[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ العلامة الحافظ المؤرخ نجم الدين أبو القاسم محمد- المدعو عمر- بن العلامة الحافظ الرحلة تقى الدين أبى الفضل محمد بن محمد بن أبى الخير محمد بن فهد الهاشمى المكى الشافعى- (رحمه الله تعالى) (1):
الحمد لله الذى جعل الدنيا مضمارا لخلقه، ابتلى فيها أخبارهم، وأحصى آثارهم، وقدر فيها آجالهم، وكتب بها أعمالهم، وجعل الموت غايتهم التى إليها يجأرون، وعنها من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وبين أنهم فى ديوان الانتقال إليه تعالى يشهدون (2) بقوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام إنك ميت وإنهم ميتون (3) أحمده على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشكره على حسناته المتكاثرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها عنده لألقاها، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله خير البرية وأتقاها، وأعلاها رتبة عند الله وأذكاها، فهو الذى أزال به عن الأمة عناها، وألهمها رشدها وهداها، صلى الله عليه صلاة لا تتناهى، وعلى آله وأصحابه الكاشفين عن الأمة عماها، الباذلين فى نصرة دينه الهمم التى لا تضاهى. وبعد. فإن
صفحہ 3
علم التاريخ لا شك فى جلالة قدره، وعظم موقعه؛ ينتفع به للاطلاع على حوادث الزمان، وسير الناس وما أبقى الدهر من أخبارهم بعد أن أبادهم، مع أنه عبرة لمن اعتبر، وتنبيه لمن افتكر، واختبار حال من مضى وغبر، وإعلام أن ساكنى (1) الدنيا على سفر، وفى ضبطه بالسنين أمور مهمة وفوائد جمة، لحظها الفاروق والصحابة (2) رضى الله تعالى عنهم عند وضعه (3) التاريخ. وقد رأيت بخط شيخنا الإمام العلامة المؤرخ الكبير تقى الدين أبى العباس أحمد بن على بن عبد القادر المقريزى (4) المصرى- تغمده الله برحمته- فى بعض تعاليقه ما نصه «من أرخ فقد حاسب الأيام عن عمره، ومن كتب حوادث دهره (5) فقد كتب كتابا إلى من بعده بحديث دهره، ومن قيد ما شهد فقد أشهد عصره من لم يكن من أهل عصره؛ فهو يهدى إلى الفضلاء أعمارا، ويبوىء أسماعهم وأبصارهم ديارا ما كانت لهم ديارا.
صفحہ 4
عزنى أن أرى الديار بعينى
ولعلى أرى الديار بسمعى
فسبحان من هو كل يوم فى شأن. انتهى.»
وقد ألف شيخنا السيد الشريف الإمام العلامة الحافظ المؤرخ قاضى المسلمين تقى الدين أبو الطيب محمد بن شيخنا الإمام العلامة/ أقضى القضاة شهاب الدين أبى العباس أحمد بن على بن أبى عبد الله الحسنى الفاسى المكى المالكى (1)- أثابه الله الثواب الجزيل، وكان له بكل خير كفيل- لأخبار بلده مكة المشرفة عدة مؤلفات؛ منها شفاء الغرام بأخبار بلد الله الحرام، ومختصراته الستة (2)، وكتاب: العقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين، ومختصراته الثلاثة (3). وذكر فى أثناء كتبه المذكورة حوادث وأخبارا اتفقت بمكة المشرفة وأعمالها فى الجاهلية والإسلام، أحببت أن أفرد ذلك مرتبا على السنين، مبتدئا من حين مولد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) (4)
صفحہ 5
وألحق به كثيرا مما لم يذكره فى مؤلفاته من هذا المعنى، وأذيل عليه إلى زمانى، وأذكر فى كل سنة من مات بها أيضا من الأعيان من أهلها وغيرهم، وكثيرا ممن مات من أهلها بغيرها، وسميت ذلك «إتحاف الورى بأخبار أم القرى (1)» والله المسئول الإعانة والإتمام. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الأنام، والرضى عن آله وأصحابه الكرام.
*** ذكر (2) تزويج والد رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) عبد الله بن عبد المطلب والدته آمنة بنت وهب.
كان جده (صلى الله تعالى عليه وسلم) عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشى الهاشمى خرج إلى اليمن فى رحلة فلقيه رجل من يهود، فقال: يا عبد المطلب هل لك أن تأذن لى أن أنظر إلى شيئين منك؟ قال: نعم، ما لم تكن عورتى. قال: لست أريد عورتك، إنما أريد أنفك ويديك.
فبسط يديه ونظر فيها فقال: أرى فى إحدى يديك وفى أنفك نبوة، ولا يتم ذلك إلا ببنى زهرة، يا عبد المطلب، هل لك من شاعة؟- والشاعة : الزوجة- قال: لا. قال: يا عبد المطلب
صفحہ 6
تزوج فى بنى زهرة. فرجع فتزوج هالة بنت وهب (1)، وزوج ابنه عبد الله أبا رسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) آمنة بنت وهب، فرجح عبد الله على عبد المطلب.
وكان عبد المطلب قد نذر حين لقى من قريش ما لقى: لئن ولد له عشرة نفر ثم عاشوا حتى يمنعوه لينحرن أحدهم لله عز وجل عند الكعبة. فلما تموا عشرة، وهم: الحارث، والزبير، وحجل، وضرار، والمقوم، والعباس، وأبو لهب، وحمزة، وأبو طالب، وعبد الله؛ وعلم أنهم/ سيمنعونه جمعهم ثم أخبرهم بنذره الذى نذر، ودعاهم إلى الوفاء لله تعالى بذلك، فأطاعوا له، وقالوا: كيف نصنع؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحا فيكتب فيه اسمه ثم أتونى به. ففعلوا، ثم أتوه، فدخل على هبل- وكان أعظم أصنامهم- وقال لقيم الصنم: اضرب بقداح هؤلاء، وكان عبد الله بن عبد المطلب- أبو النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم)- أصغر ولد أبيه، وكان أحب ولد عبد المطلب إليه، وكان عبد المطلب عند الكعبة يدعو الله تعالى لا يخرج القدح على عبد الله. ثم ضرب صاحب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ الشفرة، ثم أقبل به إلى إساف ونائلة؛ الوثنين اللذين تنحر قريش عندهما ذبائحهم. ليذبحه بها، فقام إليه قريش من أنديتها وقالوا: ما تريد أن تصنع يا عبد المطلب؟! قال: أذبحه-
صفحہ 7
ويقال إن العباس بن عبد المطلب اجتره من تحت رجل أبيه حتى خدش وجه عبد الله خدشا لم يزل فى وجهه حتى مات- فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبدا ونحن أحياء حتى تعذر فيه، ولئن فعلت هذا لا يزال الرجل (1) منا يأتى بابنه (1) حتى يذبحه، فما بقاء الناس على ذلك! وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- وكان عبد الله بن عبد المطلب ابن أخت القوم-: والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه، فإن كان فداء فديناه بأموالنا. فقالت له قريش وبنوه: لا تفعل، وانطلق إلى الحجاز فإن به عرافة يقال لها سجاح، لها تابع فسلها، ثم أنت على رأس أمرك. فقال: نعم. فانطلقوا حتى جاءوها وهى- فيما يزعمون- بخيبر، فسألوها فقالت: ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى فأسأله. فخرج عبد المطلب يدعوا لله تعالى، ثم غدوا عليها فقالت: نعم قد جاءنى تابعى بالخبر؛ فكم الدية فيكم؟ فقالوا: عشرة من الإبل- وكانت كذلك- قالت:
فارجعوا إلى بلادكم فقدموا صاحبكم وقدموا عشرا من الإبل، ثم اضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت القداح على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت القداح على الإبل فقد رضى ربكم فانحروها ونجا صاحبكم. فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم
صفحہ 8
قربوا عبد الله وعشرا من الإبل، فخرجت على عبد الله، فلم يزالوا على هذا إلى أن جعلوها مائة، فخرج القدح على الإبل؛ فقالت قريش ومن حضر: قد انتهى رضاء ربك، وخلص لك ابنك/.
فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب عليه وعليها ثلاث مرات.
فضربوا فخرج القدح على الإبل فى المرات الثلاث، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع، ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله، فمر به على امرأة من بنى أسد يقال لها أم قتال بنت نوفل ابن أسد بن عبد العزى (1)، وهى أخت ورقة بن نوفل- وهى عند الكعبة- فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد الله؟ فقال: مع أبى. قالت: لك عندى مثل الإبل التى نحرت عنك وقع على الآن. فقال لها: إنى مع أبى الآن لا أستطيع خلافه ولا فراقه، ولا أريد أن أعصيه شيئا. فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة- وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا- فزوجه ابنته آمنة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا، فدخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها، فحملت بنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التى كانت عرضت عليه نفسها- وهى فى مجلسها- فجلس إليها فقال لها:
ما لك لا تعرضين على اليوم ما كنت عرضته على بالأمس- أو مثل ما عرضت على بالأمس-؟ فقالت له: فارقك النور الذى كان
صفحہ 9
معك بالأمس، فليس لى بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل- وكان قد تنصر واتبع الكتب- إنه لكائن فى هذه الأمة نبى من بنى إسماعيل. فقالت فى ذلك شعرا:
الآن قد ضيعت ما كنت قادرا
عليه وفارقك النور الذى كان حابكا
غدوت على حافلا قد بذلته
هناك لغيرى فالحقن بشانكا
ولا (1) تحسبنى اليوم خلوا وليتنى
أصبت حبيبا منك يا عبد داركا
ولكن ذاكم صار فى آل زهرة
به يدعم الله البرية ناسكا
وقالت أيضا:
عليك بآل زهرة حيث كانوا
وآمنة التى حملت غلاما
ترى المهدى حين نزا عليها (2)
ونورا قد تقدمه إماما (3)
وذكرت أبياتا وقالت فيها:
فكل الخلق يرجوه جميعا
يسود الناس مهتديا إماما
براه الله من نور صفاه
فأذهب نوره عنا الظلاما/
وذلك صنع ربك إذ حباه
إذا ما سار يوما أو أقاما
فيهدى أهل مكة بعد كفر
ويفرض بعد ذلكم القياما (4)
ويقال إن المرأة التى عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب هى فاطمة بنت مر الخثعمية، وذلك أن عبد المطلب خرج
صفحہ 10
بابنه عبد الله ليزوجه، فمر به على كاهنة من أهل تبالة (1) متهودة قد قرأت أكثر الكتب، يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، وكانت من أجمل الناس وأعفهم (2)، وكانت قد قرأت الكتب، وكان شباب قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوة فى وجه عبد الله، فقالت له:
يافتى، من أنت؟ فأخبرها، قالت فهل لك أن تقع على الآن وأعطيك مائة من الإبل؟ فنظر إليها وقال:-
أما الحرام فالممات دونه
والحل لا حل فاستبينه
فكيف بالأمر الذى تبغينه (3)
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب، فأقام عندها ثلاثا، ثم ذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه، فأتاها فلم ير من الإقبال عليه ما رأى منها أولا، فقال: هل لك فيما قلت لى ؟ فقالت: قد كان ذلك مرة واليوم لا. فذهبت مثلا، قالت: أى شىء صنعت بعدى؟ قال زوجنى أبى آمنة بنت وهب. فقالت: إنى والله لست بصاحبة ريبة ولكنى رأيت نور النبوة فى وجهك، فأردت أن يكون ذلك لى، وأبى الله إلا أن يجعله خيث أحب.
صفحہ 11
وبلغ شباب قريش ما عرضت على عبد الله بن عبد المطلب وتأبيه عليها فذكروا ذلك، فأنشأت تقول:
إنى رأيت مخيلة لمعت
فتلألأت بحناتم (1) القطر
فلمأتها (2) نورا يضىء به
ما حوله كإضاءة الفجر
فرجوتها فخرا أبوء به
ما كل قادح زنده يورى
لله ما زهرية سلبت
منك الذى استلبت وما تدرى (3)
وقالت أيضا:
بنى هاشم قد غادرت من أخي
كم أمينة إذ للباه يعتلجان
كما غادر المصباح عند خموده
فتائل قد ميهت (4) له بدهان
وما كل ما يحوى الفتى من تلاده
لحزم ولا ما فاته لتوان/
فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه
سيكفيكه جدان يصطرعان
فلما قضت منه أمينة ما قضت
نبا بصرى عنه وكل لسانى (5)
وقيل أن عبد الله بن عبد المطلب حين مر بالخثعمية كان متزوجا بأمنة بنت وهب؛ وذلك أن عبد الله كان فى بناء له، فأقبل
صفحہ 12
وعليه أثر الطين والغبار، فمر بامرأة من خثعم (1)، فلما رأته ورأت ما بين عينيه دعته إلى نفسها وقالت له: إن وقعت بى الآن (2) فلك مائة من الإبل. فقال لها: أغسل (3) عنى هذا الطين الذى على وأرجع إليك. فدخل على آمنة بنت وهب فواقعها، فحملت برسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) الطيب المبارك، ثم رجع إلى الخثعمية فقال لها: هل لك فيما قلت؟ فقالت: لا. قال: ولم؟
قالت: إنك مررت بى وبين عينيك نور ثم رجعت إلى وقد انتزعته (4) آمنة بنت وهب منك (5).
ويقال: إن المرأة الخثعمية كانت تعرض نفسها فى موسم من المواسم، وكانت ذات جمال، وكانت معها أدم (6) تطوف بها كأنها (7) تبيعها، فأتت على عبد الله بن عبد المطلب، فلما رأته أعجبها فقالت: والله إنى ما أطوف لبيع الأدم ومالى إلى ثمنها من حاجة، ولكن أتوسم الرجال أنظر هل أجد كفئا، فإن كان لك حاجة فقم. فقال لها: مكانك حتى أرجع إليك.
صفحہ 13
فانطلق إلى أهله فبدا له فواقع أهله، فحملت بالنبى (صلى الله تعالى عليه وسلم)، فلما رجع إليها قال: ألا أراك هاهنا! قالت: ومن أنت؟ قال أنا الذى وعدتك. قالت: لا ما أنت هو. ولئن كنت ذاك لقد رأيت فى وجهك وبين عينيك نورا ما أراه الآن.
وقيل: إن المرأة التى مر بها عبد الله بن عبد المطلب هى ليلى العدوية؛ وذلك أن عبد الله خرج ذات يوم متخصرا (1) مترجلا حتى جلس فى البطحاء، فنظرت إليه ليلى العدوية فدعته إلى نفسها، فقال عبد الله: أرجع إليك. ودخل على آمنة بنت وهب فواقعها وخرج، فلما رأته ليلى قالت: ما فعلت؟ فقال: قد رجعت إليك.
قالت: لقد دخلت بنور ما خرجت به، ولئن كنت لممت بآمنة بنت وهب لتلدن ملكا.
ويقال إن المرأة التى مر بها عبد الله بن عبد المطلب هى امرأة له أخرى كانت مع آمنة بنت وهب؛ فمر بامرأته تلك وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه، فابطأت عليه لما رأت من أثر الطين، فدخل فغسل أثر الطين ثم دخل عامدا إلى آمنة/ بنت وهب، ثم دعته صاحبته التى كان أرادها إلى نفسه فأبى للذى صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها. ثم خرج فدعاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لى بك؛ مررت وبين عينيك غرة فرجوت أنى أصبتها (2) منك، فلما دخلت على آمنة ذهبت بها منك.
صفحہ 14
وكانت هذه المرأة تقول: مر بى وإن بين عينيه لنورا مثل الغرة، ودعوته له رجاء أن يكون لى، فدخل على آمنة فأصابها، فحملت برسول الله (صلى الله عليه وسلم).
[حمل آمنة برسول الله (صلى الله عليه وسلم)]
وكان الحمل برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى شعب أبى طالب- قيل عند الجمرة الكبرى، ويقال الوسطى- فى ليلة الجمعة من شهر رجب، وقيل فى أيام التشريق. وكان من دلالة حمل آمنة بالنبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة وقالت: حمل برسول الله (صلى الله تعالى عليه وسلم) ورب الكعبة، وهو إمام (1) الدنيا وسراج أهلها. ولم يبق كاهنة فى قريش، ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهانة منها. ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا والملك مخروسا (2) لا ينطق يومه ذلك. ومرت وحش الشرق إلى وحش الغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار يبشر بعضهم بعضا [وله] (3) فى كل شهر من شهوره نداء فى الأرض، ونداء فى السماء: أبشروا فقد آن لأبى القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا (4).
قالت آمنة: ما شعرت أنى حملت بالنبى صلى الله تعالى عليه
صفحہ 15
وسلم، ولا وجدت له ثقلا كما تجد النساء، إلا أنى قد أنكرت رفع الحيض.
وبقى (صلى الله عليه وسلم) فى بطن أمه تسعة أشهر كملا، ويقال ستة، وقيل سبعة، ويقال ثمانية، وقيل عشرة أشهر (1) لا تشكو وجعا ولا ريحا ولا مغصا ولا ما يعرض للنساء من الثقل والوخم وأدواء الحمل، إلا أنها أنكرت رفع حيضتها- وفى حديث شداد (2) عكسه، وجمع (3) بأن الثقل فى ابتداء العلوق والخفة عند استمرار الحمل؛ ليكون خارجا عن المعتاد.
وهلك أبوه عبد الله وهو حمل، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا ومولانا بقى نبيك هذا يتيما. فقال الله تعالى للملائكة: أنا لنبيى ولى وحافظ ونصير (4). ويقال مات عبد الله قبل ميلاد النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم) بشهرين، وقيل وهو فى المهد، ويقال ابن ثمانية
صفحہ 16
وعشرين يوما، وقيل وهو ابن شهرين، ويقال ابن سبعة أشهر، ويقال ابن سنة، وقيل ابن سنتين، وقيل ابن ثمانية وعشرين شهرا (1)/ والأول أثبت- فى دار النابغة (2) بالمدينة، وقيل بالأبواء بين مكة والمدينة.
ولما مر من حمله (صلى الله عليه وسلم) ستة أشهر قالت آمنة: أتانى آت: وأنا بين النائم واليقظان فوكزنى برجله وقال لى: يا آمنة هل شعرت بأنك قد حملت؟ فكأنى أقول ما أدرى. فقال: إنك قد حملت بخير البرية وسيد هذه الأمة ونبيها ، وخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسميه أحمد ومحمدا؛ فإن اسمه فى التوراة والإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء والأرض، واسمه فى الفرقان محمد، فسميه بذلك واكتمى شأنه؛ فإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام وعلقى عليه هذه. فأنتبهت وعند رأسى صحيفة من ذهب مكتوب فيها هذه: أعيذه بالواحد. من شر كل حاسد. وكل خلق رائد. من قائم وقاعد. عن السبيل عاند. على الفساد جاهد. من نافث أو عاقد. وكل جن مارد. يأخذ بالمراصد. فى طرق الموارد. أنهاهم عنه بالله الأعلى. والكف الذى لا يدى (3). يد الله فوق أيديهم، وحجاب
صفحہ 17
الله دون عاديهم، لا يطردونه ولا يضرونه فى مقعد ولا منام، ولا مسير ولا مقام، أول الليل وآخر الأيام (1).
ويقال قال لها: إذا وقع على الأرض فقولى أعيذه بالواحد. من شر كل حاسد. فى كل بر عاهد. وكل عبد (2) رائد. يرود غير رائد؛ فإنه عبد الحميد الماجد (3)، حتى أراه قد أتى المشاهد. قالت آمنة:
فكان ذلك مما تيقن عندى الحمل به (صلى الله تعالى عليه وسلم) (4).
*** «السنة الأولى التى ولد فيها النبى (صلى الله تعالى عليه وسلم)»
وهى السنة الثامنة والتسعون بعد الخمسمائة من رفع عيسى (عليه السلام)، والسنة الثامنة والثمانون بعد الثمانمائة من تاريخ ذى القرنين، والسنة التاسعة والتسعمائة من وفاة الإسكندر الرومى، والسنة الحادية عشرة بعد الألف والثلاثمائة من ابتداء ملك بختنصر، والسنة الأربعون بعد ستة آلاف من هبوط آدم (صلى الله تعالى عليه وسلم).
[قصة أصحاب الفيل]
فيها فى أول يوم من المحرم- وقيل النصف منه، ويقال لثلاث عشرة بقيت منه يوم الأحد، وكان أول المحرم فى هذه السنة يوم الجمعة- كان قدوم الفيل إلى مكة المشرفة، وسبب قدومه إلى مكة المشرفة أن أبا يكسوم أبرهة الأشرم الحبشى ملك اليمن بنى كنيسة
صفحہ 18
بصنعاء إلى جنب غمدان (1)/ بحجارة قصر بلقيس الذى بمأرب، وكانت [من] (2) رخام أبيض وأحمر وأصفر وأسود، وجد فى بنائها وأحكمها، ولم ير مثلها فى زمانها بشىء من الأرض، وجعلها مربعة مستوية التربيع، وجعل طولها فى السماء ستين ذراعا، وكبسها من داخلها عشرة أذرع فى السماء، فكان يصعد إليها بدرج الرخام، وحلاها بالذهب والفضة، وحفها بالجواهر، وجعل فيها ياقوته حمراء عظيمة، وأوقد فيها المندل (3)، ولطخ جوانبها بالمسك، وسماها القليس (4)، وأمر أهل مملكته بالحج لها يضاهىء بذلك البيت الحرام، ثم كتب إلى النجاشى ملك الحبشة: إنى قد بنيت لك- أيها الملك- بصنعاء بيتا لم يبن العرب ولا العجم مثله لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليه حاج (5) العرب، ويتركوا الحج إلى بيتهم. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة بذلك إلى النجاشى غضب رجل من النسأة (6) أحد بنى فقيم من بنى مالك
صفحہ 19
ابن كنانة. فخرج حتى أتى القليس فأحدث فيه: أى سلح، ثم خرج فلحق بأرضه. فدخل أبرهة فرأى أثره فيه، فقال: من اجترأ على بهذا؟ فقال له أصحابة: أيها الملك، هذا رجل من العرب من أهل ذلك البيت الذى يحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك إنى أريد أن أصرف إليه حاج (1) العرب غضب فجاء فأحدث فيه؛ أى أنها ليست لذلك بأهل- ويقال: إنهما كانا رجلين من النسأة- فغضب عند ذلك أبرهة وقال: أفعلى اجترأ بهذا؟! ونصرانيتى لأهدمن ذلك البيت ولأخربنه حتى لا يحجه حاج أبدا.
فدعا بالفيل وأذن فى قومه بالرحيل والخروج ومن اتبعه من أهل اليمن- وكان أكثر من اتبعه منهم عك والأشعرون وخثعم- فخرجوا يرتجزون:-
إن البلد لبلد مأكول
يأكله عك والأشعرون والفيل
ويقال: إن أبرهة لما رأى ذلك بالقليس كان عنده رجال من العرب؛ منهم محمد بن خزاعى الذكوانى وأخوه قيس، فأمر محمدا على مضر، وأمره أن يسير بالناس يدعوهم إلى حج القليس، فسار محمد حتى إذا نزل ببعض أرض بنى كنانة- وقد بلغ أهل تهامة أمره، وما جاء له- بعثوا له رجلا من هذيل يقال له عروة بن عياض، فرماه بسهم فقتله، فهرب أخوه قيس فلحق بأبرهة، فزاد ذلك أبرهة غيظا وجرأة، وحلف ليغزون بنى كنانة، وليهدمن البيت. ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج بالفيلة معه .
صفحہ 20
وقيل: إن سبب مسير أبرهة الأشرم بالفيل إلى مكة أن النجاشى وجه أرياطا أبا أصحم/ فى أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم فقتل أرياطا، وغلب على اليمن، فرأى الناس يجهدون (1) فى أيام الموسم، فسأل أبرهة: أين يذهب الناس؟ فقيل له: يحجون بيت الله بمكة. قال: ما هو؟
قالوا: حجارة. قال: وما كسوته؟ قالوا: يؤتى من هاهنا بالوصائل. فقال أبرهة: والمسيح لأبنين لكم خيرا منه. فبنى لهم بيتا عمله بالرخام الأبيض والفضة، وحفه بالجواهر، وجعل له أبوابا عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب، وجعل فيه ياقوتة حمراء عظيمة وجعل لها حجابا، وكان يوقد فيه بالمندل ويلطخ جدره بالمسك، وأمر الناس [أن] (2) يحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون، وكان نفيل الخثعمى يعرض (3) له ما يكره، فأمهل. فلما كانت ليلة من الليالى لم ير أحدا يتحرك فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفا فألقاها فيه.
صفحہ 21
وأخبر أبرهة بذلك فغضب غضبا شديدا، وقال: إنما فعلت العرب هذا غضبا لبيتهم، لأنقضنه حجرا حجرا. وكتب إلى النجاشى يخبره بذلك، ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود- وكان فيلا لم ير قط مثله عظما وجسما وقوة- فبعث به إليه، فسار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير (1).
وقيل: إن أبرهة لم يسر بنفسه إنما بعث رجلا من أصحابه يقال له شمر بن مقصود على عشرين ألفا من خولان ومعراء والأشعريين.
ويقال: إن سبب بعث أبرهة بالفيل إلى مكة أن ابن بنته أكسوم بن الصباح الحميرى خرج حاجا، فلما انصرف من مكة نزل بكنيسة نجران، فعدا عليها ناس من أهل مكة فأخذوا ما فيها من الحلى، وأخذوا متاع أكسوم؛ فانصرف إلى جده مغضبا، فلما ذكر له ما لقى بمكة من أهلها تألى بيمين أن يهدم البيت؛ فبعث رجلا من أصحابه يقال له شمر بن مقصود على عشرين ألفا من خولان ومعراء والأشعريين.
ولما سمعت بذلك العرب أعظموه وفظعوا به، ورأوا أن جهاده حق عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ومجاهدته عن بيت الله سبحانه، وما يريد من هدمه وإخرابه؛ فأجابه من أجابه إلى ذلك. ثم
صفحہ 22