21
ولقد لاحظ «سير تشارلز شرنجتون» كيف يشرع الفرد في القيام ببعض الأعمال وكتب يقول:
22 «تستمد حركة الفرد من مصدرين: العالم الخارجي من حوله، والعالم الداخلي الخاص به، وهو في كلتا الحالتين يستخدم نشاطه الانتقائي، وهو نشاط يحكمه إلى حد ما الفعل العصبي، الذي ينشأ تلقائيا داخل المراكز العصبية نفسها، ويمكن أن ينظر إليه على أنه جهاز، يحدث بفضل تنظيمه، عددا من الأشياء، وهو يتركب على هذا النحو الذي يجعل العالم الخارجي يستطيع أن يشد زناد الحركة فيه. غير أن شروطه الداخلية تلعب دورا في تلك الأشياء التي يستغلها في حدود معينة وفي كيفية عملها، وهذه الشروط الداخلية قد تبدع بدورها بعض الأفعال.» (22) وكدليل على صحة هذا الرأي، نستطيع أن نلجأ من الناحية الإيجابية إلى الخبرة، أما من الناحية السلبية فسوف نحاول في الفصول القادمة أن نبين أن وجهة النظر البديلة، أعني المذهب الجبري هي وجهة نظر بغير أساس. (23) الخبرة هي مرجعي النهائي للبرهنة الإيجابية، على أنني في حالة الانتباه لا أسلك في فعلي بسبب عوامل خارجية؛ ذلك لأنني حين أنتبه أكون شيئا، ولا أكون ممتلكا لشيء ما، أعني أنني أنتقي، وأقبل بديلا من البدائل الموجودة أمامي، فأختاره وأجعله ملكا لي، وأوحد بينه وبين ذاتي، وذلك هو الجبر الذاتي، أو التحديد الذاتي، الذي يصنع فيه المرء ذاته ويجعلها على ما هي عليه.
ونحن لدينا في خبرتنا هذه بالفعل، في حالة الأداء، المثل العيني الوحيد للفاعلية الحرة، لكنا حين نحلل هذا الموقف بعد ذلك، ترانا نقسمه إلى عاملين ثم علاقة بينهما. أما العلاقة فهي علاقة الاختيار، وبالتالي فنحن نجرد من الخبرة العينية علاقة الاختيار، وبمجرد ما يتم تجريد مثل هذه العلاقة يكون في استطاعتنا أن نطبقها على أي عاملين آخرين. وهكذا نستطيع أن نفسر بعض مظاهر التغير في العالم الخارجي بأنها أفعال قام بها أشخاص آخرون. وبهذه الطريقة نفسها أيضا نستطيع أن نرى الغرضية في العمليات البيولوجية في النبات، وفي السلوك الغريزي عند الحيوانات، ولا شك أننا في جميع هذه الحالات عرضة لتفسير الوقائع تفسيرا خاطئا ، بحيث نطلق اسم الأفعال الغرضية على أمور هي في الحقيقة مجرد حوادث، لكن حتى لو كان ذلك صحيحا فإنه لا ينفي القول بأننا نجرد علاقة معينة - هي علاقة الاختيار أو الانتقاء - من خبرتنا الخاصة ونطبقها - إن صوابا أو خطأ - على موضوعات أخرى. والواقع أنك كلما أكدت بإصرار أن كل ما يقع في الوجود ليس إلا مجموعة من الحوادث، وأن إطلاق كلمة الفعل على أي منها ليس إلا عملية يقوم بها خيالنا - فإنك تبرهن - في الوقت ذاته، وعلى نحو قاطع - أنني أدرك الفعل في خبرتي الخاصة، وإلا فمن أين جاءت علاقة الاختيار المجردة هذه؟ إن هذه الفكرة لا توجد في العالم الخارجي بناء على افتراضك نفسه، لكنها موجودة عندي فمن أين جاءت؟ لا بد - بالتالي - أن أكون قد جردتها من خبرتي الخاصة حين اخترت شيئا معينا ليكون موضوعا لانتباهي. (24) بالتالي فإن فكرة الحرية بالمعنى الذي تفهم به في نظرية الجبر الذاتي على أنها تظهر في فعل الفاعل حين ينتبه ويختار موضوعه - هذه الفكرة مستمدة مباشرة من خبرتي العينية، كما أن فكرة الضرورة - من ناحية أخرى - مستمدة من الفكرة الأصلية عن الحرية. وفكرة القانون التي هي أساس العلم - وبالتالي أساس المذهب الجبري - ليست إلا تصفية وتنقية للوقائع العينية الموجودة في خبرتي الخاصة. فالقانون العلمي، هو شيء لا نستطيع بالفعل أن نخبر المثل الدقيق الذي يقدمه؛ لأن ما نخبره باستمرار، وهو واقعة فردية عينية، وليست القوانين إلا تجريدات من أمثال هذه الوقائع الفردية العينية، والواقع أنه في الاختلاف بين وجهات النظر حول العلاقة بين الوقائع العينية والقوانين المجردة يكمن الفرق بين المذهب الآلي والمذهب الديناميكي، «كلما نظر صاحب النزعة الديناميكية إلى أعلى، اعتقد أنه يدرك وقائع تفلت من قبضة القانون، وهكذا يضع الواقع على أنها الحقيقة المطلقة، ويعتبر القانون مجرد تعبير رمزي - كبر أو صغر - عن هذه الحقيقة. أما النزعة الآلية فهي على العكس، تكتشف داخل الواقعة الجزئية عددا معينا من القوانين التي تكون هذه الواقعة بالنسبة لها مجرد نقطة التقاء ولا شيء غير ذلك، وعلى أساس هذا الفرض يصبح القانون هو الحقيقة الأصلية الأساسية.»
23
إن وقائع الخبرة الفردية والعينية هي الحقيقة، أما القوانين فهي تجريدات. ولا يمكن مطلقا أن تكون التجريدات في اتفاق كامل مع وقائع الخبرة الجزئية، فهي يمكن فحسب أن تتفق معها اتفاقا كبيرا أو صغيرا، لا اتفاقا كاملا، والقوانين من هذه الزاوية تشبه الأشكال الهندسية، التي يزيل الفكر ما فيها من نقائص كانت موجودة في الجزئيات العينية للخبرة، فنحن لا نستطيع على الإطلاق أن نخبر الخط المستقيم استقامة مطلقة، أو الدائرة الكاملة الاستدارة، ومع ذلك فنحن نكون هذه الأشكال تكوينا فكريا مثاليا على أساس الوقائع العينية. وتلك هي الحال نفسها مع قوانين الطبيعة، فنحن لم نلاحظها أبدا تتحقق في كمال مطلق، لكنا نستطيع فحسب أن نزيل بالفكر النقائص الموجودة في ملاحظاتنا الجزئية، ومن ثم فقوانين الطبيعة التي هي حجر الزاوية في بناء المذهب الجبري ليست إلا تجريدات من خبرتنا، التي هي وحدها الحقيقية. وفي استطاعتك أن تنظر إلى الطبيعة على أنها جهاز ينظمه قوانين لا ترحم. لكنك قبل أن تفعل ذلك عليك أن تسلم أولا بأن مثل هذا التصور مستمد من شيء آخر، وأن خبرتك بالوقائع العينية هي الأصل الذي اشتق منه، وطالما أن خبرتك هي في النهاية خبرة بفعل ما، أعني خبرة بالانتباه والانتقاء، فإنها بالتالي خبرة بالجبر الذاتي أو التحديد الذاتي. ولا شك أن تصور الحرية، بالمعنى الذي نفهم به هذه الكلمة في نظرية الجبر الذاتي، هو تصور مسبق قطعا، تصور الضرورة، فالأول يدرك مباشرة عن طريق الخبرة، بينما الثاني جاء نتيجة تصفية بعدية. «لو أننا تساءلنا لماذا يضفي أحد الفريقين «أصحاب النزعة الديناميكية»، حقيقة عليا على الواقعة، بينما يضفي الفريق الآخر «دعاة النزعة الآلية» مثل هذه الحقيقة على القانون، لوجدنا أن النزعة الآلية والنزعة الديناميكية تأخذ كل منهما كلمة البساطة بمعنيين مختلفين أتم الاختلاف. أما الفريق الأول فيرى أن المبدأ يكون بسيطا لو أمكن لنا أن نرى نتائجه وأن نحسب آثاره، وهكذا - حسب هذا التعريف نفسه - تكون فكرة المقصود الذاتي أكثر بساطة من فكرة الحرية، ويكون التجانس أكثر بساطة من اللاتجانس، ويكون المجرد أكثر بساطة من العيني. غير أن النزعة الديناميكية لا تسعى إلى وضع الأفكار في أنسب النظم وأكثرها ملاءمة للعثور على الخيط الحقيقي الذي يربط بينها ... ومن هذه الوجهة من النظر تصبح فكرة التلقائية بلا نزاع أبسط من فكرة القصور الذاتي، طالما أن الثانية لا يمكن أن تفهم وأن تحدد إلا عن طريق الأولى، في حين أن الفكرة الأولى تكتفي بذاتها.»
24 (25) لا نستطيع أن نجاوز القول بأن خبرتنا، كما ندركها إدراكا مباشرا، وكما نحللها عن طريق الاسترجاع، تظهرنا على أننا في حالة الانتباه نكون مجبرين ذاتيا في اختيار موضوع الانتباه، كلا، وليس ثمة إمكان لوجود معرفة - أية معرفة - بمعزل عن خبرتنا الخاصة؛ لأن الخبرة هي مرجعنا النهائي، والعالم هو عالم بالنسبة لنا، ومهما حاولنا أن نقول عكس ذلك فإننا مقيدون في النهاية بما صادفناه في خبرتنا. يقول وايتهد: «معطياتنا هي العالم بالفعل، بما في ذلك أنفسنا نحن، وهذا العالم الفعلي ينتشر أمامنا للملاحظة في شكل موضوعات لخبرتنا المباشرة، وتوضيح هذه الخبرة المباشرة هو المبرر الوحيد لأي تفكير، ونقطة البداية أمام الفكر هي الملاحظة التحليلية لمكونات الخبرة.»
25
وكتب «أفلنج
Aveling »
نامعلوم صفحہ