اسلام اور انسانی تہذیب
الإسلام والحضارة الإنسانية
اصناف
فالتأويلات الفلسفية لم تظهر في الديانة اليهودية قبل «فيلو» الإسكندري المعاصر للسيد المسيح، أما الخلاف على نصوص التوراة بين السامريين وغيرهم فقد ظهر في أواخر القرن الخامس قبل الميلاد، ثم انقضت تسعة قرون بعد الميلاد حتى اتسعت فجوة الخلاف بين القرائين والربانيين؛ أي القائلين بالتزام الحرف وهم القراءون، والقائلين بجواز التفسير وهم الربانيون، وكان الخلاف بينهم في مسائل العقيدة الكبرى مناسبا لكل خلاف بين المتشددين والمتجاوزين، فكان القراءون يقولون بالجبر، والربانيون يقولون بالاختيار، ويقاس على ذلك كل ما بين الفريقين من وجوه الخلاف.
ولم يكن «فيلو» من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة أو المتفرغين للمنطق والعلوم العقلية، بل كان يمزج بين الدين والفلسفة، ويزعم أن الفلسفة كلها مأخوذة من نصوص التوراة، ولكنه يجتهد في تأويل تلك النصوص؛ بحيث تتسع للمعاني الفلسفية التي تعلمها واطمأن إليها بعقله، ويجعل الكلمات رموزا وإشارات إلى القضايا المنطقية والمعاني المجردة، فهو مؤمن بالتوراة ومؤمن بالمنطق الذي تستلزمه المدارك الإنسانية، ولا محيص له بين الإيمانين من تحويل الكلمات إلى رموز وإشارات؛ لئلا يكفر بالعقل أو يكفر بالدين.
وقد نظر «فيلو» إلى الأوصاف الحسية التي وصف بها الإله في كتب التوراة، فلم يقبلها على ظاهرها، ولم يستطع أن يرفضها؛ لاطمئنانه الموروث إلى دين آبائه وأجداده، فقال: إنها رموز ومجازات تقرب المعاني إلى الذين يفهمون بالحس ولا يدركون المعاني المجردة بالرياضة والتفكير، وانفتح له باب التأويل، فذهب في التجريد إلى أبعد مداه، وأنكر الصفات الإلهية؛ لأن الصفة حد والله منزه عن الحدود، بل نزه الله عن التأثير في مادة الكون؛ لأن المعنى الإلهي أشرف من جميع الأجساد المادية، فإذا أثر فيها فإنما يكون هذا التأثير بالواسطة التي يودعها الله في بعض القوى الإلهية، واحتال على تأويل الصفات بأنها نفي للنقص الذي لا يتصوره العقل في حق الخالق العظيم، فهو قادر لأنه ليس بعاجز، وعالم لأنه ليس بجاهل، وغني بنفسه؛ لأنه ليس بمفتقر إلى أحد، وهو في قدرته وعلمه وغناه مقام فوق كل مقام يتخيله العقل من صفات الإنسان، وكل ما يستطيعه العقل الإنساني من القربى إلى الله أن يدركه بالرياضة، ثم يدركه بالعلم، ثم لا يغنيه كلاهما عن الإلهام الذي يختص به سبحانه وتعالى من يشاء من عباده الخلص المقربين. •••
وكان أوريجين
Origenes
أكبر المجتهدين السابقين من أصحاب القول بالتفسير والتأويل في الديانة المسيحية، ولم تظهر دعوته مع ذلك قبل القرن الثالث للميلاد.
شغل أوريجين كما شغل فيلو بمسألة النصوص والتوفيق بينها وبين المعقولات، ومن عجيب الأمر أن هذا المجتهد الجريء على النصوص قد بلغ من الإيمان بالنص الحرفي في كلمة من الإنجيل مبلغا لم يبلغه - قبله ولا بعده - أشد المؤمنين بالنصوص الحرفية في دين من الأديان، فخصى نفسه لأنه قرأ في إنجيل متى أنه «يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السماوات، من استطاع أن يتبتل فليفعل.»
ومن ثم يرى أن أوريجين لم يكن من الفلاسفة المنقطعين للفلسفة، بل كان من المؤمنين المتبتلين الغلاة في النسك والعبادة، ولكنه تعلم الفلسفة وأدرك البداءة العقلية، فاضطره فرط الإيمان إلى التوفيق بينها وبين نصوص الكتب الدينية، ولا سيما النصوص التي تشير إلى بنوة السيد المسيح ودلالة الثالوث والتوحيد. فقال: إن البنوة كناية عن القربى، وفهم معنى الكلمة التي كانت في البدء فهم الرجل الذي اطلع على مذهب هيرقليطس ومذهب أفلاطون؛ لأن الأول يقول: إن الدنيا تتغير أبدا فليس لها وجود حقيقي وراء هذه الظواهر غير وجود الكلمة المجردة أو العقل المجرد الذي لا ينقطع عن تدبيرها، ولأن أفلاطون يقول بسبق الصور المعقولة على الأجسام المحسوسة، فجاء أوريجين بعدهما ليقول: إن السيد المسيح هو مظهر العقل الخالد تجسم بالناسوت، وإن ظهوره في الدنيا حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الإله في خلقه، واجتهد في تأويل النصوص، فجعل للكتب الدينية تفسيرين: أحدهما صوفي للخاصة، والآخر حرفي لسائر الناس، وبشر بخلاص خلق الله جميعا في نهاية الأمر حتى الشياطين، ولم يكن ينكر الشياطين أو ينكر قدرة السحرة على تسخيرها في الإضرار بالناس، ولكنه - من عجب التناقض في الطبع الإنساني - كان يرى أن الأسماء العبرية - دون غيرها - هي الأسماء التي تجدي في الاستدعاء والتسخير، وينسى أنه جعل للأسماء والحروف هنا سلطانا على الكون يقصر عنه سلطان المعاني والمسميات.
وخلف أوريجين تلميذان قويان، هما آريوس في الإسكندرية، ونسطور في سورية، فمضيا في التأويل والتوفيق بين النصوص والمعاني، ولكنهما اختلفا بينهما أشد الاختلاف يخلقه اللدد والشحناء، وتراميا كما ترامى أتباعهما زمنا بتهمة الكفر والجحود؛ لأن آريوس كان يقول بأن المسيح إنسان حادث، ونسطور كان يؤمن بالطبيعة الإلهية في المسيح، ويأبى التسوية بينه وبين الله في الدرجة والقدم، ودخلت العوامل السياسية في هذا الخلاف فدفعت به إلى أقصى مداه.
وهذه كلها - كما رأينا - مذاهب في الدين تصطبغ بالصبغة الفكرية، ويمتزج فيها الإيمان بالتفكير. أما مذاهب الفلسفة المسيحية التي تصدى لها المفكرون من غير رجال الدين، فلم تظهر في العالم المسيحي قبل انقضاء عدة قرون، وتأخر ظهورها إلى ما بعد ظهور الفلسفة الإسلامية في أوروبا الغربية. •••
نامعلوم صفحہ