وقد كان مناط احتجاج الخطاب الصهيوني في مدريد هو أن «الزعماء العرب الذين كنا نود أن نصادقهم رفضوا الدولة اليهودية في المنطقة، وادعوا أن أرض إسرائيل هي جزء من الأرض العربية.» وهنا تحتشد مجموعة من المغالطات والتلفيقات؛ فالخطاب لا يذكر الأرض باسمها التاريخي الصادق «فلسطين» إنما يشير إليها بوصفها «أرض إسرائيل»، هو ما يستدعي مجموعة تداعيات تاريخية، مع مجموعة مداخلات تلفيقية تربط تلك الأرض بشعب واحد فقط، عاش مع مجموعة شعوب أخرى على تلك الأرض على مر العصور التاريخية، لكن بحيث يبدو أنه لم يكن هناك سوى شعب واحد هو الشعب الإسرائيلي.
والخلط مقصود، وينطلق من خلط أساسي في مفهوم الخطاب الصهيوني وأدلوجته، ما بين مفهوم العرق أو الجنس، وبين مفهوم الدين، بحيث يتداخلان ويصبح العرق دينا، والدين عرقا. كما يسمح بتداخل آخر مع التراث الديني للمسيحيين بإجراء التطابق في الخطاب بمهارة علاقات التطابق الدائري في علم المنطق، أو أنظمة التكافؤ الرياضية؛ فالخطاب يتحدث عن رفض العرب ل «الدولة اليهودية» وادعائهم أن «أرض إسرائيل» عربية فتتطابق هنا الدائرة الكلية لمفهوم «الدين اليهودي» وتتكافأ مع الدائرة الكلية ل «أرض فلسطين». لكن بعد حذف «فلسطين» ووضع «إسرائيل» لتصبح فلسطين إسرائيل ويصبح شعبها الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، والدين الوحيد الذي تواجد فيها على مر العصور، هو الدين اليهودي وحده دون بقية الأديان.
والمغالطة الثانية تتضح في إشارته إلى أن من ناصبوا الدولة الإسرائيلية العداء هم «الزعماء العرب». المسألة هنا طموحات من الزعامات، مع غزل رقيق للشعوب العربية فنحن أصدقاء كشعبين، وأهل وبنو عمومة. المشكلة فقط في طموحات الزعماء للتوسع.
أما المغالطة الثالثة فهي إجراء المطابقة السريعة بين مفهوم الدين اليهودي وبين العنصر أو الجنس الإسرائيلي، الذي عاش كقبيلة ضمن عدد كبير من الشعوب الأخرى التي ذكرتها التوراة في فلسطين مثل الكنعانيين (الفلسطينيين) والحيثيين، والعمونيين والأدوميين والموآبيين، والفرزيين، واليبوسيين ... إلى آخر القائمة المعروفة. ثم تجرى المطابقة الدائرية مرة أخرى بين اليهودية كدين بعد أن أصبحت جنسا وبين يهود اليوم المتناثرين بين جنسيات العالم على تفرقها، بحيث يظهر هذا الشتات غير المؤتلف كما لو كان جنسا واحدا، وعرقا بذاته، لمجرد أنهم يدينون بدين واحد هو اليهودي، بحيث تنطلي الأكذوبة الكبرى على جماهير الدنيا تأسيسا على مدخل منطقي سافر التزوير، وعلى أساس ديني عقائدي ينهض على أسس أسطورية خلقت تتابعا عرقيا عنصريا بالكتاب المقدس لشعب إسرائيل القديم بحيث يبدو يهود اليوم كما لو كانوا ينحدرون عن الآباء التوراتيين الأوائل، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وربما ساهم في ابتلاع البعض لتلك الفرية خاصة المتدينين، هو انعزال أصحاب الديانة اليهودية عن غيرهم في كل المواطن التي عاشوا فيها بحيث بدوا كما لو كانوا محافظين تماما على نقاء البذرة الإبراهيمية منذ ألوف السنين في أصلابهم الطاهرة، وهو افتراض يقوم على التسليم بلون خارق من العفاف الجنسي المنقطع النظير، وهو ما لا تنطق به سيرة بنات اليهود، لا اليوم ولا حتى في العصور التوراتية مند البدء ... وباعتراف الكتاب المقدس ذاته.
وبنظرة سريعة عجلى على إصحاحات الكتاب المقدس يمكنك أن تجده يموج بالصخب الجنسي. ونموذجا لذلك ما جاء به مع الرجل الأول في تاريخهم، البطرك إبراهيم الذي حكى الكتاب عنه: «فانحدر إبرام إلى مصر وقال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر ... قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك ... فأخذت المرأة إلى بيت فرعون، فصنع لإبرام خيرا بسببها، وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال» (سفر التكون، 21).
هكذا نجد البداية لا تبشر بخير مع هذا الادعاء بالنقاء الجنسي على مر العصور. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن نبي جليل، لكن المتابع للأسفار يجد النبي «إرميا» ينوح على تفشي الزنا بين بنات مملكتي يهوذا وإسرائيل ويقول: «هل رأيت ما فعلت العاصية إسرائيل، انطلقت إلى كل جبل عال وإلى كل شجرة خضراء وزنت هناك ... ولم تخف الخائنة يهوذا أختها، بل مضت وزنت هي أيضا» (سفر إرميا، 3)، وصهلوا كل واحد على امرأة صاحبه» (إرميا، 5)، بل إن الرب يهوه أخذ ينادي نساء شعبه المختار «ارفع ذيلك على وجهك فيرى خزيك، فسقك وصهيلك، ورذالة زناك على الآكام، في الحقل رأيت مكرهاتك، ويل لك أورشليم، لا تطهرين حتى متى؟» (إرميا ، 13). ثم ينادي مملكة يهوذا «أزنيت على اسمك وسكبت زناك على كل عابر ... وصنعت لنفسك مرتفعات موشاة وزنيت عليها وصنعت لنفسك صور ذكور وزنيت بها ... وفرجت رجليك لكل عابر، وأكثرت زناك وزنيت مع جيرانك بني مصر الغلاظ اللحم الذين منيهم كمني الحمير وزدت في زناك لإغاظتي ... وأسلمتك لمرام مبغضاتك بنات الفلسطينيين اللاتي يخجلن من طريقك الرذيلة، أعطيت كل محبيك هداياك ورشيتهم ليأتوك من كل جانب للزنا بك وصار فيك عكس عادة النساء في زناك؛ إذ لم يزن وراءك بل أنت تعطين أجرة ولا أجرة تعطى لك، فصرت بالعكس» (سفر حزقيال، 16).
وهذا قليل من كثير. وربما كل شبق بنات صهيون، الذي كان يدفعهن إلى الصهيل عند الوصال (بتعبير الكتاب المقدس)، وإلى صناعة ذكور صناعية لمزيد من الإشباع، ودفع الأجور للرجال، وهو الذي دفع دولة إسرائيل الحالية، إلى وضع قانون لا يعتبر الفرد بموجبه يهوديا إلا إذا كانت أمه يهودية ومن ثم أصبح النسب اليهودي للأم لا للأب. ولو طبقنا ذلك القانون على «داود» مؤسس المملكة التوراتية القديمة، وعلى ولده «سليمان» أشهر ملوكهم فسنجد الأول حفيدا لامرأة تدعى «راعوث» لم تكن من بني إسرائيل جنسا ولا تدين باليهودية بل كانت موآبية، أما سليمان فقد رزق به أبوه «داود» من امرأة حيثية لا يهودية ولا إسرائيلية. وطبقا للقانون فإن كليهما ليس يهوديا ولا إسرائيليا. (1-5) الجانب الحقوقي
أما المغالطة الكبرى في كلمة السيد شامير فكانت في قوله إن الزعم بأن أرض إسرائيل أرض عربية مجرد ادعاء فينتقل الخطاب إلى المحور التاريخي، أو (الحقوقي الديني التاريخي معا)، ليقول دون أن يرف له جفن: «إننا الشعب الوحيد الذي ظل على أرض إسرائيل بدون توقف لمدة أربعة آلاف عام متصلة ... ونحن الشعب الوحيد الذي كانت أورشليم عاصمته، ونحن الشعب الوحيد الذي توجد أماكنه المقدسة فقط في أرض إسرائيل.» ورغم ما في مقولة الأربعة آلاف سنة من مغالطة، لأننا هنا في مقام قراءة طبيعة الخطاب وليس الرد بالوثائق، فإن الخطاب يريد أن يقول للجماهير ببساطة: إن بني إسرائيل (متطابقا معهم يهود اليوم) كانوا أصحاب أرض فلسطين من أقام العصور التاريخية.
وما دام الرجل يتحدث كمؤمن صادق الإيمان، حريص على عقيدته ومحارم دينه، صادق العلاقة بتوراته إلى الحد الذي دفعه إلى ترك المؤتمرين في مدريد، ليقضي عطلة السبت متهجدا مع بني جلدته، فلا مشاحة في أن اختبار صدق الخطاب بالمطابقة مع الكتاب المقدس يمكن أن يضع طبيعة ذلك الخطاب على محك المصداقية من عدمها.
نامعلوم صفحہ