وقد يقول قائل: إذن. فيم كان هذا الاستقبال الحاشد لبن بيلا عند عودته إلى الجزائر، ألا يدل هذا على التفاف الشعب حول زعامته وشخصه؟
والإجابة أن فهم الاستقبال بهذا المعنى فهم سطحي جدا؛ فالجزائريون لم يخرجوا على بكرة أبيهم إلا لهدف آخر أعمق وأشمل؛ فبقاء بن بيلا في وهران وتلمسان كان يعني ويدل على بقاء الخلاف قائما بين قادة جبهة التحرير، وكانت العلامة الوحيدة الأكيدة لانتهاء الأزمة وانتهاء الخلاف هي حضور بن بيلا إلى العاصمة، وقد خرج الشعب يحيي هذا الحضور، يحيي القيادة التي اتحدت، يحيي انتهاء عهد الفرقة وبداية الشعور بالاستقلال الحقيقي. ولو كان هذا التأييد لبن بيلا وحده ففيم إذن كان بقاؤه بعيدا عن العاصمة، ولماذا لم يدخلها دخول الفاتحين من أول يوم؟
لهذا فالقول بأن بن بيلا قد حصل على 99٪ من الأصوات خطأ كبير نرتكبه. الواقع أن جبهة التحرير هي التي فازت بهذا التأييد الضخم، ولو كان بن بيلا قد دخل الانتخابات كبن بيلا وأنصاره فقط، كمنشقين على جبهة التحرير، لما فاز بكل تلك الأصوات ولأصبح مجرد نجاحه في الانتخابات محل شك كبير.
إن المعجزة الكبرى التي يحققها الاستقلال، هو أنه يرغم كافة الاتجاهات والتنظيمات على توحيد جهودها وأهدافها وبهذا يتحقق لأمة كبيرة مترامية الأطراف حافلة بملايين الناس والطبقات والمذاهب والأفكار والاعتبارات أن يضمها جميعا إطار الاستقلال والكفاح من أجله. وقد كان المفهوم الخاطئ لمرحلة ما بعد الاستقلال أن يستبد أقوى هذه الاتجاهات بالحكم ويصفي العناصر الباقية ويفرض نفسه على الشعب وحاضره ومستقبله، والخطأ الأكبر في هذا المفهوم أنه يشتت الجهود التي جمعتها معجزة الاستقلال ويحرم البلاد من خيرة عناصرها ويؤدي في النهاية إلى الديكتاتورية والانعزال عن الشعب وكافة ألوان الشذوذ.
ولأننا نطمع ونريد أن يتحقق للتجربة الجزائرية الكمال، وأن تستفيد من أخطاء غيرها من الثورات، فكلنا أمل أن تدفع هذه الأغلبية الضخمة التي حصل عليها المكتب السياسي لا إلى تشديد قبضته وانفراده بالحكم وتوجيهه في الجزائر، وإنما إلى مزيد من الكفاح لأجل كسب وإشراك الاتجاهات الأخرى داخل جبهة التحرير وداخل الشعب نفسه، عليه أن يستبدل شعار التصفية بشعار الكسب، وشعار الانفراد والفردية بشعار الجبهة؛ فبشعار الجبهة انتصرت الجزائر في معركة استقلالها، ولن تنجح في تثبيت دعائم الاستقلال والمضي قدما في ثورتها إلا بشعار الجبهة نفسه، إلا بالجماعية الديمقراطية الثورية تلك الروح التي سيرت الشعب ونظمته طوال حرب الاستقلال، والتي اعتبرها الجميع أعظم وأروع ما خلقته الثورة الجزائرية وما ساهمت به في إثراء التفكير الثوري العالمي.
شكرا للتعبئة
السبت
كل مواطن منا لابد قد وجد نفسه ذات يوم يعاني مأزق الحاجة إلى رقم. والأرقام كانت ولا تزال مشكلتي. كم من مرة قضيت اليوم أو الأيام حائرا مغيظا أبحث عن رقم ولا أجده، وأضطر إلى كتابة مقال بأكمله لإقناع القارئ بما كان يمكن أن يقنعه به رقمه، مجرد رقم بسيط. وكم سخطت على هيئاتنا العامة ومصالحنا وإدارتنا الكثيرة تلك التي لا تؤمن بالأرقام ولا بأهميتها ولا تحفل بجمعها في كتاب أو إحصائية.
ولقد وجدت مفاجأة تنتظرني وأنا أفض بريد اليوم. كانت كتابا متوسط الحجم يمر عنوانه أمام الأنظار بهدوء: الكتاب السنوي للإحصاءات العامة للجمهورية العربية المتحدة 1952-1960، بل قد يدفع طول العنوان إلى صرف النظر عن الكتاب كلية. غير أن حب الاستطلاع دفعني لتقليب صفحاته، ولا أعرف إن كنتم قد جربتم الشعور باليأس من العثور على شيء، ثم فرحة العثور عليه بعد مدة ومفاجأة دون أن يخطر على البال. إنه بالضبط ما كنت أبحث عنه. إنها الأرقام، عشرات ومئات وآلاف الأرقام. إنها حياتنا وأرضنا وبلادنا ورجالنا ونساؤنا وأطفالنا وثرواتنا وحاضرنا ومستقبلنا في أرقام، حتى الرقم الذي طالما حيرني، طول نهر النيل والمسافة من الإسكندرية لأسوان، هناك، عدد الطلبة الشرقيين الذين يدرسون بالقاهرة، عدد طائرات شركة الطيران العربية، تعداد سكان سيناء، كم طنا من البترول ننتجه. أرقام كلها موجودة بالكتاب، وليس في عام واحد ولكن في عشرة أعوام، وبكل ما حدث فيها ولها من تطور. أحسست لحظتها أن ما وصلني ليس مجرد كتاب ولكنه كنز من المعلومات.
ومن صفحته الأولى لم أتركه إلا وقد قرأته إلى آخر صفحة وإحصائية.
نامعلوم صفحہ