إشارة
رجل!
همسة
الأشخاص
المنمق
المرحلة الأولى
المرحلة الثانية
المرحلة الثالثة
المرحلة الرابعة
المرحلة الخامسة
إشارة
رجل!
همسة
الأشخاص
المنمق
المرحلة الأولى
المرحلة الثانية
المرحلة الثالثة
المرحلة الرابعة
المرحلة الخامسة
جبهة الغيب
جبهة الغيب
أحدوثة شرقية في خمس مراحل
تأليف
بشر فارس
إشارة
كان المؤلف خط نهج هذه المسرحية وقيد جوهرها؛ ورسم أشخاصها في قصة ذات حوار عنوانها «رجل!» خرجت في القاهرة سنة 1942 في «المقتطف»، وفي كتابه «سوء تفاهم»، ثم في «موكب الحياة»: «قصص مختارة من الآداب العالمية» من هدايا «المقتطف»، والقصة منشورة هنا تمهيدا للمسرحية وتبيانا لمصدرها.
وضعت المسرحية باللغتين العربية والفرنسية، وسجل النص الفرنسي شهر ديسمبر سنة 1952 في «جمعية المؤلفين والملحنين المسرحيين»
Société des auteurs et compositeurs dramatiques ، ومركزها باريس، ثم نقل النص إلى الألمانية في خريف سنة 1954 بإيحاء من إدارة مسرح
Burgtheater
في فينا، وفي سنة 1955 قرأ المؤلف فصولا من النص العربي في دار إذاعة دمشق، ثم في دار إذاعة بيروت؛ وفي الجامعة الأميركية بها، وقد نشرت ثلاثة أناشيد واردة في غضون المسرحية: «غمز قيثار مغترب» في «سوء تفاهم»، «أنشودة الفلاح» في «الأديب» البيروتية سنة 1953، «أيها القيثار» فيها أيضا سنة 1957.
وإذا شاء القارئ، حين يمتحن نفس المؤلف، أن يستزيد من الوقوف على وجهته في القول فله أن يرجع إلى ما كان عرضه وأوضحه، نحو «التوطئة» التي عملها لمسرحيته الأولى: «مفرق الطريق» سنة 1938 ثم 1952، و«كلمة الشاعر» في «المقتطف» أبريل سنة 1945، و«الظلال في الأدب» في «الكاتب المصري» فبراير سنة 1948.
رجل!
في زاوية من زوايا الأرض جبل طال طول تمني الفقير وسأم الغني، جبل اشتد اشتداد شهر الصوم على المتكلفين، والناس يحذقون التكلف؛ لأن الفطرة سلامة.
جبل هب أملس ضامرا جردا، رمح ركزه رب أعياه خلق لا ينزجرون.
كان الجبل سيد أهل الزاوية، يستقبل أعينهم كل صباح فيحد من مرماها، ويعكس عليهم شعاع الشمس فيشترك في اللفح، ويصد عنهم الزعازع فيهدئ ليلهم: مصدر طمأنينة، وصاحب غلبة.
كان أهل الزاوية لا يرفعون الأبصار إلى الجبل إلا وأكفهم مفروشة فوق حواجبهم، وإن تجرأ الطرف وانفسح، فعلى سبيل اللمح: كان الجبل يمزق عزم العين، ولولا هذا الجبل الأملس الضامر الجرد ما كان أهل الزاوية على تلك الحال من الدعة والرقة ... لا بد للناس من شيء يهددهم بالسحق، من شيء متماسك مع تطاول حين تلين أنفسهم.
كان الجبل مصدر طمأنينة، وصاحب غلبة.
وكان الشغل الأكال للأذهان: على رأس الجبل بيت منقور، نقره شيء مجنح هوى من ناحية السماء، ثم زرع فيه عشبا أبيض قصير الورق، من أكل منه - وهو ند في منبته - ظفر بالحياة الأبدية ... السماء تستهوي الخلق أبدا، وتارة تغويهم، السماء جزء من الكون، والكون بهرج.
والطريق إلى ذلك البيت المنقور وعر، معضل. والتصعيد فيه خدعة من خدع الموت، ولم يقو على بلوغ البيت من أهل الزاوية سوى اثنين، وقد عاد أحدهما كسيحا من الإعياء ... هل يقدر رجل على حمل الأبدية؟ وعاد الآخر مكفوفا ... آه من الشمس تقتل من حيث تحيي؛ وهجها ينير ويعمي، أضاءت البيت المنقور أي إضاءة حتى إنها أطفأت العين.
عاد الكسيح والمكفوف وبين أيديهما الأبد، ولم يدر أحد من أهل الزاوية أيسخران من الموت أم الموت يسخر بهما؟ ••• - «يا رجل، لا تصعد في الجبل.» - «أنا مصعد فيه يا قوم.» - «أتبتغي الأبدية، وأنت بشر؟ أتخرج على سنة الكون؟ كل ما فيه مقدر؛ الجفاف يترقب النبات، الليل راصد للشمس، الموت يحصي على الإنسان أنفاسه.» - «الكون مبذول لنا، لسنا بمدفوعين إلى الكون يعبث بنا ويتحكم في أمرنا، الكون مبذول لنا، فليسخر! قيوده للعبيد، لمن يطوح النظر إلى فوق وكفه مبسوطة فوق حاجبه. هذا الجبل يكسر طرفي، وأنا أريد أن أحدق إليه؛ وأقول له: الآن لا أسارقك النظر، ولا أخشى لمسك وخطفك؛ لأن سرك انتقل إلي، أنت تطويه في رأسك وأنا في عروقي أبثه، أنا أفضلك وأبهرك؛ لأنك صاحب السر، أما أنا فمختلسه. أنت قبضت على المستحيل وهولت به علينا، أنا أجعله برجولتي ممكنا.» - «ولكن الكسيح والمكفوف، ألا تتعظ بهما؟» - «إنهما رغبا في الأبدية طمعا فيها وحدها، أما أنا فأطلبها لتنقاد، لأحس بأني ظافر. هما رغبا فيها للتنعم بالحياة الباقية، وأنا أطلبها لأصرعها ... كالمرأة تستمتعون بها وتلهون، أما أنا فأطرحها تحت همتي لأشعر بأني أملك شيئا نابضا، شيئا أستطيع أن أنشر فيه من إرادتي، وأسل منه إرادته عوضا. إني لا أحس برجولتي إلا إذا وجدتني السلطان القادر على حياة غيري. حياتي لا أملكها، لأني عبد لها تسيرني ولا أجرؤ على الانتقام منها ... لا يقتل نفسه إلا من افتقد حياته فانفلت من ضغطها، ولست كذلك؛ حياتي بين يدي، لكنهما لا تسعانها.»
تمهل الرجل ليتصفح القوم، ثم واصل: «أنا مصعد في الجبل لأغتصب عمري من براثن العدم، فأعود سيد نفسي: إذا ضايقتني أدبتها، سيد جسمي: أفنيه متى أشاء، سيد روحي: أميلها على هواي ... الروح التي حرتم في شأنها سأقبض على أطرافها، وأجعل لها من عظامي إطارا يخنقها، أنا مصعد.»
قال الرجل مقاله، فضحك الكسيح، وبكى المكفوف من خلفه، كأن أحدهما يتمم أخاه، ثم حمل المكفوف الكسيح، وأخذا يتحسسان - هذا بعينه وذاك بقدمه - نعيم الفناء: الأرض وما عليها.
عاد الرجل إلى مقاله: «أنا مصعد، وسألقي إليكم كل يوم بحجر؛ لأعلمكم بأني سالم، حتى أرجع إليكم فتلتفوا حولي، وتسألوني أن أفتك بهذا الكسيح وبهذا المكفوف؛ لأنهما طلبا ما فاتهما خطره، أنا مصعد.»
هدأ الرجل، ومن بين الصفوف برزت فتاة وقالت: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»
أخذت الرجل بحة، وهو يقول: «يا حبيبتي ...»
تطلعت الفتاة إليه قلقة البصر حيرى السمع، فأكد الرجل: «نعم، حبيبتي، الآن فقط أناديك: يا حبيبتي، ومن قبل كتمت ما يشغل صدري؛ لأني لو نشرت حبي بين يديك لتعطل إحساسك الدفين به.»
ثبت القلق في البصر، وامتدت الحيرة في السمع، فزاد الرجل: «الروضة التي عن يمينك تجلسين إليها تنقلين البصر؛ فيتزود، فينساب سحر مستتر تحت الجفنين فيغلبهما ويطبقهما، ثم تقبل صاحبة من صواحبك فتصيح: ما أجمل الروضة! فينزعج السحر؛ ويفر من تحت الجفنين، فينفرجان، فترى عينك ما تراه عين صاحبتك: تلمس حواسك الأشياء؛ فتصحو، فتبطل الخلوة بالوهم الخاطر ... الحب والجمال كالبريق الذي في الياقوت الأصفر الرقيق: ماء رعاش في تعاريج جوهرة، فوق الوصف ودون اللمس ... الحب والجمال وماء الجواهر لا تفعل فعلها إلا إذا رفت وراء حجاب شفاف ... يا حبيبتي.»
دنا الرجل من الفتاة التي برزت من بين الصفوف، فارفض القوم، فقالت الفتاة: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»
ضمها الرجل إليه: «اليوم أناديك: يا حبيبتي؛ لأني منصرف عنك، لحظة ينشرم اللحم من اللحم يحسن بالألفاظ أن تنفح دما، وهل يفور بالدم غير الألفاظ المقدسة؟»
فك الرجل الفتاة من الضمة: «وما أحراني الآن بأن أناديك: يا حبيبتي ... إني بباب المعبد، سأدخله في الوقت الذي أختاره، سأدخل معبد الزمان المنزه عن خطر الانفصال، فأختطف من دعائمه حقيقة حرفين متلاحمين: الحاء والباء؛ لأن الحب نفس متصل. اليوم لي الحق أن ألفظ الحرفين؛ لأني قريب الاتحاد بالقوة الراسخة ... آه! يضحكني البشر حين يخرجون حروفا وضعت لغير حلقهم. البشر إلى الزوال، والحب حابس العابر في المقيم، حابس الزمن الدائر في دقة قلب.»
قالت الفتاة التي برزت من بين الصفوف: «لا تذهب إلى البيت المنقور.»
فتدفق الرجل: «أتخشين أن تشغلني الأبدية عنك؟ لا أهواها ولا أشتهيها، إنما أريد أن أذلها، أنت تغارين منها؛ لأنك تحسين ما تكون هبتها لي؛ ستهب لي سرها، ويشق عليك أن ينافس سرك الذائع في صدري سر داخل، ثم تحسين أن الأبدية شيء يماثلك، شيء يمنح السعادة.»
ثم جعل الرجل يقطر كلامه: «لا تغاري يا حبيبتي، سأجعل الأبدية سلما إليك، فأجلس إزاءك ندا إلى ند: أنت امرأة تبسط الدنيا لحبيبها فيسع الأشياء كلها ولا يسعه شيء، وأنا رجل قد نزع قدمه من ورطة الأرض ... كفي عن منعي.»
همهمت الفتاة: «يا حبيبي، لا تذهب إلى البيت المنقور.» •••
وذات يوم لم يسقط حجر، فندد القوم بالرجل، ثم سبوه ... لم يحاول الفوق عليهم ثم يكبو؟!
وفي الليل حلم المكفوف أنه رسام، والكسيح أنه رقاص ... الشماتة فنانة!
ثم مرضت فتاة.
وذات صباح هبط الرجل على القوم سالما، فالتف القوم حوله: «أنت؟ حي؟ هل أكلت من العشب؟» - «عني! الطريق!» - «ولم أمسكت عن إلقاء الحجر؟» - «إلى من ألقي بالحجر؟ لا ترقبوا الشيء من عل، نقبوا في جوف الأرض؛ يا بشر! عني! الطريق!»
دخل الرجل بيت الفتاة التي برزت من بين الصفوف ثم مرضت.
والفتاة لم تكن في البيت، قتلها الحجر الذي لم يسقط.
خرج الرجل إلى الجبل، وصعد فيه يقصد إلى البيت المنقور يحاسبه.
ولما كان ذات صباح سقط الرجل من الجبل ميتا ... قتل الرب نفسه، والذي قتله بشر.
شتورة «لبنان» أكتوبر 1941
همسة
ليس المسرح بهوا سمرت نوافذه، ثم نقلت إليه نقلا حركات الناس فهزلت حتى التلف. هو قنطرة مسحورة تهف فوقها هبات الكون فتنحرف من إقليم إلى إقليم، من سطح المظهر تنساب في غور المخبر، تخلص من مضيق الخاص إلى رحب العام. للخلق - على تباينهم في الطباع - دخيلة واحدة؛ وإن ترددت بين انقباض وانشراح وفقا للشوط المقطوع في مطالع الرهافة، فكيف يقوم جوهر المسرح إذا علق سره بأشباح جيل من الناس أو بأعراض رقعة من الأرض، لا تتم معهما حقيقة الإنسان، هذا الذي يلف تفاريقه مدار الأزمنة والأمكنة؟
المسرح - كالشعر، كالنحت والتصوير، كالموسيقى والرقص - خصبه من شحنة البشرية كافة، هو لها، ذلك أصل بقاء المسرح اليوناني الأول والمسرح الشكسبيري، وقدر المسرح الذي ابتدعه نفر من المتأخرين مثل بيراندلو وتاجور، وسواء فز النضال بين آلهة وعباد، أو بين الغرائز والروادع، أو بين بيئة وأهلها تجري الخوالج على وعي مرة وفي غفو مرات، أو تلابس حنايا الضمير فلا تبرز إلى مشهد الحس، أو تحجم فلا تدور إطلاقا بإشارة ولا على لسان ولا في خاطر؛ إذ هاجرت إلى غيابة الوجدان فتاهت فأورثت الحرج الذي يفوت همة الظن.
وهذه التوائه إذا ضممت إليها ما يجري غفوا وما يلابس الحنايا حصلت لك مادة أدب المسرح الأصيل، لا يبين أثرها للعين الفاحصة تنظر المعالم دون المغامض. مادة صالحة لسرداب التجارب النفسانية، وهذا الأدب - بعد شكسبير وراسين - تفكك أسه وتخلف مغزاه في أكثر الحال، فصار على الغالب إما إلى لعب وإما إلى محاكاة الواقع المبذول.
كثيرا ما نحس شوارد الشعور ولوامع الإدراك، ولكن تقريبها إلى الأذهان من حظ من حباه رب الكلمة بتلوين المبهم وتشكيل السانح. تلك رسالة الشاعر - والمسرحي الحق شاعر - فهو يهمس بما استعجم على عامة الناس. إنه الغواص على دقائق البشر لخير كانت أو لشر. هنا معقد غايته، ولعل قوله لم يرف على سمع في الحياة الجارية؛ لأنه تناثر من تحليق الوحي، على أن السامع ينفعل له وينزعج به، وقد حدثه حدسه أن القول يصور شيئا خامر فؤاده أو هو مخامره يوما.
هيهات أن يكون المسرح مصنع ترديد: ألفاظ كلها محدودة قاصرة، مطروقة ناحلة، يلوكها الناس على قدر ما تمرسوا به من التعبير. المسرح منبت توليد: كلمات تحوم على نجوى الشاعر وهو يتقصى مسارب الكون ويتقرى مصاعبها رجاء أن يعرف، والعرفان يلوح في لحظة القول، لا في صورة هينة دارجة، بعيد وادي الحقيقة: دوران، موران؛ هل يقربها المتلطف إلا إذا تمور ودار؟ من هنا مأتى الرموز والخطفات.
وإذا كان أشخاص المسرح لا يفصحون في مجرى العيش على نحو ما ينطقون، وهم بين أيدي الممثلين يلهمهم الشاعر، فذلك أنهم في ذلك المجرى دمى بشرية مقذوفة في لجب العواطف، شأنها شأن الغريق تلاطمه الأمواج فيزيغ صوابه، وأما الناظر على الشاطئ - الشاعر - فيحس عن الغريق بذكاء بصيرته ثم يعبر: الإحساس حق؛ لأنه للبشرية جمعاء، والتعبير حق كذلك، وإن كان خاصا بصاحبه: اقتراح ولده التقاط لماح إلى ما وراء القريب، هنالك، حيث البديهة الثاقبة رفعت دولة البيان النافذ.
الدنيا حقل النضال، النضال اضطرام جوه اضطراب، فالمسرح الذي لا يخفق فيه نضال الأبطال فعلا وقولا إنما هو مسرح كاذب، فاتر، إذا أعطى لا يغني.
إلى سر أمي في حظيرة القدس
ولها إلى كنز الإيناس وتمجيدا لبطولة المحبة.
ب. ف.
18 / 3 / 1960
الأشخاص
فدا:
في نحو الأربعين.
هادي:
تلميذه.
الإمام.
القوال:
ريس الفلاحين.
الكسيح.
الأعمى.
القيثاري:
وافد من بلد بعيد.
زينة:
دون الثلاثين.
هنا:
فتاة.
فلاحون:
لفيف من رجال ونساء في طائفتين.
المنمق
سهل خضير عند سفح جبل شاهق وعر. حقل سنابل يشغل آخرة المهاد
La scène . المكان غير محدود وكذلك الزمان، الملابس شرقية خفيفة لا بهرج فيها.
مقترحات للرقص والموسيقى.
المرحلة
دقيقة
الأولى
القيثار: تأليفات منبسطة
2
الثانية
رقصة تنجزها زينة في ثقل، ثم في خفة، تسندها موسيقى بلا قيثار، أنغامها هائجة ثم علوية
5
موسيقى بلا قيثار: مصدر خشوع
2
القيثار: تقاسيم
3
الثالثة
القيثار: ائتلافات مضغوطة ومتقطعة
1
القيثار: لحن ميزانه مطلق
موسيقى بلا قيثار، غائمة
3
رقصة ندب بلا موسيقى
2
القيثار: مساوقة رفيقة
الرابعة
رقصة هفافة تنجزها زينة، تسندها موسيقى غاية في اللطافة
3
موسيقى بلا قيثار يغلب عليها الروحاني
3
ما أحرج الطريق إلى الحياة.
إنجيل متى
قال الله للنفس: اخرجي. قالت: لا أخرج إلا كارهة. قال: اخرجي وإن كرهت.
حديث قدسي
المرحلة الأولى
(الظلام إلى الشدة. فدا وهادي، ثم زينة يبدون كأنهم خيالات. يسمع النظارة خاتمة حوار.)
فدا (لهادي) :
هادي! قم بنا.
هادي :
أرحل والحياة لا تزال تعانقني؟
فدا :
قم! كل ذاهب. كل يعود.
هادي :
لكن الموت يرصدني في شباك هذه المغامرة.
فدا :
حسبك أن تكون سلكت في الطريق ... هادي! أن تهجر الخيمة بعد أن غلغلت الصحراء في فؤادك، ذلك عود من مطرح سحيق.
هادي :
إن القشور التي كنت نفضتها عني، بين يديك، رجعت هذه الليلة تتألب علي، وتشلني ... أراني، كما كنت، أخشع لحركات الناس، أرضى بها جارية على نسق هو هو، يوما بعد يوم: تزور ما أشاهد، تيبس ما أحس، حتى تراكبت فجأة سدا بين البصر والبصيرة، (مهلة)
خبرني، أستاذي: لماذا تألبت القشور من جديد؟
فدا :
أنت نفضتها، ولم تفقد قطرة دم. (يخرج) .
زينة (تأتي من الجهة المقابلة، لهادي) :
بالله لا تذهب معه، عسى أن يعدل، عسى ... فأنت لك حظ من قلبه. أنا؟ يا حسرتي.
هادي :
مهلا، زينة! ألمح فيه شرارة حب لك.
زينة (في تأسف) :
حبه لي ... هل استطعت أن أثيره؟ هل تهز النسمة معبدا من رخام؟ تنوح، تموت عند عتبته. (تخرج. هادي يتبعها. صمت) . (الصبح يتنفس، القيثاري يجتاز المهاد في بطء، وهو يرسل على الأوتار ائتلافات فرحة تتسرع شيئا فشيئا. صمت. في حين يغمر النور الجبل يتفق الفلاحون إلى قلب المهاد. القوال يلحق بهم نشطا.)
القوال (مشيرا إلى الجبل) :
ها هي ذي العالية، ستنا (الجمع يحدون أبصارهم إلى الجبل)
ساعة استحمامها: تغط لأنفها وصدرها وساقها في غلواء الشمس.
الفلاح الأول :
ما أظرفها! تتمطى بعد كل غطة، (للفلاح الثاني)
انظر بالله! انظر! لها حدبة ترتعش، متعاظمة، تدري أنها في ملك عزيز.
الفلاح الثاني :
يا سلام! كيف تتموج تحت اللهب، آه! مستودع لذة.
الفلاح الثالث :
غوطه لا يجس.
الفلاح الأول :
لا يجس أبدا ... وا أسفا! هل يجرؤ أحد أن ينغز الحدبة، بعد التجربة التي عاناها الكسيح، والأعمى؟
الفلاح الثاني :
يقال إنها مأوى لجنس من الطير، رءوس نسور وأجسام وطاويط.
الفلاح الأول :
متى هم الفجر تسابق الطير في لعق أطرافها.
الفلاح الثالث :
ست، أي ست!
الفلاح الثاني :
أخ. لو يفض هذا المستودع ...
الفلاح الثالث (للقوال) :
فماذا يا ريس؟
القوال :
النعيم ... جيلا بعد جيل تناقل أجدادنا هذه الهمسة: (في خفوت)
هنالك، في جوف الحدبة، مغارة غامضة، ترفرف فيها نفحة البقاء، منذ القدم، حين استسلم الخلق لجهامة الموت، هوى من أفواه السماء طيف مجنح، نقر المغارة بظفر من ذهب، ثم غرس في صلبها عشبا أبيض، قصيرا، معسول الورق، من أكل منه وهو ند في منبته تملى الحياة إلى الأبد ... السماء تستهوي الخلق أبدا وتارة تغويهم ... ألا من يسلب النفحة؟
الفلاح الثاني :
وهي للنسور غذاء! أف، أف ...
القوال :
منذ القدم نفثها ملائكة دهاة، هل سلبها أحد؟ (يضحك)
أن نرضى بحرمان دائم، ذلك حظنا. (في وجوم)
نمنع الحياة، ومن المناع؟ ستنا.
الفلاحون (في تجرؤ مكبوت) :
وتخدعنا.
القوال (يستقبل الجبل. في انفجار) :
هذا يومكم؛ لا يوم سواه طول السنة. المحظور مستباح فيه، لكم أن تحدقوا إلى العلياء. هيا! تحدوها بقوة جديدة مستلة من تعظيمكم لها، برشقات العيون، اليوم، عوضوا شهورا ضاعت تقديسا لها، ضاعت وعزماتكم مطرقة، ما أثقل النعاس الذي ركب أجفانكم! (يشير إلى الأرض)
السهل كله فز هذا الصباح؛ وقد نفش خدوده شوك الغضب ... أين صراخكم؟ (الفلاحون يصرخون ويركضون هنا وهنا)
هذي انتفاضة المكبل! يوم ولا يوم سواه ... (بينما الفلاحون يدورون حول حقل السنابل كأنهم عصبة من أهل الغابات في موسم)
لنضربن الأرض بجراحاتنا، لعلنا ندفن تحت هدي السنابل، ما تبقى من همة دمنا، نحن العبيد. هلموا إلى الفرح، نحك بزبده ختم العذاب في أعناقنا! هذا عيدكم يا عرائس، زفها استهزاء الموت، (يكف الفلاحون عن الدوران) .
الفلاح الأول :
واه! هذا السهل ...
الفلاح الثاني :
أمنه غذائي أم أنا الذي يغذيه؟ (الفلاحون يتناظرون في ارتباك.)
القوال (ينشد) :
وغدير رمى بدمي
عند حقل من الفتن
نزهة الأرض من سقمي
أنا أسطورة الزمن
عند حقل من الفتن
رفه خفة النعم
عز نشوان من محني
هو يحيا ولي عدمي
نزهة الأرض من سقمي
من غرامي بممتهني
أملي مضغة النهم
لفني الخصب في كفني
أنا أسطورة الزمن
تاج وهم من الهمم
ضيف روض بلا فنن
غرد في دجى الصمم
أنا أسطورة الزمن (الفلاحون حول حقل السنابل يتمايلون، وهم يرددون في نوبة واحدة هذا الشطر: «أنا أسطورة الزمن»، الإمام يدخل، تتبعه الطائفة الأولى من اللفيف، الفلاحون يلزمون السكوت.)
الرجل الأول (في وسط اللفيف) :
آن لهذا اليوم أن يحل، لنلتهم ساعاته، يلا!
الإمام :
اضحكوا، غنوا، ولكن حذار حذار: إن تحررتم لحظة فاتقوا ما وجبت حرمته ... إياكم وحنق القوي.
القوال :
هاه، هاه! هذا يومنا. حق أو غير حق؟ (الفلاحون يوافقون بإطراق الرءوس وهم يترنحون في صمت)
هل يحسن التردد والموت في لفتة الطريق؟ سوف نقطع رقبة الحرمة.
الرجل الثاني :
الاستمتاع بالمحرم ... يا حلاوة! مثل زوجة الجار؛ تتستر، تتمنع، وعلى غفلة ترمي الملاية.
الإمام :
هي! هي! حدقوا إلى العلياء كيفما شئتم، أما أن تشنعوا عليها فلا، (في شبه تكتم)
هل نسيتم أنها حامل إلى الأبد؟ في حضنها سرها.
المرأة الأولى (في وسط اللفيف) :
حامل؟ لا تقل هذا يا شيخ، فال الله لا فالك. (تلتفت إلى النساء وهي تتحسس بطنها) .
أصوات رجال (في قلق) :
سرها ... (الفلاحون يحدقون إلى العلياء.)
القوال (في شبه غيظ) :
سرها. (ذهول شامل. الطائفة الثانية من اللفيف تدخل ورجالها يحملون زينة.)
الطائفة الثانية (في دخولها ) :
ارقصي يا زينة.
الطائفة الأولى (مستقبلة زينة) :
آ. ارقصي. (زينة تحجم، تغريها الطائفتان بحركات، وليات من طرائق الرقص.)
القوال :
كيف؟ تحجمين عن الرقص؟ في هذا العيد الفريد؟ الآن أنت، أنت البرق يتنزى فيمزع غيم اليأس، قبل أن يدب على جباهنا ضباب سنة كاملة. إيه، رشيقة صاولي الرياح، فتترنح معك صبابات لنا زائلة ... ها هو ذا الخلاء، ديوان الخطرات الشوارد، سلطي أنامل هفهافة تترسل فيه، عسى أن تنقل من ملح اللمح رهافات المسرة ... وهذا الصعيد، شراب الدماء، دعي جلبة البدن تقرعه، وعلى وجه الحقل تضوري فاقذفي زفراتنا.
اللفيف :
ارقصي زينة. ارقصي.
زينة :
لا أقدر على الرقص.
المرأة الأولى :
يا دلال، يا دلال ...
المرأة الثانية (للأولى) :
ربما أجهدت خصرها في الليل.
المرأة الثالثة :
قرصة من هنا، قرصة من هنا، وهي ترقص. (ضحك. هادي يدخل ويمضي نحو زينة.)
زينة (تنتظر إلى هادي كأنهما على اتفاق) :
أرقص والقلب مثقل؟
القوال :
مثقل، اليوم؟
زينة :
إنه ذاهب.
أصوات (في اللفيف) :
من؟
زينة :
حبيبي.
المرأة الثالثة :
حبيبها ... آه! يا لطافة الكلمة.
المرأة الأولى :
كنت أظن صنف الأحباب نفد، وقتنا ذا هم الرجال نط وضغط. (النساء يسترسلن في الضحك، زينة لا تبالي.)
الإمام :
إلى أين ذاهب؟ (زينة تجلي ببصرها حتى ذروة العالية.)
الإمام (حنقا) :
إيه؟
زينة :
أجل، كان الليل يلملم نجومه حين رأيته يبري طرف عكازه، (ترنو إلى هادي)
أما رأيته أيضا؟ (هادى يوافق بإشارة.)
القوال (في جد فائق) :
رجل يصعد.
الفلاحون (في قلق) :
رجل يصعد.
الإمام :
كلا!
أصوات (لزينة) :
ارقصي.
الإمام (لزينة) :
هيا ارقصي، لن يصعد. (زينة تنظر إلى الأمام مرتابة في قوله.)
الإمام :
وعدت. (للرجل الأول)
في وهمها أني أمنع حبيبها من الصعود مرضاة لها. (ضحك مكبوت من جانب الرجال، زينة تشرع في «رقصة السنابل» على ثقل في الحركات. موسيقى ذات أنغام هائجة.)
المرأة الثانية (وزينة ترقص) :
عجيب! هذه المرة أين خفتها؟
المرحلة الثانية
(بينما زينة ترقص في شبه عناء إذ يبدو فدا من بعيد. يقف لحظة، ثم يدنو غير حافل بما يدور حوله، الجمع يتفرسون فيه وقد ملكتهم بوادر رهبة. زينة تؤخذ ثم يشرق وجهها؛ فتخط حركات في خفة باهرة، على حين تصبح الموسيقى علوية منزهة عن كل سبب جسماني، زينة تقارب فدا فتنحني، فدا يرفعها برفق. هادي يلحق بهما. القوال يتجه إليهم. اللفيف يحيطون بهم ... الموسيقى تنقطع. زينة تقف في الصف الأول لكي تحض الإمام بلحاظها، ولكن في تحفظ.)
الإمام (لفدا) :
يا رجل! لا تصعد.
فدا :
أنا صاعد.
الإمام :
يا رجل! تلك خطيئة. (فدا يرشق الإمام ببصره.)
الإمام :
الليل راصد لأبهة الشمس، القحط يتوعد مرح الأرض، الموت يحصي على الإنسان ضحكاته، هكذا الكون ترتبه أسوار القدر.
فدا :
تعذبه ... أسوار: تخوم مرتجلة، مفازع ساجية، سرعان ما تنهار إذا رجمت خلسة بنظرة، لا نظرة من حدقة جنت بغبار السنابل، ولكن من حدقة حرة، هي للروح طاقة.
الرجل الثاني :
عجرفة!
فدا :
إنما تواضعكم استرخاء.
الإمام :
كيف لا نذعن للقضاء؟ هل من حيلة معه؟
فدا (على شفتيه بسمة) :
آه ... ذاك الحبل المحبوك! انسل من لحى مشعوذين (يتفرس في الإمام)
سدت ألاعيبهم معارج الصدق. (إلى اللفيف)
ركنتم إلى الحبل، تشدونه على رقابهم بأظفار رباها صبر أقزام.
الإمام (مستهزئا) :
أما أنت فتستهين بقهر الآلهة ... (يصيح)
تجرؤ على تجريحهم.
فدا :
بل أنطلق بهم إلى ما يجاوز إرادتكم، وهي مسفة، ترونهم أصحاب جبروت يكبحون كل إقدام، والحق أنهم لا يسبغون النعم إلا على من يهجر إليهم فيطاولهم.
الإمام :
ويلك يا سباب، يا مجدف! (اللفيف يضطربون. الفلاحون يقتربون من فدا.)
فدا :
من واجه مطلع الغيب يستقبل فضاء ماج باللمحات، سأواجهه، عنكم ... لعل بحر مطامحنا يجيش، بعد أن ودعت ريحه فيئست قلاع الأحلام أن تصطفق (مهلة)
القدر: الإعصار نفسه، يزمجر فيجرف البشر إلى كوثر الرجاء. أنتم، ويلي عليكم منبطحين هنا، يهدهد أردافكم نسيم يحبو. (في انفجار)
أين الإعصار؟
الإمام :
هذا السهل يكفينا.
فدا :
يا له من شاهد على بلاهة السهولة. (في سرعة)
وبه مع هذا كبرياء لم تلق بعد عقابها.
الفلاحون (في تحفظ) :
آه (يتضامون) . (القوال يحدق إلى فدا.)
الإمام :
اسخر من السهل ما شئت. هاه! اعلم أن جهاته الأربع مقسمة على أحسن نظام، محددة، لكي نحيط بها لا نحتاج أن نهيم مع فلتات الهذيان، هذيانك: يهرول، يجعجع ولا يجدي، أما نحن فنمشي؛ ولا نتسكع، إلى غاية مبيتها أسفل الجبل.
أصوات (في اللفيف) :
عال، عال.
فدا :
خطأ! ما دامت السماء ترقبنا فليس الوجود سوى اندفاق، ينبوعه وجدان، في تموج وتوثب ... ما دامت السماء ترقبنا.
الإمام :
تكفر بالله وتستوحي السماء، يا أخرق؟ (ضحك من جانب اللفيف. القوال يتقدم كأنه يتحدى.)
فدا :
تذكر الله، أنت، أنت، سجان شريعة تقلص وجهها؟
الإمام :
يا ملحد! (اللفيف يصرخون)
إلى من تجري ركعاتنا ورفعات أيدينا وزمزمات الشفاه؟
فدا :
إلى العالية، حيث الله غير موجود.
الإمام (عينه إلى الذروة) :
ألا تتوجها آية الألوهة؟ (مقطعا)
الأبد. (اللفيف يوافقون.)
فدا :
ما أسرعكم في فك الألغاز! هل يستوي الموجود والموهوم؟ (اللفيف يتساءلون، الفلاحون في شدة، القوال يبتسم ابتسامة رضى، هادي له بصر منسرح في الفضاء، زينة تتراجع.)
الإمام :
أصبحنا لا نفهم كلامك.
فدا :
هذه العالية شغل أكل ألبابكم. (اللفيف والفلاحون يتفحصون الجبل، القوال يتنحى قليلا. زينة وهادي يتفرسان في فدا.)
القوال (يشير إلى العالية) :
مدارجها لا تنتهي! هل خطتها أماني الفقير؟ شواهقها تخدش السحاب كالشهوات عضت بالغني.
هادي :
وقرنها رمح ركزه رب جبار. أي ثأر يطلب يا ترى؟
فدا :
لا. لا! على الرمح ... ها هي ذي ... ها دموع تصببت (مهلة في همس)
يا لحزن هذا الرب، شق عليه عجز الخلق عن إدراكه، أما من أحد يرحل فيمسح الرمح بنقاوة قبلة، فينجلي العار؟
زينة (مفجوعة) :
يرحل فيستقبله الموت.
فدا (نظرة إلى الفضاء) :
لا يموت من شط به الصعود.
الإمام :
تفخيم قدر البشر تهوين لقدرة الله.
فدا (في وثبة) :
لا، بل تزيكة لها، (مهلة)
هذه العالية جسمها فتنكم.
الإمام :
شعثاء، جرداء، هي السلطانة، أجل - ما عدا هذا اليوم - لا تلفت إليها إلا والأكف مفروشة فوق الحواجب، نلمحها خفية ... على أنها ترعانا أحسن رعاية: في الليل تصد الزعازع، فتركب أحلامنا أراجيح النزق، في النهار تحد سعينا هجمة سفحها. (اللفيف يوافقون.)
فدا :
كذلك أنتم، لا بد لكم أن تجثموا في ظل شيء هائل متماسك، يتطاول فيهددكم بالسحق، وإلا لفت القسوة قلوبكم، فهاج الشر بكم. (القوال يدنو إلى فدا يريد أن يتجرع ألفاظه. هادي يتجلى جبينه. زينة تجمع كفيها على وجهها. الإمام محنق وقد أصاب كلام فدا مقتلا منه. اللفيف يغمغمون. الفلاحون يحاولون أن يتتبعوا حديث فدا.)
فدا :
الجبن قيدكم بحضيضها، ولا تزالون بعيدا عنها، أما أنا فسرها حائم حولي.
القوال :
سرها.
فدا :
ما يعجزنا شأنه خليق أن يوسدنا الأرق، أما الذعر فلا. (اللفيف يضطربون.)
فدا :
هذا الكون - قممه ولججه - مصحف، حروفه صبت في سبائك من غيوم، تصونه درع من ياقوت ولؤلؤ ... ذلك سحر الخلق ... وأبصاركم بزخرف الدرع تتلهى عن خطر المكنون.
الإمام :
إن سرها ملك لها.
فدا :
ملك للحياة.
الإمام :
الحياة ليست لنا. (فدا يتحدى اللفيف ثم يبتعد. هادي يتبعه. القوال يمشي إليهما، ثم يقف. زينة تريد أن تبكي. الأعمى يدخل حاملا الكسيح.)
أصوات (لفدا) :
يا رجل! لا تصعد.
فدا :
إني صاعد. (زينة لها إشارة مرتجفة. الكسيح والأعمى في شغل بال.)
الإمام (يلحق بفدا) :
تريد أن تغزو ربوة الخلد، أي شيء أعددت، قل لي: (في تحقير)
أهذه الفورة، تشحذها رشة دم في صدر بشر؟ هه!
فدا :
ذخيرة الجنة نضحات من وله الشهداء.
الإمام :
هل تغلب سلطان الشرائع؟
اللفيف (في استكانة) :
الشرائع ... (الفلاحون يطرقون.)
الإمام :
صخور رسخت ... أنت تحتقرها، وترفع رعونتك هباء، علينا أن نستعصم به، حتى تستبد بنا، بالكون.
فدا :
أستبد بكم؟ يا لي من افترائك! الاستبداد بالعشيرة من فجور المستهتر بالسيادة وسفه الفاشل المتعالي؛ اذبحوهما حيثما كانا. (مهلة)
مستبد بالكون؟ هذا فرض على من يسعى إلى الخروج من ذل نفسه ... الكون مبذول لنا، ليست أنفاسنا رعية له هينة، أما رواقه المشحون بتزاويق العبث فلا يطمئن تحته إلا تثاقل في الجسد.
المرأة الأولى (للثانية) :
هي، أتحسين أنت أن جسمك ثقيل؟
المرأة الثانية :
لا. (تتحسس صدرها وخصرها) .
المرأة الثالثة (للثانية) :
لحظة. أساعدك. (تساعدها على التحسس) .
المرأة الأولى (للرجل الأول ) :
وأنت، أين المساعدة؟
الرجل الأول (يبسط يديه) :
حسس، حسس، حسس ... كم سنة! ذابت يدي يا أختي.
المرأة الأولى :
آه يا خاين! (توليه ظهرها) .
الرجل الأول (يتأمل ظهرها) :
ولو! (يرفع رأسه منكرا) (اللفيف يضحكون.)
فدا (غير حافل بالضحك) :
لنجعلن الياقوت واللؤلؤ نهبة سهلة ... لن تنفد لأن ضمائركم قلما يتحرك نهمها. (مهلة)
إن الأغلال التي أحكمتم تذهيبها تليق بمن رفع بصرا سرعان ما يطيش فينكسر، ومعه ينكسر العطش الخفي. (الإمام ساخط. بعض اللفيف يجمجمون. الفلاحون في ارتباك لا يخلو من استحياء. القوال له ابتسامة مكتومة. هادي وزينة طوع شفتي فدا. الكسيح والأعمى يقتربان.)
فدا :
هذه العالية، هذه التهمت نزهة لحظي، وكم يحلو لي أن أرنو إليها، ذات صباح، فأهمس في كهوفها: الآن لا أخشى طلاسم سحرك. إن سرك زار الأرض ... لما انتزعته من ضلعك وعدت به أرسله في دورة دفقاتي فجاشت بعد إعياء. (مهلة)
الآن بعد أن تناظرنا وتصاولنا، أنا الفائق الفائز: إذا كنت يوما صاحبة السر، إن كنت حتى اليوم صاحبته، فأنا الذي ينعم به. (مهلة)
هنالك في العلياء عرفت كيف تلقفين الممتنع، فظللت تلوحين به، من وراء ضباب، حتى شل عبيدك، ها هنا، مطروحين تحت جاه لا يرحم ... أنا، في قدرتي اليوم أن أجرد الممتنع من صلفه فأفضحه في ساحة الواقع. (هادي والقوال والفلاحون ينظرون فدا معجبين. الكسيح والأعمى يطوفان به. زينة مزعزعة. اللفيف مضطربون.)
الإمام (يعاود هجومه مشيرا إلى الكسيح والأعمى) :
ولكن هذا الكسيح وهذا الأعمى، أتزدري قصتهما؟ العبرة يا رجل.
هادي :
هما من معشر غير معشره.
الإمام (لفدا) :
هما، قبلك، جذبهما الصعب فذهبا في طلبه، حتى قربا من العشب الأبيض وربما اقتطفاه. (بين الكسيح والأعمى حديث بالإشارة)
أتحسس هذا مما يدور بينهما من إشارات غريبة، غائمة، تعال، تأمل فيهما: (يومئ إلى الكسيح)
هذا نصيبه قدمان عصفت بهما رعدة الجزع ... من الذي لا ينهد وقد حرر الوقت الذي يحتويه من قيد الفلك المقدور؟ حتى إن كان الوقت أقصر من ومضة وهم، (مهلة يومئ إلى الأعمى)
أما هذا فأصبح نظره لا يدور إلا في انحلاله الباطن.
هادي (معقبا) :
آه من الشمس! تقتل من حيث تريد أن تحيي. ألهبت المغارة حتى إنها أطفأت العين.
فدا (متمما) :
رضيت العين بالصهد، بذكرى مبتورة، فاتتها الحقيقة التامة، فتفرق ضوءها لطول ما تردد بين ما كان وما يكون.
الإمام (لفدا) :
ألا ترى إلى كل منهما، نقب في جهة تفوت مرمى الظن، وخاب، لا يعلم أحد: آلموت يستهزئ بهما أم يستهزئان به؟ (الكسيح يضحك، الأعمى يبكي)
كلاهما يتمم صاحبه منذ رجعا: هذا يضحك، هذا يبكي، وكلاهما أليف الصمت، فإذا افترقا عجز كل على حدته أن يستمرئ النقيضين في مأدبة الدنيا.
القوال :
خبطتهما الهواجس، فتطوحا جنبا إلى جنب في سراب الغبطة. (يلتفت إلى فدا)
هل أفلحا؟ (للفلاحين)
ونحن، نحن نتهافت بين أزهار الفناء، هل أفلحنا؟
فدا (يقبل على الكسيح والأعمى) :
هما ركضا إلى القدسي. أنا، على مهل، أفرش في الطريق إليه نفثات الرقية. إن الكأس التي زخرت بجمر الإيمان نبت عنهما، أبت نهشة الشهوة لما أقبل كلاهما يكبس الشفتين على ثغرها؛ رجاء أن يضرم الضلوع، تحت ستر الليل بدفقة واحدة ... جف العشب الأبيض في تلك اللحظة. (مهلة)
أما أنا فسوف أهزهز الكأس على خطرات ولهي، ثم أترشف نسيم أنسها وقد سطع فيه شذا الومض؛ فندى العشب بالرضا. (صمت. يمشي إلى اللفيف)
كذلك شأن المرأة. ما رغبتكم إليها؟ (زينة تخف إليه)
أن تحسن الترفيه عنكم ... أنا، في فورة حنان، ألويها تحت همتي أستودعها غليل الشوق، فيصبح طوع يدي يوم أطلبه للسبب الخطير، ألويها فأسل منها رعشة الوجد، وأرسل مكانها حر عزمي يستسلم لها بريئا. (زينة تتأمل فدا مأخوذة.)
المرأة الثانية (لفدا) :
يا مجرم!
فدا :
إي والله، لا أجد مروءتي إلا حين أجد همتي قادرة على حياة غيري. (اللفيف يزمجرون)
تفهموا ما أقول، إنما تنشط حياتي عندما أقدر حياة غيري حق قدرها، من أي وجه أقدرها إذا هي امتنعت علي؟ (الأعمى يقبل ويدور حول فدا حاملا الكسيح. زينة بين إعجاب وفزع) ... لا بد لي من حياة غيري (مضطربا) ؛ لأن حياتي لا تخضع لي؛ عمياء هي تخط رحلتي في مدار الأرض، فتدفعني واثقة بأني أراضيها. نعم، أراضيها، كيف أجرؤ عليها فأنتقم: (في بطء)
من لطخ يديه بدم داس حماه، خان سلاحه، بكف باغية يضرب القرحة التي تمزق جنبه، تقززا من نفسه، كراهة للبشرية ... لا يقتل نفسه إلا من تفقد حياته فانفلت من ضغطها، ولست كذلك، حياتي بين يدي، ولكنهما لا تسعانها.
الرجل الأول :
ما أحلى الحياة! سيل دافئ.
المرأة الثانية (بالتذاذ) :
دافي.
الرجل الثاني (للمرأة الثانية) :
تعترفين الآن (يتيه غرورا وهو يمر أنامله على ذراعها) .
فدا (كأنه لم يسمعهم) :
الحياة فياضة، وا لهفي! كيف أحصرها كلها في أحشائي. (مهلة)
هل أسمر شطيها في لوح الأحكام والسنن؟ هذا هو الجبن! هل ألقي بها إلى حرج النفس أو إلى رزانة العقل يتصرفان بعنفوانها؟ يا للخيانة! الحرج يهرب من العقبة، الرزانة تأباها ... لتتحرر شهامة الرجل. (اختلاج شامل. هادي والقوال في تفكر. زينة تتنحى حصرة الصدر)
إني صاعد لأستخلص عمري من براثن العدم، فتنجو ساعات ليلي ونهاري. قبحت هذه الساعات! لحظات يتنازعها تميع الأفراح وتفه الأحزان. سوف أرجع من القمة وأنا أتحكم في شحنة الحياة، أصرفها إلى غاية، ومن قبل راحت ضياعا: النفس؟ أحد مداه، الجسد ... أقمع طغيانه، أما ضنائن الصدر فهذه أنشلها هفافة من مخدعها، أما الروح - تلك التي حرتم فيها - فلن تتلوى أبدا، تكون قد ملصت من ضنك الشك ... إني صاعد. (زينة ترتعش. الإمام ينظر إليها مغلوبا على أمره.)
زينة :
والمهالك؟ كيف تتخطاها؟
القوال (معقبا) :
وقد ابتكرها الموت - عدونا - نصبها فخا فخا.
فدا :
الهاوية، الصدع، المطلع المطمع، المسقط الخادع، كل هذه يسويها نظر تصوبه النية الخالصة ... مساء بعد مساء، سألقي إليكم، عند شجر البرتقال، بحجر أبيض ينبئكم بسلامتي، ويوم أتحدر إليكم - ناسكا طاف بزوايا الغيب - سوف تطيحون عند قدمي، وكأني الآن تطن في مسمعي صرخاتكم، تلتفون علي وتسألونني أن أفتك بهذا الكسيح وبهذا الأعمى؛ لأنهما فتشا وقلبهما خلو من اليقظة. (الكسيح والأعمى لهما حركات مختلجة بين ضحك وبكاء خفيفين، يخرجان.)
فدا :
إني صاعد. (الإمام يمضي إلى زاوية مهزوما. الرجال يلحقون به. هادي ينتبذ ناحية طلبا للتأمل. الفلاحون يخرجون. القوال يتبعهم.)
زينة (تسرع إلى فدا، في صوت مجروح) :
لا! (فدا يتصفح وجه زينة منعطفا إليها، ثم يهم بالانصراف.)
زينة (توقف فدا بحركة مرتعدة، حديثها ينم على اضطراب، تمد يديها) :
ها بين يديك الهبة، كاملة صادقة. (للنساء وقد أخذن يلتففن عليها إشفاقا)
هل ينفع المكر بعد أن محا قحط القلب فنون الجذب؟ محا حتى أهون الأكاذيب. (لفدا)
ما بيدي حيلة. عبثا تتقد الخلجات (في خفوت)
تتحرى مطالع برجك.
فدا (ينفي بأصابعه) :
يا ضيعة الهبة إذا تخلت نفس عن جوهرها في سبيل نفس أخرى. (مهلة)
ما المطالبة بالتخلي سوى استجداء، من ورائه ظلم وأثرة؛ ظلم رب، ظلم عاشق، أثرة الضعيف.
زينة :
لا أملك غير الهبة دليلا. (النساء يتضاممن حول زينة.)
فدا :
لا يحتاج إلى دليل إلا من حمل رأيا يثقله التصلب، أنا أحمل قلبي، فما شأني والدليل؟ (الإمام من بعيد يهز كتفيه تهكما.)
زينة :
ما أستطيع إلا أن أهب.
فدا :
صدقت.
المرأة الثانية (لزينة) :
غلبته يا زينة.
زينة (مسرورة لفدا) :
إذن ترى رأيي.
فدا :
هبي نفسك لنفسك، هي لك أولا. (النساء يتناظرن مبهوتات)
لا تعظم الهبة ولا تنجع إلا إذا وافقت معدن الذي يتقبلها ... هذا ضارب القيثار يفد علينا وقد تنسم الأحاديث من أفق إلى أفق فيقول: هنالك إله لم يرض إلا بلحم ابنه ودمه قربانا. (مهلة)
الفورة التي في جنبك عجلي كسرها، ثم قدمي فتاتها ضحية إلى الوثبة التي تشغلك ... الشمس تحترق لتنثر الشعاع.
زينة (مخلصة) :
ما علي إذا جمعت بين الفورة والوثبة؟
فدا :
ألا تميزين حدة البصر من صفوه؟
الإمام (يقهقه) :
هل سمعتم؟ (ساخرا)
يا ناس، قوموا ميزوا حدة البصر من صفوه.
الرجل الثاني :
تخريف! (للمرأة الثانية)
تعالي (تقبل إليه تمد وجهها، يقبل ما بين عينيها)
لا أجد ما أميز.
أصوات رجال :
انزل!
الرجل الثاني (يضرب بخفة على ساقي المرأة) :
والساق واحدة.
أصوات رجال :
والبصر واحد.
زينة (تستشير بالنظر صواحبها وهن مفحمات. تفكر هنيهة كالمغتنمة) :
سأجتهد في كسر الفورة.
فدا :
تجتهدين؟ الحرص آلة الاجتهاد، والحرص لا ينفع هنا ... هيهات أن ينكشف ما بين حدة البصر وصفوه إلا للجسارة التي تترفق. ينكشف سرا، عفوا، فيندفع سهما رشيقا من معاقل المعرفة إلى ناحية يتفرغ فيها الواقع من الأثقال ويتنزه السعي عن التكلف، هنالك بمعزل عن الخطوط الواضحة المستقيمة، كالتي تحبس هذا السهل في جهات أربع: قصرا طوقوه بالمرمر الزائف.
الإمام :
ها، ها! كلنا قد فهمنا.
أصوات رجال :
كلنا. كلنا.
الرجل الأول (ساخرا) :
هذا والله حكيم.
زينة (مشغولة بوجدها. لفدا) :
ألا ترى إلى شوقي كيف يجيش؟
فدا :
للشوق رسالة: أن يحز ولا يكف ... إذا استرسل المراد صدئ القلب. (الرجال من بعيد يرفعون أكتافهم تهكما. هادي يخرج من خلوته ويقترب.)
المرأة الأولى (مستهزئة) :
عظيم!
زينة (للمرأة الأولى) :
ما شأنك؟ حديثه لي.
المرأة الأولى :
طيب. طيب. ماذا قلت؟
المرأة الثانية (للأولى) :
خليها في حالها. عشقت مجنونا.
المرأة الثالثة (للثانية) :
عشق المجنون ... يا عيني. يا عين. من يدري كيف تطيش الهزات بجنبه؟
المرأة الأولى (للثالثة) :
أما كفاك أزواجك؟ ستة يا أختي، واحد ورا واحد، وكلهم فتوة.
المرأة الثالثة :
مروا كالماء على بلاطة. بس يا حبيبي، الزوج عرفناه.
المرأة الثانية :
وراء هذه التلة عاشرت رجالا من نار.
المرأة الثالثة :
هؤلاء شعراء، لا رجال. (زينة تظل مرتبكة في أثناء الحوار السابق. ترفع إلى فدا عينا يجول فيها عتاب. فدا يرثي لها صادقا في صمت.)
زينة (في ضنى) :
آه! (تمشي إلى هادي كأنها تستنجد به) . (هادي له حركة انعطاف.)
فدا :
عجيب. أن تهبي نفسك لي أهون عليك من أن تهبيها لنفسك.
زينة :
لا أجدني إلا ساعة أهيم في طلبك، أتعقب طفراتك وهدآتك.
فدا :
ظل يلزمني، ما نفعه؟ (زينة تحار منهدة.)
فدا (في رفق) :
هل أجر ميتة؟
زينة :
جرها. إن الهوس الدائر في سمائك لكفيل بأن يبعثها.
فدا :
الحياة لا تأتي من الخارج.
زينة :
الورد يحييه الماء.
فدا :
يفتحه، لا أكثر.
المرأة الأولى (لفدا) :
ترهقها. ألفاظك خناجر.
زينة (لنفسها) :
ودرعي الفريدة، بل ثروتي الفريدة هي هذه السلسلة من الحسرات. (فدا لا يحفل بكلامها. هادي ينظر إلى زينة في مواساة.)
زينة (تجعل يدا محتشمة على صدرها) :
ها هو ذا يبكي. (في خفوت)
يصيح.
فدا :
القلب لا يبكي، لا يصيح ... يذعن أو يحرن ... يضيق بالصخب وبه يذل. لا تجد الصرخة مسربا إلى سمعي، وأنت يحسن بك - في يوم آت - أن تطوي حديث الوجدان فينبض في الضمير رفة من رفات حياتك، دعيه هنالك نازحا سارحا تحت خمائل الحنان. (في خفوت)
الجهر به تدنيس له.
المرأة الثانية (لفدا) :
قل ما تشاء، هي لا تملك غير هذه الخفقات.
زينة (تعيد يدها إلى صدرها. لفدا) :
استمع إليها (صمت. في تضرع)
استمع.
فدا :
مهما أستمع ... (له حركة نافية بلا غلظة)
يثقلها التكلف، كيف لها أن تراسل أنغام خاطري.
زينة :
هل في لوعتي تكلف؟
فدا (في شدة) :
أراك تبحثين عن دليل.
زينة :
أطلبه من أجلك، آه! أقنعك أني لك، بالرغم مني ... بالرغم منك.
فدا :
بالرغم من الحب.
المرأة الأولى :
ما شاء الله! يلفظ كلمة الحب.
المرأة الثانية :
يا أسفي، شاعر! ولم يخطر ببالي. (النساء يأخذن في الضحك. الرجال يخرجون. الإمام يبقى منفردا.)
زينة (لفدا) :
إذن لا تحبني.
فدا :
هبي نفسك لنفسك. (زينة تنظر إليه في حرج.)
فدا :
ألا فانثري أنفاسك لآلئ وانظميها سياجا لبستانك.
زينة :
فيبذل كل ما فيه.
فدا :
بل كل ما فيه - حتى العوسج - يعطر صباحات رجائك.
زينة (في صوت خفيت) :
وأكون قد فقدتك.
فدا (لا يسمع قولها) :
تممي نفسك يعظم كلانا بصاحبه ... لا يزخر المحيط من رشح جدولين.
زينة :
لكل غاية مبتدأ. الماء يقطر فيسيح فيتراكب، حتى إذا دب طمس ذكرى القطران ...
فدا :
المبتدأ هو الأصل. على قدر التحفز يكون مدى القفز ... هبي نفسك لنفسك، أنت بها الآن أولى.
زينة (في تضرع) :
ألا تدع الجدولين يقترنان؟
فدا :
الغنم في الامتزاج. (فدا ينثني عن زينة فيخلو إلى هواجسه. زينة تمضي إلى هادي وتستند إلى ذراعه. تدنو منها إحدى النساء. صمت. هنا تدخل من آخرة المهاد. لا يبصر بها سوى الإمام فيسرع إليها ويهمس في أذنها. هنا تجلس ناحية فتصغي إلى بقية الحوار بين فدا وزينة في اضطراب مكبوت. الإمام يخرج وهو يرشق فدا بنظرات حنق.)
زينة (بعد استرداد قواها تقبل على الهجوم) :
مخبول أنت، ألا تفيق؟ قم! تلقط الثمر المطروح في دربك.
فدا :
فأرسقه من الأرض.
زينة :
أنت جبان. (النساء يدهشن من جسارتها الفاجئة. هادي له حركة مختلجة.)
فدا (يسكن هادي بحركة. لزينة) :
قد أكون جبانا، على أني غني أي غنى؛ لأني أعف عن غنيمة مبذولة مصيرها التلف.
زينة :
بأي شيء؟ قل لي بأي شيء أنت غني.
فدا (على مهل) :
بما شتت سدود قلبي ولم يشتت بعد سدود قلبك.
زينة :
تغيظي.
فدا :
ونفسي راضية، ما علي؟
زينة :
هذا كل همك: نفسك ... ضميرك.
فدا :
ميزان الحق لم يعتدل إلا بعد خوض في هول المحن: أسأت ثم كفرت.
زينة (كالساخرة) :
أنت خبرت المحن؟ أنت؟ لا تحسن سوى إنكار الحسرات، أما توبتك فأنا أعلم بها: ذهن بارد يراجع نيات معقدة. (هادي يحرك رأسه استنكارا.)
فدا :
هل وافيت الواحة الضاحكة إلا بعد أن سبرت من الآبار أبخلها وأبشعها؟
زينة :
أبخلها ... أبشعها، (تشير إلى صدرها بضم اليدين عليه)
وتزدري طعم الشهد؟ (فدا لا يجيب وقد فطن أن موقفه يفوت إدراك زينة.)
زينة (في جفاء) :
أنت لا تحبني.
فدا :
أحب فيك ما أحبه لك. (للنساء ضحكات مضغوطة لا يحفل بها فدا)
أين القربان حتى يطيب جو أملك برائحة الثقة؟ فيعينني على صون إرادتي من كل خبث.
زينة :
ويلي منك! الظلم جالس في صدرك أنت. لا يبلغ رب ولا عاشق قسوتك. أراك ترفق يدا، جبلتها من ثلج، فتمسح بها قلبا أنت خلعته وصلبته. (فدا يتعجب صامتا.)
زينة (مغضبة) :
ستكون أنت القربان، أنت! اسمك الذي طالما ناغيته فدللته بين جوانحي سأطرحه في حفرة الغل (تشير إلى الغيابات من حيث خرج الإمام والرجال)
فتمزقه ألسنة تنمرت في أفواه سود (مهلة)
آه، ما أغلظ الحنق عليك هنا!
هادي :
لأنه اخترق الغمة.
المرأة الثانية (تتأمل هادي. لصواحبها) :
ما أجمل تلميذه !
فدا (لزينة) :
اسمي يمزق ... لم لا؟ للفورة أيضا حق في طلب القربان.
زينة (كأنها لم تسمع، تزداد غضبا) :
تردني؟ تردني! أنا؟ أنا أزحم النور طول النهار، وفي الليل أوقد الحسد في أحشاء الليل ساعة يلفح وهج طيفي هواجس أنامها الاستحياء.
النساء (غيارى) :
هو، هو! (فيما بينهن)
ونحن ...؟
فدا :
هواجسي تتألق تحت أشعة أهملت دوركم.
المرأة الثانية (ساخرة. لفدا) :
حق، لا مثيل لك في هذا الوادي.
زينة (لفدا) :
تردني؟ ما قولك لو تركت أحد خصومك ينزعني من قبضتك؟ لن يكون جبانا، سيأخذني على حالي ... بل دون ما أنا عليه، أنت تنكر سدود القلب، أما هو فتأسره. (مهلة)
يريدني؛ لأنه يحبني.
المرأة الأولى :
يا بختها! (فدا يتفرس في زينة خائب الأمل.)
زينة (مكابرة) :
نعم. يحبني لأنه يريدني.
المرأة الثالثة (للثانية في وجد مفتعل) :
سمعت يا أختي؟ (المرأة الثانية تدنو إلى هادي في شغف، ولكن هادي مشغول عنها بما يدور من نضال بين زينة وفدا.)
زينة :
يريدني. (النساء الثلاث يأخذ بعضهن بأيدي بعض في تدلل، على ذكر هذه الكلمة)
هذا هو الدليل المكين، يخاطب حسي بنطق بين. (مهلة)
أما الذي يرقص مع السوانح فيرنم في الغيوم، فلا وجود له حين تتأوه النفس.
فدا (بعد صمت) :
خبلتكم حناجر تطبل وتصفر، أصبحتم لا تأنسون إلى التغريد. (هادي له حركة تواجد تحير المرأة الثانية.)
زينة (بعد انطواء) :
ولكننا، على الأقل، أصحاب طرب، أما أنت فتحتقره.
فدا :
طربكم؟ هذه الغشية، هذا الانكباب على الأرض؟
زينة (يلهبها حب ممزوج بغل) :
أجل، هذا الرجل، خصمك، أراه، أراه قد أكب على وجهه. أفلا يستهويك أن أنساه عند قدمي، يرتطم في ذله؟ ألا يحلو لك أن تكون الغالب؟
المرأة الثالثة (للأولى) :
خبيثة والله.
فدا :
لا بد للغلبة من مغالبة ... هل تصديت لخصم؟
زينة :
أنت جبان.
هادي :
على مهلك يا زينة.
فدا :
جبان ... ولكني قوي.
زينة (ساخرة) :
إيه؟
فدا :
ألا يكفيك برهانا ما عانيته الآن في نضالي؟
زينة :
من تكون؟ (في التهاب)
من تكون أنت؟
فدا :
أنا الذي تحسينه في تلك الحنية الغامضة. هنالك، حيث الحواجز بين الحب والبغض تنهزم. أنا الذي تحسين، لا أكثر، لا أقل.
زينة (في جفاء) :
إنما أنت وهم قائم.
فدا (في هدوء) :
مثل كل حقيقة. (فدا ينحرف عن زينة ويمضي إلى العالية فيجلس على المرقى الأول، ويخلو إلى نفسه. جميع الأشخاص يخرجون ما عدا هنا. القيثاري يدخل ويتربع على الأرض في زاوية. فدا يدنو إليه. موسيقى بلا قيثار: مصدر خشوع. هنا تسير إلى فدا في رقة سحابة. تمد ذراعيها إليه، وعلى وجهها مخايل من حب ملفوف برهبة. الموسيقى تنقطع. فدا يخرج من خلوته فيلمح هنا. يضطرب على الفور ثم يتماسك. ينهض. هنا تخطو بضع خطى لتحول بين فدا والعالية.)
فدا :
يا حبيبتي! (هنا تتطلع إليه حيرى البصر والسمع.)
فدا (في صوت خافض) :
نعم. يا حبيبتي ... آن أن تسمعي هذا النداء. فلطالما أمسكت عنك لغط الضلوع، مخافة أن يعطل لطافة حدسك. (صمت في عمق)
الحدس ... أتدرين ما هو؟ سياحة السمع في محراب المحجوب، حومان الوهم على لهب العرفان. (هنا يأخذها الحديث على قلق.)
فدا :
الحدس الممتع! (في خفوت)
ها هنا، عن يمينك روضة ينمنمها البنفسج، تباكرينها وحدك، والوجه حر يستندي بهجة الفجر، فيرفع له الكون فاتحة إنجيله. يتواضع لها الجفن فيصونها قبل أن يدبدب النهار فيفض الرشائق، وفجأة تغزو عزلتك فتجرحها كوكبة من الصبايا؛ صواحبك ... تصيح صبية: ما أبهر الروضة! ... يا للصيحة الآثمة، صيحة طاعنة، مزعت ستر النجوى: ينفرج الجفن، ينزعج السحر، يفر، فتسترد الأشياء حجومها وأشكالها، تضرب بها الحواس فتفيق، أفاقت بعد أن ذاقت رحيق الفتوح ... يا ضيعة الفراسة! أصبحت العين لا تأخذ إلا الذي تراه، وا رحمتاه لطرف الخفاء! (مهلة)
أعرفت الآن ما الحدس؛ يا حبيبتي؟ أمسكت عنك من قبل لغط الضلوع حتى يطيب لشعورك أن يتوجسها فيتمثلها فيسهر لها. (على مهل)
الحب كالجمال؛ هو البريق الموار في الياقوت الرقيق ... الحب، الجمال، ماء الجواهر لا يفعل فعله إلا إذا رعش من وراء حجاب، نسجوه من أهداب حور، يا حبيبتي ... يا غرة الرشائق. (هنا تدنو من فدا وقد أطربها حديثه، تنصب وجهها له مستزيدة.)
فدا :
ما أحراني الآن بأن أناديك: يا حبيبتي، هذا موعد الفراق. لحظة ينزع حس من حس تتهالك الألفاظ عند حنجرة تنشرم، فلا يحق إلا للفظ قدسي أن يغلب حاجزا من دماء ... إني قاصد إلى حيث تسبح تراتيل لا تنفصل أبياتها ولا تتهمل. في تلك المناسك أغوص على نغم نجا من التشتت، تمد رجعه في أنفاسنا هنا كلمة الحب. (مهلة)
اليوم لي أن أقول الكلمة - يا حبيبتي - لأني قريب الانعقاد بالقوة الراسخة ... آه كم يضحكني الناس - حتى النساء - متى رددوا في نبرة جازمة عبارات تقتبس من حمو العواطف. ربما صفت نياتهم حين يذكرون الحب، لكنهم يحفونه بأصوات يقتطعونها من طنطنة الصبوات، فسرعان ما تحرف إشارات الضمير ... شفة ترقص الحديث، والزمان الماكر يرهقها بمهماز هلع، تتهاوى الحروف ثمارا فجة ... نحن بشر، حركاتنا هي المزلق إلى سرداب الموت، أما الحب فحابس الدهر الدائر في دوامة وجد. (هنا لها نظرة هائمة، تتساقط على أول مراقي الجبل.)
فدا :
أتخشين أن تشغلني الأبدية عنك؟ هوني عليك. لا أهواها، لا أطأطئ لها، إنما أريد أن أروضها. (هنا ينسحب على وجهها الوجوم.)
فدا :
لا، لا حبيبتي، على جبينك ألمح دبة الجزع، بالله لا تغاري من الأبد. سر مطلعه لن يزحم شمس طلعتك حولي، إنما أنت التي ترشدينه إلى بابي حين تقذفين في همي شعاعا غضا جذبته من براءتك، فيوقد في رجولتي غضبا للحق. (هنا غير مقتنعة، لها حركات تنم على البلبلة في أسى.)
فدا :
أنت والأبد تلتقيان: كلاكما يكشف مباسم النعيم. اطمئني، هذا كل الشبه، إنما هو الصراط إلى صرحك، وهنالك أجلس إليك - ندا طلب الند - أطارحك رهائف شدوك: أنت امرأة تستودع حبيبها هزة عالمها المغلق، فتسقي فؤاده لألاء البلور، أما هو، الحبيب، فرجل أنزل الممتنع إلى السهل لما عقد بين البقاء والفناء: شرد الحدود فأصبح يسع الأشياء كلها ولا يسعه سوى فردوس فرحتك ... يا حبيبتي (مهلة)
علي أن أمضي. (هنا لا توافق، لها نظرة تفجع.)
فدا :
علي أن أمضي ... أن أسرع فأتلقن كيف أجعل بعضي يذكي بعضي، إذن يسطع وجودي من ذات نفسه، فأرد إليك الشعاع. صوني حره في حرير جفونك يعينك يوم تستوضحين شررا يطلقه جبيني، يهديني إلى مقدس حنينك ... علي أن أمضي، أن أصعد. (هنا تمد ذراعين تنطقان باليأس. يأخذ الرجل في مراقي الجبل. يخرج القيثاري من مكمنه، فدا يلمحه.)
فدا (للقيثاري) :
أيها القيثار
رفرفت نشيدا هام
ضجر من أوكار
علقوا بها قصيدا دار في كعبة الوطن
أيها القيثار
قلق عجول
ينشد الثمار طابت
تحت شمس ما راودها حسبان
أيها المتمرد في واد هان حزمته مخاوف الصغار
أيها القيثار
يا أخي في الظما
أين أهازيج أنهار صدقت عندها الأساطير
تغري هوج الأوتار فتهتف حرة مرحة
هات شيع جهادي في مهاوي قفار
طوح أطرافها نصيبي الخطير. (فدا يصعد في عزم. ظلمة. تقاسيم على القيثار.) (الستار يسقط)
المرحلة الثالثة
(من الآن فصاعدا يبرز في صدر المهاد كوخ يحجب داخله ستار جانبي. هنا على الأرض بقرب الكوخ. القيثاري في الغيابة اليسرى، يبدو من القيثار طرف العنق مع بعض الملاوي. في هذه المرحلة لا يحدق أحد إلى العالية، فيكون النظر إليها مخالسة مع أكف مبسوطة فوق الحواجب.)
هنا (تلتفت إلى الغيابة اليسرى) :
أيها القيثار
يا حمى صبابتي
سأحكي لك سفرة ليلة
حلما سرح، ترنح
أرسل من حوله ألحانك تحبس تيهانه
أدرك ضلوعي زحمتها وساوس الرعب. (زينة تدخل من آخرة المهاد في خطا مترفة، تستمع إلى هنا في حسرة وبلا ضغينة.)
هنا (تحكي والقيثار يراسل حديثها بائتلافات مضغوطة ومتقطعة) :
رأيت صخورا توشحت بالياسمين. أخذت ترقص دوارة. بين لفتين لمحت إليه يصعد، شبح شجرة يبس عودها وقسا. ظل الشبح يسرع من مرقى إلى مرقى، تدفعه يدان على مثال يدي، إلا أنهما من صوان. كان الليل أسود، ولكن في غيابة جفني فز برق، ما كنت أجرؤ على ندائه. هل أقفه فأعوقه؟ في تلك اللحظة أدركت أنه لا بد له أن يمضي. (مهلة)
فجأة تلفت زفيره وجعل يناجي عفة حسي ... (ها هنا يعلو صوت فدا بهذه الكلمات في بطء) «البعد يدني الأشياء، يدنيها في الخاطر ... بين وجه الدنيا وقلبها موجودات تهاجرت وتفاوتت، ثم نهض بعضها يسعى إلى بعض يستشف، فالتقت وتواشجت وراء الأقاليم المطروقة، عند قفر تصول فيه رياح القلق. هنالك يأبى الكدح أن ينقضي فيطمئن؛ لأن الممكنات لا تنفك تبرز للعزم مستطرفة فتستهويه. (مهلة)
لا راحة هنالك! إنما الراحة نصيب مشاعر حرصت على الظفر بما تشتهي، وقد رفضت رعدة النشوة ... نشوة تضني، وتغني، متى غلبت العصب شدت الفؤاد، فيهب الظن ويمرح وقد شرع يؤلف بين طائفة من القوى، كان الكون بعثر عقدها ليمد بساطه، فذهبت مذاهب حتى بدت كأنها في شقاق منذ الأزل. (مهلة)
في هذه الليلة كل ما يضطرب بين الأرض والسماء ينقاد لمعجزة النشوة. هأنذا أخف إلى بروج الظنون؛ لعلي أعثر في مسابح الأثير على النفس الزاخر، ينتظرني؛ فلطالما لمعت آية مصيري تحت ركام السنين. (صمت)
أصبحت بعيدا عنك، فانقطع الحبل الظاهر ... أنا أبدا معك، وأنت معي ... لا شقاق بيننا: نبض إلى نبض يهتدي عند ميثاق الأنس، تحت جناح الديمومة. نحن كالنقرتين على صدر دف، كلتاهما الآن في سبيلها، سوف تشتبكان يوم يدوي طبل النصر وقد نشز على الأوزان الدارجة. حينئذ يلتصق القلب بالقلب، يقتسمان عبء الغبطة». (ينقطع صوت فدا) . (تعود هنا إلى حديثها)
عند هذا الحد ذاب الصوت في العلا. حدقت فقرأت في وجه الحبيب حظه الأرفع: حروفا وشت الخدين بلهب فطهرت، أما أنا فبقيت حيث كنت، أتأمله عسى أن أحزر ما تكون إتاوة النصر ... عجزت عن الحركة: حجزتني الأرض رهينة لقاء فكره الجسور. فجأة وقف الدهر معي ليحكم قرع الضلوع بمطرقة الوعيد. (مهلة)
خفي عن بصري. عدت إلى نفسي. أخذت أنحدر، وإذا أناملي تسحر ألفافا من الشوك، فتخلص لها براعم أريجها مقنع: نسمة من خفر الحب. سرعان ما افترت الورقات عن مكنونها. جعلت أنثرها في حجر شجرة يبس عودها وقسا، هبطت من مروج السحب. ويلي! هذه الورقات يفتحها البشر، هل تستطيع أن تنضر العود وتمسحه برقتها. (زينة مزعزعة. القيثاري يعلق على حلم هنا بلحن منطلق. هادي والقوال ثم الفلاحون يدخلون من آخرة المسرح في أثناء ذلك، على وجوههم جميعا لوائح ألم بليغ. ينقضي اللحن فتنهض زينة مقلقة وتسرع إلى هادي والقوال. هنا لا تفطن لما يجري حولها وتأخذ في الإنشاد فيجمد الجمع.)
هنا (تنشد) :
غمز قيثار مغترب
سلسل الوجد بالطرب
حبس الأمس في وتر
جن من جس مدكر
سلسل الوجد بالطرب
نفض نوبات منجذب
شغل العجز بالسفر
علق القلب بالخطر
حبس الأمس في وتر
وارد جامح الشرر
من أساطير كالحبب
رقصت في دجى الحقب
هادي (في خفوت) :
نشيدها لمن؟ ... (القوال يقطع على هادي الكلام بإشارة.)
هنا (تتم النشيد) :
جن من جس مدكر
وتر سل من حسر
مد حر الهوى اللجب
في سما وهم ملتهب
غمز قيثار مغترب (القوال يدنو من زينة ويهمس في أذنها ...)
زينة (بعد انطواء) :
آه. (هنا تلتفت دهشة. صمت طويل كله توجع. الجمع، في مقدمتهم زينة، يخفون إلى هنا. يتناظرون مرتبكين يريدون أن يقولوا لها قولا، ولكن أحدا لا يقدم. زينة تعتمد ذراع القوال. هادي له نظر تائه.)
هنا (تتفرس فيهم، في صوت ساذج) :
اليوم لم يسقط الحجر.
زينة (تسرع إلى هنا، تعانقها ولها ابتسامة تحسر) :
آه، ذلك العود الذي يبس وقسا! أقبلت عليه تنعشينه فأخفقت. (هنا تلقي برأسها على كتف زينة.)
زينة :
أنا وأنت؛ غصة إلى غصة، ما وجدنا السبيل إليه. (القيثاري يرسل بعض ائتلافات رخوة)
أيتنا بذلت أعظم الجهد في صرفه عن مراده؟ هل أدري؟ هل تدرين؟ نحن النساء لا نقيس البيداء إذا قطعها قلبنا على هلع. (هنا تأوي إلى كوخها ساهمة)
أنا وأنت تألفنا تحت حكمه. (مهلة)
ما أضعف المرأة بين يدي رجل إذا أحب تعدى شأن نفسه فطلب العشق لوجه العشق. (اللفيف يدخلون في تهجم.)
أصوات (في اللفيف) :
مات ... (اللفيف يجمجمون، في حين زينة تدخل إلى الكوخ وتخرج منه بعد قليل.)
زينة (في رقة) :
هس. (الليف يكفون عن الجمجمة. زينة تشير إلى الكوخ)
خلت إلى روحها تنشدها آخر نشائدها. (موسيقى غائمة. صمت. بدء الظلمة . زينة تقترب من الكوخ فتقف مفجوعة. هادي يسرع إليها.)
زينة :
ماتت. (في خفوت)
جاء دورها. (ذهول شامل. زينة واثنان من الفلاحين يخطون بضع خطوات: رقص الندب، بلا موسيقى، ثم يشرعون في صلاة مخافتة. هادي وسائر الفلاحين يحذون حذوهم. القوال يستند إلى الكوخ مطرقا. اللفيف يسترسلون للنوم حيث هم. القيثاري يدخل ويتوجه إلى الكوخ، يخفض عنق القيثار حزنا، يتصفح المشهد ثم يمضي. الظلمة تنتشر.) (الستار يسقط)
المرحلة الرابعة
الفجر طالع، القوال يبدو كأنه يتوجس جرسا من جهة مراقي العلياء. تبدر منه صرخة. فدا ينحدر وخطاه متئدة، أما وجهه فعليه مسحة الغيب. الجمع يتنبهون. اللفيف كالمسحورين يحيطون بفدا. هادي يعانقه. زينة والفلاحون في ذهول، في أثناء هذه المرحلة لا يحدق إلى العلياء غير فدا.
أصوات (في اللفيف) :
أنت؟ حي!
فدا :
لم لا أكون حيا؟
صوت :
لماذا عدلت عن إلقاء الحجر؟
فدا :
إلى من ألقي؟ إليكم؟
صوت :
على ذلك اتفقنا.
فدا (ضجرا) :
آه. (الكسيح والأعمى يدخلان وعليهما أمارات الاضطراب.)
الرجل الأول :
لما قلنا: مات فدا. حلم الكسيح أنه رقاص والكفيف أنه رسام. (يقهقه) .
هادي :
الشماتة فنانة.
صوت (لفدا) :
هل أكلت من العشب؟ لقفت السر؟ (فدا لا يجيب. اللفيف يتساءلون. صمت. الإمام يدخل كالمقتحم.)
الإمام (راضي النفس) :
طمعت في مغامرة توعرت عليك، فقصرت، أما كنت أنبأتك؟ حجرا حقيرا ما قدرت أن تلقي. (فدا يرشقه بنظرة يلهبها غضب متجهم.)
الإمام :
لبست الغطرسة فاحتجبنا عن بصرك.
هادي (يسرع إلى فدا، في صوته رنة عتاب) :
أحقا نسيتنا.
فدا (لهادي في إشفاق) :
نسيتكم. (يشير إلى اللفيف تقدمهم الإمام)
لكنهم سرعان ما يخلطون الكبرياء بالارتواء. (مهلة)
حدتني نبرات القيثار. رمتني في تيه من الطرق الخوانق، نثر الجن فيها فنون الخدع. ما زلت قدمي مرة. أدغلت في أحضان الليل، في النهار، خانني بصري تزيغه حجارة نحتها السيل فبرقت برق أبكار الجواهر. على غفلة وجدتني أسير أجمة. من هنا ومن هنا شجر ينصب سهاما رءوسها عناقيد وهاجة: ستائر تحمي ملكوت الأمان ... عند هذا الشوط في العلا تخلخلت النبرات حتى انقطعت؛ لأن تحنانها علقت به رواسب من شواغل الأرض. (مهلة)
ضللت الطريق. ركعت أتضرع، وسجادتي أضراس الحجارة، فإذا نشيد من وراء السهام تتناثر مداته ولا تبين الحروف. تسلل من بين العناقيد وفي رعشاته رجعات صدر تخلع: هفة رفق. فتت الحجارة، نهضت وقد لفحتني تباشير الوعد. عطف النشيد إلى جبيني. عقد عليه مقاطعه يسلسلها شهابا بعد شهاب من هالة الخلد: انشقت أمامي مجاهل الأجمة ... ما أبهج الفرجة! أخذت فيها أترقى وأدور على شرفات سحاب. هنالك نسيتكم. طاحت الدنيا في قاع من التوافه، (مهلة. في اضطراب)
ثم انحل النشيد دفعة، أحسست بالحقد يتصاعد من سهلكم، يتراكم على كفي، فانسدت الفرجة. (صمت)
أين النشيد؟ قمت أطارد أصداءه، تعثرت ألف مرة، وهأنذا لا أزال حيا بفضل هبات، لها في جنبي رفيف رهيف. (صمت طويل)
من كان ينشد؟ (صمت طويل)
من كان ينشد؟ (الجمع يتناظرون في ارتباك، ثم يتفرقون، يبقى فدا وهادي وزينة، أما الأعمى والكسيح فيجلسان على انفراد يتحادثان بإشارات متهدجة، الفلاحون ينثنون إلى حقل السنابل، القوال منهد، ي برق عينيه نحو الكوخ.)
فدا :
من هذا الروض طار النشيد، ها هنا تلتطم أصداؤه، وفي صدري تلتئم.
زينة (بعد لحظة تردد) :
من هذا الروض.
فدا :
من كان يغني؟ (زينة تمضي إلى فدا، تأخذ بيده في إشفاق إلى الكوخ، ترفع الستار. فدا يدخل ثم يخرج مزعزعا. القيثاري يجتاز آخرة المهاد.)
فدا (همسا) :
من قتلها؟
هادي :
الحجر الذي لم يسقط. (فدا يحاول أن ينطق فيشرق بالكلمات.)
القوال :
تلك المقاطع كانت دفقات من غيث الحب؛ أحيتك، أما هي فغصت بها ... يا ويح النشيد! وصل فيضه بإعجاز مشيك هنالك: ودع الوادي مجنونا بك، مسك، استخفك، أترفك حتى هزأت بمرارة تربتنا وأنكرت أهلها.
زينة (بعد مهلة، في هدوء) :
فتلفت طفلة تنشدك روحها، وجسمها بكوخها مسمر. وقف الإنشاد، فإذا الوحشة حولك تفرش عبوسها. ضللت الطريق، خفيت المعالم على وجدانك لما طوقته بالقسوة، لما نسيتها. (مهلة)
ها أنت ذا فوضت عذابك إلى يديك ... ويلي على يد طاهرة أذنبت!
فدا :
ولكن ... (يعجزه التعبير. يمعن التفكر ) .
زينة :
يد طاهرة.
فدا :
طائشة ... أجل، تسرعت في العصيان على حكم الحضيض. من راح يطلب طعم السماء فعليه أن يتزود بمذاق الأرض ... الأرض، هذه الحقيقة المعمورة بالشوك، خلق ليرهف الوجدان ساعة يستبين المعالم. (فدا جد مضطرب يدنو من الكوخ ويلمس ستاره في حنان) .
هادي (يشير إلى الكوخ) :
انطفأت كما تنطفئ شعلة معبدنا، خانها زيت سرعان ما نفد. لا أنين، لا نشيج.
فدا (لنفسه) :
خانها الزيت.
زينة والقوال :
لا أنين، لا نشيج.
فدا :
ما قالت شيئا قبل أن تمضي؟ (في خفوت)
هل نادتني؟
زينة :
ضممتها إلى صدري، رمق شكواها في عينها ترقرق. (فدا يمد يدا تستجدي، لعل زينة تردد سر الشكوى.)
زينة :
وا لهفي! لا يرد الرمق إلا القيثار. (تلتفت إلى الغيابة اليسرى حيث القيثاري واقف)
يا أخي، ألا تحيي لحن الوداع؟
القوال (للقيثاري) :
بأظفار من حرير هلا تنبش فواجع البشر. (يعلو صوت هنا يساوقه القيثار في خفض. هنا تنشد نشيدها خافية عن الأبصار. اللفيف يدخلون في أثناء النشيد يتقدمهم الإمام. اضطراب شامل. زينة تنزوي فتخلو إلى نفسها.)
هنا (تنشد) :
الليلة قلبي على سره انطوى
حق لؤلؤة ما غمرها ثاقب
يرمقها لمح رفيق
هوى من كوى محاجرك
أين أنا منك؟
السها لك، تطوعت لكفاح الأفق بجناح الجوى
ولي الثرى، من هنا إليك يفز حنان الرجا فيشرف على نهمات شططك
لمح رفيق
فوح من لهف فيك، ولد في غاب الغرابة
طار في أثير يرهقني
أنت مشغول بالكمال
وأنا ظلك الصبور، أجر جيشا من الجراح لم ينفر من حصن الضمير
نواحي الصامت حداء همك الكبير.
الإمام (لفدا) :
ما أبرع ما صنعت! سارعت إلى الأبد وقذفت الموت من خلفك. (فدا لا يجيب غارقا في التفكير.)
الإمام :
صامت هذه المرة.
فدا (رابط الجأش) :
الموت عثرة عارضة ... هي راحت في يسر: لا أنين، لا نشيج، إنما الجرم أن نهلك تحت شناعة ظلم.
المرأة الأولى (لفدا) :
كنت ناديتها: يا حبيبتي، هل يترك الحبيب؟
فدا :
أجل، حتى يفتش عنه في حرقة الشغف.
المرأة الثانية :
وهناك يذوب فيفقد.
زينة (تخرج من خلوتها) :
لا يفقد من كان معقد حب محض. (هادي ينظر إلى زينة مشدوها.)
زينة (لهادي. في تجل) :
الآن أدرك. ساعة ناداها: يا حبيبتي، على شفتيه تألفت صرخات الجسد وهمسات السريرة، فانطلق لهيبا إلى الذرى، هنالك، حيث تموت العداوات فلا خلف بين خشونة ونعومة.
فدا :
وإلى هذه الذرى أعود.
الإمام :
يعاوده نزقه.
فدا :
هذه المرة أصعد لغرضين: أسلب المغارة كنزها، وأحاسبها على قساوتها، ويح هنا!
زينة :
بالله لا تذهب مثقلا بالحنق، أتذكر ما نبهتني إليه: «على قدر التحفز يكون مدى القفز.»
فدا :
يزول الحنق ما دام الوجه إلى فوق.
زينة :
ويلي عليك! تذهب ولا يعينك نشيد. ماتت هنا. هل أستطيع أن أغرد عنها؟ لا، لا. أحبتك وهي تجور على نفسها: جمعت في عزمك الأصم ألطاف ثروتها الدفينة ولم تفطن لقدرها، أما أنا فعظمت ما أملك، فلما وهبته لك كنت لا أحب سوى نفسي فجرت عليك. كيف إذن أغرد؟ أخشى على المقاطع أن تكدرها آفة الأثرة عالقة بشفتي ... الآن تبينت الآفة. أجل، أصبحت عيني تلمح ما كان فاتها ... بعض ما فاتها ... ما أبطأ الظلمة حين تغادر مغاور النفس!
الإمام :
زينة! ما هذه الحماقة؟ ما هذا التجديف؟ النفس إشراق.
زينة :
يا لبساطة عقولكم! آن لي أن أهتدي إلى فتنة الحياة. (تلتفت إلى الكوخ)
عن قريب يغسلني النور يوم تعصر أحشائي فزعة كالتي نفضتني الآن. يا لهفي عليك يا هنا.
هادي :
سناء الروح لا يبتسم على الجبين إلا بعد رجف وصعق في الضمير.
زينة (لفدا) :
ها أنذي ألامس غرة الحق. حدثتنا عن تيه من الخوانق نثرت فيها فنون الخدع. ذلك هو المنفذ إلى صومعة النفس ... (تشير إلى اللفيف)
النفس التي ما سبروها فتطوحت حولها ظنونهم. (مهلة)
متى تنزل فزعة أخرى؟ (تنظر إلى فدا متفجعة متخوفة)
حماك الله! نفضة بعد هذه وسرعان ما يهب بي جناح كشاف حتى الشوط الأخير، هناك حيث المنفذ يضيق، يختنق، هنالك عند ثغر الفرجة. سموت فيها ثم انسدت ... نفضة بعد هذه (تسرع إليه)
ويلي عليك!
فدا (يدنو من زينة منعطفا) :
حديثك عجب. لا أكاد أعرفك.
زينة :
وهنا سعادتي ... أنت عازم على الصعود، لا أحجزك الآن. (للفيف)
دعوه يذهب.
الإمام :
ركبها الشيطان.
زينة (للفيف) :
ما أجهلكم، ما أغباكم! (لفدا)
لا أحجزك. لا. (تودعه بنظرة وتمضي إلى طرف المهاد) . (فدا يتجه إلى الجبل. القوال وفلاحان يسرعان إليه.)
القوال (في صوت متهدج) :
قبل أن تصعد، خبرنا - فقد تطول رحلتك - خبرنا، أنت الذي يجسر على مطاولة الأبدي: هل وجه الأرض باطل؟
فدا (تلمع عيناه) :
باطل؟ (ينفي بإيماءة ثم يتماسك)
قد يكون ... من جراء الدم السمح تبذلونه في غفلة ... آلام البشر تغذو غرور الطين. (مهلة)
الأرض، كمثل السماء، جدير بها أن تكتسب، لكنها لا تمنح كنوزها حرة إلا إذا استعرت بجمرات الأنفس الزكية، فيعتز عليها كل هين، وفيها يتأصل كل عارض، حتى تفاهة الرمال تتبخر في تماويج سراب، سراب يرقرقه خاطر متشوف ... إنما العدم نحن البشر إذا لم نمد حبالنا إلى قبة الخيال. (فدا يصعد. الأعمى والكسيح يتأملانه. القوال ينصرف إلى باب الكوخ. الفلاحان ينقلبان إلى حقل السنابل. اللفيف يتهامسون ثم ينفضون. هادي يجلس ناحية ويتفكر.)
زينة (لنفسها، وفدا صاعد) :
خذ سبيلك إلى بروج الظنون، قبلت الرهان لما حلفت أن تتجسس قبلة البعيد، فاستبسل. نعم أزين لك المخاطرة ... لا يحق لأحد أن يقمع المستميت في تفجير النبع، لا سيما إذا تلوح صدره فاقتات من رشاشات قروح ... ها أنت ذا عبأت الشقاء في عروقك لتسبي النعماء، وسرعان ما تحول وجودك إلى الخفا. (يغيب فدا عن الأنظار)
بعدت، لست الآن سوى صدى شرود. أي فكر يستطيع أن يرصدك؟ هل أنت حي، هل أت ميت؟ (في بطء)
ليس بين الحياة والموت غير درجة، تدق عن اللحظ، سموها المحبة، هنالك من يلفه الفتور وهو مترع بالحياة، وهنالك من يهرول ومهمازه الموت: هذا يزدري الدرجة وذاك يجهل خبرها، أما أنت فعن كلا الحزبين غريب: ولعك بالحياة يتقد حين تلاعب الموت، ما أحسن ما ترفرف فوق الدرجة! لا رفرفة ألعبان يتذبذب على حبل توتر. هذا خطر تستهين به، لا تجد عنده شرف الروعة. لا! إن الدوار الذي يترقبك - ماذا أقول؟ - هه، إن الدوار الذي ترعاه في نفسك أبلغ هولا وأبعد استهواء ... أتراك جربت الحب؟ هل تدري؟ تطالب الحب بما يفزع منه الحب نفسه: تبتغي الملء الطافح. (مهلة)
لك هذا، وأنا أجاريك ... متى نلتقي؟ واحسرتاه! أنت تحيا متهالكا على غمام الموت، وأنا لا أزال أعاني الشره إلى برق الحياة. بيني وبينك الآن حفرة، ركزت فيها حراب تسهر لدمائنا، لن تنفل فينكسر جشعها حتى أشرف على الفرجة: قبلة البعيد. متى نلتقي؟ إن أنا أسررت إليك الآن: أحبك فهيهات، لا أجذبك، لن يقدر استسلامي إلا أن يهيج الدوار ... يهيج الدوار. ليتك تسقط! (يزعزعها هذا التمني)
حماك الله! (تعود إلى التمني في صوت محبوس)
آه! تسقط فألملم النثار فأحضنه ... أحضنك ... إذا أضاع المرء ذاته فما أسعده حين يضم أشلاء تختلج! أشلاء الجسد الذي هاجرت إليه ذاته. (مهلة)
عندئذ بعد طول التلوي تنفسح الغمة ... أهلا بالفرجة! إذن أجدك في عجاج الوله، فألمس ما يفوت اللمس، فوق تلك الحفرة، ولن يقطر مني ولا منك دم؛ لأنا نكون قد عبرنا إلى ملكوت الأمان. (صمت. القيثاري يدخل، يهم بجس القيثار، يتردد ثم يكف. القوال يأخذ بذراعه فيخرجان. الأعمى والكسيح يلحقان بهما في بطء وهما يتناقشان بإشارات موجهة إلى الجبل.)
زينة (تنظر إلى حيث صعد فدا) :
دعني أودعك، أطوف حولك بجوارح أصبحت تتنفس عند حافة الغيب. (ترقص رقصة هفافة، مجلوة الوجه. موسيقى غاية في اللطافة) . (زينة بعد رقصتها تغيب في الكوخ. هادي لا يزال في تفكره. في آخرة المهاد يترنم الفلاحون ببيت النشيد «أنا أسطورة الزمن» .) (الستار يسقط)
المرحلة الخامسة
(اللفيف يدخلون فوجا فوجا، الإمام يلحق بهم.) (الرجل الأول سقط.) (للفيف ضحكات استهزاء سريعة. هادي ينتفض. زينة تخرج من الكوخ. الفلاحون يأخذهم الشده فيكفون عن الترنم. صمت. القوال يدخل.)
زينة (في هدوء) :
أين سقط؟
الإمام (منتصرا) :
عند طرف المرج هنالك، طرحته المنية وتربعت على صدره.
المرأة الأولى :
آه المنية ... عشيقته الحظية.
المرأة الثانية :
عرف كيف يختار، عشيقة ماهرة ... عضاضة، نهاشة، حقا فاجرة. الخبرة كلها عندها، أما نحن فيا حسرة علينا: زرع أخضر.
زينة (تتقدم. في صوت متمكن) :
هلم ندفنه.
القوال :
هلم.
الإمام (يستوقفهما) :
مهلا! بل نحمله إلى خيمته فنحرقها تحت بصر الفجر.
هادي :
كلا!
زينة :
وي من قساوتكم.
هادي :
ويشهدون النور على عتمة قلوبهم.
الإمام :
لا يستحق بطن الأرض، كم هزأ من وداعة سهلنا.
زينة :
ما أراد إلا تمجيده.
هادي :
وفاتكم ما أراد.
الإمام (لزينة) :
غمزك مرضه، ولا شفاء ... عجيب! من قبل لما كان حيا صاولته رشاقة العين، أما الآن فلا تبصرين إلا بطرفه المهزوم.
زينة :
الآن أسترد جوهر نفسي: بعث، مورده بوارق طيفه. (القوال يخرج. القيثاري يدخل ويتنحى.)
الإمام :
ها، ها، ها، تتكلم على طريقته: إبهام، زيغان.
زينة :
صحيح؟
المرأة الأولى :
ولا تشعرين؟ ويل المرأة، تعشق فتضيع.
زينة :
أبصر بطرفه المهزوم ... ألمعية ضرير.
المرأة الثالثة :
لو كان متعك بحبه، على الأقل.
زينة :
ليس للحب أجل مضروب. (للنساء وبعض الرجال خفقات بالرءوس تعجبا.)
زينة :
ما دام القصد منصوبا في نهاية الطريق فمهما تلكأ الركب، وتلهى فهو عاثر بحجارة الحد؛ عفوا، في الظلام ... هو يحبني الساعة في غار الموت.
المرأة الأولى :
الساعة؟
زينة :
لو لم يحبني هذه اللحظة ما كنت لأبقي على حبي له.
الإمام :
عار عليك. لم يحفل بك وهو يغالب المنايا؟ فلما صرعته أسرعت فانتشلته.
زينة :
أسرفت فلم يحفل بي؛ كان شمس شتاء لا يسمح بالنظر الملي، لو كنت أحسنت اللمح لكانت مقلتي غرقت في العطايا.
الإمام :
عطايا أوهام، راح يقتنص أشباحها. أي شيء جلب من غارته؟ هل زودنا بما يسعف كدنا في هذه الدار؟ إنما جاء بما يمكر بالرشد فيدلس عليه الحماقة.
زينة :
مكر؟ حماقة؟ لأنه عرف كيف يحدث الضمائر؟
هادي :
يا لرقائق السمر! الحمد لله، أزعجت ظلالا طالما أغفيتم عند هدأتها البلهاء ... أقليل هذا؟
الإمام :
ترهات ...! هه! كيف أخفق. طاح! هذا كل شأنه.
هادي (يشير إلى الفلاح) :
إذا انهد هذا الفلاح فإلى غير نهضة، تربة أكول مصت عظامه حتى صبابات الضنى، وهو راض يستمتع ببضع سنابل ... أما هو - هو الذي كتم في رئتيه مثل جلجلة الرعد - فمغنمه أن يطرح العدم الذي يحصره، لكي ينهض بعبء الكون.
زينة (متممة) :
لكي ينهض بسر المحبة. (الإمام يحرك كتفيه استهزاء.)
زينة (مواصلة) :
هذا السر من حق البشر، ما داموا، في غفلة، يتزاحمون في واد مسحور، شيطانه العشق، ويبذلون في ملاعبه لحما ودما بلا حساب.
المرأة الأولى :
تبذير لذيذ!
الرجل الأول :
لذيذ. (يتعانقان. زينة تشيح عنهما بوجهها وتعتمد يد هادي.)
الإمام :
ذلك مغنم لا ثمر فيه. إنه مات، مات. البطولة ليست من دأبنا. دمنا عصير الضآلة.
هادي (يوافق ثم يستدرك) :
عصير الضآلة، لكن البطولة من دأبنا ... القوة سهم من أفكار، الضعف قوس في يدنا. حسبنا الرمي، لا نبالي: أصاب، قصر، جاوز. (مهلة)
قوتنا من ضعفنا تنبثق. بطلنا هموم تحترق.
الإمام :
أراد أن يتحرش بالعلا، ما أوقحه!
هادي :
لا، (الفلاحون يحيطون به)
هل عانى كل هذا التصعيد حتى يهبط إلينا فوق رأسه لواء الألوهة؟ يا خيبة المسعى إذن، متى ظفرنا بإله يمشي بيننا دب السأم في اطمئنانا، إنما كتب علينا أن نتلطف لشفوف الجلالة نستنزل منها في خلجاتنا.
الإمام (للفيف) :
هيا بنا نمضي ... كلاهما يهذي ... قبحت هذه الحمى ترجف أذهانهم.
زينة :
الحمى أتم نفعا من السكينة، حتى تلذع الشعور فيتقد لا حين تعييه فيهمد.
هادي :
هذا الضارب بالقيثار، سقام الوحشة في تناغيمه، لكن جولانه في أتون الدنيا يلفح ألحانه فيجددها بحاثة عن أصل الحسرة.
الرجل الثاني (يشير إلى القيثاري) :
هذا نكرهه ... يبكي بغير دموع.
هادي :
لأنه من صمت المحنة يستنطق العبرة، ولكم يترك الولولة.
زينة :
لا ريب أنكم أعداء الدوار.
الإمام :
عرفت الآن ما عاقبة الدوار. هلك صاحبكم؛ لأنه استطال.
هادي :
لا.
زينة :
مضى إلى العلياء يستطلع، هل وجد؟ ليس المهم أن يجد. لا، لا، يوم يلقى المرء ضالته فيلتحم بها فيأتي عليها نهما أو تأتي عليه؛ تفتر السعادة ويرخص النصر ... إن تعانق إلفان على الأرض حتى انقطاع النفس فما هما سوى حزمة من عظام، متى نقرت عليها رنت جرة جوفاء ... ما كان للإنسان أن يقتحم أريكة الله، وما أراد الله أن يهتك سريرة الإنسان، وإلا عاث في جنات الخصب طوفان، فتتلف ثمار غر عزيزة خلقت للأنفاس تتهاداها تحيات ود ... الخير كله أن يتلمس الرب أثره في عبده، وأن ينقب العبد عن نصيبه من ربه: غوصة فعثرة فرجة، فتضور فتجلد ثم صدمة، يكون من ورائها الفوز، فوز يبرمه حوار، مواثيقه شهقات محتضر.
هادي :
حينئذ يخفق القلب؛ لأن جوهر الإنسان تسامى، يعطي ولا يفنى، يأخذ ولا يفنى ... تأليه الإنسان مضيعة لكونه، تأنيس الله مضلة لوجهه.
زينة :
أجل، مات الحبيب وهو يعلق وقته بدوام الله. في لحظة الوصل قتل الحبيب - الرب المحدث - نفسه، والذي قتله بشر كامن في أحشائه. الآن وضح كل شيء.
هادي :
قتل الرب نفسه، ولن يبعثه إلا بشر. سيأتي يوم أتسلق فيه منارة الأبد، فأسأل بهاءها ما يقتضيه الفوز من عروق تنفجر.
زينة :
خذ في طريقك، أيها الطفل، لعلك تستطيع أن تثأر للأرض، إياك إذن أن تحب ... ولكن هل توغل والعشق ليس معك؟ وداعا، علي أن أدفنه. (تهم بالانصراف) .
الإمام :
لا، حرام على جسده وعلى يدك التراب ... إلى النار. (الإمام واللفيف يتهيئون للخروج. زينة تحول دونهم. إلى جنبها هادي. صمت. القوال يدخل، يليه الأعمى والكسيح.)
القوال (يشير إلى الأعمى والكسيح) :
وسداه التراب، منذ هنيهة، ثم غمغما عند لحده: لهجة غريبة. (الإمام يتفرس في الأعمى والكسيح ملتهبا غضبا. زينة وهادي ينفرج عنهما الهم.)
زينة (لنفسها) :
وي! أشلاؤه! أشلاء تختلج ... (تلامس كفيها) .
الفلاح الأول (مستريحا) :
أصبح ضيف الأرض. (فجأة يحدق القوال والفلاحون إلى العالية.)
هادي (لزينة) :
زينة! انظري. أصبحوا ينصبون الرءوس ويحدقون إلى العلياء. (الكسيح يضحك، الأعمى يبكي. اللفيف يجتهدون في أن يصرفوا أبصارهم عن العالية. الإمام مزعزع.)
زينة (لهادي) :
أرأيت؟ (في بطء)
كل شيء ممكن، إذا خلص القلب من خيلائه صدق الشوق.
هادي :
يحدقون إلى العلياء وقد تركها. (الإمام يخرج مهرولا.)
زينة :
مهلا، هادي! إنه لا يزال فيها. إليه يحدقون ولن يكفوا، يا له من نصر! ما حسبتهم يبلغونه ... نصر عابر ، نعم. هل للبشر أن يفلحوا في قطع الحبال تشد سواعدهم إلى ذبذبة الجبن؟ إرخاء الحبال برهة بعد برهة، ذلك كسب عظيم. (مهلة)
هب أستاذك، ثقب سور المحظور، إلا أن كره البشر للإعجاز لن يبطئ أن يلحم الثغرة، أما هو فلن يغيب عن البصائر أبدا. (في بطء)
الباقي سر ما ذهب ... أن يترك المرء الأرض عن رضى؛ ذلك سبيله إلى الدوام؛ يترك الأشياء كلها، حتى الحب، تمجيدا للحب. يقبل على حسه ينزه مداره فيحتفى بمنح غمضت، أومضت، من كنوز إلهام منيع، يستصغر الحياة فيخاطر باللظى عزف على العضل ورنم في اللحم. يخاطر وهو يخف إلى حيث الريح عربدت فأضمرت إعصارا عصفاته قذفات خناجر. (مهلة)
هذا الذي يحدقون إليه، يا هادي نجوم دارت على قطب الحق، كلوم حول جيد النور ... يا لشظايا قلب كبره جبروت الزوال. (اللفيف ينصرفون، وهم يردون أنظارهم بعناء عن العالية. القوال والفلاحون يحدقون إليها بلا توقف. الأعمى والكسيح يتناقشان في صمت. هادي ينظر إلى زينة مليا، ثم ينصرف من غير الجهة التي قصد إليها اللفيف، وعلى وجهه أمارات جسارة خاشعة. زينة تمضي وحدها إلى صدر المهاد كأنها في ملاءة نور. موسيقى يغلب عليها الروحاني. ظل القيثار يتخطط على المهاد.)
القوال :
هل خرجنا من أسطورة الزمن؟ (الستار يسقط)
نامعلوم صفحہ