فقال: «هذه معاهدة أخرى، عقدت بين علي بك وبين الكونت ألكسيس أورلوف أميرال الأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وقد تمت بوساطة رجل أرمني من مستشاري علي بك اسمه يعقوب. وقد كان هذا وذاك مما أغرى علي بك بالمضي في خطة الخروج على الخلافة ومحاولة توسيع نطاق سلطانه والاستقلال بمصر. وها أنت ترى أنه بذلك قد خرب البلاد، وسلب أهلها أملاكهم وأرزاقهم.»
فعاد السيد عبد الرحمن إلى تذكر مصائبه وأفدحها أخذ ولده الوحيد إلى حرب لا غاية لها إلا مناوأة دولة الخلافة وتمكين السلطة للمماليك الظلمة المفسدين، فتنهد وكفكف دمعة انحدرت على خده وقال: «ألا يرى السيد أن هناك أملا في إطلاق سراح ولدي المظلوم. إنه وحيد أبويه كما تعلم، ولم يجاوز العشرين بعد، ولا معرفة له بالحرب والقتال، فهو قد أمضى طول عمره حتى الآن في الدرس والتحصيل ونسخ الكتب القيمة النادرة من المكتبات. وأعتقد أنه إن مضى إلى الحرب فهو هالك لا محالة. كما أني وأمه لن ننتفع بحياتنا بعده؛ إذ هو كل آمالنا في الحياة.» قال ذلك وعاد إلى البكاء.
فأخذ السيد المحروقي يخفف عنه وقال له: «إن علي بك كما تعلم رجل غضوب، اشتهر بأنه أشد بطشا من أسلافه جميعا، وكنا نحسب في أول عهده أنه أقرب إلى العدل والرفق بالرعية، مما كان يصرح به حينذاك، لكنه ما لبث قليلا حتى عاد إلى ما طبع عليه هو وأسلافه من الجور والإرهاب وأكل أموال الناس بغير الحق، وقتلهم بالجملة دون أي ذنب اقترفوه. حتى صارت رؤيته وحدها كافية لإدخال الرعب والفزع إلى قلوبهم. ولعلك سمعت بالمساكين الذين ماتوا في مجلسه منذ حين، حين رأوه لأول مرة فأرعبتهم هيئته التي تظهره أقرب إلى الأسد منه إلى الإنسان!»
قال: «نعم سمعت بذلك، غير أني أعلم كما يعلم غيري أنه يجل منزلتك ويحترم كلمتك. وأرجو أن تزول شدتي بفضل وساطتك في قضيتي عنده إن شاء الله.»
فقال السيد المحروقي وهو يمشط لحيته بيده: «حقق الله رجاءك، وسأسارع إلى مقابلته الآن لأخاطبه في هذا الشأن، وعسى الله أن يرقق قلبه فيكرم شيبتي هذه ولا يردني خائبا.» •••
صفق السيد المحروقي بيده، فجاء أحد خدم الدار ووقف متأدبا، فقال له: «سأخرج بعد ساعة في مهمة إلى القلعة، فأبلغ السائس ليسرج البغلة.» فحنى الخادم رأسه سمعا وطاعة وانصرف لتنفيذ ذلك الأمر.
وبينما السيد عبد الرحمن يهم بالنهوض مستأذنا في الانصراف وهو يكرر الشكر للسيد المحروقي على كرم وفادته ومبادرته بإجابة ملتمسه، جاء إلى القاعة خادم آخر وقال: «إن سراج علي بك (سائس جواده) بالباب.» فقال السيد: «دعه يدخل.» ثم التفت إلى السيد عبد الرحمن ونظر إليه كأنه يستبقيه حتى يعلم فيم أرسل علي بك يدعوه إليه. فبقي جالسا حتى عاد الخادم ومعه السراج، ثم وقف هذا متأدبا بباب القاعة وقال: «إن مولانا علي بك يدعو سيادتكم إلى منزله الليلة للمفاوضة في بعض الشئون.»
فسأله السيد المحروقي: «وأين هو الآن؟»
قال: «هو في القلعة لاستعراض الجنود المسافرين الليلة إلى الحجاز، وقد تركته جالسا في قصر الباشا هناك بعد أن عزل هذا وتم الاستيلاء على القلعة وما فيها.»
فقال السيد المحروقي: «أبلغ تحياتي إلى البك، وسأكون في شرف مقابلته بعد ساعة إن شاء الله.»
نامعلوم صفحہ