اسلام بیسویں صدی میں: اس کا حال اور مستقبل
الإسلام في القرن العشرين: حاضره ومستقبله
اصناف
1 - قوة غالبة
2 - وقوة صامدة
3 - عقيدة شاملة
4 - الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
5 - أمم غير مستقلة
6 - أمم أخرى
7 - الدعوات ونهضات الإصلاح
8 - المصلحون والمعلمون
9 - الساسة المصلحون
10 - الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
نامعلوم صفحہ
11 - في نظر الغرب
12 - آسيا وأفريقيا
13 - لو عاد محمد عليه السلام
14 - التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر
15 - الغد
1 - قوة غالبة
2 - وقوة صامدة
3 - عقيدة شاملة
4 - الإسلام والمسلمون في القرن التاسع عشر
5 - أمم غير مستقلة
نامعلوم صفحہ
6 - أمم أخرى
7 - الدعوات ونهضات الإصلاح
8 - المصلحون والمعلمون
9 - الساسة المصلحون
10 - الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
11 - في نظر الغرب
12 - آسيا وأفريقيا
13 - لو عاد محمد عليه السلام
14 - التراث الإسلامي ووسائل إحيائه في هذا العصر
15 - الغد
نامعلوم صفحہ
الإسلام في القرن العشرين
الإسلام في القرن العشرين
حاضره ومستقبله
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
قوة غالبة
كان التقليد التاريخي في القرن السادس للميلاد أن تتقاسم العالم المعمور دولتان كبيرتان، كلتاهما حرب للأخرى تنافسها ولا تأمنها، ولا تهدأ عن حربها فترة من الزمن إلا ريثما تستعد لمعاودة الكرة بقوة من الجند والسلاح أعظم من القوة التي جردتها عليها في حروبها الأولى.
وكانت الدولتان المتنافستان في ذلك القرن؛ دولة المشرق وهي دولة الأكاسرة، ودولة المغرب وهي دولة القياصرة: فارس وبيزنطة، ولا ثالثة لهما في العالم المعمور بين القارات الثلاث.
جهدت كل من هاتين الدولتين ألا تدع بقعة من البقاع المعمورة في القارات الثلاث بعيدة من سلطانها أو قادرة على عصيانها.
نامعلوم صفحہ
وكانت بينهما صحراء جرداء تحفل الدولتان بما حولها، ولا تكترثان لما يجري في داخلها، وامتد سلطان كل منهما إلى الجانب الذي يليه؛ فاتخذت فيه أتباعا يطيعونها، ويحتمون بها، ويلوذون بجوارها: فارس تسيطر على الحيرة واليمن، وبيزنطة تسيطر على أرض غسان والبتراء، وتهم أن تنصب لها أميرا على الحجاز يدين لها بالولاء، ويحرس لها طريق الشام من أوله في الجزيرة العربية، ثم لا يعنيها الأمر عناية جد تنتهي فيه إلى عمل فاصل تجاوز به التردد والشروع، فليس الأمر من الخطر عندها بحيث تفرغ منه على قرار.
أما الخطر الذي فرغت له كلتا الدولتين : فهو الخطر من إحداهما على الأخرى، والخطر من قبل النهرين في العراق، ومن قبل النهر الكبير في وادي النيل. فلم تكن بقعة من هذه البقاع قد خلت طويلا من جنود الدولتين منتصرين أو منهزمين، ولم تزل الحرب بينهما سجالا في هذه الأودية وما جاورها، ولم تزل كل منهما على أمان من قبل الجزيرة الجرداء.
نعم، كان جيش من الفرس قد انهزم في وقعة «ذي قار» على طرف من أطراف تلك الجزيرة، ولكنها هزيمة حرس في ولاية كما تخيلوها، وليست هزيمة دولة تنازل قرنا لها من دولة أخرى جديرة بالخوف منها وحفز الهمم للتغلب عليها، ومثلها في عصورها الحديثة كمثل الهزائم التي أصيبت بها الدولة البريطانية يوم كانت تدعى سيدة البحار أو يوم كان القائلون عنها يقولون: إن الشمس لا تغيب عن أملاكها؛ هزائم تارة في حدود الأفغان أو عند أعالي النيل أو على طرف القارة السوداء في الجنوب، ولكنها تنهزم فيها وتبقى بعدها سيدة البحار أو غالبة على كرة الأرض بين مشارقها ومغاربها.
وكذلك كانت فارس بعد وقعة ذي قار، فلم تتبع هزيمتها بحذر أو احتراس من تلك الجهة، وظلت على عهدها من الحذر حيث تخشى الخطر، فلا ترفع عينها عن بيزنطة وأتباعها في أودية الأنهار أو بين أرجاء الهلال الخصيب، ولا تحسب هي ولا صاحبتها بيزنطة أن ثمة خطرا عليهما قط متوقعا من جهة الجنوب.
فلما جاء كسرى رسول من قبل هذا الجنوب، وسأل عن شأن هذا الرسول، فقيل له: إنه نبي في العرب يدعوه إلى دينه، ضحك غاضبا أو غضب ضاحكا، وأمر من يذهب إلى ذلك النبي الجسور فيأتيه به حيا أو ميتا، ليلقى جزاءه على هذه الجسارة التي اجترأ بها على الشاهنشاه ملك الملوك.
ولما تسامع القوم في الجزيرة العربية أن ذلك النبي يهم أن يحارب القيصر في عقر داره سخروا وقالوا فيما بينهم: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية.
لا بل قيل ذلك، أو شبيه ذلك، وبعد ثلاثة عشر قرنا من القرن السادس الذي استعظموا فيه ما استعظموا من جرأة النبي العربي على عروش الأكاسرة والقياصرة، فكان من المؤرخين المحدثين من كتب تاريخ الوقائع التي دارت بين أتباع ذلك النبي وبين جبابرة الفرس والروم، ومن كتب في تاريخه هزيمة أولئك الجبابرة أمام أولئك الأتباع، ولكنه حين روى النبأ عن رسل النبي إلى كسرى وقيصر رواه وهو يتعجب، ويقول شبيها لما قيل يومئذ قبل النصر والهزيمة: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية، أو عساه قد زهاه النصر في مكة والمدينة فلم يدر ما المدائن وما القسطنطينية وراء الرمال والبحار.
إن أعجب العجائب لما ينقضي على وقوعه مئات السنين، ثم يتعاظم من يرويه حتى ليوشك أن يرتاب فيه.
وكان ما جرى للدولتين - الفرس والروم - يومئذ أعجب العجائب في تواريخ الدول من قديم وحديث؛ فقد هزمت الدولتان معا في بضع سنوات، ولم يأت الخطر عليهما من مكان تتوقعان خطره إحداهما أو كلتاهما، بل جاء من المكان الذي هان شأنه حتى لم يحسب له حساب.
جاءت القوة التي هزمت الدولتين في وقت واحد من وراء الرمال، أو قل من وراء المجهول، أو من وراء الغيب، ولا تعدو الحق فيما تقول.
نامعلوم صفحہ
قوة غالبة لم تصمد لها قوة.
قوة نجمت من حيث لا مخافة ولا مظنة، فما هي تلك القوة؟ وليست هي قوة دولة ولا قوة سلاح!
قيل فيما قيل: إنها خشونة البادية غلبت ترف الحضارة ونعمة الرخاء، ولكن الدولتين اللتين انهزمتا معا قد كانتا تحكمان الملايين ممن لا يعرفون من العيش غير خشونته وشظفه، وكانت فارس تحكم من حولها قبائل لم تعرف غير الجبال، والقتال، وكانت بيزنطة تحكم على تخومها أشباه تلك القبائل في خشونتها وقوة مراسها، وظلت تحكمها وتهزمها كلما أغارت عليها من غربها أو شمالها، وبعد أن تلاحقت هزائمها في وقائعها مع أبناء البادية العربية، وسلمت بالهزيمة بعد الهزيمة تسليم الخيبة والاضطرار.
وقيل فيما قيل: إنه احتقار العرب للعجم، وكل الناس عجم عند من ينطقون بالضاد.
ولكنه سلاح كان ينبغي أن يصدق من الجانبين، أو يغلب به العجم في بعض ميادينهم إن لم يغلبوا به في الميادين كافة حيثما التقى الخصمان المتساويان في ذلك السلاح، بل لعل العجم كانوا أشد احتقارا للعربي في تلك الحقبة على التخصيص، وقد حدث في إحدى وقعات العراق أن زعيما عربيا ممن يلوذون بدولة فارس عرض على مهران قائد الفرس أن يتولى عنه حرب خالد بن الوليد؛ لأن العرب أعلم بقتال العرب، فغضب جنود مهران؛ لأنهم سمعوه يقول لذلك الزعيم العربي: «صدقت. لأنتم أعلم بقتال العرب، وأنتم مثلنا في قتال العجم»، وثاروا به يستعظمون أن يقول «لذلك الكلب» ما قال، ولم يرضوا عن هذه المجاملة لمن يريد نصره حتى قال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغكم أعداؤكم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء».
ألا إن هذا «الاحتقار» سلاح موفور في المعسكرين، فإن كان للعرب نصيب كبير منه، فما كان عند العجم منه فهو نصيب غير صغير.
على أن العرب الذين حاربوا الفرس والروم وانتصروا عليهم لم يكونوا جميعا من أبناء البادية ولا من الناشئين على الشظف والشدة، بل كان منهم أبناء نعمة وثراء، وكان قائدهم الأكبر - خالد بن الوليد الذي قال الزعيم العربي لقائد الفرس مهران إنه أعلم بقتاله - مخزوميا من أغنى السروات في بني مخزوم ذوي الجاه العريض والثراء المستفيض؛ إذ كان جده - كما ذكرنا في سيرته - المغيرة بن عبد الله الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه فيسمى المغيرة تشرفا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول، وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحده سنة، وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى، وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تقم سوقا بمكة ثلاثا لحزنها عليه، وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكر العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان، وكان عمه أبو حذيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي عليه السلام قبل الدعوة الإسلامية. أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين آذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات، فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد؛ ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته، وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين، ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم فلا يتزودون بزاد، ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني، وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص. فقد كانت هذه القبيلة على كثرة الأقطاب بين رجالها مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية؛ إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: «إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.»
فإذا كان المقصود بترف الروم والفرس ترف الطبقة التي يخرج منها القادة والسادة فليس في قادتهم من أحاطت به نعمة الثراء كما أحاطت بقائد المسلمين الأكبر في حربهم للدولتين، وهو الذي سماه صاحب الدعوة الإسلامية بسيف الإسلام.
ولا ننسى أن الجيوش الإسلامية لم تصل إلى ميادين العراق وفلسطين حتى كانت قد انتصرت على جيوش عربية من البدو والحضر قد نشأت مثل نشأتها، وتدربت على القتال مثل دربتها، وعرفت من الترف والخشونة مثل ما عرفته في بداوتها وحضارتها.
ولا ننسى أن الظاهرة قد تكررت حيث لا عرب ولا روم، وحيث كان الفرس في صفوف المنتصرين مع أمراء الإسلام، ففي القرن الثاني عشر للميلاد كان السلطان محمد غوري الأفغاني يحارب قبائل «راجبوت» الهندية التي اشتهرت بالشجاعة والفروسية في العالم القديم من أقصى الديار الآسيوية إلى أقصاها، وكان على رأسهم قائدهم «برتوي» الذي قيل عنه: إنه لم يعرف الهزيمة قط في منازلة قرين، فانتصر الجيش الأفغاني بمن فيه من الأفغانيين والأتراك والفرس على جيوش الراجبوت بعد حرب زبون كان النصر فيها سجالا بين الفريقين، وأوشك الأمير الغوري أن يقع في إحدى معاركها أسيرا مثخنا بالجراح في قبضة عدوه العنيد.
نامعلوم صفحہ
وتكررت الظاهرة في المغرب؛ حيث كان المنهزمون من قبائل البربر التي لم تعرف في تاريخها القديم غير الخشونة والقتال، وكان تكرارها في مواطن شتى دليلا على أن القوة التي انتصر بها دعاة الإسلام لم تنبعث فيهم من خشونة البادية العربية، ولا من هوان شأن العجم على العرب، ولا حاجة إلى قول قائل: إنها لم تنبعث من بأس الملك ولا من عدة السلاح.
فلا مناص إذن من الرجوع بها إلى السبب الذي اتفق عليه المؤرخون أو كادوا بعد التعلل لها بجميع الأسباب.
لا مناص إذن من الرجوع بها إلى العقيدة التي حفزت أولئك المجاهدين على اختلاف الأقوام والأزمان.
غير أن الرجوع بها إلى العقيدة لا يختم المطاف، ولا يغني عن مزية في هذه العقيدة تمتاز بها بين العقائد الكثيرة التي سبقتها أو لحقت بها، ولم تنبعث منها قوة كهذه القوة، ولا ظاهرة كهذه الظاهرة بعد تجريدها من العوامل الأخرى.
فما كانت جيوش الروم ولا جيوش الفرس خلوا من عقيدة يؤمنون بها ويقبلون على الموت في سبيلها، وما كانت قبائل الهند أو آسيا الوسطى تجهل الدين أو تهمله في معيشتها اليومية فضلا عن المراسم التي تصحب المتدين من مولده ولا تفارقه مدى الحياة.
أيقال إنها دفعة الدين الجديد ميزت عقيدة الإسلام على سائر العقائد في ذلك التنازع بين الدول والأديان؟
إن دفعة الدين الجديد ولا شك سبب لا يهمل في هذا المقام، وقد يسبق إلى الخاطر لتفسير قوة الدعوة في القرن السابع للميلاد وفي القرن الثاني عشر يوم كان القائمون بالدعوة في آسيا الوسطى أقواما من الأفغان والترك دخلوا حديثا في الدين.
لكن كم عقيدة جديدة صنعت مثل هذا الصنيع؟ وكم ظاهرة كهذه الظاهرة تكررت في تواريخ الدول والأديان؟
الفصل الثاني
وقوة صامدة
نامعلوم صفحہ
إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة وحسب في إبان النشأة والظهور، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين، ولا بد من تفسير لهذه القوة الصامدة كما لا بد من تفسير لتلك القوة الغالبة، فإن القوة التي تصمد كالقوة التي تغلب في حاجتهما إلى التفسير، أو لعل القوة التي تصمد أولى بالتفسير من القوة الغالبة؛ لأنها تدافع فتقوى على الدفاع حيث لا عدة عندها للغلبة في معترك الصدام والصراع.
وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال الشدة والسطوة، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون.
ولقد تداولت الدول بقاع الأرض من القرن السابع للميلاد إلى العشرين: قامت دول إسلامية ثم انهارت أمام المنافسين من أبناء دينها أو أبناء الأديان الأخرى، وحدث في فترة من الزمن خروج المسلمين من أوروبا الغربية ودخولهم إلى أوروبا الشرقية، ودالت دولة دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وقامت دولة الآستانة أو إسلامبول، ثم ظلت وحدها هذه الدولة كفؤا للدول الأوروبية مجتمعات أو متفرقات حتى تداعت أركانها وتصدع بنيانها، وبقيت قائمة لاختلاف الطامعين في ميراثها على تقسيمها، وتلاحقت الضربات على البلاد الإسلامية بين هزيمة واضطهاد وتمزيق وتفريق حتى تمكن منها المستعمرون فلم تبق منها واحدة تنعم بقسط من حرية الحكم وسيادة الاستقلال، ومن كان منها مستقلا كالدولة العثمانية أو الدولة الإيرانية أو الدولة الحسينية بالمغرب الأقصى كان افتيات المستعمرين على حقوقها أشد وأقسى من افتياتهم على البلاد التي فقدت حريتها واستقلالها، وانقضى القرن التاسع عشر كله والأمم الإسلامية مخذولة متخاذلة، والدول المستعمرة غالبة متحكمة، وخيل إلى الناظرين أن الحاضر والمستقبل جميعا للاستعمار، وأنه قد جمع القوة والعلم والحضارة فلا نجاة من قبضته للذين حرموا القوة والعلم والحضارة، وأصبحوا في كل منها عالة على المستعمرين.
ثم انتهى القرن التاسع عشر، فكيف رأى الناس منتهاه؟
الاستعمار يتراجع، ولا يظفر بغناء من سلطان المال والعلم والسلاح.
والإسلام تبرز له دولتان في آسيا عداد المسلمين في كل منهما يزيد على سبعين مليونا، وهما دولتا إندونيسيا والباكستان، وسائر الدول في آسيا وأفريقيا تقترب من الحرية وتبتعد من ربقة العبودية، وهذه هي قوة الصمود بعد أربعة عشر قرنا من الدعوة المحمدية، لا ينظر المؤرخ في أطوارها على تعدد ظواهرها وأدوارها إلا وجب عليه أن يفترض لها سرا عجيبا كذلك السر العجيب في صدر الإسلام: سر الغلبة من حيث لا تنتظر الغلبة على دولتي العالم في خمس سنوات.
إن قوة الصمود هنا لعجيبة كقوة الغلبة هناك، ولعلها - كما قدمنا - أعجب من قوة الغلبة؛ لأنها تملك الدفاع، ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة، لا بل تملك الدفاع ولا اتفاق بينها على الدفاع.
وندع الصراع في مجال الدول المتداولة بين السطوة والخضوع وبين النصر والهزيمة، فإن قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، وفي أفريقيا اليوم مائة مليون مسلم لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة، وقريب من هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة، وقريب منه في الباكستان، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين.
وهؤلاء جميعا سرت فيهم عقيدة الإسلام بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، أو كان للدول والسياسات شأن في إسلامهم من بعيد متقطع غير موصول ولا مقصود، ولعله لو انحصر الأمر فيه لا يكفي لإسلام عدة من الناس تحسب بالألوف والمئات، ولا ترتفع إلى عشرات الملايين فضلا عن مئات الملايين، ولو حسب جهاد المجاهدين في سبيل إسلامهم بعدد الرءوس التي سقطت في ميدان القتال؛ لكان الرأس الواحد هنا عدلا في كفة الميزان الأخرى لمئات الألوف.
هذه القوة، غالبة وصامدة، تتطلب تفسيرا غير كلمة العقيدة مجردة من خواصها ومزاياها، ولا غنى لها عن مزية تهيأت لها ولم تتهيأ للعقائد الأخرى التي لم يعرف عنها مثل هذه الغلبة ومثل هذا الصمود، وتلك حقيقة فطن لها الباحثون في انتشار الإسلام من أصدقائه وأعدائه على السواء، فذهبوا جميعا يلتمسون الدواعي التي يسرت لهذه الدعوة ما لم يتيسر لغيرها، وهم متفقون على انفرادها بالمزية الخاصة مختلفة في بيان تلك المزية على حسب اختلاف النية واختلاف الرغبة في الحمد أو المذمة، ومنهم مبشرون يلجئون إلى المزايا التي تعينهم على الاعتذار كلما وضح عجزهم عن تحويل المسلمين من دينهم أو وضح عجزهم عن مجاراة الدعاة الإسلاميين في نشر دينهم بغير مشقة وبغير كلفة من المال والعتاد، ووسائل التدريب والتنظيم.
نامعلوم صفحہ
فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الأفريقية - عند فريق من هؤلاء الباحثين أو المبشرين - أنه لا يمنع تعدد الزوجات، ولا يحول بين الرجل الأفريقي وطلاق زوجاته أو الاحتفاظ بما شاء منهن كما يشاء.
ومن أسباب انتشاره عند الباحثين في سرعة الإقبال عليه بين الهنود: أنه سوى بين الطوائف المنبوذة وغيرها من طوائف السادة والأشراف، فأقبل المنبوذون عليه زرافات، وبلغوا به من المكانة الاجتماعية ما لم يكونوا بالغيه بالعقيدة المفرقة بين الطوائف والطبقات.
ومن هذه الأسباب عند الباحثين في سرعة انتشاره بين الأندلسيين: أنه صادف ثمة شعبا فقيرا ساءت ظنونه بساداته من رجال الدنيا والدين، وأنكروا من أولئك السادات الدنيويين والدينيين تعاليا عليهم، واشتغالا عنهم بلذتهم وأبهتهم، فرحبوا بأصحاب الدين الجديد، ودخلوا في ملتهم؛ لأنها ملة لا تفرق بين السادة والعبيد.
ومن هذه الأسباب أنه دين بسيط سهل القواعد والأصول لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض والمراسم التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى ولا يفقهون ما فحواها.
وهذه كلها - على أصح ما تكون - أسباب محلية أو أسباب موقوتة تصلح لتعليل انتشار الدين في بيئة معينة أو في زمن معين، ولكنها لا تلازم انتشاره في جميع البيئات والأزمان، ومشكوك مع هذا في صدق تعليل البيئة الواحدة كما قيل عن تعليل شيوع الإسلام بين الأفريقيين وقلة إقبالهم على العقائد التي تحرم تعدد الزوجات.
فليس تعدد الزوجات من اليسر بحيث يقدر عليه من أراده بين أولئك الأفريقيين، ومن كان منهم قادرا على تعديد زوجاته وسراريه فهو يعددهن حتى الساعة كائنا ما كان اعتقاده، أو كائنا ما كان دينه بين الأديان الكتابية، وسائر القوم من غير ذوي القدرة على الجمع بين الزوجات الكثيرات قلما يعنيه السماح له بزوجة أو أكثر من زوجة، وقلما يوجد في بيئته سجل يحصي عليه عقود الزواج والطلاق، وقد أجمع الرحالون على صعوبة الاستعداد للزواج وتدبير المهر المطلوب بين قبائل أفريقيا الوسطى، فلا يتأهل الشاب للبناء بالزوجة الواحدة إلا أن يكون ذا مال يحسب بما عنده من رءوس الماشية والأنعام، ومن المستغرب حقا أن يتخيل المرء أفريقيا يدخل في الدين ثم يخرج منه؛ لأنه حال بينه وبين البناء بزوجة جديدة غير التي ارتبط بها بعقد من العقود على أيدي رجال الدين، وأغرب من ذلك أن نتخيل الأفريقي الأعزب منتظرا متسائلا لا يدخل في الدين حتى يتبين ما يبيحه له أو يحرمه عليه من روابط الزواج.
وأيا كان أثر العلاقات الزوجية في انتشار الإسلام بين الأفريقيين، فمن المحقق أن هذه المسألة خاصة لم يكن لها شأن في منافسة الأديان الأخرى قبل القرن السادس عشر للميلاد، فإن تحريم تعدد الزوجات لم يرد في كتاب من كتب العهد القديم أو العهد الجديد، وكل ما ورد في الإنجيل أن القس ينبغي ألا يزيد على زوجة واحدة إن لم يكن بد من الزواج، وقد جمع شارلمان في القرن التاسع بين زوجتين، وزاد عدد زوجاته على خمس، كلهن بقيد الحياة غير من في القصر من السراري والزوجات «غير الشرعيات». واعترف قبل مماته بعشرة من أبناء هؤلاء عدا الثمانية الذين ولدوا له من زوجاته دسدراتا وهولجارد وفسترادا
1
وعدا الأبناء الذين ولدوا له ولم يعترف بهم؛ لأنهم كانوا على غير ما يحب من سمات الأمراء.
ومن الأوهام الشائعة كما قلنا في كتابنا عن الفلسفة القرآنية:«إن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد الذي أباح تعدد الزوجات بين الأديان الكتابية؛ لأن الواقع الذي تدل عليه كتب الإسرائيليين والمسيحيين أن تعدد الزوجات لم يحرم في كتاب من كتب الأديان الثلاثة، وكان عملا مشروعا عند أنبياء بني إسرائيل وملوكهم فتزوجوا بأكثر من واحدة، وجمعوا بين عشرات الزوجات والجواري في حرم واحد، ورورى وستر مارك
نامعلوم صفحہ
Westermayck
العالم الحجة في شئون الزواج على اختلاف النظم الإنسانية أن الكنيسة والدولة معا كانتا تقران تعدد الزوجات إلى منتصف القرن السابع عشر، وكان يقع غير نادر في الحالات التي لا تعنى بها الكنيسة عنايتها بزواج الأسر الكبيرة، وكل ما حدث في القرن الأول للمسيحية أن الآباء كانوا يستحسنون من رجل الدين أن يقنع بزوجة واحدة، وخير من ذلك أن يترهب ولا يتزوج بتة، فكانت الفكرة التي ذهبت إلى استحسان الزواج الموحد هي فكرة الاكتفاء بأقل الشرور، فإن لم تتيسر الرهبانية فامرأة واحدة أهون شرا من امرأتين، وكانت المرأة على الإطلاق شرا محضا وحبالة من حبالات الشيطان، بل أخطر هذه الحبالات، واستكثر أناس من آباء الكنيسة وفقهائها أن تكون لها روح علوية، فبحثوا في ذلك، وأوشكوا أن يلحقوها بزمرة الحيوان الذي لا حياة له بعد فناء جسده.»
ومن الواضح أن هذه المسألة بذاتها - مسألة الزواج والمرأة - لم تكن من المسائل التي تسبق الدخول في دين من الأديان، وما من أحد في أفريقيا وفي سائر القارات رأى المسلمين منفردين بإباحة الجمع بين النساء في البيت الواحد، وما من وثني على الفطرة أباح له الإسلام كل ما يستبيحه من الشهوات على دين آبائه، وأولها المسكرات التي تفشو بين البدائيين، ويضيقون بمنعها أشد من ضيقهم بمنع تعدد الزوجات، وما من عقبة قامت في وجه المسيحية بين الشرقيين أو الغربيين؛ لأنها كانت تحض على الرهبانية أو تنظر إلى المرأة نظرتها إلى شيطان أو حبالة شيطان. فإذا آمن المرء بفساد عقيدة آبائه وأجداده فلا مناص له من قبول الدين الذي كشف له ذلك الفساد، ثم يعالج بعد ذلك طاقته على احتمال أوامره ونواهيه، ولا يرفض الأوامر لأنه يعصيها، أو النواهي لأنه يقدر على اقترفها، بل يحاول أن يكف عن المعاصي والذنوب، ويرتقي في الدين فوق مرتقاه.
ولو كان الإقناع المنطقي يكفي وحده لتعليل الظواهر الاجتماعية أو التاريخية لصح أن يقال: إن الإسلام قد شاع بين طوائف المنبوذين في الهند؛ لأنه يرفع عنهم لعنة المذلة والحرمان. فهم خلقاء أن يوازنوا بين منزلتهم في دين آبائهم وأجدادهم ومنزلتهم في الدين الإسلامي فيختاروا أفضل المنزلتين، وقد وازنوا واختاروا فدخلوا أفواجا في الدين الجديد.
غير أن الإقناع المنطقي لا يكفي وحده لتعليل ظواهر الاجتماع وظواهر التاريخ فيما له اتصال بأطوار السرائر على الخصوص، أو لعل الإقناع المنطقي يكفي المؤرخ في تعليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية إذا اعتمد عليه في كتابة التاريخ، ولم يجعل الناس جميعا معتمدين عليه في أعمالهم، منقادين له في أحاسيسهم ودخائل وجدانهم. فمن المنطق الصحيح أن يرجع المؤرخ بالحوادث إلى الأسباب الثابتة والعوامل المقنعة، وليس من المنطق الصحيح أن نتخيل الناس جميعا منطقيين حين يؤمنون أو حين يكفرون، ومنطقيين في تمييز الحق والباطل من الدواعي والأسباب.
والواقع في أمر المنبوذين الهنديين، وفي أمر المحرومين جميعا، أنهم لم يكونوا أضعف إيمانا بعقيدتهم البرهمية من أبناء الطبقات العليا، ولم يثبت قط أن التحول إلى الأديان الأخرى كان بينهم أكثر وأسرع مما كان بين الطبقات العليا، وربما وجد فيهم من يصبر على قسمته؛ لأنه يعتقد أنها شرط من شروط الخلاص الأبدي، وكفارة على المساوئ التي سلفت منه في أدوار الخلق الأولى، وربما كان من المحرومين في كل أمة من هو أثبت إيمانا على دينه من ذوي النعمة والثراء؛ لأن جانب الوعد والأمل قوي في الدين، ونصيب المحروم من الوعد والأمل أوفر من نصيب القانع المجدود.
وقد حدث حقا أن أناسا من المنبوذين رحبوا بالدين الإسلامي، ودخلوا فيه؛ لارتياح نفوسهم إليه، ولحسن ما عاينوه من القدوة الصالحة في سيرة المسلمين الوافدين على بلادهم والمقيمين بين ظهرانيهم، ولكننا لا نجد من أسانيد التاريخ ولا من أسانيد العقل ما يفهم منه أن الهنود الذي أسلموا كانوا جميعا من طوائف المنبوذين، بل لا نجد في تلك الأسانيد ما يفهم منه أن الأكثرين كانوا منهم ولم يكونوا من طبقات العلية وذوي الوجاهة في المجتمع أو في الدولة الحاكمة، وقد تحول الهنود إلى الإسلام في بقاع الهند الغربية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حيث يوجد المنبوذون وحيث لا يوجدون، وتحول أهل سومطرة وجاوة إلى الإسلام بهذه الكثرة أو بأكثر منها وهم بوذيون يقل بينهم المنبوذون، وتكاد الروايات المحفوظة عن أخبار الإسلام في الجزر الجاوية أن تجمع على ابتداء الإسلام بين الأمراء والقادة، ثم شيوعه بأمرهم وهدايتهم بين رعاياهم الوثنيين، ولعلها هي القاعدة المطردة في معظم الأمم الآسيوية من سكان الجزر إلى سكان القارة الوسطى، سواء من كان على الوثنية أو من دان في صباه ببعض الأديان الكتابية؛ كما حدث في إسلام «تكودار خان» أحد سلاطين المغول بأرض فارس، وهو الذي نقل لنا القلقشندي في صبح الأعشى كتابا منه إلى السلطان قلاوون بمصر يقول فيه:
إن الله - سبحانه وتعالى - بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا في عنفوان الصبا وريعان الحداثة إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - بصدق نبوته، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده وبريته، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.
وقد أسلم على هذا النحو بعض زعماء القبائل الأثيوبية، فلم ينحصر إقبال الآسيويين والأفريقيين على الإسلام في طبقة واحدة من الرعية أو الرعاة، وابتدأ التحول من العليا إلى من دونها كما ابتدأ من الأتباع إلى السادة والرؤساء.
ومهما يكن من أثر الأسباب المحلية أو الموقوتة فلا بد من البحث عن سبب عام محيط بجميع هذه الأسباب التي تختلف فيها بيئة عن بيئة وزمن عن زمن وحالة عن حالة، ولا بد من عامل واحد غير هذه العوامل التي تحبب الإسلام تارة إلى الحاكم وتارة إلى المحكوم، وتفتح له السرائر في نفوس الضعفاء وفي نفوس الأقوياء، وتجعله قوة تعين الغالبين على الغلب، وتعين المغلوبين على الصمود والدفاع، ولا تخفى حقيقة هذا العامل بعد هذا الشمول، فإن حقيقته التي تتضح من إحاطته بهذه العوامل كافة أنه عقيدة شاملة، وأنه بذلك حقق الصفة الكبرى للعقيدة الدينية على أتم شروطها، فما كانت سريرة الإنسان لتطمئن كل الاطمئنان إلى اعتقاد يفرقها بددا، ويقسمها على نفسها، ويترك منها جزءا لم تشمله بقوته ويقينه، وقد يخرج من سلطانه فيملكه سواه.
نامعلوم صفحہ
قلنا في ختام كتابنا عن عقائد المفكرين: إنه «لا التباس اليوم بين وازع الأخلاق ووازع العقيدة الدينية، وليس اتفاقهما في الإباحة والتحريم أحيانا بالذي يمنع الباحث أن يعرف لها صبغتها ويميز طبيعتها، فلا يخلط بين أوامر القانون وأوامر الأخلاق وأوامر الدين.» «والغالب على الأوامر القانونية أنها إرادية تكتفي بتحقيق السلامة، ولا تذهب وراء الأسلم الألزم إلى شوط بعيد، والغالب على الأوامر الأخلاقية أنها لدنية تعمل فيها الإرادة شيئا، ولكنها لا تعمل كل شيء، بل يتولى الشعور أهم البواعث في أعمال الأخلاق، ويشاهد فيها كثيرا نزوع إلى ما وراء السلامة واللزوم، وتفضيل للأجمل الأمثل من الأمور، فصاحب الوازع الأخلاقي لا يقنع بفروض القانون، ولا يزال متطلعا إلى درجة أعلى من درجات القانعين باجتناب العقاب والتزام أدنى الحدود.» «أما الغالب على الأوامر الدينية أو آداب العقيدة فهو الشمول الذي يحيط بالإرادة والشعور والظاهر والباطن، ولا يسمح لجانب من النفس أن يخلو منه، ولا يقنع بالسلامة أو بالجمال إلا أن تكون معهما الثقة التي لا تتزعزع في صميم الحياة، بل صميم الوجود، ومن السهل أن يقال: إن حاسة القانون تتولد في الإنسان؛ لأنه عضو في مجتمع، وإن حاسة الأخلاق تتولد فيه؛ لأنه من أفراد النوع الإنساني كله، ولكن ليس من السهل أن يقال: إن الإنسان مهتم بمصيره في الكون؛ لأنه عضو في المجتمع أو فرد من أفراد النوع، وإنما يتدين الإنسان؛ لأنه يهتم بمصيره ومعنى وجوده، ويطلب له قرارا أوسع جدا من علاقاته الإنسانية أو علاقاته بالمجتمع، ويجب أن يطلب عقيدة تحتويه، ولا يكتفي بعقيدة يحتويها ويريدها كما يشاء.»
وعلى هذا الشرط - شرط الشمول في العقيدة - يكون الإسلام هو العقيدة بين العقائد، أو هو العقيدة المثلى للإنسان منفردا ومجتمعا، وعاملا لروحه أو عاملا لجسده، وناظرا إلى دنياه أو ناظرا إلى آخرته، ومسالما أو محاربا، ومعطيا حق نفسه أو معطيا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلما وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلما وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلما لأنه روح تنكر الجسد أو لأنه جسد ينكر الروح أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى، رهينا بوساطة بينه وبين السماء يتولاها في المعابد سدنة موكلون بالوساطة بين المخلوق والخالق وبين العابد والمعبود، ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه في جميع حالاته وجميع حالاتها، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه «كل» شامل فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق.
الفصل الثالث
عقيدة شاملة
يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة، ويتعمق في الاطلاع.
ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.
ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يرى المسلم مستقلا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه، ويعلم من ثم كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرا للكاهن، ووقفا على المعبد، وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.
لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصة أن «المتدين» قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها، ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه، فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعا قطع متفرقة لا تستقل يوما بقوام الحياة الروحية، ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تثوب إلى المعبد لتتزود منه شيئا تتم به عقيدتها ولا تستغني عنه مدى الحياة.
لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواء في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب إلى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة.
نامعلوم صفحہ
فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه يصلي حيث شاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد الكهان، وهو مع الله في كل مكان، وأينما تولوا فثم وجه الله.
ويذهب المسلم إلى الحج فلا يذهب إليه ليستتم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعا في شعائره على سنة المساواة، بغير حاجة إلى الكهانة والكهان، وقد يكون السدنة الذين يراهم مجاورين للكعبة خداما لها وله يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء فلا سبيل لأحد منهم عليه.
فإذا توسع قليلا في العلم بشعائر الحج علم أن الحج لا يفرض عليه زيارة قبر الرسول، وأن هذه الرسالة ليست من مناسك الدين، وأنها تحية منه يؤديها من عنده غير ملزم، كما يؤدي التحية لكل دفين عزيز محبوب لديه.
وإذا توسع قليلا في مكان ذلك الرسول من الدين قرأ في القرآن الكريم:
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي [الكهف: 110، وفصلت: 6].
وقرأ فيه:
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [الشورى: 48].
وقرأ فيه:
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54].
وقرأ فيه:
نامعلوم صفحہ
وما أنت عليهم بجبار [ق: 45].
وقرأ فيه:
لست عليهم بمصيطر [الغاشية: 22].
وقرأ فيه:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ: 28].
وقرأ فيه آيات لا تخرج في وصف الرسالة عن معنى هذه الآيات. •••
مر بنا أن فساد رجال الدين كان من أسباب انصراف أتباعهم عن دينهم، ودخولهم أفواجا في عقيدة المسلمين.
مثل هذا لا يحصل في أمة إسلامية فسد فيها رجال دينها، فما من مسلم يذهب إلى الهيكل ليقول لكاهنه: خذ دينك إليك، فإنني لا أؤمن به، ولا أرى في سيرتك مصداقا لأوامرك ونواهيك أو أوامره ونواهيه.
كلا. ما من رجل دين يبدو للمسلم أنه صاحب الدين، وأنه حين يؤمن بالله يؤمن به؛ لأنه إله ذلك الرجل الذي يتوسط بينه وبينه، أو يعطيه من نعمته قواما لروحه.
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [فاطر: 13-15].
نامعلوم صفحہ
نعم. كلهم فقراء إلى الله، وكلهم لا فضل لواحد منهم على سائرهم إلا بالتقوى، وكلهم في المسجد سواء، فإن لم يجدوا المسجد فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء.
إن عقيدة المسلم شيء لا يتوقف على غيره، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره، ومن كان إماما له في مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقاما فوق مقام النبي صاحب الرسالة: النبي الذي يبشر وينذر، ولا يتجبر ولا يسيطر، ويبلغ قومه ما حمل وعليهم ما حملوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذي لا يعرف لأحد حقا فيه أعظم من حقه، أو حصة فيه أكبر من حصته، أو مكانا يأوي إليه ولا يكون الإسلام في غيره.
كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله، ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام.
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا [القصص: 77].
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه [الأحزاب: 4، 3].
فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل - فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كلا مستقلا بدنياه وآخرته شفاء له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين تضطر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته، وحافز له إلى الخلاص من القهر كلما غلب على أمره، ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.
ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر؛ لأن الأمر في الإسلام كله لله
بل لله الأمر جميعا [الرعد: 31]
ولله المشرق والمغرب [البقرة: 115]،
نامعلوم صفحہ
رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون [الشعراء: 28].
وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر لأمر الله، وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلة وحالة لا بد لها من تحويل.
وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، وأبت على المرأة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى «الفصام الوجداني» ويحسبه حلا لمشكلة الحكم والطاعة قابلا للدوام.
إن هذا الشأن العظيم - شأن العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم «وحدة كاملة» - لا يتجلى واضحا قويا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية. فقد أسلم عشرات الملايين في الصحاري الأفريقية على يدي تاجر فرد أو صاحب طريقة متفرد في خلوته لا يعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وتصنع هنا قدرة الفرد الواحد ما لم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة، فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليونا بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة فهم فوق المائتين من الملايين ، أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحاري أفريقيا وشواطئها إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف. •••
وينبغي أن نفرق بين الاعتراف بحقوق الجسد وإنكار حقوق الروح، فإن الاعتراف بحقوق الجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ولا الحد من سبحاتها التي اشتهرت باسم التصوف في اللغة العربية أو اشتهرت باسم «الخفيات والسريات» في اللغات الغربية
Mysticism .
إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفارق بين عالم الظاهر وعالم الباطن في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، وذكر تسبيح الموجودات ما كانت له حياة ناطقة وما لم تكن له حياة:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا [الإسراء: 44]، وأشار إلى هذه الأشياء بضمير العقلاء، وعلم منه المسلمون أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنه نور السماوات والأرض، وأنه
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم [الحديد: 3].
وحسب المرء أن يتعلم هذا من كتاب دينه ليبيح لنفسه من سبحات التصوف كل ما يستباح في عقائد التوحيد، ولعله لم يوجد في أهل دين من الأديان طرق للتصوف تبلغ ما بلغته هذه الطرق بين المسلمين من الكثرة والنفوذ، ولا وجه للمقابلة بين الإسلام وبين البرهمية أو بين البوذية مثلا في العقائد الصوفية. فإن إنكار الجسد في البرهمية أو البوذية يخرجهما من عداد العقائد الشاملة التي يتقبلها الإنسان بجملته غير منقطع عن جسده أو عن دنياه.
نامعلوم صفحہ
وحسب المرء أن يرضي مطالبه الروحية، ولا يخالف عقائد دينه؛ ليوصف ذلك الدين بالشمول، ويبرأ فيه الضمير من داء الفصام.
كذلك يخاطب الإسلام العقل، ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان، وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة، وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا [سبأ: 46]
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون [البقرة: 219]، وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها مذهبا أبعد وأوسع من خطاب الإنسان روحا وجسدا وعقلا وضميرا بغير بخس ولا إفراط في ملكة من هذه الملكات.
وفي مشكلة المشكلات التي تعرض للمتدين يعتدل المسلم بين الإيمان بالقدر والإيمان بالتبعة والحرية الإنسانية، فمن عقائد دينه:
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [نوح: 4]
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [فاطر: 11]
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله [آل عمران: 145]
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [النساء: 81].
ومن عقائد دينه أيضا:
نامعلوم صفحہ
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد: 11]،
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [هود: 117].
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30].
وليس في الإسلام أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها إلى كفارة من غيره، وقد قيل: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين، وقيل على نقيض ذلك: إنه كان حافزهم الأول في صدر الإسلام على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة، وحقيقة الأمر أن المسلم الذي يترك العمل بحجة الاتكال على الله يخالف الله ورسوله؛ لأنه مأمور بأن يعمل في آيات الكتاب وأحاديث الرسول:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [التوبة: 105] بل حقيقة الأمر أن خلاصه كله موقوف عليه، وأن إيمانه بحريته وتدبيره لا يقتضي بداهة أن الله سبحانه مسلوب الحرية والتدبير.
وأصدق ما يقال في عقيدة القضاء والقدر أنها قوة للقوي، وعذر للضعيف، وحافز لطالب العمل وتعلة لمن يهابه ولا يقدر عليه، وذلك ديدن الإنسان في كل باعث وفي كل تعلة كما أوضحنا في الفارق بين أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري، وهما يقولان بقول واحد في عبث الجهد وعبث الحياة.
فأبو الطيب يقول عن مراد النفوس:
ومراد النفوس أهون من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
ثم يتخذ من ذلك باعثا للجهاد والكفاح فيقول:
نامعلوم صفحہ
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولايلاقي الهوانا
والمعري يقول: إن التعب عبث؛ لأنه لا يؤدي بعده إلى راحة في الحياة، ولكنه يعجب من أجل هذا لمن يتعبون، ويطلبون المزيد:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
وعلى هذا المثال يقال تارة: إن عقيدة القضاء والقدر نفعت المسلمين، ويقال تارة أخرى: إنها ضرتهم وأوكلتهم إلى التواكل والجمود، وصواب القول أنهم ضعفوا قبل أن يفسروا القضاء والقدر ذلك التفسير، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول؛ لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعا كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.
فليس الإسلام دين أمة واحدة، ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلطين دون الضعفاء المسخرين، ولا هو للضعفاء المسخرين دون السادة المسلطين، ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملة وقبيل:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [سبأ: 28] ...
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض [الأعراف: 158].
نامعلوم صفحہ
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [البقرة: 136].
إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 62].
فهذه عقيدة إنسانية شاملة لا تخص بنعمة الله أمة من الأمم؛ لأنها من سلالة مختارة دون سائر السلالات لفضيلة غير فضيلة العمل والصلاح.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [الحجرات: 13].
وفي أحاديث النبي عليه السلام أنه: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وليس للإسلام طبقة يؤثرها على طبقة أو منزلة يؤثرها على منزلة، فالناس درجات يتفاوتون بالعلم، ويتفاوتون بالعمل، ويتفاوتون بالرزق، ويتفاوتون بالأخلاق:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [المجادلة: 11].
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم [النساء: 95].
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق [النحل: 71].
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9].
نامعلوم صفحہ
وإذا ذكر القرآن الضعف فلا يذكره لأن الضعف نعمة أو فضيلة مختارة لذاتها، ولكنه يذكره ليقول للضعيف: إنه أهل لمعرفة الله إذا جاهد وصبر وأنف أن يسخر لبه وقلبه للمستكبرين، وإلا فإنه لمن المجرمين. •••
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين [سبأ: 31، 32].
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [القصص: 5، 6]. •••
وما من ضعيف هو ضعيف إذا صبر على البلاء، فإذا عرف الصبر عليه فإنه لأقوى من العصبة الأشداء.
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين [الأنفال: 66].
فما كان الإله الذي يدين به المسلم إله ضعفاء أو إله أقوياء، ولكنه إله من يعمل ويصبر ويستحق العون بفضل فيه، جزاؤه أن يكون مع الله، والله مع الصابرين.
بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض، ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول، وتبدلت المقادير، وذاق المسلمون بأس القوة مغلوبين مدافعين.
وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية، فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا إجماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضى والاقتناع؛ إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو اليهودية قبلها في أول نشأتها أمما وثنية على الفطرة لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد أو الإله الخالق المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام، وإنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية، فتحولت إليه الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفارس، وهي أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحول إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية كما تحول إليه أناس من أهل النوبة الذين غبروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة، ورغبهم جميعا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع.
وإبراز هذه المزية - مزية العقيدة الإسلامية التي أعانت أصحابها على الغلب وعلى الدفاع والصمود - هو الذي نستعين به على النظر في مصير الإسلام بعد هاتين الحالتين، ونريد بهما حالة القوي الغالب وحالة الضعيف الذي لم يسلبه الضعف قوة الصمود للأقوياء، إلى أن يحين الحين، ويتبدل من حالتي الغالب والمغلوب حالته التي يرجوها لغده المأمول، ولئن كانت حالة الصمود حسنى الحالتين في مواقف الضعف مع شمول العقيدة وبقائها صالحة للنفس الإنسانية في جملتها وللعالم الإنساني في جملته؛ ليكونن المصير في الغد المأمول أكرم ما يكون مع هذه القوة وهذا الشمول.
الفصل الرابع
نامعلوم صفحہ