استشراق
نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة: دراسة في المنهج
اصناف
إنه يقول: «نحن نعرف.» فمن أين عرف، ومن أي مصدر؟ ألا يستطيع أي كاتب، بمثل هذه البداية، أن يمرر على قرائه أي خبر ملفق؟
ويقول: «مؤتمرا خطيرا.» ما اسم هذا المؤتمر؟ ومن الذي نظمه؟ ومن الذين حضروه؟ وإذا كان قد عقد في «إنجلترا» ففي أي مدينة؟
ويقول: «في أوائل القرن التاسع عشر.» أليس للمؤتمرات تاريخ يحدد بالسنة والشهر واليوم؟
هذه كلها أسئلة لا يجاب عنها بكلمة واحدة. ولكن الأخطر من ذلك هو «مضمون» الخبر نفسه. فإنجلترا، في أوائل القرن التاسع عشر، كانت في أوج طموحها الاقتصادي والسياسي، فكيف ينتهي مؤتمر يعقد بعد بداية العصر الصناعي بقليل، ذلك العصر الذي غزت فيه مصنوعات إنجلترا العالم وأصبحت فيه جيوشها وأساطيلها سيدة البر والبحر، كيف ينتهي مؤتمر يعقد في هذه المرحلة بالذات إلى أن الحضارة الغربية منهارة؟ وببساطة شديدة ينتهي المؤتمر نفسه، حسب قول المؤلف، إلى أن الأمة الإسلامية هي الوريث. ومتى؟ في الوقت الذي كانت فيه الأمة الإسلامية منسية تماما، وفي الوقت الذي كانت تعاني فيه من أشد حالات التخلف؛ أي أن الغرب الفتي الصاعد كان يخاف من منطقة كانت عندئذ تعيش في ظلمات الجهل، بلا موارد ولا طموح ولا إمكانات بشرية أو مادية، فيعمل على تأخير انهياره (أو يطيل أمد انهياره، حسب التعبير المخطئ الذي كرره المؤلف مرتين) عن طريق تفتيتها. وهكذا اجتمع المؤتمر، في مكان مجهول وزمان غير معقول، لكي يحيك مؤامرة ويصدر «مقررات» ضد أمة لم يكن يشعر بها في ذلك الحين أحد، يفترض أنها تهدد الحضارة الغربية التي كانت عندئذ تقف وحدها بلا منافس!
قد يرى القارئ أنني أطلت في الحديث عن نص لم يكن يستحق أصلا مثل هذا الاهتمام، ولكنني أود أن أؤكد أن لهذه الطريقة المشوهة في الكتابة أهمية عظمى في وقتنا الحاضر. فهي تشكل وسيلة أساسية لنقل المعلومات ونشر الثقافة لدى كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، التي يقرأ أنصارها كتبا أو يسمعون خطبا تحفل بأحكام غير محققة، وسرعان ما تتحول تلك الأحكام إلى قوالب محفوظة يرددها شباب مغرر به عقليا على يد معلمين روحيين يتلاعبون بعقول أتباعهم كما يشاءون. والكتابات التي تتبع منهج «نحن نعلم» هذا، تباع على أوسع نطاق، والمؤلفون الذين يؤثرون على قرائهم عن طريق ابتكار أي خبر مثير كهذا، هم، في ثقافتنا المعاصرة، ناجحون إلى أقصى حد مع الأغلبية الجماهيرية غير الواعية، وليرجع من يشك في ذلك إلى إحصاءات معارض الكتب لكي يدرك خطورة تأثير هذا المنهج وسعة انتشاره. (2)
ولكن، لنسأل أنفسنا: كيف يحرز منهج واضح البطلان كهذا نجاحا واسعا إلى هذا الحد؟ وما هي الأسباب التي تجعل وصول مثل هذه الروايات الملفقة إلى عقول الجماهير أيسر من وصول الرأي الموثق، المدعم بالمصادر، والمؤيد بالبراهين؟ إن التعليل، في رأيي، واضح، يكمن في طبيعة الجماعات التي يحرز هذا المنهج بينها نجاحا هائلا. فالجماعات الدينية ترتكز في تفكيرها على مبدأ الإيمان الذي يولد ميلا قويا إلى التصديق. وكما أن الموجهين الروحيين لهذه الجماعات يعملون على الإفادة من هذا الميل إلى التصديق لدى أتباعهم، فإنهم في الوقت ذاته يحرصون على تقويته وتأكيد اتجاههم إلى «الطاعة» ووأد أي نزوع إلى النقد أو التساؤل في عقولهم. وهكذا فإن الأخذ بهذا المنهج في التأليف يخدم غرضا مزدوجا، فهو يساعد من جهة على تمرير أية قصة ملفقة تخدم أهداف المؤلف دون الحاجة إلى بذل الجهد والعناء الذي يقتضيه المنهج العلمي في الكتابة، وهو يدعم من جهة أخرى روح التصديق والتبعية والطاعة لدى القارئ، مما يزيد من استعداده لقبول هذا المنهج، ويجعل العلاقة الثقافية بين الكاتب وقارئه علاقة إرسال واستقبال فحسب، لا نقد فيها ولا شك ولا تساؤل.
وحصيلة هذا كله هي ما نشهده جميعا من ترديد النقاد الذين يتخذون المنظور الديني لعبارات محفوظة عن الاستشراق، دون أية محاولة لاستقصاء أصل هذه الأحكام والتأكد من صحتها. والأمر الذي لا شك فيه أن تنشئتهم على قبول فكرة السلطة، ومبدأ السمع والطاعة، يسهل قبولهم للأفكار الواردة في أي مقال تافه أو زعم غير مدعم في كتاب، عن «مؤامرات» المستشرقين التي يفترض وجودها في كل سطر من كتاباتهم، أو عن تحيزات الفكر الغربي وعيوبه وعجزه بالقياس إلى الفكر البديل الذي يقدمونه. وما دام الأسلوب الذي ينشأ عليه العقل هو الاكتفاء باقتباس النصوص والاستشهاد بها والاكتفاء بشهادتها على أنها أعظم حجة وأبلغ دليل، فليس من المستغرب عندئذ أن يتحول أي نص يعرض عليهم إلى سلطة فكرية لا تناقش.
وفي هذا الصدد يتبين لنا بوضوح أن الحملة التي شنها الأزهر ضد طه حسين «ومنهجه الديكارتي» بحجة أنها نماذج «للتغريب» الفكري - وهي الحملة التي بعثتها بعض التيارات الإسلامية المعاصرة إلى الحياة من جديد - لم تكن في واقع الأمر إلا دفاعا عن منهج «السلطة» والإيمان المطلق الذي يقوم عليه نوع كامل من التعليم. فالمنهج الديكارتي لم يكن يهاجم لأنه غربي المنشأ، بقدر ما كان يهاجم لأنه يدعو إلى الشك والنقد واختبار صحة المسلمات واستدعائها أمام محكمة العقل. وتلك قيم فكرية تتجاوز ديكارت، بل تتجاوز الحضارة الغربية ذاتها، رغم أنها نتاج مؤكد لمرحلة من مراحلها، فهي قواعد يفيد منها الفكر الإنساني غربيا كان أم شرقيا. ومن هنا فإن مهاجمة الأزهر لها كانت في واقع الأمر دفاعا عن منهج التسليم والتصديق والإذعان ضد خطر ساحق يبدده. وهجومه على كتاب «الشعر الجاهلي» و«الإسلام وأصول الحكم» كان في حقيقته هجوما على الجذور المنهجية التي بنيت عليها هذه المؤلفات، والتي يمكن أن يؤدي تطبيقها على ميادين أخرى إلى نتائج أشد خطورة. إنها هي ذاتها معركة ديكارت مع رجال الدين المسيحيين، الذين لم يهاجموه من أجل مضمون فلسفته بقدر ما هاجموه من أجل منهجه الذي يهدد بالامتداد إلى أخطر المناطق وأشدها حساسية في ميدان الإيمان.
8 (3)
أما الخطأ المنهجي الثالث، الذي يقع فيه نقاد الاستشراق من منطلق إسلامي، فهو ازدواجية المعايير؛ فهم في جميع الأحوال يطبقون على الحضارة الإسلامية معيارا، وعلى الحضارة الغربية معيارا آخر، دون أن ينتبهوا إلى التناقض الذي يقعون فيه. ونستطيع في هذا الصدد أن نقدم أمثلة لثلاثة أنواع من ازدواجية المعايير هذه: (أ)
نامعلوم صفحہ