الحامية وإيفان جيب والوشم الأخير
الاثنين
وصلنا إلى بورسعيد قبل منتصف الليل. كانت البلدة نائمة أو تكاد وليس فيها ساهر غير عمال الميناء بحثا عن لقمة العيش. كانوا يتناولون عشاءهم الرخيص وطابورهم واقف أمام البوابة الكبيرة ينتظر الإذن بالدخول. سألنا عاملا منهم فلم يعرف، سألنا آخر فاقترح علينا أن نذهب إلى مبنى النافي. حاولنا الدخول من باب النافي فإذا الباب مغلق، وعدنا إلى البوابة الكبيرة ومن الميناء ركبنا لنشا، وبعد قليل، ونحن في البحر، أشار لنا البحار إلى بناية ضخمة هائلة الحجم مشتعلة الأضواء، وقال: هذا هو مبنى النافي.
أجلنا البصر فلم نر شيئا بالمرة وكأنهم سبقونا ورحلوا. البر والبحر والمبنى والرصيف وكل شيء ساكن سكونا مريبا وسط ليل داكن السحنة أسود، تضيئه أنوار الميناء المتعددة الألوان؛ صفراء وبيضاء وزرقاء وحمراء فتزخرفه وتجعله يبدو كالسبورة السوداء المحلاة بطباشير مشع ملون، والبحر حولنا ومياه القنال تأخذ لونها من لون الليل، إذا ما اسود اسودت، وإذا ما حفل بالأضواء حفلت بالأضواء. مرة أخرى رحنا نجيل البصر فإذا بالميناء خال إلا من باخرة سوداء كالحة راسية قريبا من المبنى، صامتة هي الأخرى صمت القبور. اقترب بنا البحار من الرصيف، وغادرنا القارب إلى البر في محاولة يائسة للبحث عنهم وخوفنا يتضاعف أن يكونوا قد خادعونا ورحلوا. ولم نكد نسير بضع خطوات حتى لاحت لنا بادرة أمل، كانت ديدبانا واقفا يحمل مدفع ستن، ما إن وقع بصره علينا حتى قال بإنجليزية ممطوطة: إلى أين؟
كان شابا لم يتجاوز العشرين ، هادئا وعبيطا، وبادي الضيق بنوبة الحراسة، وكان - هذا هو المهم - أول إنجليزي تقع عليه عيوننا في كل منطقة القنال. لم أكن أزور المنطقة لأول مرة، ولكني في كل مرة كنت أرى طريق المعاهدة يزدحم على الجانبين بالعساكر والمعسكرات، عساكر حمر الوجوه، زرق العيون يروحون ويجيئون داخل الأسوار كالمعتقلين والعرق يكسوهم والنظرات المريضة تطل من عيونهم، وكل مرة تغلي مراجل الغضب في نفسي وأقول: الأرض أرضنا، وهؤلاء الملونون قد جاءوا من بلادهم البعيدة ليدنسوها ومعها كرامتنا، يتطفلون علينا وعلى خيرنا كجيش عارم من ميكروبات كاكية يفتك بنا ويصنع أزماتنا ويقتل شهداءنا، ولا حياة لنا، ولا طعام ولا بقاء ما لم نجتث الداء ونطرد الغاصبين.
لحظة البداية
لهذا، حين اقترب يوم الجلاء لم أستطع الصبر، ووجدت نفسي أترك كل شيء وأذهب لأستطيع أن أشهد تلك اللحظة التاريخية في حياة شعبنا، وحياة جيلنا بالذات؛ فلجيلنا مع الاحتلال قصة مدممة الفصول، وطالما عشت مع غيري صفحات الكبت والصراع ولا بد أيضا أن أحيا النهاية.
وأسعدني أن يشاركني الرحلة والفكرة الصديق محمود السعدني وبعد نصف ساعة كانت عربة الأومنيبوس تحتوينا ونحن في الطريق إلى الإسماعيلية لنقضي فيها اليوم والليلة قبل أن نذهب في الغد إلى بورسعيد لنشهد احتفالات الجلاء، وآلاف الأحاسيس كانت تراودني كلما وجدت نفسي أقطع طريق المعاهدة، طريق فايد والاحتلال نفس الطريق الذي كنا نقطعه ونحن طلبة، ونحن في اللجنة الوطنية، ونحن نتستر بالليل والظلام ونأتي من القاهرة نزود الكتائب بالسلاح وأدوات العلاج والإسعاف ونحن في القاهرة كنا كثيرا ما ننسى أننا محتلون، وكانت الذكرى لا تعاودني إلا حين أصبح على طريق المعاهدة وأبدأ أرى المعسكرات وعساكر الأعداء. المفاجأة الكبرى التي كانت تنتظرنا في ذلك اليوم «الاثنين 17 يونيو سنة 1956» أننا، في نفس المكان الذي اعتدنا رؤية العساكر الإنجليز فيه، رأينا هذه المرة عساكر مصريين، سمر. يا لحلاوة سمرتهم في ذلك اليوم لكأنها سمرة عسل النحل حين يقطف في الشتاء، يرتدون الكاكي أيضا ولكنهم يضحكون، ويتحدثون بالعربي، ولا يلهثون من حرارة الشمس.
وصلنا إلى الإسماعيلية، ولم يتح لنا البقاء فيها طويلا؛ إذ سمعنا هناك إشاعة تقول إن الإنجليز لن ينتظروا إلى الغد ليرحلوا، وإنهم الليلة راحلون، ولم نضيع وقتا؛ فبعد دقائق كانت عربة الأستاذ عبد الرحمن شوقي المحامي (الذي أصبح الآن مؤلفا مسرحيا وكتب رواية «نجفة بولاق») تنهب بنا طريق المعاهدة من جديد، الطريق الذي يتلوى بلا نهاية كخيط طويل من الصبر، كطول بال المصريين.
ووصلنا إلى بورسعيد وخوفنا الأكبر أن يكونوا قد ذهبوا، ولكن حمدا لله، ها هو ذا الديدبان الإنجليزي، وها هي ذي الباخرة «إيفان جيب» التي ستقل آخر فوج.
نامعلوم صفحہ