121

وفي يوم الثلاثاء سابع شهر رجب الفرد سنة 56ه، طلب السلطان القاضي ولي الدين السنباطي قاضي المالكية بالقاهرة، فأغلظ له القول، ورسم به إلى المقشرة؛ وسبب ذلك أنه ادعى عنده مسلم على يهودي شركسي أنه يؤذيه بالطلب من عند غير القضاة، في حق له عليه، وسأله الحكم عليه، بأن لا يعارضه إلا من الشرع الشريف، فأجابه إلى ذلك، فظهر من اليهودي من العناد ما أوجب أن أمر به إلى السجن، ثم أطلقه، فتوصل إلى السلطان بتمربغا الدويدار الثاني، وكان سأل المالكي في تولية بعض من لا يصلح فلم يجبه إليه فأوقف اليهودي للسلطان، وحرفوا له القضية بما أوجب إيقاعه به، وعدم سماع كلامه على عادته، فطلبه، فسأله عن القضية، فشرحها له، فقال: هل تعرف بلسان الشركسي؟ فقال: أحضرت من ترجم عنه وله. فقال: تحققت أنه فهم المراد؟ فقال: أخبر المترجم عنه أنه فهم. فلم يفد ذلك فيه، على عادته في أمور الفقهاء، وأمر به إلى المقشرة، فتلبث في الطريق حتى طلع القضاة الثلاثة، فشفعوا فيه، فلم يدخل إلى المقشرة، وذهب إلى بيته، وضرب المسلم المدعي على اليهودي، بالمقارع، وسجنه في المقشرة، وكانت هذه القضية مصححة لما كان يقال: من أن هذا السلطان، كان يهوديا في بلاد الشركس، وأنه باق على دينهم؛ لأنه كان يؤذي النصارى كثيرا، ولا يعرض إلى اليهود، ومن أجل ما سمعت في ذلك، أن العلامة الصالح، أمين الدين يحيى الأقصرائي، شيخ الأشرفية، حدث: أنه أتى إليه وهو جالس عنده يهود قد وقعوا في جريمة، فقال السلطان: عزروهم. قالك فقلت: يا مولانا، لو كان هؤلاء فقهاء، كانوا قد عوجلوا بالضرب، والسجن في المقشرة، أول ما وقع البصر عليهم. قال: فبهت، ووقاني الله شره، وهذه من كرامات الشيخ أمين الدين، وأكبر الأدلة على شهامته، وإقدامه، ووثوقه بالله تعالى.

وبالجملة، فلقد طال تخفيض هذا الجبار لأكابر الفقهاء، بالإذلال حتى غلب على الظن، ما حدثني بعض عقلاء الجند، ودينيهم: أن غالبهم على أديانهم، التي كانوا عليها. قال: وإذا أردت تحقيق أمر الرجل منهم، فانظر حاله مع الفقهاء، فإن كان يعظمهم فهو مسلم، وإلا فلا، فإن أهل كل قطر لا بد لهم من أكابر، يرجع إليهم في شريعتهم، التي يتمسكون بها، ولو لم يكونوا أهل كتاب، فغن عظم الفقهاء عرف أنه انتقل إلى الإسلام، فصار يعظم حملته والقائمين به، وإن كان بخلاف ذلك، فإنه باق على تعظيم أكابر أهل دينه الأول، فلا أحد أبغض إليه من أكابر أهل دين آخر.

قلت: وهذا لعمري كلام حكيم مجرب، فهو من الحكم البالغة،

فتمسك به، ولا تعجل، فإن ذلك لا يعرف إلا مع القدرة، والمنافق يكون مع العجز أشد الناس تعظيما للفقهاء، وإظهارا لما يظن به أن الإسلام راسخ في قلبه، فلقد كان هذا السلطان، قبل السلطة من تعظيم الفقهاء، وإظهار التنسك، والشرع، ومحبة أهل الدين بمكان لم يكن لغيره، حتى كان يظن ولايته، ويدعي برفعته، واستمر بعد سلطته على ذلك سنين، حتى تمكن، ثم إن هذه القضية لم تؤثر في عز طاعة المالكي شيئا، ولم تزده إلا شرفا؛ فإن الناس أطبقوا على الثناء عليه، وذم من تعرض إليه بأذى، وأنه لا يؤذيه إلا منافق، فسقط في يد السلطان، وخشى أن يخرق سياج زوكرته خرقا، لا يقدر على رقعه، فألبس المالكي يوم الخميس، تاسع الشهر، خلعة، وأعطاه بغلة، وبالغ في الاعتذار إليه، والثناء عليه، وشيعه الأكابر إلى بيته.

وفاء البحر:

صفحہ 220