ثم يستكمل سفر الخروج قصة الدخول، فيقول: «وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا، وامتلأت الأرض منهم، ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فقال لشعبه: هو ذا بنو إسرائيل شعب أكثر وأعظم منا، هلم نحتال لهم لئلا ينموا فيكون إذا حدثت حرب أنهم ينضمون إلى أعدائنا، ويحاربوننا ويصعدون من الأرض، فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم، فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيتوم ورعمسيس» (1: 7-11). ثم يلي ذلك سرد الأحداث المعروفة مع ظهور «موسى» من نسل يعقوب (إسرائيل) حتى الخروج الإعجازي، وحسب النص التوراتي اليوناني المعروف بالسبتواجت (السبعيني)، فإن مدة بقاء بني إسرائيل في مصر كانت 215 سنة. أما النص العبراني المازوري، فيذهب إلى أن مدة بقاء بني إسرائيل في مصر استغرقت 430 سنة وتشهد على ذلك عدة نصوص توراتية، منها بالنص العبراني: «ودور ربيعي يشبوا هنا» وتعني «في الجيل الرابع يرجعون إلى هنا»، وقد احتسبت كلمة «دور» بمعنى مائة سنة كاملة، بدليل نص آخر يقول فيه الرب لإبراهيم، «اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم، ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة» (تكوين، 15: 13). وبالاستناد إلى نص آخر واضح تماما يقول: «وأما إقامة إسرائيل التي أقاموها في مصر، فكانت أربعمائة سنة وثلاثين» (خروج، 12: 40). هذا بينما يحدد لنا الإصحاح السادس من سفر الخروج أسماء لأربعة أجيال فقط من نسل يعقوب عاشت في مصر إلى زمن الخروج؛ فقد أنجب «لاوي» أخو يوسف وابن يعقوب «كوجات»، وأنجب كوجات «عمران» وأنجب عمران «موسى» الذي قاد رحلة الخروج، ولو افترضنا أن كلا منهم قد أنجب ابنه وله من العمر خمسة وعشرون عاما، فإنهم يكونون قد لبثوا في مصر حوالي مائة سنة ربما تزيد قليلا، وليس أربعمائة سنة، ذلك الزمن المعمول به لدى الباحثين التوراتيين لمدة بقاء الإسرائيليين بمصر، وهو رقم (أي الأربعمائة سنة) بجمعه لستمائة ساقطة التاريخ عند «فليكوفسكي»، تذهب بنا إلى عصر بناة الأهرام، «ويكون بنو إسرائيل اليوم، هم فعلا أحفاد بناة الأهرام، الذين استعبدوا في مصر».
هذا بينما على الجانب الآخر، يعطي لنا سفر الخروج عدد الخارجين من بني إسرائيل في قوله: «فارتحل بنو إسرائيل ... نحو ستمائة ألف ماش من الرجال، عدا الأولاد» (12: 37)، وبإضافة الأولاد والنساء ربما ارتفع الرقم إلى أكثر من مليون، وربما ارتفع إلى مليونين إذا أخذنا بالاعتبار بقية النص «وصعد معهم لفيف كثير جدا أيضا» (12: 38)، وإن كان لا يحدد جنس هؤلاء اللفيف، الذين لن يكونوا بالطبع جنسا آخر غير المصريين، بما يشير إلى خروج أعداد من المصريين مع الخارجين.
وهكذا فإن «فليكوفسكي» لا يتعرض بالمرة لهذه الإشكالية، التي دفعت المؤرخين إلى قرن بني إسرائيل بالهكسوس بالنظر إلى عدد الخارجين الهائل، وهو ما كان مناط احتجاجه ورفضه، وقد أسس هؤلاء المؤرخون رأيهم بالإضافة إلى عدد الخارجين، على الزمن الذي استغرقوه بمصر وهو أربعة قرون، مع الأخذ بالحسبان أن رقم الخارجين لا يتناسب بحال مع سبعين فردا دخلوا مصر وعاشوا فيها لأربعة أجيال فقط. هذا بينما أهمل «فليكوفسكي» مسألة الدخول بالمرة، حتى لا يتعرض لإشكالية: كيف ينجب سبعون شخصا ما يزيد عن مليون شخص خلال أربعة أجيال فقط، وهو ما كان ممكنا أن يضطره إلى الأخذ بأحد احتمالين، لا بد أن يكون الكتاب المقدس بموجبه كاذبا في الاحتمال الآخر.
فإما أن يأخذ بكون الخارجين نسلا لأربعة أجيال فقط، وفي هذه الحال لن يزيدوا بحال عن خمسمائة شخص أو ألف أو ألفين لو بالغنا، مع افتراض فحولة لا تبارى في الرجال، وخصوبة عظيمة في النساء، وهو - أساسا - ما لن يلتقي مع فروضه ونتائجه؛ حيث انتهى إلى أن «شاول» ملك اليهود، مع «مئات الألوف» من جنوده، هم من دمروا عاصمة الهكسوس (حواريس) وحرروا مصر.
وإما أن يأخذ بالاحتمال الثاني الذي يؤيد فروضه، وهو أنهم عاشوا في مصر أربعمائة سنة ليتيسر لهم إنجاب هذا العدد الهائل، لكنه «في هذا الحال كان لا بد أن يقر بنظرية أنهم كانوا هم ذات عين الهكسوس».
وحتى لا يقع بين شقي الرحى، فقد أهمل تماما الإشارة إلى حدث الدخول، وهو الأمر الذي ربما غرب على بال القارئ وسط زحمة الإثارة وكم الإدهاش، لكنه بتعمده هذا أثبت غرضية واضحة بعيدة عن روح العلم، وأول شروط العلم هو الأمانة فيما نعلم، وهذا أول الغيث الفليكوفسكي، كان لا بد من الإشارة إليه، قبل البدء في مناقشة فروضه وطروحاته ووثائقه وبراهينه واحدا واحدا.
ونعود الآن لكلامه «إننا سنجد أنفسنا مضطرين للإقرار وباعتراف صريح مباشر، أن الكلمات - في الكتاب المقدس - تعني ما تقوله تماما.» لنجدها حسب ما أوردنا الآن لا تعني ما تقول، ولا تلتقي مع أي فروض. وكان كلامه تمهيدا للاستشهاد بالنص الذي أورده هكذا «ارتجت الأرض ... وارتعشت أسس الجبال ... تحركت واهتزت ... دخان ونار ... فظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة» (أسقط هنا الإشارة إلى موضع النص بالكتاب المقدس).
هنا عمد «فليكوفسكي» مباشرة إلى النص التوراتي الذي رآه أهلا لتصوير الكارثة التي صاحبت الخروج، وربما مر القارئ على النقاط الأفقية بين العبارات مرور الكرام، وهي في عرف الباحثين مواضع لجمل أو فقرات تم الاستغناء عنها لعدم صلتها بالموضوع ، وحتى لا تصرف ذهن القارئ عن جوهر الموضوع، وهي إحدى أدوات البحث العلمي ولا اعتراض. لكن كل الاعتراض يكون عندما نعلم أن للكاتب مقاصد غير أمينة، وأنه قد عمد إلى الإسقاط والحذف لأن المحذوف كان ممكنا أن يتعارض مع فروض الكاتب وما يريد الوصول إليه؛ باختصار هي انتقائية وعدم أمانة واضح، وللتأكد إليك النص الأصلي من الكتاب المقدس:
وفي ضيقي دعوت ربي، وإلى إلهي صرخت، فسمع من هيكله صوتي، وصراخي قدامه دخل أذنيه، «فارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال»، ارتعدت وارتجفت لأنه غضب، صعد دخان من أنفه ونار من فمه، أكلت جمرا، اشتعلت فيه، طأطأ السموات ونزل وضباب تحت رجليه، ركب على كروب وطار، وهف على أجنحة الرياح، جعل الظلمة ستره، حول مظلته ضباب المياه وظلال الغمام من الشعاع قدامه عبرت سحبه، «برد وجمر ونار»، أرعد الرب من السموات والعلى، أعطى صوته بردا وجمرا ونارا، أرسل سهامه فشتتهم، وبرقا كثيرة فأزعجهم، «فظهرت أعماق المياه وانكشفت أسس المسكونة» من زجرك يا رب، من نسمة ريح أنفك، أرسل من العلى فأخذني ... (المزامير، 18: 6-16)
هذا هو النص، وقد عمدنا إلى إبراز ما انتقاه «فليكوفسكي» ببنط مميز، انظر مثلا «صعد دخان من أنفه ونار من فمه»، أصبحت في النص الذي استشهد به «دخان ونار » حتى تشير إلى صورة الكارثة التي صاحبت الخروج كما صورها، ولا بأس علينا إن لفق الرجل في نصوص كتابه المقدس، لأن بني ملته أدرى بالنصوص الأصلية، لكن البأس أن زور علينا وعلى العالمين!
نامعلوم صفحہ