38
وسلوك الإنسان لا يمكن التنبؤ به؛ لأن شخصيته ليست شيئا ثابتا محددا مرة واحدة وإلى الأبد، وإلا فأين يمكن يا ترى أن نجد تلك اللحظة التي نستطيع أن نقول إن شخصية الفرد سوف تتوقف عندها من الآن فصاعدا؟
لا وجود لمثل هذه اللحظة؛ لأن شخصية الفرد تظل في حالة تكوين مستمر طوال حياته، وهذا هو السبب في أن فرديته لا تكتمل أبدا، ومعرفة شخصية إنسان ما تعني معرفة حياته كلها. ومن هنا فإنك لن تستطيع أن تستخدم معلوماتك عن شخصيته كمعطيات تستدل منها على مستقبله؛ لأنه في اللحظة التي تعرف فيها كل شيء عن شخصية الفرد، بحيث لا يمكن أن ينضاف إليها جديد، فإن هذا الفرد لن يستمر بعد ذلك في الوجود: «هل يستطيع أحد أن يؤكد - حتى من الناحية العقلية - أنه من الممكن أن يتنبأ بأنه هو نفسه - دع عنك أن يتنبأ لغيره - سوف يفكر في كذا وكذا، وسوف يفعل كيت وكيت في الأسبوع القادم. إن القيام بمثل هذا التنبؤ لا بد أن يستغرق أسبوعا كاملا؛ لأنك لن تستطيع أن تحذف أية فكرة أو أي سلوك يتم خلال هذا الأسبوع، ولا يمكن لمعدل السير أن يزيد ما لم تكن هناك زيادة مماثلة في سرعة العالم كله. ولهذا فسوف نجد أنفسنا بالضبط حيث كنا من قبل، ومن هنا فإن ما يسمى بالتنبؤ لا بد أن يكون بعد وقوع الحدث.»
39
ولهذا كان التنبؤ الذي لا يخطئ بالسلوك المقبل مستحيلا؛ لأن المعطيات المزعومة للتنبؤ هي مما لا يمكن الحصول عليه إلا بعد وقوع الحدث، «إذا ما شاء لنا عما إذا كان في استطاعة المرء أن يتنبأ بالفعل الأخير طالما أنه عرف المقدمات وعرف قيمتها على حد سواء - هو تسليم بالأمر قبل البرهنة عليه. لأننا ننسى أننا ليس في استطاعتنا أن نعرف قيمة المقدمات دون أن نعرف الفعل الأخير، وهو الأمر الوحيد الذي ليس معروفا بعد.»
40
والواقع أن «القول بأن صديقا ما - في ظروف معينة - من المرجح جدا أن يسلك على هذا النحو المعين، لا يعني التنبؤ بسلوك هذا الصديق في المستقبل، بقدر ما يعني إصدار حكم معين على شخصيته الحاضرة، أو بعبارة أخرى إصدار حكم على ماضيه.»
41 (25) في استطاعتنا أن نتنبأ فحسب بواقعة من الوقائع، وحتى الواقعة يمكن التنبؤ بها لا طريقة لا تخطئ، بل بسبب تعقد شروطها
Condition ، في حدود الترجيح. أما الفعل فهو بطبيعته الخاصة ذاتها لا يمكن التنبؤ به؛ فالوقائع توجد في الزمان، والزمان هنا لا فرق فيه بين اللحظة الأولى واللحظة الأخيرة. بينما الفعل يحتاج إلى ديمومة، ولا يمكن أن نقتطع منه لحظة واحدة دون أن تغير من طبيعته. ومن هنا فإننا نستطيع أن ننظر إلى ماضينا على أنه واقعة من الوقائع الموجودة في الزمان. لهذا يمكن استرجاعه كله في لحظة واحدة. أما مستقبلنا فهو فعل لا يمكن أن يعيش في الخيال أقل من ديمومته الضرورية. «حين نستعيد في ذهننا الماضي، أعني سلسلة الأفعال التي تمت، فإننا دائما نختصرها دون أن نهدم طبيعة الحدث الذي يهمنا، والسبب هو أننا نعرفه بالفعل؛ ذلك لأن الحالة النفسية - حين تصل إلى نهاية التقدم
، الذي يكون وجودها نفسه - تصبح شيئا في استطاعة المرء أن يصوره لنفسه كله في لحظة واحدة. هنا نجد أنفسنا في موقف شبيه بموقف عالم الفلك حين يدرك بلمحة خاطفة المحور الذي سيحتاج الكوكب إلى عدة سنين لكي يعبره. والواقع أن التنبؤ الفلكي يجب أن يقارن باسترجاع الحالة الشعورية الماضية، لا أن يقارن بتوقع حالة المستقبل. لكنا حين نحدد الحالة الشعورية المقبلة، فإننا لا نستطيع النظر إلى المقدمات كأشياء في حالة ساكنة، بل إننا لا بد أن ننظر إليها كعمليات في وضع ديناميكي ... ومن ثم فإننا لن نستطيع بعد ذلك أن نختصر الديمومة المقبلة لكي نصور أجزاءها أمامنا؛ فالشخص مضطر أن يعيش أو أن يحيا هذه الديمومة بينما هي تتكشف.»
نامعلوم صفحہ