ومن بردية ساليه يخرج «فليكوفسكي» بمدى الازدراء والاحتقار الذي كان يعامل به الهكسوس أمراء الولايات المصرية، وكيف حكت تلك البردية عن رسالة مهينة من «أبوب الثاني» إلى «سقننرع» أمير طيبة، وكيف «يظل أمير المدينة الجنوبية صامتا، ثم بكى لوقت طويل، ولم يدر بم يجيب على رسالة الملك أبوفيس.» ومن ثم «قبض على الأمير المصري، «وساقه رسول الملك أبوب الثاني إلى حواريس»، ونهاية البردية مفقود.»
لكن الأمير «كاموس» ابن الملك الطيبي «سقننرع» قاد أولى عمليات المقاومة «ضد الهكسوس العرب، بمعاونة قوات أجنبية»، كما هو مسجل بلوح كارنارفون، كما أن قصة طرد الهكسوس محفورة على جدران مقبرة الضابط «أحمس»، وكان ضابطا في جيش الملك «أحمس» الذي حمل الاسم ذاته، أخي الملك «كاموس» وقد قاد الكفاح ضد الهكسوس بعد أخيه. وهنا يقول «فليكوفسكي»: ««إن الأمراء المصريين المتمردين على حكم الهكسوس، لم يكونوا هم من حرر مصر، لكن مقاتلين أجانب من خارج مصر» هم المحررون الحقيقيون لها؛ فالنقش بمقبرة الضابط أحمس يقول: تابعت الملك سيرا على أقدامي في حين ركب عجلته الحربية، في طريقه إلى خارج الولاية ... «كانوا هم» يحاصرون مدينة حواريس، أظهرت بسالة في القتال مترجلا أمام سموه ... «كانوا هم يحاربون» من جهة قناة المياه في حواريس، ثم نشب قتال جديد في ذلك المكان ... وشاركت في القتال مرة أخرى ... «حاربوهم» في مصر هذه جنوب تلك المدينة ... ثم استطعت اقتياد أسير حي ... «استولوا هم» على حواريس «وهم حاصروا» شاروهين لأربعة أعوام، ثم أخذها جلالته.»
ويتوقف «فليكوفسكي» مع أولئك الأجانب المشار إليهم بإشارة الغائب (كانوا هم) في النص، ليشير إلى أنهم أصحاب الفضل الحقيقي في تحرير مصر من العرب العمالقة الهكسوس، ليقرنه مباشرة بنص الكتاب المقدس؛ حيث يقول «صموئيل» آخر قضاة إسرائيل، «لشاول» أول ملوك إسرائيل: «هكذا يقول رب الجنود: إني قد افتقدت ما عمل عماليق بإسرائيل؛ حيث وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالآن اذهب واضرب عماليق، وأحرموا كل ماله (أحرموا اصطلاح توراتي بمعنى أبيدوا، والإشارة من عندنا)، ولا تعف عنهم «بل اقتل رجلا وامرأة، وطفلا ورضيعا، بقرا وغنما، حملا وحمارا» ... ثم جاء شاول إلى مدينة عماليق وكمن في الوادي ... وضرب شاول عماليق من حويلة حتى مجيئك إلى شور التي مقابل مصر وأمسك أجاج ملك عماليق حيا» (صموئيل أول، 15: 2-8). ويعقب: «كانت عبارة مدينة عماليق عقبة دائمة أمام دارسي التوراة؛ فقد كانوا يفترضون أن العماليق ليسوا سوى قبيلة صغيرة ... والأدلة الوحيدة على موقع تلك المدينة هي العلامات الطبوغرافية لموقعها؛ فالمدينة حوصرت من جهة مجرى قناة للمياه، أو نهر ناخال ... ولا يوجد في كل تلك المنطقة سوى نهر وادي العريش؛ حيث تجري مياهه غزيرة بالشتاء، ويجف مجراه صيفا.»
ونكتشف أن مدينة العماليق ليست سوى «حواريس»، وأن أجاج هو «أبوب»، وأن «هم» ليسوا سوى بني إسرائيل بقيادة الملك «شاول»؛ ومن ثم وجد «فليكوفسكي» أن من واجبه إعلان «أن هناك دينا تاريخيا يدين به الشرق الأدنى لنيله حريته، وتخليصه من نير عبودية الهكسوس على يد شاول»، لكن أعماله العظيمة لم تقدر، بل حتى لم يعترف بها. لقد كان سقوط حواريس وتدمير جيوش العماليق، تغييرا حاسما لمسار التاريخ، ومن جديد نهضت مصر لتبني قوتها مرة أخرى، وتستعيد إشراقها بعد أن تحررت من العبودية التي دامت مئات السنين، و«كان محررها واحدا من بين أحفاد اليهود الذين كانوا عبيدا بمصر».»
بل إن حصار «شاروهين» بعد ذلك حيث انسحب الهكسوس، والذي دام ثلاث سنوات لم ينته على يد المصريين كما يظن علم التاريخ التقليدي، لكن على يد أحد قادة جند الملك «داود» خليفة «شاول» والمعروف باسم «يوآب»، والذي تتواتر عنه أسطورة تقول إنه اخترق بمفرده أسوار عاصمة العماليق، وقد كتب الضابط «أحمس»: ««لقد حاصر هو» شاروهين لمدة ثلاثة أعوام ثم أخذها جلالته.» وكلمة «هو» في النص تشير بالضرورة فيما يرى فليكوفسكي إلى «يؤاب».
وقبل أن يصل «فليكوفسكي» إلى إغلاق القسم الأول والأساس الصلب لنظريته لا يفوته القول: «لم يستطع الإسرائيليون أبدا أن ينسوا معاناتهم في مصر، ولكنهم لم يحملوا أبدا أية كراهية للمصريين، أو للشعوب الأخرى في تلك المنطقة القديمة، لكن العماليق وحدهم هم الذين أصبحوا رمز الشر في نظرهم؛ ومن ثم هدفا لكراهيتهم. إن الشر الهائل في ذلك الشعب ظل يتكرر حتى الملل في آداب الفكر القديم، «وكيف كانوا يمتصون دماء الشعب المرهق في تيه الصحراء (يقصد بذلك الشعب المرهق اليهود)، وكيف كانوا ينصبون الكمائن بكل خسة وجبن، ويستولون على الأقوات القليلة، وكيف كانت حقارتهم ووضاعتهم ووحشيتهم تظهر في مهاجمتهم للضعفاء في مؤخرة القافلة، وكانوا يبترون أعضاء وأطراف الجرحى ويمثلون بهم ويهرطقون ويجدفون بكفر صارخ، بقذف الأعضاء المبتورة من الجرحى نحو السماء، ويسخرون من الرب ... لقد خلف الهكسوس ذات الكراهية في نفوس المصريين؛ فقسوتهم البالغة، ووحشيتهم التي لا تعرف رحمة، تركت آثارا من المستحيل محوها من ذاكرة الشعوب ... لقد كان قدر شاول أن يحمل مهمة تحرير إسرائيل ومصر على عاتقه، ولم يذكر المصريون إسرائيل بالتقدير المناسب، وأشار إليهم المصريون ب «هو» و«هم»» وفي ذلك بعض الظلم. وكانت مكافأتهم للإسرائيليين ما قام به المؤرخون المصريون بجمعهم الإسرائيليين مع المخربين الهكسوس في سلة واحدة، مع أن الإسرائيليين هم من طردوا الهكسوس من مصر ومن حواريس. وفي عالم الإغريق وإمبراطوريتهم لم توجد إشارة واحدة إلى كراهية عنصرية لليهود، «حتى بدأت قصص المصري «مانيتون» في الانتشار والذيوع، وحين عرف اليهود كسلالة منحدرة من العماليق الغزاة المتوحشين» ... وكانت هناك كراهية موازية لا تقل عنها ومتأججة على الدوام من نفوس اليهود وذاكرتهم نحو العماليق. إن الكراهية من الممكن أن تدوم وتمتد عبر الزمن حتى ولو لم يعد المستهدف بالكره موجودا على ظهر الأرض. وكم كان يصبح عليه مقدار هذا الكره، إن لم يكن «المكروهون قد ذابوا بشخصيتهم القومية من آلاف السنين في شعوب شبه الجزيرة العربية؟! لقد رأى المؤرخ المصري مانيتون أن اليهود هم البذرة الخسيسة للطغاة المتوحشين، وتسللت تلك الكراهية إلى كل الأجيال. «إن اللعنة التي وجهت إلى العماليق تحولت لتنصب على بني إسرائيل»، ومحيت ذكرى العماليق حتى لم يعد هناك من يعرف أن العماليق كانوا هم الهكسوس، واستمر الإسرائيليون يعانون أشد المعاناة بسبب تشويه حقائق التاريخ، وحملوا آلام إدراجهم في سلالة العماليق، «وبدأ ذلك العقاب التاريخي حين أطلق مانيتون أحكامه الخاطئة، مانيتون المصري الذي تحررت أمته من الهكسوس على يد اليهود.»
ومن هنا يبدأ «فليكوفسكي» مشواره الطويل لإعادة كتابة تاريخ العالم وترتيب فوضى العصور، مع الإصرار على معالجة ذلك التشويه الظالم الذي لحق بني جلداته، وإلى هنا نوقفه، لنبدأ رحلتنا معه مرة أخرى من البداية. ورغم اعترافنا بقدرته العظيمة على البحث، واحترامنا لجهده الهائل، ووصفنا له بأنه رجل من نوع نادر وفذ، فإن ذلك لا يمنعنا من وصفه الآن بأنه أبرع رجل علم، تمكن من استخدام أدوات البحث العلمي لإجراء أروع بل وأمتع عملية «تزييف وتلفيق وتزوير»، في تاريخ الدين والتاريخ. (4) التحدي
وعود على بدء، ومع مقدمة «عصور في فوضى»، تلك المقدمة الهادئة المغلفة داخل طرح علمي لأهم الإشكاليات التي سيتناولها ذلك التنظير التاريخي للقومية الإسرائيلية، دون أن تبدو أية ملامح لتلك النقمة الشديد على التاريخ الذي أهمل شأن شعب إسرائيل، ورماهم بكل ما في قاموسه من اصطلاحات عدائية في كتاباته المتأخرة من بعد الميلاد - لذلك استحق أن يعاد النظر فيه؛ لأنه بخطيئته كان خاطئا - يوحي كاتبنا بمدى ما أصيب به من عسر ومشقة وهو يبحث في مدونات العالم القديم، وهو لا شك محق في ذلك تماما. لكن الإيحاء يتوسع في دلالاته؛ حيث يصف الكاتب نفسه بأنه سيكون كرجل المباحث، الذي لا يهمل في بحثه وراء الجريمة شيئا مهما بدا تافها و«حتى لو كان شعرة على عتبة نافذة». لكن ما وضح عندما أن أتممنا قراءة العمل، وسعينا وراء مصادره، أن الرجل فعلا لم يهمل شعرة على عتبة نافذة، ولا خطأ عفويا على حائط، ولا كومة قمامة ملقاة في ركن غرفة، لكنه أهمل عن قصد مبيت وعن رغبة، عوارض خشبية تسد الطريق، وألواحا من حديد لا يمكن النفاذ من خلالها. وهنا مكمن خطورة الكتاب على قارئ ذي اهتمام عام بشئون التراث، لا يمتلك أدوات كافية للتعامل مع الكتاب ومؤسساته، وإمكانيات اللعب بنصوص ذلك التراث لعبة تلفيقية، ذات أغراض سياسية عنصرية، مغلفة بأردية شديدة الكثافة، ومخاطة بقدر عظيم من الذكاء، مادتها عقلانية ساطعة وعلم باهر؛ لذلك كان الرجل فخورا بعمله إلى حد وصفه في مقدمته أنه «إنجازه الأعظم على الإطلاق»، ثم لا يلبث أن يقدم تحديه للجميع سافرا: «وأنا أقدم هنا معركة كبرى للتاريخيين والمؤرخين.» ورغم أن الرجل يطلب عراكا، ويقفز على الحلبة طول الوقت دون أن يستقر ودون أن يلهث، مستفزا الجميع داعيا إياهم للنزال، فإننا فيما نعلم، وفي حدود بلادنا على الأقل، لم نجد من قبل النزال، إنما ما بدا حتى الآن هو القبول بقفازه المرمي على الوجوه، ثم يقول عن عمله «إعادة بناء التاريخ القديم للعالم من جذوره.» إنه عمل «غير مسبوق بمحاولات مثيلة.» بل «إنه ليست هناك أية فرضيات قوية، ولا أدلة ولا براهين، يمكنها أن تواجه أو تدحض إعادة صياغة التاريخ التي أوردناها.»
لكن، وفق أي معيار يقوم بإعادة كتابة التاريخ وإعادة تزمينه، ما دام الأصل المصري فاقدا السلامة؟ إنه كما عرضنا سار بنا مع وثائق وبرديات وحفائر وأحداث وكوارث، لكن كان يلقي بنا كل مرة في قبضة التاريخ الإسرائيلي، حيث ينتهي إلى قياس كل شيء بمعيار التاريخ اليهودي وحده، والكتاب الذي دون ذلك التاريخ، الكتاب اليهودي المقدس وحده، والعقل الذي صاغه، العقل اليهودي وحده.
لكنك لا تلمس بطول كتابه نزوعا إيمانيا حقيقيا، ولا يبدو الرجل كحبر من الأحبار، ولا حتى ذا ميول دينية، بل إنك تلمس رغبة الرجل في ألا يبدو رجل دين تقليديا، بل يكاد يفصح أحيانا بإلحاده. لكن لأن قيام الدولة الإسرائيلية حاليا، لا يجد أي دعامات من مقومات الكيانات السياسية، ولا يجمع عقدها المتنافرة سوى الدين وتلك الذكريات التاريخية، كأسس للقومية الإسرائيلية، فإن «فليكوفسكي» بكتابة هذا سجل أعظم نقطة في رصيد القوميات العنصرية، بقراءة موثقة، وتنظير قل أن يوجد مثيل له لتاريخ إسرائيل المقدس، وبحيث تطابق ما كنا نظنه خرافة وأساطير، مع وثائق أخرى رصدت ما بدا أنه حدث موضوعي واقعي، سحبت مصداقيتها على النصوص التوراتية في أدق تفاصيلها، وفي منمنمات تلك التفاصيل وفسيفسائها، حتى بدا كتابا لا يدخله الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وربما من باب التحدي لمن يفكر في النزال، قام الرجل يروعنا بمغامراته التي صاحبت نشر كتابه الأسبق «عوالم في تصادم»، ويقول: «إن مجموعة العلماء التي هاجمت عوالم في تصادم وأدانت مؤلفه، ولعدم قدرتهم على إثبات أن الكتاب أو حتى جزءا منه قد جانبه الصواب، أو إن إحدى الوثائق الواردة به مزيفة، فإن تلك المجموعة من العلماء انزلقت إلى موجة من التعصب الأعمى، بلا أدنى أسس علمية، وحاولوا وأد الكتاب في مهده، وهو بين يدي أول ناشر، بالتهديد بمقاطعة كل ما تنتجه تلك الدار من كتب ومراجع، وبلغ الأمر حدته حيث أجبروا عالما وكاتبا صحفيا على الاستقالة من عملهما؛ لكونهما اتخذا موقفا موضوعيا علنيا من الكتاب، مما حدا بكثير من المفكرين الأكاديميين بالجامعات، إلى السعي لقراءة كتاب عوالم في تصادم سرا والاتصال بكاتبه في الخفاء.»
نامعلوم صفحہ