فدنا أحد الرهبان من حسن وطلب الانفراد به، فلما انفردا قال له: «بما أني قد عرفت أن تلك السيدة هي والدتك، فأخبرك بأن السر الذي أسرته إلى الرئيسة إنما هو حكاية فقدكما، وقد أوصتني بأن أبحث لها عن أبيك وأخبرها، فهل تعرف عنه شيئا؟»
فقال حسن: «وهل ذكرت لك شيئا عن ولدها؟» قال: «لا.»
قال: «ذلك لأنها قد تحققت قتلي.» ثم أخذ في البكاء.
فقال له الراهب: «خفف عنك يا ولدي وأخبرني بما تعرفه عن أبيك؟»
قال: «لا أعرف عنه سوى أنه جاء إلى عكا هاربا من وجه حكامنا المماليك، وأنا الآن لم أصل إلى تلك المدينة، وقد كنت عازما على المسير إليها منذ أيام، ولكن خطر الطريق حال بيني وبين ما أريد.»
ثم صمت وأطرق مفكرا في ذلك الاتفاق العجيب، وبعد قليل رفع رأسه وقال: «من لي بأن أطير إلى القاهرة وأشاهد تلك الوالدة المسكينة وأعلمها بأني لا أزال على قيد الحياة، لا شك أنها حالما تراني تقع في دهشة وربما أصابها جنون؛ لأنها رأت بعينها الجلادين يقودونني بحبل ليغرقوني في البحر، وكيف تحلم بأني لا أزال حيا وهي لو علمت ذلك لطارت إلي بأجنحة الشوق، فكل همها الآن لقاء أبي.» ثم رفع يديه نحو السماء ودعا الله قائلا: «يا رب العالمين، أسألك بجاه سيد المرسلين ألا تحرمنا من الاجتماع مرة ثانية في بيت واحد، إنك جابر قلوب المستضعفين.»
فقال الراهب: «آمين يا رب آمين.» ثم خرجا إلى حيث كان الباقون. وعلم حسن أن لا بد من الانتظار حتى تمر قافلة فيصحبها إلى هناك؛ لأن الطريق لا يخلو من الخطر، فلم يسعه إلا الانتظار على نار. •••
خرج عبد الرحمن من صيدا مع خادمه برفقة جماعة يريدون عكا، فمروا بمدينة صور التي كانت منذ القدم أعظم مدن سوريا قوة وثروة، ومكثوا فيها يوما ثم ساروا منها يريدون عكا، فمروا بالناقورة وهي جبل صخري مرتفع واقع على شاطئ البحر، يخترقه طريق يصعب سلوكها؛ لوعورتها وتعرضها لهجمات اللصوص، وإذا نظر المار فيها إلى أسفل الجبل هاب ارتفاعه عن البحر وسمع صوت الأمواج تلطم قاعدته، وإذا نظر فوقه خيل له أن الجبل سيسقط عليه. فقطعوا ذلك الجبل بسلام وما زالوا يجدون السير ليصلوا إلى المدينة قبل الغروب؛ مخافة أن تغلق أبوابها قبل وصولهم. لكنهم أمسى عليهم المساء قبل أن يدخلوها، وكانوا بقرب بابها الشرقي فقال التجار: «نخشى إذا سرنا إلى المدينة أن يكون الباب مغلقا، فلنبت الليلة هنا، وفي الغد ندخل المدينة.» فنصبوا خيامهم وباتوا ليلتهم ساهرين؛ مخافة أن يعتدي عليهم أحد.
وكان عبد الرحمن وخادمه أكثر الجميع حذرا، فقضوا معظم الليل جالسين، ولما أصبح الصباح دخلوا المدينة جميعا، فسار عبد الرحمن توا إلى الخان الذي كان قد نزل به في المرة الأولى، فتلقاه صاحبه بالترحاب وأخلى له غرفة من غرفه، فمكث بها ذلك اليوم للاستراحة والاستعداد لمقابلة الشيخ ضاهر وعرض كتاب الأميرال عليه، وكان يخاف حبوط مسعاه، فكان تارة يفضل كتمان أمره حتى يقابل صديقه عماد الدين، وطورا تحدثه نفسه بالمسارعة إلى مقابلة الشيخ ضاهر، فلبث في المدينة وهو بلباس المغاربة أسبوعا، وأخذ يجول في أسواقها ويسير إلى مقر الحكومة لعله يلقى عماد الدين، لكنه لم يقف له على أثر، فاعتزم الانتظار حتى يلقاه ويستشيره في أمر الكتاب.
ثم سمع أن الشيخ ضاهر خرج في فرقة من رجاله لمحاربة بعض اللبنانيين في بعض الجهات، فلبث ينتظر عودته وهو يسعى جهده في البحث عن عماد الدين وحسن، فمضى شهر ومعظم الشهر الثاني دون أن يعلم شيئا جديدا حتى كاد ييأس، ثم ذهب يوما إلى قصر الشيخ ضاهر وقد التف ببرنسه وخادمه يحمل له الجراب إيذانا بأنه طبيب مغربي يكتب الحجاب ويكتب الكتاب ... إلخ. فلما أشرف على القصر عند الزاوية الشمالية لسور المدينة تعجب لهول منظره؛ لأنه رآه أشبه بالقلاع لعلو أسواره ومتانة بنائه، وفيما هو يتأمل ذلك البناء وقد هم بالدخول رأى أحد الجند قادما وعرف أنه الهجان الذي ذهب إلى بيروت برسالة الشيخ ضاهر إلى الأميرال الروسي، وكذلك عرفه الجندي فحياه وسأله عن أمره فقال: «إني أزاول مهنة الطب هنا.» وأخذ علي يطنب للجندي في مدح مهارة سيده في تلك المهنة، وسأله عبد الرحمن عن عماد الدين فقال: «إنه سار برفقة الشيخ ضاهر ولا يلبث أن يعود.»
نامعلوم صفحہ