و«فليكوفسكي» الذي يريد تحقيق المطابقة التامة بين أحداث البردية وأحداث التوراة، لا يعمد إلى التأويل، لكنه يركن إلى قدرته على استخدام الأدوات الفنية في الصياغة والتوصيل، فيمزج كلامه بكلام التوراة بكلام البردية، ويتداخل الكل وسط شوق متأجج يضع فيه القارئ الذي إن التفت إلى الأمر في البداية، فلن يستمر منتبها له وسط زحمة الأحداث وتسارعها. وعندما يدرك «فليكوفسكي» التوقيت المناسب الذي يحتمل أن يكون القارئ قد بات فيه مستسلما له، يدخل مباشرة بكل ثقله ليمرر ما قد لا يتفق إطلاقا مع فروضه، ويربط بين ما لا يمكن توافقه بين البردية والتوراة؛ فبينما كان الحديث عن الدم في النهر لضحايا الثورة، وتماسيح النيل، يصبح حديثا عن تحويل مجرى النهر دما، دون الإشارة إلى ثورة أو تماسيح، ويأتي بالنص «هذه مياهنا وهذه سعادتنا فماذا نفعل؟» لتشير دون أي وجه لتشابه مع نص التوراة «مات السمك الذي في النهر وأنتن النهر.» ولما لا يجد بالبردية نصا واحدا يشير إلى ضربة البرد لا يجد بأسا من الاستشهاد بنصوص تشير لنتائج الثورة الوخيمة، كإهمال شئون الفلاحة والري من قبيل «لا فاكهة ولا محاصيل موجودة» كما يجعله أيضا دلالة على ضربة الجراد الذي لا يوجد لها أي ذكر بالبردية، لكنه يجد صيدا ثمينا في النيران التي أشعلها الثوار في المباني الحكومية ليطابقها مع التوراة «وجرت نار على أرض مصر»، لكن الفاضح في الأمر أنه لا يزيف الدلالات فقط، بل يبلغ حد التزوير التدخل في بنية النص عندما يضيف من عنده داخل علامات تنصيص تنص على اقتباس نص من البردية «والنار التي أهلكت الأرض لم تنشرها أيد بشرية لكنها سقطت من السماء.»
وأحيانا يحمل الألفاظ فوق طاقتها، كما في تعقيبه على نص البردية «أحقا اختفى ما كان بالأمس مرئيا»، رغم أن المصري لم يزل حتى اليوم يستخدم كلمة «بالأمس» للدلالة على وقائع وأحداث مرت عليها أجيال. أما انتحاب الماشية على أحوال البلاد، وهو تعبير شائع في الكتابات المصرية، فيتحول بقدرة قادر ليلتقي مع قول التوراة: «يد الله تكون على مواشيهم التي في الحقل، على الخيل والحمير «والجمال» والبقر والغنم ... سيفتك بها طاعون.» والمثير أن مصر لم تعرف في تاريخها القديم ولا نقوشه ولا ألفاظه ما يشير إلى معرفتها بالجمل، أما الأكثر إثارة فهو أن فليكوفسكي قد فاته أن المصريين لم يعرفوا الحصان والعجلة التي تجرها الخيل إطلاقا وبالقطع، قبل قدومهما مع الهكسوس الغزاة. وحسب نظريته هو، فإن بني إسرائيل خرجوا من مصر قبل دخول الهكسوس إليها؟!
ولأن التوراة تتحدث عن ضربة البرد، ولا برد في البردية، فإن «فليكوفسكي» يتقصى حتى يجد معلومة يتيمة في كتاب وضعه «أرتبانوس» عن أحداث غير معلومة المصدر، نقلها عن «إيسابيوس» يحكي فيها عن صقيع وزلازل أثناء ليلة البلاء الأخير «حتى إن أولئك الذين فروا من بيوتهم خوفا من الزلزال قتلهم البرد.» والمعلوم أن «إيسابيوس» راوية مرتبط بروايات التوراة في كثير من تخريجاته، أما الكتاب الأصلي الذي وضعه «أرتبانوس» ونقل عنه «إيسابيوس» فهو كتاب مجهول، ولم تكتشف منه نسخة واحدة اليوم !
وكان معنى أن يسقط «فليكوفسكي» من اعتباراته الإشارات الكثيفة والواضحة والمتكررة إلى الثورة الطاحنة، أن يلحق الشك عمله بكامله، ولأنه أذكى من ذلك، فقد خصص فصلا بعنوان «البكر أو المختار» ليفرغ فيه المحتوى الثوري ودلالته، ليصب في دلالات أخرى توافق التوراة. ولأنه من جانب آخر لم يجد في التوراة ذاتها ما يشير إلى تلك الثورة الشعبية الطبقية، فقد جعل من فصله متاهة للقارئ بعبقرية يحسد عليها، مهد له بفصل «الليلة الأخيرة»، وألحقه بملاط لاصق جيد التماسك في فصل «تمرد وفرار»؛ بحيث أصبحت كل نصوص البردية التي تتحدث عما لحق الأغنياء والفقراء من تحولات، وما آل إليه أبناء النبلاء من مصير بالقتل أو التشرد، إنما حديث واضح عن الضربة الأخيرة في الليلة الأخيرة ؛ حيث سفك رب التوراة دم المصريين في تلك الليلة، ولم يعد قانعا بقمله وذبابه وبعوضه وجراده وضفادعه، فنزل تقتيلا لكل بكر في كل بيت، إنسان أو بهيمة، مع الأخذ بالحسبان أن تلك الضربة لم تلحق أيا من بني إسرائيل أو مواشيهم، بعد أن ميزوا بيوتهم للرب الذي هبط يتخبط كرها وفظاظة، والتاثت روحه برائحة الدماء سعارا، وذلك بأن قام بنو إسرائيل يرشون دماء الحيوانات على أبواب بيوتهم كعلامات للرب الهائج، كي يظن أنه قد سفك دم أهلها فيعبر عنها.
7
ويؤكد الرجل نظره في مقتل المختارين من مصر بنص البردية «انهار المسكن في لحظة»، بحيث إن الزلزال قتل سكان المنازل الفخمة، والبيت الملكي تحديدا (رغم نص البردية على سلامته)، لكن السؤال المشروع هنا هو: كيف أمكن لزلزال بهذه الشدة أن ينتقي انتقاءين متميزين: الأول: أن يصيب المصريين ولا يصيب الإسرائيليين (ولا يمكن في هذه الحال قبول حجة أن الإسرائيليين كانوا يسكنون بعيدا عن المصريين في مصر، وإلا ما ميزوا بيوتهم بالدم، وما تيسر لنسائهم استعارة ذهب المصريات الساكنات معهن ونزيلات بيوتهن لسلبه ليلة الخروج حسب نصيحة موسى لهن وحسب نص التوراة).
8
أما الانتقاء الثاني غير المفهوم، فهو «كيف أمكن لزلزال أن ينتقي أغنياء مصر ويميز أمراءها ويصيبهم دون الفقراء ؟» إن الكارثة الوحيدة والوباء الوحيد الذي يمكن أن يفرز هذا الفرز هو ثورة طبقية واعية، وهو ما يفسر لنا بقاء المعابد الضخمة والأهرام وغيرها من آثار سبق بناؤها العصر الذي نحن بصدده، ولم يشر إليه «فليكوفسكي» إزاء زلزاله العظيم.
ويلاحظ القارئ هنا كاتبنا - وهو بسبيل التغلب على العقبة الكأداء بالبردية، وما تحمله من أحداث تشير إلى ثورة الجماهير المصرية ضد طغيان النبلاء والملك - يروح ويجئ قبل إلقاء ما في جعبته فيقلب أكثر من حقيقة رأسا على عقب؛ فهو يحول الحديث عن السجن الذي حطمه الثوار لإطلاق المعتقلين، إلى حديث آخر يقول: «لقد حرك مشهد أبناء الأمراء المسحوقين على أرض الشوارع الصخرية المظلمة (لا توجد في مصر شوارع صخرية بالمناسبة)، والجرحى والموتى بين الأنقاض، حرك لوعة وأسى الشاهد المصري، ولم ير أحد ما حدث في أقبية السجن، تلك الأقبية التي حفرت تحت الأرض وأغلقت أبوابها على السجناء (الرجل هنا يصور لنا مصر كما لو كانت أوروبا العصور الوسطى)، ولم ير أحد العذاب الذي تعرضوا له حين انهارت تلك الأقبية فوق رءوسهم ودفنتهم أحياء تحت الأرض»، وكل ذلك جاء فيما يرى في العبارة اليتيمة، التي بحثنا عنها عبثا، وتقول «السجن حطام.» وأبدا لم نجدها.
أما كفر الناس بالآلهة الرسمية وتطاولهم عليها، فهو ما يشير إلى قول التوراة «وأصنع أحكاما بكل آلهة المصريين.» ونبش قبور الموتى الأثرياء أصبح عنده «ولم تكن الأرض أكثر رحمة بجثث الموتى في قبورهم؛ فالمقابر لفظت موتاها وتمزقت الأكفان.» أما الدليل فمن الهجادا التي كتبت بعد ذلك بما يصل إلى ألفي عام.
نامعلوم صفحہ