فعل بنو إسرائيل بحسب قول موسى، طلبوا من المصريين أمتعة فضة وأمتعة ذهبا، وثيابا، وأعطى الرب نعمة للشعب في عيون المصريين حتى أعاروهم، «فسلبوا المصريين»، فارتحل إسرائيل من رعمسيس. (خروج، 12: 35-37)
وتأتي الضربة الحادية عشرة عندما قام ملك مصر وجيشه يطارد الهاربين، حتى أدركوهم عند بحر سوف، وهنا كانت المعجزة الكبرى:
ومد موسى يده على البحر فأجرى الرب البحر بريح شرقية شديدة كل الليل، وجعل البحر يابسة، وانشق الماء، فدخل بنو إسرائيل في وسط البحر على اليابسة، والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم، وتبعهم المصريون ودخلوا وراءهم ... فمد موسى يده على البحر، فرجع البحر عند إقبال الصبح إلى حاله الدائمة ... فدفع الرب المصريين في وسط البحر (خروج، 14: 27). (وبعد الخروج) كان الرب يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلا في عمود نار ليضيء لهم، لكي يمشوا ليلا ونهارا. (خروج، 13: 11)
وعلى قصة الخروج تلك، بكل تفاصيلها، أقام الباحث الصهيوني إيمانويل فليكوفسكي عمله الهائل، الذي انتهى فيه إلى تأكيد كل الأحداث التي روتها التوراة، بكل تفاصيل ضربات يهوه ومعجزاته التي صاحبت الخروج. وهو الأمر الذي يرضي الجانب الإيماني ليس فقط عند اصطحاب يهوه إنما لدى المسيحيين، بل والمسلمين بدورهم؛ فهو يشرح لهم عملية انشقاق البحر وتاريخيته، وما رافقه من قبل ومن بعد، من أحداث كسرت قوانين الطبيعة وقواعد الكون الثابتة، لكنه «يأخذ الجميع في سلة واحدة»، بعد تأسيس المقدمات العلمية للقواعد الإيمانية، إلى نتائج لا بد من التسليم بها إذا كانوا متسقين مع إيمانهم ومع أنفسهم، «وهي نتائج أبعد ما تكون عن أمانينا الوطنية والقومية»، وإذا كان ثمة شرخ أصيل في الذات، ما بين بعض المقررات الإيمانية التي تتناول بني إسرائيل، وما بين الأماني الوطنية والقومية، فإن فليكوفسكي لا يفعل شيئا سوى وضع القواعد الإيمانية على محك العلمية، ليثبت صدقها الكامل، ولا يبقى لدى قارئ طيب النوايا سوى الأخذ بالكفة الراجحة إيمانيا، وهو تسليم رسم له فليكوفسكي خطته ببراعة إلى محطة الوصول، بحيث يصادق الجميع من خلال عقائدهم على حق إسرائيل التاريخي، في التاريخ، وفي الأرض، بل وفي صفتهم كشعب فضله الله على العالمين.
أما نحن، فلا بأس عندنا في البحث عن أسس تلك الأحداث التي روتها التوراة والتي اكتست بثوب الإبهار الإعجازي في التاريخ الإسرائيلي، ولا بأس لدينا، ولا علينا، إن وجدنا لها تبريرا لا يصادم العقائد الثابتة، لكن دون افتئات على حقائق ذلك التاريخ وعلمية المنهج، وبغرض وضع ذلك التاريخ وتلك الأحداث في حجمها الصحيح ومقامها الفعلي من التاريخ. فقط نريد هنا القول: إنه بالإمكان حل إشكاليات التاريخ الإسرائيلي، ليس بنزوع عنصري، إنما بغرض علمي تماما، لا يستطيع أحد أن يصادر عليه، وذلك بالتعامل مع الأحدث الإعجازية في ذلك التاريخ، باعتبارها مواد قابلة للفحص، والإمساك بها، بحيث يمكن ضبطها ضبطا دقيقا، يضعها في حجمها، دون إهمال بعضها لصالح بعض، أو تضخيمها لتتحول إلى كتلة ضاغطة على ضميرنا الوطني وحسنا القومي، الذي ربما كان يبحث بعصبية وتوتر، عن مفاضلة قد تجرح بعض المقررات الإيمانية التي لا يصح جرحها، وتصادم في جانب آخر تطلعات وطنية وقومية مشروعة بدورها ولا يصح التنازل عنها، كالمفاضلة بين شعب مصر القديم وتاريخه العريق وفراعنته، وبين جماعة إسرائيل التي اتسمت بالقداسة وامتلكت أنبياء ومعجزات ثابتة أقرتها الأديان التالية لهم كما حظيت بعلاقة خاصة بالإله، سمحت بمنحهم تلك المنح والأعطيات، أو المفاضلة بين ملوك إسرائيل وجماعتها، وبين ملوك كنعان وشعبها الفلسطيني، وهي المفاضلة التي يمكن أن تؤرق الضمير الوطني، أو تجرح الحس العقائدي، في حال لزوم الاختيار ما بين فرعون وموسى، أو المصريين والإسرائيليين، وكذلك ما بين جالوت وداود، أو الفلسطينيين والإسرائيليين. لكن ذلك كله شيء وتأجيل التعامل مع كتاب فليكوفسكي شيء آخر، لا يقبل الإرجاء، وما على قارئنا إلا أن يشمر عن همته، لنتابع معا تنظيره بنى إسرائيل التاريخية، وممكناتنا في التعامل معها، في باب «التضليل الصهيوني».
نقد أسفار الأنبياء
(1) من عاموس إلى هوشع
أبدا لم يحتسب اليهود ولا كتابهم المقدس أن البطاركة الأوائل «إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط» أنبياء بالمعنى المفهوم من الكلمة في الإسلام أي رسل ذوي كتب، بقدر ما كانوا أسلافا لهم قدسيتهم لاتصالهم المباشر بالآلهة. وكان أول من وصف بصفة نبي صاحب كتاب بهذا المفهوم في التوراة؛ هو موسى سليل سبط «ليفي» أو «لاوي» الذي قاد حملة الخروج من مصر عبر سيناء باتجاه فلسطين.
وبعد موسى تواتر ظهور الأنبياء بكثافة خاصة بعد انقسام مملكة سليمان، وظهروا بمظهر القدرة على تلقي وحي الرب المعروف في المقدس باسم «روح الرب»؛ وهي القدرة المزعوم أنها منحتهم استطاعة التنبؤ بأحداث المستقبل وقدرة قراءة المغيبات.
واصطلاح «نبييم» هو جمع كلمة «نابي» أو «نبي» العبرية من «نبا» أي خرج وارتفع وظهر أو خالف القطيع، لكنها - نتيجة كثرة الأنبياء وسلوكهم - اتخذت دلالة الهذيان والخبال؛ فبعضهم كان هاذيا مخبولا وبعضهم كان صادقا في تمنياته التنبئية، وبعضهم كان صاحب طموحات دنيوية محض يريد تحقيقها عبر هذا الهذيان النبوي، وبعضهم كان قاسيا يقرع أسماع شعبه بالقول الغليظ ويتوعده بعقوبات عظيمة أو بهجوم الشعوب الأجنبية عليهم؛ تلك الشعوب التي تحولت لدى الأنبياء إلى أداة وعصا عقاب وتأديب يستخدمها يهوه لتأديب شعبه المختار. وعادة ما كان هؤلاء يختتمون نبوءاتهم بعزاء أنه إذا سار الشعب الإسرائيلي في طريق يهوه وتاب عن خطاياه، فإن يهوه سيظهر حبه لشعبه المختار من جديد.
نامعلوم صفحہ