوات حتى أصبحت العشرون فدانا أربعين. وكان توفيق كلما زادت ثروته ازداد بخله، فهو كز مقتر لا يخرج قرشا إلا بعد مفاوضات عريضة مع نفسه.
ولما كان لا بد له أن يأكل، فقد استأجر خادمته وهيبة لتطهو له الطعام وتناوله ما يحتاج إليه وتنظف له البيت. ولو أن موضوع النظافة لم يكن عنده ذا شأن. ولما كانت وهيبة تقارب الستين من عمرها وتتمتع بقبح شديد، أصبح لا بأس عليها ولا على توفيق أن تبيت معه في البيت؛ فزوجها قد مات، ولم تكن قد أتت له ببنين أو بنات، وأمست هي وحيدة لا هم لها إلا أن تسعى لرزقها وحدها، فهي راضية بعملها عند توفيق مهما يكن لحزا شحيحا.
وهكذا وجد كل من السيد والخادمة بغيته عند الآخر.
ولم يكن توفيق خبيرا في الزراعة خبرة أبيه، فهو لا يطيق خدمة الأرض. ولذلك كان تعامله مع زراع أرضه عن طريق المحصول، فهم يزرعون الأرض ويسددون استئجارهم بما تنتجه الأرض من محصول. ويتولى بيعه هو للتجار، وفلسفته في هذا أن المحصول إذا كانت كميته كبيرة إلى حد ما يكون ثمنه عند البيع أكبر.
وتفرغ هو للإقراض بالربا الفاحش لكل من طحنه الزمن واضطره أن يقترض من توفيق صبحي، وهم كثر لا يحصيهم عدد. فليس غريبا أن يصبح مالكا لأربعين فدانا بعد أن كان لا يملك إلا عشرين، فأغلب الأرض تملكها من المدينين الذين عجزوا عن السداد ومستقبلهم يتربص به السجن بتهمة خيانة الأمانة بموجب الإيصال الخبيث الذي يستكتبه توفيق للمقترضين في كل قروضه. وكان من بين هؤلاء الشيخ إسماعيل عوض، وكان رجلا يمتلك خمسة أفدنة وليس له إلا ابنة واحدة اسمها صبيحة. وقد احتاج للاقتراض ليجهز صبيحة التي خطبها ابن عمها عمران الدهشوري. وما كان بينه وبين خطيبته حب وإن كان بينهما ألفة، وكان والد صبيحة حريصا على هذه الزيجة فقد كان ابن أخيه الأثير عنده.
وحين تسلم الشيخ إسماعيل القرض بدأ في الاتفاق مع الصناع ليعدوا الشوار الذي لم يرد أن يشتريه جاهزا ليوفر الفارق في الأثمان. وكان ينوي سداد الدين من محصول القطن، ولكن موعد سداد الدين حل قبل أن يصبح القطن صالحا للجمع.
وهكذا لم يكن غريبا أن يقصد توفيق إلى بيت الشيخ إسماعيل ليتقاضى دينه، وكان مقدار الدين ثلاثمائة جنيه.
فتحت صبيحة الباب ورآها توفيق عن كثب، واقتادته إلى المضيفة واقتعد الأريكة في انتظار الشيخ إسماعيل.
وبينما هو جالس هاجمت رأسه أمور وشئون، وكان الهجوم خاطفا في لحظات وجيزة. البنت حلوة وليس يعنيني فقرها فهذا الفقر سيجعل المهر ضئيلا، ثم إنها أيضا لن تستطيع أن ترفع رأسها في وجهي، وهذا ما أريده في الزوجة، فهي إذا كانت على شيء يسير من الغنى، فستكون متكبرة مزهوة بغنى أبيها مهما كان ضئيلا.
وجاء الشيخ إسماعيل وعلى وجهه قترة: يا مرحب يا توفيق أفندي. - مرحبا بك. - القهوة يا صبيحة. - لا داعي لها. - إكرام الضيف واجب. - حتى وإن كان ضيفا ثقيلا؟ - معاذ الله أنت رجل أمير وابن حلال. - ولكن هذا لا يمنع أن مجيئي غير مرغوب فيه. - لا قدر الله. - أخذ السلفة سهل مريح، ولكن سدادها صعب ثقيل. - أنت تعرف أننا لم نجمع القطن. - وصل الأمانة لا تاريخ له، ولا شأن لي بجمع القطن. - معروف أن الفلاحين يسددون ديونهم كلها بعد جمع القطن وبيعه. - فلماذا لم تقل لي إن موعد السداد بعد بيع القطن؟ - حسبت أن هذا الأمر لا يحتاج إلى قول. - في الديون وسدادها لا بد من الاتفاق ... حتى القرآن أكد هذا المعنى. - ما دمت ذكرت القرآن هل يوافق كتاب الله على الربا؟ - إن ما أفعله ليس ربا، إنما هو ريع للمال. - علم الله أنه ربا وأنا وأنت مذنبان، وأرجو من الله الغفران فهو يعلم سبحانه مقدار حاجتي لهذا المال الذي استلفته. - على كل حال أنا لم أجئ إليك لندخل في مناقشة شرعية. - أنا متأكد من هذا، وأعرف تماما ما جئت لأجله. - المقصود ماذا أنت فاعل؟ - لا يقدر على القدرة إلا الله. - فما قولك فيمن يتنازل لك عن الدين كله، أصله وفوائده. - طبعا أنت لا تعني ما تقول. - ما قولك إذا كنت أعنيه؟ - لا بد أنك ستطلب مني مقابلا لذلك. - الله ينور عليك. - ولا بد أنه طلب كبير. - بنتك صبيحة. - ماذا؟! - اسمها صبيحة وهي فعلا صبيحة.
وبدا الرعب على وجه الشيخ إسماعيل وهو يتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله. - ما لك فزعت كأنما ظهر لك عفريت من الجن؟ - ألا تعرف لماذا فزعت؟ - حسبتك ستفرح وتبتهج للحظ العظيم الذي واتى ابنتك الوحيدة. - يا رجل البنت مخطوبة. - ولكنها لم تتزوج ولا كتبت كتابها، وأظن لا تستطيع أن تقارن بيني وبين خطيبها عمران. - يا توفيق أفندي ألم تسمع أن النبي
صلى الله عليه وسلم
نهى المسلمين أن يخطبوا على خطبة إخوانهم. - سمعت، ولكني سأتحمل وحدي هذا الذنب ولا حرج عليك أنت.
فقال الشيخ إسماعيل في أسى: إذا كنت ترتكب الكبائر التي نهى عنها الله وهو الله، فلا شيء يستغرب عليك أن تفعل هذا بالخلق الذي أمر به رسوله، عليه الصلاة والسلام. - هذا ذنب يقع عواقبه علي أنا وحدي، فماذا قلت؟ - ألا أسألها؟ - وافرض فرضا أنها مجنونة ورفضت، ألا تقدر أنت العواقب؟ إن الذي معي وصل أمانة عقوبته الحبس، وليس كمبيالة. - وحتى السؤال محرم علينا؟ - وماذا أنت فاعل إذا لم توافق؟ - أروح في داهية. - نقرأ الفاتحة؟ - أتحفظها؟ أو تدرك قوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، فوصف نفسه بالرحمن الرحيم مرتين في ثلاث آيات. أتعرف أنت الرحمة الرحيمة؟ - نقرأ الفاتحة. - نقرؤها والأمر له من قبل ومن بعد.
ووضع كلاهما يمناه في يمين الآخر وتمتما بفاتحة القرآن الكريم، ولكن القراءة لم تمنع الشيخ إسماعيل أن يكون في غاية الإحباط، ويكون توفيق في غاية السعادة. •••
الفصل الثالث
أصيبت صبيحة بصدمة ودهشة حين أبلغها أبوها بالنبأ، ولكن ما لبثت هذه الصدمة أن وهنت. وأين عمران من توفيق صاحب الأربعين فدانا. ربما أراد لي الله أن أعيش عيشة بعيدة عن القحط والفقر والعوز الذي أحياه أنا وأبي، ومستقبلي مع عمران كان سيسوده نفس الفقر، إن لم يكن أدهى وأمر. وأي مصير كنت سألقاه إذا خلفت أولادا؟ إن الأمر حينذاك سيكون بالغا حد العوز والفاقة.
وماذا عن حبك لعمران؟ يغور الحب وأيامه. وهل كنت وجدت خيرا منه ولم أحبه؟ ابن عمي وشكله مقبول وأدركت أنه سيطلبني للزواج، فصبرت نفسي على الهم وهيأت نفسي لقلبي أنه يحبه، والله يعلم أنه لا حب هناك ولا يحزنون، وإنما كان رضى بالأمر الواقع. وأنه يملك ثلاثة فدادين أمر نادر بين شباب الفلاحين. ولن يجد أبي عذرا يجعله يرفض زواجه مني. الحمد لله غمة وانزاحت وأراد الله لي أن أصبح ستا لا خادمة. فإنني لو كنت تزوجت من عمران كنت لا شك سأخدم في البيوت حتى تصبح حياتي أنا وهو قابلة للعيش، ولن أستطيع أن أرفض الخدمة. فأولا أنا أقوم بها وأنا في بيت أبي، وحين أصير زوجة عمران ستصبح خدمة البيوت حتمية إن كانت في بيت أبي اختيارية. نعم يقولون عن توفيق إنه بخيل. ولكن مهما كان بخله فهو أهون من حياة العوز التي أعيشها مع أبي، أو تلك التي كنت سأحياها مع عمران إذا تزوجته. على كل حال الزواج من غني بخيل خير من فقير كريم.
الخيرة فيما اختاره الله.
وهكذا كانت صبيحة أقرب إلى السعادة بطلب توفيق ليدها. وقد تعجب أبوها مما أحسه من حبورها الذي يقترب من البهجة، فقد كان يتوهم أنها تحب ابن عمها، وكان يحسب أن ابنته ستحزن لاضطراره أن يقبل الخطبة الجديدة ولرفضه لعمران ابن أخيه. وكان يشعر بتأنيب الضمير أنه فسخ خطبة ابنته ممن كان يظن أنها تحبه حتى إنه قال لابنته في صراحة: أنا آسف يا صبيحة، فقد كان حبسي هو البديل عن زواجك من توفيق.
ودهش أنها قالت له في غير مبالاة وفي صوت فيه رنة قريب من السعادة والابتهاج: ولا يهمك يا أبي، ربما يكون ربنا أراد بي خيرا. - فأنت لا تلومينني. - ألومك؟! معاذ الله. - الحمد لله. لقد أرحتني من الهم الذي ركبني. - يا أبي أتكون مهموما لأنك زوجتني من رجل في غنى توفيق؟ - حسبتك تحبين ابن عمك. - الحب مقدور عليه. - لقد أرحتني يا ابنتي. أرجو الله عز وجل أن يكتب لك السعادة مع زوجك. - آمين يا رب. •••
أما عمران فقد نزل عليه الخبر نزول الصاعقة، فقد كان فعلا يحب صبيحة. وحاول أن يعاتب عمه ولكن الشيخ إسماعيل روى له الظروف التي تعرض لها عند قبوله لهذه الخطبة، ولم يجد عمران ما يقوله. ولكن الشيخ إسماعيل سأله في وضوح: هل ألام على ما فعلت؟
وفي حزن وأسى: لا لوم عليك، وإنما اللوم على الرجل الفاجر الوضيع الذي لا يخشى الله، ولا يرعى أي حق من حقوق البشر. - لا تحزن يا ابني. وربنا إن شاء الله يعوضك خير عوض. - الأمر لله. وحسبي الله ونعم الوكيل في أمرك يا توفيق يا ابن صبحي. •••
الفصل الرابع
المعلم متولي حسنين تاجر غلال واسع التجارة في روض الفرج، وهو من تجار الجملة المعروفين. وهو متزوج من امرأتين تسومانه العذاب بطلباتهما التي لا تنتهي. ولكل من الزوجتين ابنان وابنة. وهكذا يكون للمعلم متولي أربعة بنين وابنتان. أما أولاده من تفيدة البرشومي فهم يكبرون الأبناء الآخرين، وابنه الأكبر هو سعيد وأخوه ياسر وأختهما الشقيقة هي نوال. أما أبناؤه من زبيدة الكرماوي فهم سليمان وأخته التي تصغره فريدة وأخوها الأصغر شكري. والأبناء جميعهم في المدارس ما عدا سعيدا الذي في السابعة عشرة من عمره، وأخرجه أبوه من التعليم ليعمل معه في التجارة. أما الأبناء الآخرون جميعا والبنتان فقد كانوا ما يزالون تلاميذ لأن سنهم لم تكن تسمح لهم بالعمل مع أبيهم. أما البنتان فقد كانتا صغيرتين وما تزالان تلميذتين في المراحل الأولى من التعليم. وطبعا كان الزواج هو المصير الذي ينتظرهما، ففلسفة المعلم متولي أن البنت ليس لها إلا الزواج.
وقد أثر زواج متولي بزوجتين وكثرة الأبناء على تجارته، فقد كانت مصروفاته تكاد تبتلع مكاسبه. وقد جعله هذا يذهب إلى القرى ويشتري الغلال بنفسه بدلا من أن يشتريها من التجار الذين يتعامل معهم زملاؤه. وقد جعله سفره إلى المحافظات يشتري الأقطان أيضا ويبيعها لصناع الأثاث. وهكذا لم يكن غريبا أن يذهب المعلم متولي إلى توفيق الذي كان حديث الزواج: صليت بنا على النبي. - عليه ألف صلاة وسلام. - أنا أحببتك. - من القلب إلى القلب. - ما رأيك أني أريد أن أشتري منك محصولك كله كل عام. - وما رأيك أن عندي فكرة أحسن. - عجل بها. - ما رأيك أن أشاركك.
وصمت متولي وراح يفكر: ما البأس؟
الواضح أنه مليء وأمواله ستجعل تجارتي أكثر سعة، وتعاونني على المصاريف الكبيرة التي أنفقها على المرأتين والأولاد.
وقال توفيق: الأمر يحتاج كل هذا التفكير؟ - على بركة الله قبلت المشاركة. - توكلنا على الله. - متى تستطيع أن تأتي إلي؟ - غدا إذا شئت. - اجعلها بعد غد، حتى أكون قد حددت موعدا مع المحامي ليكتب عقد الشركة. - وهو كذلك. إنما أريد منك خدمة أخرى. - أنا تحت أمرك. - أريد مكانا للسكنى. - آه ... هذا أمر ليس يسيرا، وإنما توكل على الله. - اجعل محاميك يشترك معك في هذا الموضوع. - وهو كذلك. إنما طبعا أنت تعرف أنك ستدفع عند التعاقد مبلغا محترما. - طبعا أعرف. - اتفقنا. - على بركة الله. - على بركة الله. •••
الفصل الخامس
قال توفيق لزوجته: أنا ذاهب إلى مصر.
وفي صرخة طفلة ساذجة: خذني معك. - هذه المرة لا، ولكن من يعلم ربما نعيش هناك. - والنبي؟ - والنبي. - أنا سأبشرك بشرى حلوة. - هل أنت حامل؟ - في الشهر الثاني. - أرجو أن يكون ولدا. - إن شاء الله. والبنت ما لها؟ - الولد يختار عروسه، أما البنت فيختارها العريس. - وما له؟ - على رأيك. ولكن لا تتعبي نفسك في شغل البيت. - إذن أعد وهيبة إلى خدمتنا. - ليس إلى هذا الحد. - تساعدني؟ - الأمر لا يحتاج إلى مساعدة. حين تلدين قد نفكر أن نأتي لك بمن يساعدك. - ربما نكون في مصر، والخدم هناك أجورهم عالية جدا. نحضر وهيبة من الآن بأجرها الضئيل، ونأخذها معنا إلى مصر وسيكون هذا أوفر لك. - وهل تذهب وهيبة إلى مصر؟ - وماذا يمنعها؟ إنها مقطوعة من شجرة. - والله فكرة. أحضريها. - ربنا يطيل عمرك.
وهكذا عرفت صبيحة مداخل الطلب من زوجها، فهو لا يقبل على شيء إلا إذا كان يوفر له مالا، ولا يعنيه شيء في العالم غير هذا.
ولذلك فهو غير غاضب على زوجته صبيحة ذات الجهل الفاضح، حتى إنه لا يستطيع أن يحادثها في أي شيء من مشروعاته المالية. وإن كانت صبيحة تعرف القراءة والكتابة فإن هذه المعرفة منها لا تعنيه في شيء، فهو نفسه لا ينتفع بما تعلمه من قراءة أو كتابة. حتى الصحف لا يشتريها فإن وجد منها شيئا عند صديق له لا يكاد يقرأ فيها شيئا. ولذلك وجد في صبيحة كل ما تهفو إليه نفسه. فهي في البيت لخدمته فقط. وإذا كان لها طلب عنده فهي تدري كيف تطلبه منه بذكاء فطري عفوي. فمثلا حين أرادت أن ترجوه أن يشتري لها فستانا قالت في خبث فطري: أنا الآن زوجتك ومقامي من مقامك. - طبعا. - والفلاحات كثيرا ما يحضرن إلي. - المهم؟ - إذا رأينني ألبس كما يلبسن سيلقين عليك أنت اللوم. - طظ. - النسوان كما تعرف صاحبات تأثير كبير على أزواجهن، وأنت لن تستطيع أن تعيش وحدك. - أنا أعيش مع أموالي. - أموالك هذه لن تغنيك عن معاشرة الناس. - المهم ماذا تريدين؟ - فستانين. - لما نذهب إلى مصر. - يكون أحسن. ولكني في مصر سأقابل ستات وسيعرفن أخلاقك من ملابسي. والذين سنذهب إليهم في مصر لا يعرفونني ولا يعرفونك، وسيحكمون بنظرتهم إلى ملابسي إن كنت تنفق على أهل بيتك أو أنك بخيل. - والله صحيح. - طبعا صحيح. - حين أرجع من مصر أشتري لك فستانا. - واحدا؟ - اثنين. •••
الفصل السادس
نزل من القطار وراح يسأل الناس أن يدلوه على المواصلات الذاهبة إلى روض الفرج، فلم يستطع أحد أن يدله. فاحتسب الله وركب سيارة أجرة ... والنزول من سيارة يعطيني قيمة غير الذهاب للمعلم متولي ماشيا.
لم يكن عسيرا عليه أن يجد الوكالة التي يبحث عنها. وعاجله المعلم متولي: يا مرحبا يا أهلا وسهلا. ماذا تشرب؟ - ما تشاء. - يا سعيد قل لهم أن يأتوا بكوب عصير قصب لعمك توفيق بك.
ونزل لقب بك على قلب توفيق بردا وسلاما، فهم هنا لا يعرفون بعد أنه مراب كما كان أهل بلدته يعرفون. ولهذا لم يكونوا ينادونه إلا بتوفيق أفندي. وانتبه من سرحته ليقول في سرعة: تشكر.
ووجد متولي يقول: أولا أعرفك بابني البكري سعيد. أخرجته من المدارس ليكون معي في الوكالة. - خيرا فعلت. باسم الله ما شاء الله! أهلا يا عم سعيد. - عمك توفيق بك صبحي سيصبح كما قلت شريكا لنا.
ويقول سعيد: يا أهلا يا مرحبا! ربنا يجعل قدومه علينا أخضر إن شاء الله.
ويقول متولي: من أجل هذا طلبت عصير قصب، فالذي أوله سكر سيكون كله سكر.
ويقول توفيق: إن شاء الله. ما الأخبار؟ - كلها خير إن شاء الله. - يا ترى هل تذكرت موضوع الشقة؟ - طبعا تذكرته. - خيرا إن شاء الله. - خلو الرجل مرتفع جدا. - وما العمل؟ - أنا عندي فكرة. - الحقني بها. - لماذا لا تشتري شقة وتكون ملكك، وفي نفس الوقت لا تخسر خلو الرجل الذي سترميه بدون مناسبة؟
وصمت توفيق بعض الوقت. وانتظر متولي عليه ليأخذ فرصته في التفكير. خلو الرجل فلوس سيبتلعها المؤجر ولن تعود علي بأي فائدة، ثم إن الإيجار بعد ذلك سيكون مرتفعا. أما شراء شقة تصبح ملكا خالصا لي فهي رأس مال. وأنا نويت أن أقيم في مصر دائما فلا عمل لي في البلد إلا تسليف الخلق. وهذا أمر أستطيع أن أمارسه في مصر بشكل أوسع وبعائد أكبر. التفت إلى متولي وقال له: والسعر؟ - معقول. - هل وجدت شيئا؟ - واتفقت مع صاحب الملك وأمهلته حتى تأتي. - كم حجرة؟ - ثلاث حجرات وفسحة كبيرة. - العمارة كم دور؟ - خمسة وبها مصعد، وفي كل دور أربع شقق. - والشقة في أي دور؟ - في الرابع. - المصعد هو الذي جعل الشقة غالية. - يا توفيق نحن الآن عندنا صحة ونستطيع أن نصعد أربعة أدوار. ولكن السكن للعمر كله فالمصعد سنحتاجه. - هل يمكن أن أراها؟ - الآن، وهي قريبة من هنا وعلى النيل. - سيارتك معك؟ - تحت أمرك. - هلم بنا. - توكلنا على الله. •••
واصطحب متولي ابنه سعيدا وذهب ثلاثتهم إلى الشقة. وكان الحاج خيري الوزان المالك الذي كان في انتظارهم في العمارة ورافقهم في الصعود إلى الشقة التي بهرت توفيقا إبهارا شديدا. ولكنه استطاع في مقدرة التاجر المرابي أن يخفي إعجابه حتى لا يطمع المالك في الثمن. وأحضر المالك خيري الوزان بعض الكراسي وقعدوا. وقال خيري التاجر المتمرس لتوفيق: واضح أن الشقة دخلت مزاجك.
وانتاب توفيقا الأسف أنه لم يستطع أن يخفي إعجابه إخفاء تاما، وقال: لا بأس بها. ولو أن الحجرات ضيقة بعض الشيء. - المهندس الذي رسمها من أكبر المهندسين في مصر، واتساع الحجرات هو القاعدة التي تسير عليها كل العمارات. - النهاية هل أنت مصمم على السعر الذي قلته للمعلم متولي؟ - هذا موضوع لا جدال فيه. - هل تنوي أن تبيع الشقق كلها بنفس السعر؟ - لا. أنا أبيع هذه الشقة فقط، أما الشقق فقد أجرتها كلها. ولكن الفلوس قصرت معي بعض الشيء فقلت أبيع هذه الشقة. - صل على النبي. أنا سأترك بلدتي وآتي لأعيش هنا. وأحب أن تكرمني، فأنا أبدأ حياة جديدة علي. - والله هذا شأنك، أما أنا فلا أستطيع أن أخفض شيئا من السعر، فهذا سيجعل الأمر بخسارة.
واستمرت المحاكاة بين خيري الوزان وتوفيق صبحي مدة تجاوزت الساعتين، ولم يستطع توفيق أن ينزل السعر إلا بمقدار ألفي جنيه واشترى الشقة.
وكان متولي وسعيد صامتين تقريبا طوال الجدال الذي دار بين توفيق وخيري، حتى إذا تمت الصفقة تنفسا الصعداء. ولكن بعد أن وقر في نفس متولي أن الشركة مع توفيق لن تكون سهلة أو يسيرة. وقال متولي لتوفيق: موعدنا مع المحامي فات، فما رأيك؟ - نذهب إليه بعد الظهر، وبالمرة يكتب عقد الشقة. - كلام معقول ... إذن تتغديان عندي أنت والحاج خيري ونذهب ثلاثتنا إلى المحامي بعد الظهر.
ودار جدال شديد بين ثلاثتهم فيمن يدعو الآخرين على الغداء. وكان صوت توفيق أكثرهم ضعفا وهمسا. وحسم المعلم خيري النقاش بقوله: أنا الوحيد الذي قبضت فلوسا، فأنا الذي أدعوكم وأمري إلى الله.
وضحك ثلاثتهم وتم الغداء في مطعم الكباب على حساب خيري.
وتمشى أربعتهم بعض الوقت وجلسوا إلى مقهى، ودفع متولي ثمن الطلبات حتى إذا أصبح الموعد مناسبا ذهبوا إلى محامي متولي الأستاذ حسان المهدي.
وبدأ خيري الحديث بأن طلب من حسان المهدي كتابة عقد الشقة. وأخذ المحامي البيانات المطلوبة وانصرف خيري إلى طيته وبقي متولي وتوفيق وسعيد.
وقال متولي لحسان: نريد أن تكتب لنا عقد شركة بيني وبين توفيق بك. - على بركة الله.
والعجيب أن شروط العقد بين متولي وتوفيق لم تستغرق وقتا يذكر، مما جعل بعض الطمأنينة تراود متولي بعد ما رآه من توفيق عند شرائه للشقة.
والواقع أن لكل من الشريكين أسبابا قوية في الحرص على هذه الشركة، فقد كان لمتولي جار في الوكالة يضيق عليه الخناق، فقد كان يبيع نفس ما يتاجر فيه متولي من أقطان وحبوب. وكان هذا الجار مدبولي وهبة يرخص أثمان بضاعته، الأمر الذي كان يضيق به متولي غاية الضيق. وقد كانت مشاركة توفيق له تمكنه من إرخاص الأسعار حتى لا يستطيع مدبولي أن ينافسه.
أما توفيق فقد كان تواقا إلى الحياة في القاهرة ليتوسع في الإقراض بالربا. وكانت هذه المشاركة تتيح له الأموال الضخام التي يهفو إليها. •••
الفصل السابع
توفيق فتى ما يزال شابا وقد كان عادي القسمات، فإذا رأيته لا تستطيع أن تميزه بشيء معين، فهو أسمر الوجه سمرة خفيفة، واسع العينين إلى حد ما، خفيف الشعر والحركة معا، وكان يرتدي الحلة الإفرنجية ويحرص على أن يطوق عنقه برباط، وليس يعنيه أن تكون الحلة أو رباط العنق أو الحذاء على شيء من الأناقة، فقد كان شحه الشديد يجعله لا يشتري إلا أرخص الملابس، معتقدا في فلسفة البخلاء أن أحدا لن ينتبه إلى رخص ما يرتديه.
أما متولي فقد كان على شيء من السمن، وكان يرتدي الملابس البلدية، ولكنه كان يحرص على أن يكون ما يلبسه من نوع جيد في غير إسراف ولا بخل.
وكان ابنه سعيد نحيف القوام لا يخلو وجهه من ملاحة، وكان يرتدي القميص والبنطلون فإذا حل الشتاء زاد عليهما بلوفر من الصوف. •••
بات توفيق ليلته في فندق بسيدنا الحسين، وسافر في اليوم التالي إلى البلدة ولقيته صبيحة في ابتسامة عريضة، وقد كان وجهها يزداد جمالا حين تبتسم، فقد كانت ذات وجه أقرب إلى الاستدارة ولها شعر تجيد تصفيفه، وكانت ما تزال نحيفة فآثار الحمل لم تكن ظهرت عليها طبعا. قالت: الحمد لله على سلامتك. - الله يسلمك. - إن شاء الله يكون المشوار خيرا؟ - خير كل الخير. اشتريت شقة لنا. وأما أموري الأخرى فقد سارت على خير ما يرام.
وكان توفيق قد تعود في حديثه مع صبيحة ألا يطلعها على شيء من أعماله أو آماله، فقد بدا له منها في وضوح أنها لم تكن تعنى بشيء من هذه الأمور، فليس يعنيها من زوجها إلا ما كان متصلا بشخصها، أو البيت الذي تعايش زوجها فيه. فلم يكن غريبا على توفيق أن لم تسأله عن شيء إلا الشقة. - هل الشقة حلوة؟ - على النيل. - كم حجرة؟ - ثلاث حجرات واسعة وفسحة نستطيع أن نضع فيها المائدة. - مبروكة إن شاء الله. - والأثاث هل سنشتريه من هناك أم من هنا من البندر؟ - لا من هناك ولا من هنا. ما له هذا الأثاث؟ - هذا الأثاث من أيام زواج أبيك الله يرحمه. - وإن كان من أيام زواج جدي. - شقة جديدة أليس من الطبيعي أن يكون أثاثها جديدا؟ - الطبيعي أننا نأخذ هذا الأثاث. - وأنت إذا جئت إلى هنا؟ - سأحتاج إلى سرير وكرسي ومنضدة. نترك هذه الأشياء ونفرش بباقي الأثاث الشقة الجديدة. - وإذا جئت إلى هنا وزارك بعض الناس، ألا يجدون كرسيا يجلسون عليه؟ - نترك أربعة كراسي. - أهذا معقول؟ - هذا هو المعقول. - يا عالم شقة جديدة نؤثثها بأثاث أكل عليه الدهر وشرب. - اسمعي، لا مناقشة في هذا. - ما دام معك ما تستطيع أن تجدد به أثاث بيتك ... - ولا كلمة.
وانقطع الحوار. فصبيحة إن تكن تستطيع أن تنسرب إلى عميق بخله لتشتري فستانا أو اثنين، فهيهات لها وألف هيهات أن تجعله يشتري أثاثا جديدا. •••
كان لتوفيق بعض الديون عند الناس وكان لديه لكل دين إيصال أمانة. فطاف على المدينين واستخلص منهم أمواله غير عابئ بالدماء التي نزفت من المدينين ليسددوا له ديونهم.
وكان المدينون جميعا يعلمون أن لا شيء في العالم يستطيع أن يزحزحه عن هذا الوعيد. فكلهم لم ينس كيف تزوج ابنة الشيخ إسماعيل. •••
وضع توفيق أثاث بيته جميعا في سيارة لوري وترك من الأثاث ما أخبر به صبيحة. وركب هو وصبيحة بجانب السائق بينما سافر الحمالان في ظهر السيارة مع الأثاث.
وحين رأت صبيحة الشقة رضيت عنها، وإن كانت ما تزال غاضبة بعض الشيء أنها لم تستطع أن تقنع زوجها بشراء أثاث جديد. إلا أنها كانت تعرف بخله الشديد، وكانت قد تعودت عليه واحتسبت في شأنه الله فهو نعم الحسب ونعم الوكيل. •••
لم يكونا قد انتهيا من رص الأثاث حين فوجئا بالمعلم متولي وزوجته الأولى تفيدة البرشومي يدخلان من باب الشقة الذي كان مفتوحا، ووراءهما سعيد يحمل صينية كبيرة مغطاة وضعها على المائدة.
وفوجئ بهم توفيق وصاح متولي: أهلا وسهلا. - أهلا بكم في مصر. هذه زوجتي تفيدة، أما سعيد فأنت تعرفه. - أهلا. وهذه زوجتي صبيحة. - صممت أن أتغدى عندك اليوم. - الواضح إنك أنت الذي ستغديني. - لا فرق. - تفضلوا بالجلوس. يا وهيبة أعدي المائدة.
وقالت تفيدة لصبيحة: مرحبا بك في مصر. واضح أنكم لم تنتهوا بعد من رص الأثاث، دعيني أساعدك. - يا أهلا بك كثر خيرك. الباقي حاجات بسيطة. - وما له؟ فقط نجعل الرجال يقعدون ويدي في رص الأثاث على يدك.
وجلس متولي وتوفيق وسعيد في غرفة كان بها بعض الأثاث. وقال متولي: زوجتك قريبتك؟ - هي ابنة رجل طيب من بلدنا، وهي حامل.
وسمعت تفيدة هذه الكلمة وصاحت صبيحة: أنت حامل؟
وفي بعض الخجل قالت: نعم في الشهر الثاني. - إذن تقعدين مع الرجال واتركيني مع وهيبة نرص كل شيء. - هل هذا معقول؟ - هذا هو المعقول الوحيد.
وانصاعت صبيحة وجلست مع الرجال. ودار الحديث الذي لم تشارك فيه صبيحة بشيء يذكر، فقد كان الحديث كله حول مدبولي وما يصنعه بمتولي. وانتهى بتوفيق قائلا: لا تفكر فيه أنا عندي دواؤه. - تعمل في معروف العمر. - فقط أعطني بعض الوقت. - عندك من الوقت ما تشاء. - حتى أعرف العاملين معك، وأعطي نفسي فرصة للتعرف على العمل في الوكالة. - بسيطة. - توكل على الله. •••
سار العمل بين الشريكين على خير ما يكون ، فقد كانا متوافقين في أخلاقهما الخاصة بالعمل. ولم يؤثر شح توفيق على عملهما معا فقد كان متولي يشجع هذا البخل في التجارة، فالعائد منه ينتفع به الشريكان. ومرت الأيام وغير متولي رأيه في توفيق، ذلك الرأي الذي ثبت في ذهنه حين كان توفيق يماكس الحاج خيري الوزان في شراء الشقة. •••
الفصل الثامن
أصبحت صبيحة صديقة حميمة لتفيدة البرشومي وزبيدة الكرماوي زوجتي متولي. وقد تعجب أن تتفق ضرتان على صداقة واحدة، ولكن إذا علمت أنهما ضرتان على غير خلاف، وهو أمر نادر الحدوث ولكنه حدث، وهكذا لا عجب هناك. وكذلك لا عجب أن الضرتين عاونتا صبيحة عندما ولدت ابنتها التي أسماها بموافقة أمها «مبروكة»، تفاؤلا بنقلتهم إلى القاهرة. ومر عام آخر وجاءت صبيحة بأخ لمبروكة أسمياه «فتحي» آملين أن يكون فاتحة خير.
وبعد الولادة بأيام قال توفيق لزوجته: الحمد لله أصبح عندنا الولد والبنت. - أنا فاهمة قصدك. - ما رأيك؟ - الأمر أمرك. - علينا أن نفكر في المصاريف التي سننفقها عليهما. - أنا طبعا أعرف طبعك ولن أحمل بعد هذا، إنما لي عليك شرط. - منذ متى يكون لك علي شروط؟ - هذه المرة فقط، وبعد ذلك لن تسمع مني هذه الكلمة أبدا. - قولي. - يتعلم الاثنان حتى يأخذا الشهادة العالية. - الاثنان؟ - أنا خرجت من المدرسة صغيرة، ولهذا تجدني لا أفهم شيئا من أعمالك مطلقا ولا أريد لمبروكة أن تصبح مثلي. - وإذا جاءها العريس؟ - ينتظر حتى تتم تعليمها. - نحن نتكلم عن أشياء يفصل بيننا وبينها سنوات طوال. - أعرف، ولكن أريد أن أطمئن. - توكلي على الله. - كله على الله. ولكني أريد أن أسمع منك وعد رجل. - أعدك وأمري إلى الله. •••
انفرد توفيق بمتولي في الوكالة وقال متولي: أنت تأخرت علي في موضوع مدبولي. - العمال عندك لا يصلحون للعملية التي أريد القيام بها. نأتي بعمال معهم. - تنزل البلد وتأتي لي بكم رجل من أولاد الليل الذين يفوتون في الحديد. - ما أكثرهم عندنا. ولماذا لم تقل لي هذا من زمان؟ - لا شأن لك. كنت أحتاج إلى وقت لأدرس العملية. - أنزل بكرة البلد. - توكلنا على الله. - كم رجلا تريد؟ - يكفيني اثنان يقومان بالعملية ويعودان. - ولماذا يعودان؟ سيبقيان في الوكالة. - يبقيان في الوكالة؟! ولماذا ندفع لهما مرتبا. - لا تخف، أمثال هذين مكسب. وإن كنت لا تريدهما أعطيهما المرتب من نصيبي في الوكالة. - لا. سأشترك معك فعلا، وجود مثلهما مكسب. •••
ازداد مكسب الشريكين، وبعد أن كانت الأرباح تعد بالآلاف دخلت ميدان الملايين. وكان كلاهما لا يقنع بما يكسب وإنما كلاهما يطلب المزيد. وطبعا اتسعت تجارة توفيق في الإقراض بالربا الفاحش، وقد ارتفعت الأرقام إلى مبالغ كبرى ولم يعد يقبل من المدين إيصال أمانة بل حل مكانه الشيك. والعجيب أن هذه الأموال الضخام لم تمنع توفيقا أن يفكر لتدبير عملية مدبولي ليزداد هو وشريكه بها ثراء. •••
أحضر متولي معه سرحان النمر وبكري الشماع، وكان كلاهما من القتلة المحترفين. وحين عرف توفيق تاريخ حياتهما راح أربعتهم يضع تفاصيل الخطة التي فكر فيها توفيق. •••
كان التدبير يوم السبت، وتم الاتفاق على التنفيذ يوم الإثنين.
وفي مساء يوم الإثنين خرج سرحان النمر وبكري الشماع ومعهما صميدة الضبع أحد عمال متولي القدامى، ويمت بصلة قرابة لبكري الشماع. خرج ثلاثتهم في بهيم الليل ومع كل منهم مسدس سريع الطلقات، وكان صميدة يحمل في يده صفيحة من البنزين وكان الثلاثة يحمل كل منهم عصا غليظة. وكانت الأوامر التي صدرت إليهم ألا يقتلوا أحدا من الخفراء إلا إذا اضطروا لذلك ضرورة حتمية، كما كانت الأوامر تقضي بأن يبتعدوا مع إشعال النار عن السور الذي يفصل وكالة متولي عن وكالة مدبولي.
كان على باب وكالة مدبولي خفير مسلح، فاجأه سرحان بضربة عنيفة على رأسه أفقدته الوعي. وكان ثلاثتهم يعلمون أن بالوكالة ثلاثة خفراء، ووجد المهاجمون الخفراء الثلاثة يدخنون الجوزة حول نار أوقدوها.
وضع صميدة صفيحة البنزين على الأرض، وتهامس ثلاثتهم وعرف كل منهم الشخص الموكول به أن يضربه. وتم ما اتفقوا عليه دون أن يلاقوا من الخفراء الثلاثة أية مقاومة. وراح صميدة يصب البنزين على البضاعة الموجودة بالوكالة جميعها، مبتعدا عن السور الفاصل بين الوكالتين، وخرج المهاجمون الثلاثة سالمين وتم الحريق. •••
عرف مدبولي الفاعل، ونصحه محاميه عاطف الزيني أن يقدم بلاغا إلى النيابة يتهم فيه متولي بالحريق. وقال مدبولي: لا شك أنه هو ولكن أين الدليل؟ - نقول في التحقيق إنك ليس لك أعداء إلا هو. - أنت تريد أن تعمل قضية من الهواء. هل هذا يصلح دليلا؟ وأرتج على عاطف وسلم أمره إلى الله. •••
ذهب مدبولي إلى متولي في الوكالة وكان توفيق جالسا معه: عملتها يا متولي؟ - ما هي التي عملتها؟ - لا فائدة من الكلام، طبعا لن تعترف. - إن كنت عملت حاجة أعترف. - أنا قلت لك لا فائدة من الكلام. طلباتك؟ - أنا ليس لي طلبات. - معنى هذا أنك لن تسكت عني. - أنا فعلا ساكت عنك. - قل طلباتك. - إن كان على طلباتي فأنت تعرفها. - أعرفها، ولكن أحب أن أسمعها منك.
وهنا قال توفيق: كلاكما يعرف ما يريد من الآخر، فما الداعي لإضاعة الوقت؟
وقال مدبولي: وهو كذلك يا سي توفيق. أنا أعلم أن متولي لا يريدني أن أبيع أرخص منه. - أليس هذا عدلا؟ - لا شأن لنا بالعدل. لك علي أن نتفق على السعر كل شهر. - وهو كذلك. - وطبعا لن تبيع بسعر أقل من سعري. - توكلنا على الله. •••
الفصل التاسع
قال توفيق لمتولي: أنا أرى أن أثمان المباني ترتفع. - فعلا، ففي الأيام السود كان لا أحد يضع حجرا على حجر مخافة أن يصادر. - المهم أريد أن أشتري العمارة التي أسكن بها. - طبعا أنت تعرف أن الشراء لن يكون على الأساس الذي اشتريت به شقتك. - أنا أعرف، وأنا أريد الشراء قبل أن ترتفع الأسعار.
وركبا سيارة توفيق وذهبا إلى مكتب الحاج خيري الوزان، وقال توفيق: أريد أن أشتري العمارة التي أسكن بها. - ومن أدراك أني أريد بيعها؟ - يا حاج خيري أنت مقاول كبير، والمقاول يحتاج لمال سائل ولا يهمه أن تكون له عمارات. - ولكني لم أعرضها للبيع. - احمد ربنا أنني أتقدم لشرائها، فأنت لم تبع فيها إلا شقتي أنا والشقق الأخرى المؤجرة لا تكسب منها إلا قروشا. - فلماذا تريد أن تشتريها؟ - مغفل. - العفو لا بد أنك ناوي على نية. - النية التي عندي حتى الآن هي الشراء. - وأنا بائع. - نتكلم في الثمن.
واستطاع توفيق بمعاونة متولي أن ينزلا من الثمن سبعة آلاف جنيه. وتم البيع وسجلاه في الشهر العقاري. •••
كان توفيق حين اشترى العمارة ينوي أن يخرج السكان ولكن الأمر استحال عليه، فاتفق معهم على أن يزيد قيمة الإيجار. وقبل السكان اتقاء للخلافات التي تنشب بين المالك والمستأجر. •••
كانت مبروكة وفتحي مجدين كل الجد في دراستهما، ولم يكن هذا عن طبيعة فيهما وإنما الفضل يرجع أولا وأخيرا إلى أمهما التي كانت في دخيلة نفسها غير راضية عن جهلها، وكانت تريد أن تبعد شبح هذا الجهل عن ابنها وابنتها.
استنجدت صبيحة بتفيدة البرشومي لإقناع توفيق بإدخال مبروكة إلى الجامعة، وقد فوجئت تفيدة بهذا الطلب حين قالت لها صبيحة: أنا قصداك في جميل لن أنساه لك. - أنا تحت أمرك. - مبروكة بنتي. - ربنا يطيل عمرها. ما لها؟ - حصلت في الثانوية العامة على مجموع كبير جدا. - تسلم. - وهي تريد وأنا أريد أن تدخل الجامعة بأي ثمن. - الجامعة ... وماذا تفعل بالجامعة؟ - البنت ذكية وتفهم في كل شيء، وحرام أن نحرمها من التعليم. - بل الحرام ألا تتزوج. أنا جائية إليك لأخطبها لابني سعيد. - أنعم وأكرم. - وتقولين لي جامعة. - وهل هذا يمنع؟ - أنت إذن موافقة؟ - وهل نجد لها خيرا من سعيد. فقط أسألها وسي متولي يكلم أباها. - طبعا يا حبيبتي. - إذن أعطيني فرصة. - إذنك معك يا حبيبتي. - ولكن هذا لا يمنع دخولها الجامعة. - وحصولها على الشهادة العليا. - إذن اتفقنا. - فتك بعافية يا حبيبتي. - مع ألف سلامة.
كانت صبيحة واثقة من موافقة توفيق على زواج سعيد من مبروكة، فقد تبينت من أحاديثه معها أن هذا الزواج واحد من أمانيه النادرة التي باح بها لزوجته فلم يكن يحادثها في أي شيء من أعماله. أما إذا كان الأمر يتعلق بزواج ابنتها فلا بأس أن يحادثها فيه. وقد سرت صبيحة من الخطبة ورأت فيها وسيلة لقبول زوجها أن تدخل ابنتها الجامعة. وبادرت مبروكة بقولها: جاء لك عريس. - هل معنى هذا ألا أدخل الجامعة؟ - على العكس. - من هو العريس أولا؟ - سعيد ابن عمك متولي.
وصمتت مبروكة ولم تجب. وقد كانت هذه الخطبة متوقعة وأنا لا أعرف في بيتنا شيئا ذا أهمية إلا الفلوس. فما البأس أن أتزوجه وهو غني وليس جهله مانعا، فما دام غنيا فكل شيء يغتفر له. وعلى كل ليس في مصر أغنياء اليوم إلا الجهلاء. وأفاقت من تفكيرها على أمها تصيح بها: ما لك سكت؟ ألا يعجبك؟ - يعجبني بشرط. - قلت لأمه هذا الشرط ووافقت عليه، وليس علينا الآن إلا أن نحتال على أبيك.
وحين جاء توفيق لبيته في الظهيرة، سألته صبيحة في تخابث: هل قابلت متولي اليوم؟ - نعم. لماذا؟ - ألم يقل لك شيئا؟ - ماذا تنتظرين أن يقول؟ - يعني، فقد جاءتني اليوم زوجته تفيدة. - وهل يعني مجيئها أن يقول لي متولي شيئا؟ - خطبت مبروكة لابنها سعيد.
وتهلل وجه توفيق: صحيح؟ - نعم وحياتك. - وماذا قالت مبروكة؟ - موافقة بشرط. - أي شرط تطلبه أنا موافق عليه. - تكمل الجامعة. - ماذا؟ - ما سمعت.
وأطرق توفيق لحظات وقال: هل عرفت تفيدة هذا الشرط؟ - ووافقت عليه.
وبعد الظهيرة من نفس اليوم جاء متولي ومعه زوجته، وتمت الخطبة على أن تدخل مبروكة الجامعة ويتزوجها سعيد قبل التخرج بسنتين. ووافقت مبروكة ورنت الزغاريد في بيت توفيق.
ودخلت مبروكة كلية الهندسة قسم المعمار، وبعدها بعام واحد دخل فتحي أخوها كلية الطب. •••
الفصل العاشر
كان الشيخ إسماعيل عوض يزور ابنته غرارا، وشهد الغنى الفاحش الذي أصبح يتمتع به توفيق، والذي تمثل عند الشيخ إسماعيل في الأثاث الفاخر الذي بذلت صبيحة جهدها الكثيف حتى جعلت توفيق يشتريه قائلة له: لقد أصبحت الآن من الأعيان، ولو جاءك زائر من زوار العمل ورأوا أثاثنا هذا لاحتقرنا، ولخسرت الصفقة التي جاء من أجلها. - ومن هذا الذي سيأتي؟ - أنت الآن تاجر كبير ولا تأمن أن يقصد إليك زوار محترمون بينك وبينهم مصالح.
وكان في قولها هذا فصل الخطاب.
وقد بهر الشيخ إسماعيل أبو صبيحة من جمال الأثاث ومن الملابس الفاخرة التي تلبسها ابنته، التي أخبرته أيضا بأن توفيق اشترى العمارة التي يسكنون بها. وحين جاء الشيخ إسماعيل لم يكن بالبيت إلا ابنته التي رحبت به غاية الترحاب، ولم يكن ذلك عن صلة الرحم وحدها ولكن لأنها كانت تقدر في أبيها العفة النقية، حتى إنه رفض هديتها إليه وكان قماشا فاخرا لجلباب. وهكذا كان من الطبيعي وقد رفض الهدية ألا يفكر أن يستعين بابنته مهما ضاق به العيش.
سأل الشيخ إسماعيل صبيحة: أين زوجك؟ - أظنه سيأتي حالا فهذا موعده. - إذن أنتظره. - وتتغدى معنا اليوم. - لقد تغديت في مطعم بسيدنا الحسين قبل أن آتي. - ألا تلاحظ يا أبا أنك لم تذق في بيتنا لقمة منذ تزوجت؟ - هل يمكن أن أتغدى مرتين؟ - أنا لا أقصد اليوم، وإنما أقصد حرصك على ألا تأكل عندنا. - صدفة يا بنتي. المهم هل أنت سعيدة؟ - رغم بخل توفيق الشديد نحمده ونشكر فضله. - لا جديد في هذا. لا بد أنك تعودت على هذا البخل. - يا أبا إنه كلما اغتنى زاد بخله. - البخل يا بنتي ليس بالغنى أو الفقر. إنه طبيعة في الإنسان. - المهم أبشرك أن مبروكة خطبت. - والجامعة؟ - ودخلت الجامعة.
وقصت صبيحة قصة الخطبة والجامعة على أبيها، وقبل أن تكملها جاء توفيق ورحب بحميه. وحين استقر بهم المجلس قال الشيخ إسماعيل: أنا قادم إليك في عمل أرجو أن يسرك. - أهلا وسهلا بك سواء كنت قادما في عمل أو في غير عمل. - حفظت. أنت تعلم طبعا أن ثمن الفدان قد ارتفع ارتفاعا كبيرا. - طبعا أعرف. الفدان اليوم يساوي خمسين ألف جنيه أو أكثر. - عليك نور. - هذا عملي، وفي نفس الوقت إيراد الفدان زاد ولكن ليس بنفس النسبة. - أرسل إلي وجدي بك شاكر. - عضو مجلس الشعب؟ - نعم، هو يريد أن يشتري منك عشرة أفدنة. - ولماذا لا يشتري الأرض كلها، والبيت أيضا بأرضه. - لعله لا يملك ثمن الأرض كلها. ومن المؤكد أنه لا يريد البيت. - بل عنده ثمن الأرض ومثلها مرتين، أما البيت فتستطيع أن تبيعه وتكسب منه أيضا. - هل عندك مانع أن نذهب إليه معا. - هل سمعت في حياتك عن بائع يذهب إلى المشتري. - من جهة سمعت، نعم سمعت. ولكنك تريد أن تظهر زهدك في الصفقة حتى تبيع بثمن مرتفع. - وما له؟ - إذن أذهب إليه وأخبره. - ومتى ترد علي؟ - في ظرف يومين على الأكثر. •••
وتمت الصفقة كما أرادها توفيق، وكسب فوق ثمنها أنه تعرف على وجدي شاكر عضو مجلس الشعب.
وكان موقف الشيخ إسماعيل غاية في العفة والإباء، فحين عرض عليه وجدي شاكر خمسة آلاف جنيه مقابل إتمامه الصفقة، قال له في شموخ: أترتضى لي هذا؟ - إنه بعض حقك. - لست كما تظن.
وحين عرض عليه صهره توفيق ألفي جنيه، قال له في عنف: هل كنت سمسارا عند أبيك؟ - العفو. اعتبر المبلغ هدية من زوج بنتك. - ومنذ متى رأيتني أقبل هدايا من زوج بنتي؟ وكيف أقبل منك هدية وأنا أرفض أن آخذ من بنتي أية هدية؟
وطبعا أحس توفيق بالسعادة، واعتبر حماه عبيطا ساذجا.
لم يكن غريبا أن يقول توفيق لشريكه متولي: ما رأيك أن نعمل في المقاولات؟ - والله لا بأس، وإنما نحن لا نفهم فيها. - أعرف هذا، وفكرت فيه ووجدت حلا. - ما هو؟ - نشارك خيري الوزان نحن بأموالنا، وهو بأمواله وخبرته. - والله فكرة عظيمة. - قم بنا إليه.
قال متولي لخيري: ما رأيك أن نكون شركاء؟ - والله لا بأس، فإني أرفض كثيرا من العمليات لنقص السيولة المالية. - غريب أن تكشف لنا هذا السر. - ليس في الأمر غرابة، فما دمنا سنصبح شركاء فأنا أحب أن أريكم أنني لا أخفي عنكم أسرار عملي بما فيها نقص السيولة أحيانا.
وقال توفيق: وما تقوله يجعلنا نزداد ثقة بك. - وكيف ستكون قسمة الأرباح؟ - على حسب رأس المال في كل عملية. - أنا صريح نعم، ولكني لست ساذجا.
وقال توفيق ومتولي معا: أستغفر الله. - لماذا جئتما إلي ولم تعملا في المقاولات وحدكما، ما دام المال عندكما؟
وقال متولي: المال وحده لا يكفي. لا بد من الخبرة والمران. - والخبرة والمران لا يشتريهما مال . - طبعا كلانا يعرف ذلك. - إنهما سنوات عمر، وممارسة وحنكة ودربة.
قال متولي: طبعا. وهل في هذا شك؟ - وهذه الخبرة أليس لها ثمن؟ - طبعا. - فكيف تكون قسمة المكاسب متساوية؟
وقال متولي: لك حق. - طبعا لي حق. - فماذا تقدر لنفسك لقاء خبرتك؟ - الخبرة والأمانة اللتان جعلتكما تقصدان إلي، ثمنها لا يقدر بمال. - طبعا. - إذن تكون الأرباح باحتجاز خمسين في المائة مقابل خبرة لي، والباقي يقسم على حسب رأس المال لكل منا.
وهنا صاح توفيق: يا خبر أسود.
وقال خيري: بل أبيض إن شاء الله لا تنزعج، فلولا هذه الخبرة ما تحققت أية مكاسب. - لم نقل شيئا، ولكن خمسين في المائة أمر غير محتمل. - ما الذي تراه محتملا؟ - نقول مثلا عشرين في المائة. - طبعا مستحيل.
وهنا تدخل متولي في الحديث قائلا: لننه هذه الحكاية ونتوسط في الأمر. ما قولك يا حاج خيري نجعلها ثلاثين في المائة؟ - قليلة. - خمسة وثلاثون في المائة. - على بركة الله. قل شيئا يا توفيق بك. - والله النسبة كبيرة، ولكن على بركة الله كما قلت.
وقال متولي: نذهب اليوم إلى الأستاذ حسان المهدي ونكتب عقد الشركة.
واستقبلهم الأستاذ حسان مرحبا، فقد كان المحامي الذي يعطيه متولي كل أوراقه، وقد أعجب به توفيق أيضا فكان محامي الشركة التي قامت بين متولي وتوفيق، فحين تم الاتفاق بين عناصر الشركة الثلاثية لم ير الحاج خيري مانعا أن يكون حسان محامي الشركة. وكانت الأواصر قد توطدت بين حسان وتوفيق كما كانت من قبل وطيدة بين حسان ومتولي، وبلغت العلاقات بين توفيق وحسان من المتانة إلى درجة أن توفيقا دعا حسانا للغداء بمنزله. الأمر الذي لم يسبق لتوفيق أن صنعه مع أي صديق آخر. وفي هذه الدعوة تعرف حسان على مبروكة وفتحي. •••
الفصل الحادي عشر
تزوجت مبروكة وهي ناجحة من السنة الثانية إلى الثالثة بكلية الهندسة من سعيد، واتفقا على أن يؤجلا الإنجاب حتى تتخرج مبروكة. وكان سعيد زوجا طيعا متفقا كل الاتفاق مع مبروكة المستبدة، حتى إنه كان ينزل على رأيها في كل كبيرة وصغيرة.
وطبعا عملت مبروكة حين تزوجت - وحتى قبل أن تتخرج ببضعة أشهر - بشركة المقاولات التي يشارك فيها أبوها وحموها، وراحت تتدرب على يد مهندسين كبار. حتى إنها لم يمر عليها عامان حتى كانت مهندسة ذات خبرة وممارسة.
وأحب الحاج خيري أن يجربها، فأوكل إليها بناء فيلا لثري من زبائنه، هو شحاتة عبد الموجود. وهو ذو ثراء واسع لدرجة أنه رشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب وأنفق أموالا طائلة، إلا أن المرشح المنافس كان أكثر ثراء، وكان النجاح من نصيب الأكثر ثراء وإنفاقا. كان شحاتة مرشحا عن العمال وقد تعرف عليه الحاج خيري أثناء المعركة الانتخابية. ولهذا لم يكن غريبا أن يقصد شحاتة إلى خيري ليبني له فيلا من طابقين ليزوج فيها ابنيه. ولم ير خيري بأسا أن يكلف مبروكة برسم هذه الفيلا. وهكذا تعرفت مبروكة بشحاتة وتبينت مقدار ثرائه، وعرفت أن له ثماني قطع من الأرض في أعظم أحياء القاهرة وأفخمها، وعلمت أن القطع تتراوح بين الألفي المتر والثلاثة الآلاف.
وقد بذلت جهدا عظيما في تجميل الفيلا التي رسمتها، حتى لقد أبدى شحاتة إعجابه بها وقدم إليها ألفي جنيه هدية خاصة من عنده بعيدة عن الشركة، وطلب إليها أن تشرف هي على بناء الفيلا، إلا أن مبروكة قالت: لن يسمح لي الحاج خيري بهذا. - سأعطيك مبلغا كبيرا مقابل هذا الإشراف. - أنا أتمنى، ولكن المهندسين المشرفين في الشركة غير المهندسين الرسامين. - ولكني أريدك أنت بالذات. - قل هذا للحاج خيري، ربما يقبل. - مؤكد سيقبل. - فإذا قبل فاطلب إليه أن تخصص لي سيارة من سيارات الشركة. - وهو كذلك، ولكن أليس أبوك شريكا معه؟ - فعلا. ولكنه لا يكلمه في شيء لي مطلقا. - هذه غريبة. - ما أكثر الغرائب يا شحاتة بك. - مثل ماذا؟ - أنت مثلا إنسان غريب. - لماذا؟ - مع غناك الفاحش هذا لا أرى حولك رجال أمن، وليس لك إلا سكرتير واحد. - يا بنتي أنا أدير أعمالي بنفسي. أما رجال الأمن فعملية مظهرية لا يعرفها أمثالي من الذين عملوا غناهم بأيديهم، لا بآبائهم وأجدادهم. - إذا فرضنا أنك آمن في سيارتك، ألا تمشي؟ - على العكس أنا أمشي ساعة في اليوم. - متى وأنت مشغول طول النهار؟ - أنا أنام بعد الغداء من الساعة الخامسة إلى السادسة، ثم تجدينني أمشي في الشارع. - وحدك. - وحدي ... ابناي كل منهما له حياته الخاصة. - ربنا يحميك. - تأكدي أنني سأصمم على خيري أن يجعلك تشرفين على بناء الفيلا. - ولا تنس السيارة. - طبعا لن أنسى السيارة، وبها سائق أيضا. - لا، لا داعي للسائق فقد تعلمت قيادة السيارات على سيارات زملائي في الكلية. - ولماذا لم يشتر لك أبوك سيارة؟ - يا شحاتة بك أنا كانت تطلع عيني ليدفع لي ثمن الكتب، وكان في كل مرة يقيم مناحة في البيت لأني دخلت الجامعة. الأمر الذي كلفه الكثير من المال. - وهل ظل كذلك بعد زواجك وأنت في الجامعة؟ - من يوم زواجي لم أر محفظة أبي. - أعوذ بالله. - وما خفي كان أعظم. - مثل ماذا؟ - مثل أنه يشتم أمي ويكاد يضربها إذا تبقى شيء من الأكل. ومثل أن اللحمة لا تدخل بيته إلا يوم الجمعة. - ولماذا الجمعة؟ - هذه أوامره، ولا تحاول أن تجد لها أسبابا. - وما أخبار زوجك؟ - لا، هذا شيء آخر ولكن المال في يده ليس كثيرا. - لا خلافات بينك وبين زوجك؟ - لا، إنه يفعل ما أريد. أما من ناحية الفلوس فأنا أعرف المرتب الذي يأخذه من الشركة، وأحاول ألا أجعله ينفق أكثر منه. - أنت سيدة عظيمة. - يكفيني رضاك. - توكلي على الله. - أطال الله عمرك. •••
الفصل الثاني عشر
تخرج فتحي في كلية الطب وعمل بمستشفى الشفاء، وهو مستشفى خاص. وفتحي مختلف في الملامح تماما عن أخته. حين نجد مبروكة سمراء ذات معارف قوية، فالعينان واسعتان والفم ليس كبيرا والأنف دقيق، ولا شيء من معارفها يعدو على جمالها، الأمر الوحيد الذي تتفق فيه مع فتحي هو النحافة. ولكن فتحي أبيض الوجه سوي الملامح في غير جمال ولا قبح، تعبره عيناك ولا يستوقفهما من معارفه شيء خاص، فهو رجل عادي مثل الملايين من الناس.
وفتحي طبيب باطني، ولذلك كان يكشف على كثيرين من القاصدين إلى المستشفى.
وكان من بين المرضى الذين يراهم مريض عرف أن اسمه نعمان عميرة، وسأله: ما عملك؟ - أعمل في بنك الاستثمار. - في أي قسم منه؟ - قسم الائتمان. - هذا مكان مهم جدا. - نعطي لغيرنا ولا ننال مما نعطي شيئا. - هذا أمر لا يجوز. - هذا هو الواقع، مع أنني رئيس القسم. - سأزورك في البنك ونحاول أن نصلح هذا الواقع. - أهلا وسهلا بك يا دكتور. - اترك لي أيضا عنوانك ورقم تليفونك. - هذه بطاقتي بها كل ما تريد. - شكرا ... لا تخف على صحتك، ليس بك شيء.
مجرد إرهاق بسيط والدواء الذي كتبته لك سيجعلك مثل الحصان. - ألف شكر يا دكتور. السلام عليكم.
كان قد عين مع فتحي في نفس المستشفى اثنان من خريجي دفعته، هما وائل العصفوري وصالح النجمي، وكلاهما ينتسب إلى أبوين غاية في الثراء.
وقد كان فتحي يضيق غاية الضيق ببخل والده وشحه، حتى إنه حين فاتحته صبيحة قائلة بمشهد من أبيها الشيخ إسماعيل عوض: الآن أريد أن أفرح بك، وأنا اخترت لك عروسا في غاية الجمال. ما رأيك في فريدة بنت عمك متولي؟ - تقصدين أن أتزوج. - ولماذا لا؟ - يا أمي حرام عليك. هل نجد ما نأكله حتى أتزوج.
قال جده: كيف هذا؟! إن أباك من أغنياء مصر المعدودين. - وهذا أدهى وأمر، أقسم لك يا جدي إنني كثيرا ما أترك المائدة وأنا ما أزال جائعا لم أشبع.
وقال الشيخ إسماعيل: أعوذ بالله، أعوذ بالله. المال مالك إذا استعبدته وعشت به، أما إذا عبدته فهو الوبال عليك في الدنيا والآخرة. - هذا الكلام لا نسمعه ولا نحس به إلا حين نراك يا جدي. - أعوذ بالله. ألا تذكرون الله في هذا البيت؟ - لولا صلاة أمي ما عرف بيتنا اسم الله مطلقا. - لا إله إلا الله، وما دمت تقول هذا فلماذا لا تصلي أنت؟ - هل كنت رأيت أبي يصلي حتى أصلي؟ - هذه حجة واهية. أتريد أن تكون مثل أبيك في الشح الشديد الذي يتصف به؟ - أعوذ بالله! طبعا لا. - إذن لماذا تقلده في عدم الصلاة؟ إن الله سبحانه يقول:
وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما . - لا أذكر أن أبي ذكر الله في حياته إلا حين يقسم. وغالبا ما يكون القسم كاذبا. - كره الله هذا والمؤمنون، كره الله هذا والمؤمنون. وما لهذا ولزواجك؟ - وكيف أستطيع أن أطعمها؟ - بمرتبك. - مرتبي لا يكفي ثمن سجائري. - مال أبيك لك بعد عمر طويل لا يشاركك فيه إلا مبروكة بالثلث فقط. - الواضح أن هذا العمر سيكون طويلا غاية الطول، فصحة أبي قوية والحمد لله.
وقال الشيخ إسماعيل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. أتتمنى موت أبيك؟ - لا طبعا. وإنما أذكر الحقيقة. - هذا بيت لا أحب أن أجلس فيه. سلام عليكم!
وقام مغادرا ابنته وحفيده اللذين ودعاه، وعادت صبيحة من وداع أبيها وقالت: أنت إذن ترفض فكرة الزواج. - لن أتزوج إلا بعد أن أصبح غنيا قادرا. - ومتى يكون هذا؟ - لا تتعجلي، فهذا أمر سيحدث، وسأكون في مثل غنى أبي إن لم يكن أكثر. - كيف هذا إن شاء الله؟ - أنا أفكر في مشروع يحقق لي هذا وأكثر. •••
خلت حجرة الأطباء بالمستشفى بفتحي وزميليه وائل العصفوري وصالح النجمي. وانتهز فتحي الفرصة وقال لهما: أين ستذهبان اليوم مساء؟
وقال وائل: ليس عندي شيء.
وقال صالح: وأنا أيضا.
قال فتحي: أريد أن ألتقي بكما. ما رأيكما أن نجتمع بمقهى الهيلتون اليوم الساعة السادسة؟
وقبل كلاهما فكرة اللقاء.
وحين اجتمع شملهم بدأ فتحي الحديث: نحن الثلاثة نبذل جهدا كبيرا في المستشفى دون عائد.
وقال وائل: هذا أمر طبيعي، فثلاثتنا لم يفتح عيادة.
وقال صالح: وإذا فتحنا عيادة فأمامنا سنوات حتى نصبح من المشاهير، ونكسب منها كسبا حقيقيا.
وقال فتحي مسارعا: يسلم فمك يا صالح.
وقال وائل: هل عندك علاج لهذا؟ - عندي علاج حاسم.
قال وائل: ما هو؟ - نحن ثلاثتنا آباؤنا أغنياء. فما رأيكم نبني مستشفى خاصا؟
قال وائل: أما إنك شأنك عجيب. - لماذا؟ - أنت لا تنقطع عن الشكوى من أبيك وبخله وشحه وتقتيره عليك! أهذا الأب يعطيك ما تساهم به في بناء مستشفى خاص؟ - مهما وصفت بخل أبي فإنه لا يصل إلى حقيقته.
قال صالح: فماذا أنت فاعل معه؟ - إنه كذلك شحيح مقتر طالما كانت الأموال التي ينفقها بغير عائد. أما إذا كانت أموالا تأتي بأموال فحينئذ ينفق عن سعة. - إذن المستشفى ستكون باسم أبيك. - شريك معنا فقط.
قال وائل: والله المسألة فيها نظر.
قال وائل: أتعرفان كم يكلف المستشفى؟
قال فتحي: لتكن التكلفة ما تكون.
قال وائل: وهل يقبل آباؤنا أن يقدموا الأموال التي تكفي؟ - من قال ذلك؟
قال صالح: أنت. - أنا قلت إن آباءنا يساهمون.
قال صالح: وبقية التكاليف؟
قال فتحي: هذا شأني أنا.
قال وائل: بل شأننا جميعا ... قل لنا ماذا أنت فاعل؟
قال فتحي: نحن بأموال آبائنا سنشتري الأرض فقط، وبعد ذلك في البنوك متسع للجميع ولا شأن لكما بهذا الموضوع.
قال صالح: والله الفكرة لا بأس بها، وسأكلم أبي اليوم.
قال وائل: وأنا أيضا. ولكن هل وجدت الأرض؟ - هذا أمر ميسور. لقد ذهبت ورأيت أرضا في طريق المعادي أربعة آلاف متر وثمنها ثمانية ملايين جنيه. إذا دفعنا نصفها نستطيع أن نكمل من البنك. •••
قال فتحي لأبيه: ما رأيك إذا قدمت لك مشروعا يدر عليك ذهبا لا تستطيع إحصاءه أو عده؟ - أنت تقدم مشروعا يأتي بالذهب؟ - نعم. وهل أنا صغير؟ - ليست المسألة بالسن. - اسمع مشروعي أولا. - قل يا فالح. - نبني مستشفى استثماريا. - أنا؟ - لست وحدك. - من معي؟ - والدا وائل العصفوري وصالح النجمي. - هل هما ابنا العصفوري والنجمي المعروفين؟ - إنهما هما. - إذن أجتمع بآبائهما. - وهو كذلك. •••
وتكونت الشركة في هذا الاجتماع من الآباء الثلاثة وأبنائهم الثلاثة. وذهب الستة إلى الأستاذ حسان المهدي لكتابة عقد الشركة على أن يتولى فتحي التعامل باسم الشركة بصفة عضو الشركة المنتدب. ولم يضع فتحي وقتا وإنما قال لحسان المحامي: أريد أن أراك لاتخاذ التدابير اللازمة. - غدا في مثل هذا الموعد.
وحين ذهب فتحي إلى حسان في الموعد، قال: أريد أن أكتب على يديك مذكرة بجدوى المشروع. - نكتبها معا.
واستغرقت كتابة مذكرة الجدوى ما يقرب من أسبوع. ما إن انتهيا منها حتى كلم فتحي في التليفون نعمان عميرة رئيس قسم الائتمان في بنك الاستثمار: نعمان بك. - أنا هو. - أنا الدكتور فتحي توفيق. - أهلا وسهلا. أهلا يا دكتور. - ما أخبار صحتك؟ - والله دواؤك نفعني جدا. - الحمد لله. أريد أن أراك. - تحب أن تجيء إلي أم أجيء إليك؟ - هل أنت مشغول الآن؟ - وإن كنت، هل أستطيع أن أشغل عنك؟ - أريد أن أراك وحدك. - أهلا وسهلا، شرف الآن. - أنا في الطريق إليك.
وذهب فتحي من فوره إلى مكتب نعمان عميرة ببنك الاستثمار، واستقبله نعمان بترحاب كبير قائلا: أشكرك على علاجك لي، فإن دواءك قد جاء بأحسن النتائج. - الحمد لله. - أنت ابن توفيق بك صبحي الثري المعروف. - نعم أنا ابنه. - أهلا وسهلا، أنا تحت أمرك.
وأخرج فتحي من جيبه ما أعده من دراسة الجدوى لمشروع المستشفى. وراح نعمان يقرؤها بإمعان شديد، وحين انتهى من القراءة قال لفتحي: مشروع عظيم. - لقد اشترينا الأرض فعلا. - وماذا أستطيع أن أفعل؟ - أريد من البنك عشرين مليون جنيه. - وماذا عن الضمانات؟ - لو كان فيه ضمانات لما جئت إليك. - هل تستطيع أن تزورني اليوم في البيت؟ - وهو كذلك. - هل بطاقتي معك؟ - طبعا. - فأنا منتظرك.
واستأنفا حديثهما بالبيت: أنا أستطيع أن أعطيك العشرين مليونا. - أنا أعرف ذلك. - ولكن؟ - طبعا. - كم؟ - ما تأمر به. - أنت تعرف خطورة العملية. - وأعرف أن مرتبك ضئيل. - إذن ماذا تقدر لي؟ - ما تقوله نافذ. - لن أثقل عليك ... أريد مليون جنيه.
وصمت فتحي هنيهة ثم قال: والله لا أرد لك كلمة أبدا. - على بركة الله. •••
الفصل الثالث عشر
ذهبت مبروكة إلى الوكالة القديمة التي تركها حموها وأبوها وزوجها، واتخذوا مقرا فاخرا لهم بشارع شريف مكونا من خمس غرف، ودفعوا فيه مبلغا ضخما. أما شئون الوكالة فقد تركوها لياسر بن متولي الذي كان قد تخرج في كلية التجارة. ولم يكن ياسر منتظما في الحضور إلى الوكالة معتمدا على العاملين بها من ذوي الخبرة. ولم يكن أحد منهم يجرؤ على خيانة الأمانة مع خبرة متولي الفائقة وبخل توفيق الشديد.
فحين ذهبت مبروكة إلى الوكالة استقبلها صميدة الضبع وجلسا في مكتب متولي. - أهلا وسهلا بالباشمهندسة. - قل لي، أليس بكري الشماع قريبك؟ - نعم. - أهو هنا؟ - نعم. - ناده.
وقالت مبروكة: العملية التي قمتم بها في وكالة مدبولي لا تترك ذهني مطلقا. - وكيف عرفتها؟ - إن أبي كثيرا ما يرويها لنا مفتخرا أنه هو الذي دبرها. - صحيح هو الذي رسمها من أولها لآخرها. - نريد أن نقوم بعملية مثلها. - حريق آخر؟ - لا، المسألة أبسط من هذا. قل لي يا بكري هل معك مسدس؟ - ولا يترك جيبي. - إذن نقوم بالعملية. - متى؟ - سأخبركما بالميعاد. - هل ستأتين هنا مرة أخرى؟ - لا، سأطلبك في التليفون. - هذا أحسن. الحمد لله اليوم ياسر ليس هنا. طبعا أنت لا تريدين أحدا أن يعرف. - طبعا إذا كنت لم أقل لزوجي.
وقامت مبروكة وذهبت إلى مكتب حسان ووجدته. وخلت بهما الغرفة فقالت مبروكة: أريد أن تكتب لي عقد شراء أرض بناء. - تحت أمرك. - من المشتري ومن البائع؟ - هل من الضروري أن تعرف الأسماء؟ - لا شك. - المشتري صميدة الضبع، والبائع شحاتة عبد الموجود.
وفي خيرة المحامي الضليع اشتم حسان أن في الأمر شيئا غير طبيعي، بل قدر أن هناك ما يتنافى مع شرف المهنة. فقال لها أين أطراف العقد؟ - موجودون. - طبعا موجودون، ولكن لا بد أن يحضروا إلي. - هذا مجرد عقد ابتدائي. - ولكنه صادر من مكتبي. - إذن أقول لهما ليأتيا إليك. - أنا تحت أمرك.
واستأذنت وانصرفت، إلا أن حسان لم يترك الأمر يمر ببساطة فأمسك سماعة التليفون وطلب رقما. •••
طلبت مبروكة صميدة وقالت له: هل تعرف محاميا؟ - أعرف محامين كثيرين. - أريد محاميا يكون في أول حياته. - هذا أمر سهل. - قل لي أين تسكن؟ - أين أسكن؟ - نعم. - لماذا؟ - سأقول لك فيما بعد. - أسكن في شبرا. - هل مسكنك مرتفع عن الأرض؟ - بل هو تحت الأرض. - هل زوجتك تعيش معك؟ - زوجتي في البلدة. - إذن أنت وحدك في البيت. - نعم أنا أعيش وحدي. - عظيم. - ما هو؟ - لا شأن لك. سأكلمك غدا وتكون قد أخذت موعدا من المحامي. •••
اختارت مبروكة قطعة أرض مساحتها ثلاثة آلاف متر مملوكة لشحاتة عبد الموجود وعرفت حدودها كاملة. واصطحبت صميدة إلى أحد المحامين حديثي التخرج اسمه فوزي العنتبلي وكتب المحامي العقد باذلا فيه جهدا كبيرا، وتقاضى ألف جنيه مقابل كتابة العقد وكتمان أمره. •••
أطلعت مبروكة صميدة الضبع وبكري الشماع على خطتها، ووافقا على القيام بها مقابل أن يتقاضى كل منهما مائة ألف جنيه. •••
فوجئ شحاتة عبد الموجود وهو يمشي في شارع مجاور لمنزله خلو من المارة، برجلين ملثمين يمسكان به ويرغمانه بالمسدس على أن يركب سيارة وجد فيها رجلا ملثما آخر هو الذي يقود السيارة. وما لبثت السيارة أن تحركت. وفي ذكاء التاجر أدرك شحاتة أنه لا فائدة من الكلام، وما لبث الرجلان أن وضعا على عينيه عصابة ولم ينطق ببنت شفة.
وفي منزل صميدة دخل الرجال الثلاثة ومعهم شحاتة معصوب العينين، وتأكد المختطفون أن الحارة ليس بها مارة.
وفي البهو الضيق أجلس شحاتة ورفعوا عن عينيه العصابة، مما أتاح أن يرى المختطفين. وخيل إليه أن واحدا قريب الشبه من شخص يعرفه ولكن تعذر عليه أن يتأكد.
وأخرج بكري الشماع مسدسه ووجهه إلى شحاتة، بينما أخرج الرجل الثالث العقد وأمر شحاتة أن يوقع. ولم يناقش شحاتة فقد تبين له أن العملية مدبرة بإحكام، فأخرج قلمه ووقع على العقد، ولكن الأمر لم ينته فقد فوجئ الأربعة بالشرطة تداهمهم وتقبض على أفراد العصابة الثلاثة وتكشف اللثام عن وجوههم. وحينئذ يصيح شحاتة: أنت؟! هذا غير معقول وأنا أعتبرك بنتي. •••
ذعر توفيق مما حدث لابنته، أما صبيحة فإنها تثور لأول مرة في وجه زوجها: بخلك هو الذي صنع هذه الكارثة الكبرى.
ولأول مرة يصمت في ذلة وهوان. •••
حكم على مبروكة بخمس عشرة سنة أشغال شاقة. •••
وما هي إلا شهور حتى اكتشف البنك تزوير نعمان عميرة بالاشتراك مع فتحي توفيق الذي هرب الملايين إلى لندن. وقبض عليه بالمطار محاولا السفر إليها. •••
ومنذ ذلك اليوم خيم البؤس والحزن على بيت توفيق وصبيحة، وامتنع توفيق عن الخروج بعد أن أخرج من شركاته كلها.
والشيء الذي أصر عليه هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدقات بسعة وكرم. و
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
وصدق الله العظيم. •••
مجلس الشورى في 22 من جمادى الأولى عام 1420ه، الموافق 2 من سبتمبر عام 1999م، الساعة 1:51 ظهرا.
نامعلوم صفحہ