القرآن الكريم هل هو من أنواع الشِّعْر أم من النثر أم هو شيء آخر؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يمكن القول بأن القرآن شكل من أشكال الشعر، مع العلم أنه يقال إن في القرآن مذكور أنه ليس بقول شاعر؟]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولًا:
ليس القرآن شعرًا، ولم يكن نبينا محمد ﷺ شاعرًا، بل وما ينبغي له، قال تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الحاقة/٣٨-٤٣، وقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) يس/٦٩.
ثانيًا:
كلام العرب لا يخرج عن كونه شعرًا ونثرًا، ولا يعرف العرب غيرهما، وما يذكره بعض العلماء من وجود قسم ثالث وهو " السجع ": فهو داخل في النثر، وليس قسمًا مستقلًاّ، حتى جاء الله تعالى بالقرآن، وأنزله على نبيه محمد ﷺ، فبهرت كلماته عقول العرب، وأخذ أسلوبه بألبابهم، فتركهم في حيرة، فلا هو بالشعر الذي ينظمونه، ولا هو بالنثر الذي يقولونه، ومن قال منهم إنه " شعر ": فهو مكابر، كاذب، يعرف نفسه أنه غير صادق، أو أنه لا يعرف الشعر، ولو كان شعرًا فما الذي منعهم من النظم على منواله؟! .
ولذلك رأينا اعتراف الصادقين منهم أن القرآن ليس بشعر، ومن هؤلاء المعترفين بذلك:
١. أبو الوليد عتبة بن ربيعة:
روى ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: حُدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيِّدًا -، قال يومًا - وهو في نادي قريش، ورسول اللَّه ﷺ جالس في المسجد وحده -: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه، وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنَّا؟ وذلك حين أسلم حمزة ﵁، ورأوا أصحاب رسول اللَّه ﷺ يكثرون، ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول اللَّه ﷺ، فقال: يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، قال: فقال رسول اللَّه ﷺ: قل يا أبا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا: جمعنا لك من أموالنا كيْ تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا: سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا: ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك: طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة، ورسول اللَّه ﷺ يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: أفعل، فقال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم (حم. تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) فصلت/ ١ – ٥، ثم مضى رسول اللَّه ﷺ فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول اللَّه ﷺ إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: قد سمعتَ يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا واللَّه ما سمعت مثله قط، واللَّه ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فو اللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب: فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب: فمُلكه ملككم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
رواه البيهقي في " دلائل النبوة " (٢ / ٢٠٥)، وأبو نعيم في " الدلائل " (١ / ٣٠٤) وحسَّنه الألباني في التعليق على " فقه السيرة " للغزالي (ص ١١٣) .
٢. الشاعر أنيس الغفاري:
قد روى مسلم (٢٤٧٣) من حديث أبي ذر ﵁: قصة إسلامه وإسلام أنيس أخيه، وفيها قال: (فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني - أي: ابق مع أمي - فانطلق أنيس، حتى أتى مكة، فراث علىَّ، ثم جاء، فقلت ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر وكان أنيس أحد الشعراء.
قال أنيس لقد سمعت قول الكهة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر - (أي على أنواع الشعر وطرقه وأوزانه، واحدها: قَرْء) - فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر - أي: إنه ليس بشعر - والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون ...) .
قال أبو العباس القرطبي – ﵀:
ومعنى الكلام: أنه لما اعتبر القرآن بأنواع الشعر: تبيَّن له أنه ليس من أنواعه، ثم قطع: بأنه لا يصح لأحد أن يقول: إنه شِعر.
" المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (٦ / ٣٩٤) .
ثالثًا:
إذا كان القرآن ليس شعرًا، كما نفاه الله تعالى عنه، ونفاه عنه الشعراء الصادقون، فهل هو من النثر؟ والجواب: لا، ولا هو من النثر، ومن تأمل في كتاب الله تعالى حق التأمل، وكان له ذوق لغوي وبلاغي: علم أنه ليس من النثر، بل هو قسم ثالث من أقسام الكلام في لغة العرب، وقد اعترف بهذا كبار الأدباء قديمًا وحديثًا، ونذكر هنا شهادة رجل من الأدباء، وله موقف معروف من الشرع، وهو " طه حسين " وشهادته هنا مهمة؛ لأنه من أهل الاختصاص من جهة، ومن جهة أخرى فهو لن يجامل أحدًا!
ومما قاله طه حسين:
ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرًا، كما أنه ليس شعرًا، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمَّى بغير هذا الاسم، ليس شعرًا، وهذا وضع، فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثرًا؛ لأنه مقيّد بقيود خاصة به، لا توجد في غيره، فهو ليس شعرًا، ولا نثرًا، ولكنه: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، فلسنا نستطيع أن نقول: إنه نثر، كما نص على أنه ليس شعرًا.
كان وحيدا في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله، وتحدى الناس أن يحاكوه، وأنذرهم أن لن يجدوا إلى ذلك سبيلًا ... .
" من حديث الشعر والنثر " - الأعمال الكاملة – (٥ / ٥٧٧) بواسطة مقال " حول إعجاز القرآن الكريم، الابتداء بالأسلوب " (من ص ٧٥ - ٨٤) للدكتور علي حسن العماري، نشر في مجلة " الجامعة الإسلامية " العدد ٢٤،، ربيع الثاني ١٣٩٤هـ.
وهذا المقال نفيس، وفيه بيان المسألة بوضوح وجلاء، ومما قاله الدكتور الفاضل فيه:
فمشركو العرب ادَّعوا أن القرآن شعر، وادعوا أنه كهانة، ومعنى هذا: أن شبه القرآن عندهم بالشعر، وبكلام الكهان هو الذي يمكن أن يذيعوه، وهم حريصون على أن يقولوا ما يمكن أن يُصدّقوا فيه، فهم - بذلك - يقرون أنه ليس كسائر الكلام، وإنما هو نوع خاص منه، وقد نفى بعض فصحائهم أن يكون القرآن شعرًا، أو أن يكون قول كاهن، كما نفى القرآن الكريم ذلك، فثبت أن القرآن في أسلوبه وطريقة أدائه ومبناه الكلي: مخالف لكلام العرب، ومتميز عنه، وإن كانت ألفاظه ألفاظهم، وتراكيبه تراكيبهم.
وقال:
ذكر " عيسى بن علي الرماني " (متوفى ٣٨٦ هـ) في رسالته " النكت في إعجاز القرآن " أن القرآن جاء بأسلوب جديد حيث قال: " وأما نقض العادة: فإن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر، ومنها السجع، ومنها الخطب، ومنها الرسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن، تفوق كل طريقة " انتهى.
وقال الدكتور الفاضل:
وسار على هذا المنهج أبو بكر الباقلاني، فأطال القول في هذا المعنى، ومن ذلك قوله: " إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم، ومن ادعى ذلك: لم يكن له بدٌّ من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا من قبيل السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى؛ لأن قومًا من كفار قريش ادعوا أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرًا، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم، ومنهم من يدعي أنه كلام موزون، فلا يخرج بذلك عما يتعارفونه من الخطاب " انتهى.
فتبين مما سبق أن القرآن كلام الله تعالى، أحكم آياته، وفصَّلها، وبيَّنها، بكلام عربي مبين، وليس هو على طريقة ما عرفه العرب من الشعر، والنثر، بل هو قرآن، قسم خاص، لا يشبه الشعر والنثر، ولا يشبهانه.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب
1 / 169