وبالعودة إلى الكتاب المقدس نجده يحكي لنا أن إبراهيم أرومة اليهود وأول رجل ذي شأن في تاريخهم، لم يكن فلسطينيا إنما جاء فلسطين غريبا من بلد بعيد يدعى «أور الكلدانيين» في رحلة استغرقت خمسة عشر عاما. وعندما وصل فلسطين مع عائلته الصغيرة، يقول الكتاب المقدس: «كان الكنعانيون حينئذ في الأرض» (سفر التكوين، 12)، وأن إبراهيم قد هبط ضيفا على ملك مدينة جرار المدعو أبيمالك، ويصف المقدس تلك الأرض بأنها «أرض الفلسطينيين» (سفر التكوين، 21)، وأن أبيمالك كان «ملك الفلسطينيين» (تكوين، 26)، وعندما قتل أبناء يعقوب حفيد إبراهيم بعض الفلسطينيين بعد حالة زنى مع شقيقتهم، قال لهم يعقوب المعروف باسم إسرائيل: «كدرتماني بتكريهكما إياي عند «سكان الأرض الكنعانيين» ... وأنا نفر قليل» (تكوين، 34)، وعليه لو سلمنا للرجل الحريص على محارم دينه ويوم سبته، بأن الآباء التوراتيين الأوائل كانوا في فلسطين منذ أربعة آلاف عام، فإن مقدسه يؤكد أنهم دخلوها ضيوفا قليلي العدد على أهلها الكنعانيين بل كانت فلسطين عندما وصلوها ممالك ذات حضارة ونظام اجتماعي وسياسي. أما مهجر الأب الأول إبراهيم وموطنه الأصلي، فقد أثبتنا أنه لا يقع ضمن المنطقة بكاملها وعلى الإطلاق، وإنما يقع في جبال آرارات بأرمينيا وذلك في كتابنا «النبي إبراهيم والتاريخ المجهول» وقدمنا بسبيل ذلك مجموعة من القرائن والبراهين التي ستظل صادقة حتى تجد من يرد عليها ويدحضها بأدلة أقوى وقرائن تثقل كفتها، وحتى الآن لم يحدث ذلك ولا نظنه بحادث في المستقبل المنظور. (1-6) يهود فلسطين
وإعمالا لما قلناه فإن طبيعة الخطاب الصهيوني كما هو واضح جلي، طبيعة قبلية لا ترى قبيلة غير قبيلتها، ولا تراثا مقبولا غير تراثها، ولا دينا صحيحا غير دينها ولا صدقا إلا في توراتها، وكأن تراث الآخرين غير موجود لشعوب عديدة عاشت في فلسطين، كان لها مقومات الشعب والعنصر والدين والحضارة والنظام الاجتماعي والسياسي قبل قيام مملكة داود بأكثر من ألفي عام.
ولمجرد التذكرة، ومنعا للإطالة يكفينا ذكر أن الملك «داود» المؤسس الحقيقي لدولة إسرائيل التوراتية، حوالي 1000 قبل الميلاد أقام دولته مستفيدا من توازن القوى بين القوتين العظميين حينذاك «مصر والرافدين»، فكون جيشا من أهل الأرض الفلسطينيين، وأقام لونا من الائتلاف ووحد القبائل في وحدة سياسية وصهر الممالك الصغيرة معا، بل كان حراس «داود» أيضا من الفلسطينيين، كذلك قائد جيشه، وسواء هو أو ابنه «سليمان»، «فقد أقاما الدولة على أساس تعدد القوميات. المقدس شاهد بذلك»، وحتى لو أغفلنا كل ما سبق وسلمنا ولم تقم أبدا كدولة ذات جنس واحد ودين واحد، والكتاب للخطاب الصهيوني بالصدق التام فإن مسألة جمع روس وألمان وبلغار وأمريكان وأحباش ... إلخ من مواطنهم للإقامة في فلسطين بالحق التاريخي، لمجرد أنهم يهود، يجعل الأمر مزحة بشعة ستظل وصمة، وربما بصقة في جبين هذا العصر إلى ما يشاء الله؛ لأنه بمقارنة شديدة البساطة، سنجد أن الحقوق التاريخية للهنود الحمر في أمريكا أوضح من ادعاءات الخطاب الصهيوني في فلسطين لأن الهنود لم يكونوا أول من استوطن أمريكا منذ فجر التاريخ بل كانوا الشعب الوحيد فيها.
إن طبيعة الخطاب الصهيوني إذن، تعتمد على عدد هائل من المغالطات والتمريرات التي تبدو في ظاهرها صادقة الحقوقية (مع الخلط لمفهوم العنصر بمفهوم العقيدة)، وحتى لا يتيح الخطاب الفرصة لمقارنة يهود اليوم بآباء العصر التوراتي، فإنه يقفز فورا إلى تأكيد «أننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف نحو أربعة آلاف عام»، لتستمر المطابقة بين مفهوم الدين والعنصر لدعم محور الحق التاريخي؛ ليظهر الأمر كما لو أن اليهود فقط هم من عاشوا في فلسطين على مر العصور أو على الأقل الجماعة الأكثر عددا. لكن السائح اليهودي بنيامين الطليطلي الذي زار القدس 1170 ميلادية سجل أنه لم يجد في فلسطين بكاملها سوى 1440 يهوديا! كما لم يعثر اليهودي «ناحوم جيروندي» في زيارته لفلسطين عام 1257م إلا على عائلتين يهوديتين. أما الأطرف فعلا فإنه حتى هذا القرن نجد الشهادة في خطاب شامير تقول: «لقد قامت الطائفة اليهودية الصغيرة (ولاحظ الصغيرة) التي كانت تقيم بفلسطين تحت الانتداب بالثورة على الاستعمار الإمبريالي.» (1-7) شالوم
وأمام عدسات الإعلام العالمي في مدريد، لم ينس الرجل الشهم أن يبدي مروءته وأسفه وأساه على الفلسطينيين، المشردين، بينما قنابله الجهنمية تدك مخيماتهم في لبنان، حيث قال بكل تراحم وحنان: «إنه لا يوجد يهودي واحد في هذا الزمان، يستطيع أن يكون غير مبال بمعاناة الفلسطينيين.» هذا رغم سرده لبشاعات العرب مدمجة ببشاعات النازي ضد اليهود. لكنه رأى من واجبه كرجل متحضر أن يعلن ذلك الأسى والحزن مع ندائه لجيرانه البرابرة حتى يظهروا كسبب فيما حدث للفلسطينيين: «أظهروا استعدادكم لقبول إسرائيل. إن التخاطب أفضل بكثير من سفك الدماء ؛ فالحروب لن تحل قضية في منطقتنا، لكنها تسببت في المآسي والمعاناة والقتل والكراهية.» وهكذا فطبيعة الخطاب تشهد العالم: إن العرب يشردون الفلسطينيين بحروبهم؛ لأنهم يريدون قتلنا لمجرد أننا متدينون. إنهم يريدون أن يقتلوا رجلا يقول: ربي الله.
الخطاب مستمر كما هو واضح في التركيز على المحور النفسي والمشاعر الدينية المسيحية الأوروبية التي تشهد بالحقوق التاريخية على أساس الشهادة المقدسة بالتوراة، هذا بالطبع مع صورة العربي المعلومة لدى الرجل الأوروبي.
ومرة أخرى نعود للكتاب المقدس لنرى مدى المصداقية في الخطاب، وإلى أي حد يتطابق مع الكتاب المقدس، ومع ما يحدث بالفعل بل بالقول، مسايرة للخطاب المتدين الحريص على محارم الدين، والحريص في الوقت ذاته على إقناع عقل العالم وضميره بحقوقه التاريخية.
يقول الرب «يهوه» في شريعته مفصحا عن طبيعته وهويته، التي لا تلتقي بحال مع طبيعة الخطاب الصهيوني قدر ما تلتقي مع ما يحدث بالفعل: «الرب رجل حرب» (سفر الخروج، 15)؛ لذلك كانت شريعة هذا المحارب السماوي تأمر عبيده الأتقياء بالأسلوب الأمثل للتعامل مع شعوب المنطقة، ومن تلك الشرائع إليك المقاطع اللطيفة الآتية: «أحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار» (سفر العدد). «اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة» (سفر العدد، 31). «أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار» (سفر التثنية، 12).
أما الخطة المثلى في أوامر الرب، فهي أن يبدأ شعبه بدعوة الشعوب الأخرى إلى السلام والصلح أو بالنص: «حين تقترب من مدينة، استدعها للصلح. فإن أجابتك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كلها غنيمة تغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك. هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست مدن هؤلاء الأمم هنا» (تثنية، 20).
هذا عن المدن البعيدة، أما المدن القريبة: «فضربا تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، وتحرقها بكل ما فيها مع بهائمها. تجمع أمتعتها إلى وسطها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها» (تثنية، 13).
نامعلوم صفحہ