كلمة لا بد منها
عمرة كاتب
العلم الإسلامي والعلم الغربي في العلم الإسلامي ظهر العباقرة
لماذا أسلم جارودي؟
إسلام بلا ضفاف
جارودي و«وعود الإسلام»
إسلام نعم ... ولكن!
هل الإسلام ضد القومية؟
أوجه الصدام بين الإسلام والقومية العربية
لا تلطموا الخدود!
البحث عن التراب الخماسيني
موتونا وريحونا
على هامش الحرائق النفطية
تيبس المفاصل الفكرية والإرادية
خريف البطريرك وصيفنا
جولة في عقول القراء
الجائزة رقم 40 مليون
التلوث الذممي
باب الخلق وباب العدالة
في صالون العقاد
القطاع الخاص الجديد «النديم» الكتاب
عمان - دمشق - القاهرة
خطاب من كاتب نجدي
ذلك الرجل المحير للبرية
لماذا يخسرنا؟ ولماذا نخسره؟
العرب على شفا هاوية
الهزيمة الثالثة
لماذا لم يفعلوا هذا؟
أسرع يا بني وصور
الموهبة
حتما سأكتب قصتها
الرأس والحل والنظام
كلمة لا بد منها
عمرة كاتب
العلم الإسلامي والعلم الغربي في العلم الإسلامي ظهر العباقرة
لماذا أسلم جارودي؟
إسلام بلا ضفاف
جارودي و«وعود الإسلام»
إسلام نعم ... ولكن!
هل الإسلام ضد القومية؟
أوجه الصدام بين الإسلام والقومية العربية
لا تلطموا الخدود!
البحث عن التراب الخماسيني
موتونا وريحونا
على هامش الحرائق النفطية
تيبس المفاصل الفكرية والإرادية
خريف البطريرك وصيفنا
جولة في عقول القراء
الجائزة رقم 40 مليون
التلوث الذممي
باب الخلق وباب العدالة
في صالون العقاد
القطاع الخاص الجديد «النديم» الكتاب
عمان - دمشق - القاهرة
خطاب من كاتب نجدي
ذلك الرجل المحير للبرية
لماذا يخسرنا؟ ولماذا نخسره؟
العرب على شفا هاوية
الهزيمة الثالثة
لماذا لم يفعلوا هذا؟
أسرع يا بني وصور
الموهبة
حتما سأكتب قصتها
الرأس والحل والنظام
إسلام بلا ضفاف
إسلام بلا ضفاف
تأليف
يوسف إدريس
كلمة لا بد منها
لا بد منها لأني أخشى أن يتصور من يقتني هذا الكتاب - دون اطلاع على محتويته - أن
ولكن الأمر ليس كذلك، فحقيقة هناك مواد كثيرة من أبواب هذا الكتاب تتحدث عن الإسلام،
•••
ولكني لا أبادر بنشر هذه المجموعة المتجانسة من المقالات لهذا السبب وحده، ففي العام
وكان من الطبيعي لكتاب يتعرض لفقرنا الفكري والثقافي أن يتحدث أيضا عن فقرنا في مجال
وفي هذا الاتجاه استعرضت مناقشا آراء كثيرة يدعو لها عالمنا الإسلامي الكبير وداعيتنا
ولكن، لأن هناك دائما من يهوون الصيد، حتى في الماء الرائق، أو بالأصح يهوون تعكير أي
فأنا لست مجنونا حتى - بدون مناسبة هكذا - أتعرض لشخصية تحتل مقاما رفيعا ساميا في
وأنا في حياتي لم أتراجع عن كلمة قلتها أو كتبتها، ولو كنت قد قلت أنا شيئا كهذا لما
•••
الجانب المضحك في المأساة أنني ومنذ أن جرى هذا الصيد السخيف في الماء الرائق وأنا لا عمل
وكدت أجن.
فنحن في بيت الله، نطوف حول الكعبة في لحظات من أقدس الأوقات في حياة المسلم، في أقدس
وقد تحملت قطع طواف العمرة مرة ومرتين وعشرا، وبطول بال مضيت أجاوب إلى أن بلغ بي الملل،
•••
من أجل هذا، من أجل ألا نعود بعد أربعة عشر قرنا من ظهور الإسلام وتحطيم أوثان الكفرة،
صلى الله عليه وسلم ، وما محمد إلا بشر يوحى إليه، إنما إلهكم إله واحد.
أما ما صنعتموه بفضيلة الشيخ الشعراوي ورفعه من مرتبة البشر إلى مراتب القديسين، فهو
•••
أحببت أن أجمع آرائي هنا، وآراء غيري؛ ليتضح لنا كم ضيقنا بفقرنا الفكري إسلاما
وليبارك المولى خطواتنا ويعاملنا - جل شأنه - بنوايانا، إنه سميع مجيب.
يوسف إدريس
عمرة كاتب
بدأت الكتابة كتفرغ منذ خمسة وثلاثين عاما، وقبلها كنت ضائعا في الحركة الوطنية
ومنذ النصف الثاني من السبعينيات والهم يتثاقل حتى يبلغ الحلقوم، ومع هذا فنحن أحياء ما
كانت هذه الأفكار تدور في رأسي وأنا أرتدي ملابس الإحرام في طريقي للصلاة في الحرم وزيارة
صلى الله عليه وسلم
وصاحبيه أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فأرضاهما. وقفت أمام مقام الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
وجموع المسلمين تتدافع لتلقي على بابه وعلى مقامه
صلى الله عليه وسلم
بمكنون قلبه وبدعاء له
وأنا مستغرق في دعائي لنفسي ولأسرتي وحتى لأصدقائي، هبط علي خاطر كأنما هو منزل من
ودنوت إلى قبر الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ورأيته في ضوء آخر تماما، هذا إنسان من بني البشر اصطفاه
وأنا أطوف بالكعبة وأرى الناس سودا وبيضا، صينيين وأوروبيين، مشارقة ومغاربة، من
كان منظرهم يخلع القلب فرحا، ويجعلك تنتقل من انتماءاتك المحدودة في عائلتك أو في بلدك إلى
صليت ركعتين في الروضة الشريفة، وارتكنت إلى عمود من أعمدة الحرم النبوي الشريف، أرقب
وجاءتني مصر وأنا مرتكن أمارس متعة الابتهال بلا صوت، والتأمل بلا انقطاع. جاءتني مصر
ما فائدة أن يرزقك الله بالملايين في شعب يعيش على حافة الفاقة؟ إن المسلم الحقيقي لا
وظللت أدعو وأدعو حتى وجدتني أبكي بكاء لم يحدث لي من قبل، فهو ليس بكاء حزن، وليس بكاء
صلى الله عليه وسلم ، بكاء المتأمل في الآيات البينات التي أوحى الله بها وغمرت الدنيا من
يا رب لا تمنحني الصحة وشعبي مريض.
ولا تمنحني الرزق الوافر وشعبي يشكو الفاقة.
ولا تمنحني سلامة النفس وشعبي يطحنه القلق.
وأنزل اللهم السكينة على قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، يا لها من آية
هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
، أنزل اللهم السكينة على
العلم الإسلامي والعلم الغربي في العلم الإسلامي ظهر العباقرة
التصور الغربي للعلوم والتكنولوجيا تصور قاصر، ما في ذلك شك، ذلك أنه يرتكز على التسليم
وهذا التعريف الكمي الصرف يعود إلى الإيمان بأن الهدف الأسمى «للتقدم» و«النمو» هو
ولا يكتفي الغرب بهذا، بل إنه ينصب من نفسه قاضيا على جميع الحضارات الأخرى، معتبرا
والفكرة تبدو شاذة حقا وشديدة التعصب، خاصة إذا سأل هؤلاء، الساعون إلى السيطرة وإرادة
وأبدا ليس لتأمين تفتح وازدهار الإنسان، كل الإنسان، وكل إنسان.
هكذا يبدأ جارودي مدخله إلى دراسة الثورة العلمية والتكنولوجية التي قامت بها الحضارة
وفي هذا الصدد يقول، وهو يعني الحضارة الشاملة، حضارة الإسلام: تفتح كل إنسان، وأعني
إن تفتح كل إنسان هو الشيء الذي ينقص فلسفة النمو الغربية وديانة التقدم التي يعتنقها
لقد احتاج تيمور لنك أياما وأياما لذبح 70000 شخص من البشر عند استيلائه على أصفهان
إن الثورة الخضراء وبذورها العجيبة زادت محاصيل الأرز زيادة هائلة في جنوب شرق آسيا، في
إن العلم يكون سفها وظلما إذا لم يكن له هدف آخر إلا العلم نفسه، العلم للعلم، فهذا
إن مبدأ التوحيد قد سد الفاصل بين العلم والإيمان، فما دام كل شيء في الطبيعة هو «أمارة»
وفي الحديث النبوي الشريف: «من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله به طريقه إلى
لقد جمع الإسلام، وترجم إلى اللغة العربية، كل ما ازدهر قبله من علوم وثقافات من حضارة
ولقد حدثت حركة ترجمة عظمى منذ القرن الثامن الميلادي، فقد اجتذب هارون الرشيد إلى بلاطه
وفي القرن العاشر كانت مدينة صغيرة كالنجف في العراق تملك 40000 مجلد. وفي الطرف الآخر
إن سبب الركود العلمي الرئيسي في أوروبا المسيحية كان الارتياب في الطبيعة الذي لا يمكن
وعلى هذا قام كثير من البطاركة بحرق المكتبات باعتبار أنها تساعد على «الوثنية
وعكس هذا تماما ما يعبر عنه النظام التربوي الخاص بالإسلام الذي يشكل تعليم القرآن في
•••
وهكذا جاءت صفت الكتاب والعلماء المسلمين، فمن جهة ليس ثمة انفصال بين علوم الدين
فبينما في الغرب لا يوجد عباقرة شموليون اللهم إلا ليوناردو دافنشي، في حين أنهم في
وهذه الرؤية التوحيدية تفسر كذلك الأهمية التي تختص بها الحضارة الإسلامية في تصنيف
إن الرياضيات مثلا في المنظور الإسلامي هي عبور من «المحسوس» المدرك إلى المعقول، من
وبما أن الرمز واحد (1) هو الدلالة الأكثر مباشرة للمبدأ الإلهي فإن سلسلة الأعداد
كان الخوارزمي رائد علم الجبر (وكلمة الجبر نفسها هي عنوان كتابه الأشهر)، وفي القرن
في حين أكب علماء آخرون (مثل الطوسي والبيروني) على البحث في «الجيوب» «جا»، وابتكروا
وفي الفلك أكمل علماء الإسلام مسيرة اليونانيين من أمثال بطليموس وتجاوزوه كثيرا، فوضع
وكانت تلك البحوث الفلكية مفيدة تماما للعرب في سفرهم في البادية وفي البحار والمحيطات على
وفي الجغرافيا كانوا هم أول من رسم الخرائط . واستلهاما للعقيدة الإسلامية، فإن أرض
في بلاط روجيه الثاني ملك صقلية «حتى بعد استرداد صقلية من العرب» قام الجغرافي العربي
لقد درس المسلمون العالم جغرافيا باعتبار استمرارية الطبيعة، وباعتبار أن ليس ثمة فاصل
لقد كانت ابتكارات العرب هي أساس اكتشافات «تورشيللي» في إيطاليا لاختراع مقياس الضغط
ولا بد أن نقف عند أحد أعظم الشخصيات البارزة في العالم العربي الإسلامي، ذلك هو
ففي نفس العمر الذي لم يكن الغرب فيه يعرف عن التاريخ سوى كتاب «الحوليات»، كتب ابن
وإذ يربط الملاحظة الشخصية بالتفكير النظري، فإنه يدون أثر المناخ والجغرافيا والظواهر
ولكن ما يميز ابن خلدون على ميكيافيللي أو مونتيسكي (وأيضا عن التصور الوضعي للتاريخ) هو
إنه هنا لا يسرد وقائع، ولكنه يحللها ويفسرها، وهذا أثر آخر. وليس في ابن خلدون أي أثر
وفوق كل ذي علم عليم
إلا أنه يقيم صلة أخرى بين
فالتاريخ في المنظور الإسلامي عند ابن خلدون يصنع من أوضاع وأحوال وأسباب، ومن اندفاعات
أما الطب الإسلامي، وهو أحد أجمل أزهار الحديقة الإسلامية، فإنه قائم هو الآخر على أساس
ولنعرف مدى الأثر العربي العظيم في الطب، فيكفي أن نعرف أن كلية الطب في باريس لم تكن
ولقد طبع بحث الرازي عن الجدري والحصبة، والذي كتب في القرن العاشر، أكثر من أربعين
ورغم عظمة الرازي إلا أن تأثير ابن سينا، وبالذات في كتابه «قانون الطب» الذي ترجم إلى
أما تأثير العنصر المعنوي والروحي على الجسم، فقد أدخل في الحسبان، فقد كتب ابن سينا:
إن النهضة الأوروبية لم ترث تعاليم الحضارة اليونانية مباشرة، فإن الحضارة العربية
إن الفكر الفلسفي في الإسلام لا يرى العالم في تطوره وكأنه يسير في اتجاه أفقي، وإنما في
إن العلم والتقنيات وسائل مدهشة في خدمة غايات إنسانية، لكن «علما» ما، وأعني به تنظيما
وهكذا ممكن أن نلخص فلسفة العلم عند الحضارة الإسلامية بالتالي: (1)
إن العلم والتقنيات تنسق وفقا لأهداف أعلى من أهداف إنسان أو مجتمع
(2)
هناك استعمال آخر للعقل غير الاستعمال الذي يتجه من سبب إلى سبب، ومن سبب إلى
إن الأستاذ حسين نصر يعرف العلاقات بين العلم الذي يقال إنه عصري والعلم
لماذا أسلم جارودي؟
كان أول تعرفي على «روجيه جارودي» حين قرأت كتابه «واقعية بلا ضفاف»، والحق أن الكتاب
أعجبني كتابه رغم أنه كان في ذلك الوقت فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي وكاتبه الفكري. فأن
وكان ثاني لقاء لي بجارودي في جريدة الأهرام في أوائل السبعينيات حين دعاه الأستاذ محمد
ماذا سوف يقول هذا الفيلسوف الماركسي السابق عن الإسلام وحضارته؟
والحق أن المحاضرة كانت نظرة جديدة تماما يلقيها مثقف غربي محايد عن الإسلام كحضارة،
كان يلقي محاضرته بالفرنسية، والفرنسية هي لغتي الثالثة التي أهملتها كثيرا، ولكن لروعة
بعد هذه المحاضرة أو ربما قبلها بقليل - لست أذكر على وجه الدقة - قام الحزب الشيوعي بفصل
وإن هي إلا بضع سنين مرت وإذا بنا نفاجأ بأن جارودي قد اعتنق الإسلام، وسمى نفسه رجاء
وسخر البعض من إسلام جارودي، وشهروا به قائلين إنه قبض ثمن إسلامه من العقيد القذافي،
والحق، لأني لم يتح لي معرفة وجهة نظره، ظللت حائرا أمام إسلامه هذا.
وحتى حين استضافه التليفزيون المصري، عهدوا بالحوار معه إلى مذيعة لا مؤهلات لها إلا
الكتاب سماه مترجمه الدكتور ذوقان قرقوط ممثل الجزائر في هيئة الأمم المتحدة، سماه «وعود
إن الحضارات تتخاطب وتتفاعل، ولا يمكن أن تفصل بعضها عن البعض الآخر؛ فهي في الحقيقة
وحتى المسيحية نفسها لم تأت من أوروبا، القارة الوحيدة التي لم يولد فيها نبي ولم
والمسيحية نفسها، وبالذات في حبوها إلى الشمولية في الكاثوليكية، ألا يجب أن تعترف أن
لقد رفض الغرب منذ ثلاثة عشر قرنا هذا الجذر المهم الثالث لحضارته المعاصرة، الجذر
ذلك أن الإسلام - كما يقول جارودي - لم يكمل ويخصب وينتشر فحسب من بحر الصين إلى الأطلنطي
إن النظام الثقافي العالمي الجديد هو الانتقال من الهيمنة الغربية إلى التشاور على مستوى
صلى الله عليه وسلم
وانتصاره في شبه الجزيرة العربية ، وتقدم خلفائه الخاطف، وسيطرتهم في أقل من ربع قرن على
صلى الله عليه وسلم
لم يدع أنه يجيء بدين جديد وإنما
ويستطرد جارودي في تحليله قائلا: إن المجتمع العربي قبل الإسلام كان قائما على نوعين من
وهكذا كان يؤمن القوافل التجارية مقابل إتاوة محددة. وكانت المسيحية حين دخلتها السفسطة
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم
(سورة فصلت: 53). إن كل شيء في
إسلام بلا ضفاف
تركت كتاب جارودي جانبا، ورحت أتأمل رحلة الإنسان الباحث عن الحق والحقيقة، لقد كلفتني
في كتابه هذا الأخير إذن يتوجه جارودي إلى الأوروبيين، مسيحيين كانوا أو يهودا أو
ولكن لننظر إلى هذا التعلق المبكر بالحضارة الإسلامية، والذي كما يذكر الدكتور قرقوط يرجع
ولكنه كان قد وصل إلى قمة المنتهى، ومن يصل إلى قمة المنتهى لا يهمه اعتراضات البشر. كان
صلى الله عليه وسلم
الذي بكلامه، الموحى به من الله، يكون ليس وحدة أو جملة، ولكن فعل توحيد؛
ولا يمكن لنا أن نفهم انتشار الإسلام من غير أن نلفت النظر (هكذا يقول جارودي) إلى وجهين
صلى الله عليه وسلم : فأولا التوحيد هو عمل يدل على ذلك الافتراض
إن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن ينسى بإرادته طبيعته الحقيقية،
قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (سورة طه: 126)، فهو يصبح مسلما إذن بالاختيار، وذلك بتذكره الشريعة الأولى؛ شريعة التوحيد
من جهة أخرى (هكذا يمضي جارودي قائلا) سيكون غريبا جدا اعتبار عقيدة قادت المسلمين
الملاحظة الثانية تنصب على وجه الدقة على هذه الطريقة الجديدة للحياة، فإذا كان الإسلام
كان القرآن الكريم يعترف بصدق أنبياء التوراة على أنهم رسل لله نفسه، شرائع موسى وإنجيل
الإسلام الفلسفة الوحيدة التي بشرت بالوحدة الإلهية
فأولا:
الجهر بالعقيدة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ إذ
تسبح له السموات السبع
(سورة الإسراء: 44).
ثانيا:
الصلاة، وهي المشاركة الواعية من الإنسان لهذا التسبيح الكوني الذي يربط
إن الصلاة تريح المؤمن بهذه العبادة الشاملة، فبالقيام بها وقد ولى
ثالثا:
الصوم، وهو إيقاف طوعي للإيقاع الحياتي اليومي، تأكيد حرية الإنسانة
رابعا:
الزكاة ليست إحسانا أو تسولا، وإنما هي نوع من العدالة الداخلية أخذت
خامسا:
الحج لبيت الله (مكة) بيت الله الحرام الذي لا يجسد عالمية الأمة فحسب،
فالمسألة المحورية في الإسلام، في جميع مظاهره، هي هذه الحركة المزدوجة
قالوا إنا لله وإنا إليه
(سورة البقرة: الآية 156).
على هذه الأسس الإسلامية التوحيدية الكبرى أسس النبي (عليه الصلاة والسلام) نموذجا لم
وقد ارتكز مجتمع المدينة سياسيا على ركيزتين أساسيتين: الركيزة الأولى أن السلطة لله
وهنا نستطيع أن نتوقف قليلا لنناقش جارودي في هذه النقطة، على وجه التحديد، فالديمقراطية
أما فيما يتعلق بالملكية، فيقول جارودي: إنه إذا كانت كل ملكية هي ملك لله، وإن كل
ذلك أن المجتمع الإسلامي هدفه الأول هو التسامي بأفراده وجماعاته، والتسامي والجماعة
وكان لا بد من انقضاء قرنين من الاضطرابات الاجتماعية التي ولدت «الليبرالية
يقول الرجل في كتابه وعد أو وعود الإسلام:
إننا لا نسعى مطلقا إلى اعتبار جميع منجزات المجتمع الإسلامي التاريخية
ولكل
(سورة يونس: الآية 47)، وبصورة أكثر دقة أيضا:
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه
(سورة إبراهيم: الآية 4).
واليوم حيث لم يتجمد الإسلام عند ماضيه، وإنما عرف كيف يحل مشكلات عصرنا بروح مجتمع
•••
هذا استعراض عام لرأي جارودي في إسلامنا الحنيف، ذلك الرأي الذي انتهى بأن يسلم
أما ما فعله الإسلام بالمسلمين عامة وبالعرب خاصة فإنه شيء حقا يجل عن الوصف.
جارودي و«وعود الإسلام»
لماذا كتبت تلك السلسلة؟
سألني كثيرون، بتليفونات وخطابات، لماذا بالذات اخترت أن تقدم كتاب جارودي «وعود
وهل حدث لي تحول في تفكيري دفعني لل «عودة» للإسلام؟
والحقيقة أني لم أستغرب الأسئلة، فقد درجنا في
وكأن الإسلام ضد هذا كله.
بل إنه لمما دفعني على ابتسامة رثاء، تلك الندوة الشهيرة التي عقدتها نقابة الأطباء عن
أقول ابتسامة رثاء؛ لأننا قد وصلنا إلى وضع أصبح الإسلام فيه يوضع ندا للعلمانية أو
وتلك المقولة ليست سوى مدخل لما حاق بالإسلام، خاصة في أيامنا الأخيرة، من سوء تأويل
منذ أصابت النكسة كثيرا من الثورات الوطنية القومية في العالم الثالث، وربما في العالم
ولم تدعنا الحضارة الغربية، وعلى رأسها الحضارة الأمريكية الإسرائيلية، في حالنا،
ثم رأينا من خلال السنوات الأخيرة تغلغل مفهوم محدود تماما في صفوف شبابنا، وحتى
ثم تتحدث الأصوات جميعا في صيحة عليا تقول إن ما ينقص حكمنا ليكون إسلاميا شرعيا،
ثم رأينا الحكم الذي يتحكم باسم الإسلام يعتبر أن المعارضة للولاة ولحكمهم هي أس
بمعنى آخر؛ طرحت في الساحة كثرة من الدعوات الإسلامية أو على وجه أدق كثرة من الدعوات
وإذا كانت كل تلك الدعوات تشترك في شيء واحد، فهي تشترك في النظرة الأحادية الضيقة تماما
•••
وأنا أسمع وأرى وأقرأ هذا كله كانت تحضرني حقيقة لا أستطيع لها دفعا. كنت أقول لنفسي لا
وتصادف - وأنا في هذه الحيرة - أن وقع في يدي هذا الكتاب لجارودي، ورحت على مهل أتأمل
وأعجبتني تلك الرؤيا تماما حتى آليت على نفسي أن أنقل معظمها للقراء.
أقول معظمها، لأنني لست مع جارودي في كل ما ذهب إليه، وبالذات عن الحكم الإسلامي، فجارودي
وقد يكون لجارودي عذره في الكفر بالحضارة الغربية بعد أن شبعت تقدما وترفا، ولكن رأيي
وليس هذا هو فقط ما آخذه على جارودي، ولكني آخذ أيضا حديثه عن الإسلام، فهو يتحدث عن
الغرب ليست دوجما والإسلام أيضا ليس دوجما، وواجب المسلمين اليوم هو أن يفرزوا الحضارة
ولكن ما أعجبني حقا في كتاب جارودي هو تلك «الرؤية» للإسلام وفلسفته وامتداداتها إلى كل
ولم تساعد المسيحية الكاثوليكية الإنسان، بخوفها الأول من الطبيعة، ثم بعد هذا حين
لقد حكم على الإنسان في مجتمعاتنا الغربية بفردية متفاقمة أدت به إلى الوحدة والانعزال
هكذا نرى أن كتاب جارودي هذا ليس سوى قصيدة سباب وثورة على المجتمع الغربي الذي ينتمي
إن إعلان حقوق الإنسان والمواطن يؤكد على أن «حريتي تقف حيث تبدأ حرية الآخرين»؛ فحرية
في حين أن الإسلام، إذ يرفض الثنائيات والثلاثيات والتعدد في السياسة والعقيدة، يربط
•••
أعود فأقول لقد حاولت أن أقدم كتاب جارودي؛ لأنه أعجبني، بل الحق أنه بهرني في كثير من
ولكي تدركوا وجهة نظري، خذوا مثلا رأي هذا الفيلسوف في «الملكية » في الإسلام.
يقول: جاء في القرآن الكريم:
لله ما في السموات وما في
(سورة البقرة: الآية 284).
ومن هذا يتضح انطلاقا من مجتمع المدينة الذي أسسه النبي
صلى الله عليه وسلم
أن التصور للملكية
والتصور الإسلامي يعارض بشدة هذا النظام، فالملكية في الإسلام، نسبية بنسبتها إلى السمو
والسرقة في الإسلام ليست في أن يأخذ المرء ما هو بحاجة إليه، بل ما لا يكون في حاجة إليه. والقرآن الكريم لا ينفك يظهر الكراهية، بل يلعن الذي يكنز الأموال؛ كقوله تعالى:
ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا
... وقوله:
وأما من بخل واستغنى ... وقوله:
وجمع فأوعى ... وقوله:
وتحبون
.
إلا أن الإسلام يعترف أيضا بحق الملكية الشخصية المكتسبة بالعمل أو بالإرث أو بالهبة،
•••
وإذا اعتبرنا كتاب جارودي هذا ثورة مفكر غربي على مجتمعه الغربي، ومحاولة لي عنقه ليرى
أجل، لقد بدأ الإسلام غريبا، وأصبح اليوم في عالمنا الإسلامي الشاسع المترامي أكثر غربة
يا إلهي، ارحمنا من بعض دعاة الإسلام، أما أعداء الإسلام فنحن كفيلون بهم.
إسلام نعم ... ولكن!
اشتد قيظ القاهرة منذرا بعيد فطر حار، ملتهب الحرارة، قررت قضاء العيد في الإسكندرية،
كانت شقتنا في الإسكندرية في حالة يرثى لها بعد عام كامل لم نزرها فيه. وقضينا ليلة عيد
ولم أكن في حاجة إلى ذكاء كثير لأدرك أنه إما من الجماعات الإسلامية التي تحفل بها
وقامت الدنيا ولم تقعد!
وأنا لي عادة لم أستطع أن أغيرها أبدا.
فأنا لا أقدر على مراجعة «بروفات» كتبي قبل الطبع؛ ولهذا أشترط على الناشر أن يكون هو
وعدت إلى الكتاب فوجدت هذه العبارات مذكورة فعلا ومنسوبة إلى الشيخ متولي الشعراوي،
ونشرت اعتذارا عن هذا الخطأ المطبعي؛ إذ إن الكاتب مسئول عن كل كلمة في كتابه حتى لو كان
وحاول نفر كثير من المهيجين باسم الدين النفخ في النار وإثارة الرأي العام في مصر وكل
هذه الأخطاء والفلتات المطبعية خطأ كبير ما في ذلك شك، فحتى لو كان لي بعض الانتقادات
صلى الله عليه وسلم
لينشر
إذن كان المقال إيرادا لوجهة نظري ووجهة نظر كثيرين في أن الإسلام الحنيف ليس دين طقوس،
ولكن تربص بعض المتطرفين ممن يعتنقون التطرف في الدعوة الإسلامية عن مرض وليس صحة أبدا،
مع أن الغرب قد أخذ كل علومه عن عرب إسبانيا المسلمين، والمسلمون هم الذين ترجموا كل
وأيضا ليس هذا هو الموضوع.
فالموضوع أكبر بكثير وأخطر بكثير من هذا.
فالعالم العربي والإسلامي كله أصبحت مشكلته الأهم هي هذه المشكلة.
الإسلام.
تصوروا! مشكلتنا كمسلمين أصبحت هي إسلامنا وكيف يكون، وكأننا نلغي أربعة عشر قرنا من
وهكذا جاء كتابي «فقر الفكر وفكر الفقر» ردا على هذه الدعاوى الارتدادية السلفية،
•••
أعود إلى الفتى (السباك) والنقاش الذي دار بيني وبينه. ولم تكن تلك هي المرة الأولى
وهكذا تحولت القضية الأساسية إلى مشكلة فرعية لا أساس لها ولا معنى، فأنا كنت أحاول في
ولكن يبدو أننا في فترة غريبة على حياة المسلمين.
وليست تلك أول مرة ينتكس فيها الإسلام والمسلمون.
فحين تشرذمت الجذوات الإسلامية في العصور الوسيطة، وتفرقت إلى جذوات إخشيدية وأيوبية
أما هذه المرة، وبعد أن تحرر العرب والمسلمون من الاستعمار القديم جاءتنا الهجمة الشرسة
وفي الخمسينيات والستينيات جمعنا أنفسنا، وإلى حد ما صمدنا، وفي السبعينيات كدنا ننتصر
باختصار - قوميا - مزقونا تمزيقا.
واقتصاديا: ذبحونا ذبحا بتروليا؛ لكي ننزف اقتصاديا إلى حد الزحف على
وكل هذا كان ممكنا أن نجد له حلولا، وأن نفيق من هول الصدمات الضارية المتعاقبة.
وأن نعود نعي وننتبه ونلتئم.
ولكن السلاح الذري الذي استعملوه ضدنا، السلاح المبيد، كانوا يدخرونه طول الوقت للقضاء
وتشاء المضحكات أن يكون هذا السلاح هو نفسه أقوى أسلحتنا، أو كان مفروضا أن يكون أقوى
الإسلام الحنيف.
أجل، اخترقوا إسلامنا الحنيف، اختراقا ذكيا مبتكرا.
واخترقوه بعدة وسائل.
أولها الطائفية الإسلامية.
وقد استعملوها في إيقاد نيران الحرب بين الحكم الشيعي «المسلم» في إيران والحكم السني
وحين نجحت التجربة نجاحا منقطع النظير، إلى الحد الذي تتعاون فيه إسرائيل تسليحيا مع
حين نجحوا ذلك النجاح المنقطع النظير في العراق، وجربوا الطريقة في لبنان فتمزقت لبنان
هنا في مصر أكبر تجمع سكني إسلامي وعربي في الشرق، بدأت موجة حادة لافحة من التعصب
وإذا عرفنا أن هذا التيار بدأ في عصر وبتشجيع من السادات، وذلك يخدم موضوعيا الأعداء
من هنا بدأنا نلحظ في مصر وكأنه نوع من إسلام جديد ينشأ، إسلام لم نعرفه أو نعهده من قبل؛
تلك هي الخطة الموضوعة لمصر، قهرها بإسلام مستورد لا علاقة بينه وبين ما درج عليه
واستشرى هذا النوع المتطرف استشراء النار في الهشيم في بلد حدث فيه فراغ فكري وعقائدي
أما تلك التنظيمات الإرهابية التي أوجدها وشجعها السادات، والآن استشرت إلى درجة
كان «السباك» فعلا مثالا للشباب المسلم.
فلقد ناقشته لبضع ساعات من نهار ثاني أيام العيد، فلاحظت حرصه الشديد في العمل وأمانته
حتى لو حكمني هذا الشاب فقد اطمأننت إلى الحديث والحوار مع كثير من أمثاله أن حكمهم
وما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد.
وما دامت الحرب قائمة على قدم وساق بين دولتين إسلاميتين، وبين عدة طوائف إسلامية
وما دامت عملية الحقن مستمرة بهدف خلق تنظيمات إسلامية متعصبة في مصر تقضي على كل أخضر
وما دامت هذه كلها أمورا لا يمكن أن تحلها كلها دولة إسلامية وحدها، أو حتى عدة دول، فما
ما دام هذا كله حادثا، فإني أطالب بعقد مؤتمر فكري إسلامي حر حتى لو انعقد المؤتمر في
فهذا هو أبسط ما يمليه علينا أي عقل أو تعقل؛
إذ لو جمعنا مؤتمر كهذا لانكشف فيه الموسوسون،
وظهرت على السطح كل أنواع الانحرافات والتعصبات؛
حينذاك فقط نستطيع أن نضع أيدينا على الداء، وأن نجد له الدواء،
فالمستحيل هو أن نترك الأمور تجري في أعنتها وننام مستريحين إلى أن كل شيء سيصير إلى ما
فكل شيء يصير من سيئ إلى أسوأ،
ولا خلاف يحل نفسه بنفسه،
ولن يحل القتال والتذبيح أي خلاف.
رحمتك اللهم بمسلميك.
فنحن ظمأى إلى تطبيق شريعتك وقوانينك بنفس الروح التي أمليت على نبيك صلوات الله عليه
حتى لو كانت الشمس ملء الكون تتلظى الأرض بنورها ونارها، مثل شمس ذلك اليوم الثاني من
هل الإسلام ضد القومية؟
أعتذر للقراء أني مضطر - استكمالا للموضوع - أن أضمن هذا الكتاب، وفي هذا المكان
لي نظرية خاصة أعتقد أن كثيرين غيري يشاركونني إياها؛ نظرية خاصة بتلك الظاهرة التي أصبحت
ظاهرة الخوف المفاجئ على الإسلام من أهله ومن المسلمين، والدعوة الحارة الزاعقة للعودة
وكأنما ما عندنا مسلمون، وكأننا كفرنا من زمن، وكأنما الحل الوحيد والأوحد لكل مشاكلنا
أقول ظاهرة الخوف المفاجئ؛ لأننا في مصر مثلا، وأعتقد أن الأمر كان ولا يزال كذلك في كل
إلى أن بدأت أثناء الاحتلال البريطاني لمصر دعوة الإخوان المسلمين، والتي تولى الشيخ حسن
والحقيقة أن دعوته لاقت كثيرا من النجاح، وبالذات عند الشباب، باعتبارها أنها دعوة إلى
وحين قامت ثورة يوليو، وبدأ الشعب يعارض حكم الجيش، عارض الإخوان أيضا، ولكن خوف جمال
وأيضا لم يقض هذا على الحركة، وإنما تفرق الإخوان الذين هربوا ملتجئين إلى الدول
وبمجيء السادات إلى الحكم، ووقوفه من الناصريين واليساريين ذلك الموقف؛ تمهيدا للالتحاق
وتولى هو مع عثمان أحد عثمان، مستشاره، أن «اليمين» هو الذي سيقف بالضرورة معهم ضد الإلحاد
هذا ما كان من أمر السرد التاريخي للنعرة المفاجئة التي خرجت إلى الناس، وبالذات بعد
وجاءت ثورة الخميني؛ لتثبت للمطالبين أنه بالإمكان فعلا وعمليا قيام حكومة إسلامية
ولكن لأن له جانبا آخر يتصل بأعدائنا؛ ذلك الجانب الذي أشرنا إليه في الأسبوعيات
وليس أخطر على المصالح الاستعمارية في المنطقة من شعب عربي مترامي الأطراف، يبحث عن عقيدته
ولست أدري أية عبقرية استعمارية اكتشفت أنه لا يكفي محاربة فكرة القومية العربية بحرب
من أجل هذا، ودون أن تكون تحت يدي أية مستندات، لو وجدت لهذه المسألة مستندات أصلا، شجعت
ولكن الأمور لم تمض كما تشتهي أمريكا وإسرائيل؛ فجموع المنضمين إلى الحركات الإسلامية،
لا خلاف ولا تناقض أبدا بين الإسلام والوطنية والقومية، العكس هو الصحيح؛ فالإسلام
كل ما في الأمر أنه على مفكري العالم الإسلامي ودعاة القومية، أن يدركوا وأن يعوا أبعاد
فذلك هو العمل الوحيد العاقل الذي على مفكري وقادة هذه الأمة أن يفعلوه، ولا حجة في
وعلينا، أن نفسد بالوعي والإدراك ما يريدون.
أوجه الصدام بين الإسلام والقومية العربية
إسلامية أم عربية؟
غريب هذا الأمر، طوال الفترة الماضية وأنا أكتب في موضوع واحد، هو وضعنا العربي الراهن،
ولقد انتهيت - كما لا بد يذكر القارئ - إلى أن ما يحدث لنا ليس صدفة أبدا، ولكن
ولقد أسعدني حقا ألا أكون وحدي المعني بالموضوع، والمهتم بهذا الأمر، وعلى هذا النحو. ولست أعرف إذا كان الأستاذ طارق البشري قد قرأ ما كتبته أم لا، ولكني فوجئت في عدد من
وليسمح لي الأستاذ الكبير طارق البشري، وليسمح لي القراء أن أنقل لهم مقتطفات من هذا
هو يبدأ بفكرة الصراع بين القومية أو العروبة على وجه الدقة وبين الإسلامية، فيقول: إن
(يجدر بي أن أذكر القارئ هنا أني كتبت مقالات كثيرة حول استعمال العروبة ضد الإسلام
ويستطرد الأستاذ طارق البشري ليقول: من الممكن أن نعير التجارب الأخرى ما تستحق من
يمكن أن نضرب مثلا مما حدث في صدر الإسلام بالنسبة للجامع السياسي؛ لقد قضى الإسلام على
ولكن، كيف جرى ذلك؟ لقد جرى على حساب القبيلة كوحدة سياسية وحيدة تجمع أهلها وتمتنع عن
هذا أسلوب ومنهج في التفكير وفي العمل، أرجو أن يكون فيه ما يفيد (يقصد يغير حاضرنا
أفلا نستطيع إيجاد صيغة لهذه العلاقة، وأن نتبين عناصر التنافر بينهما لنعمل على
ويرد الاتفاق بين الحركتين من الاحتواء الإسلامي للعروبة من حيث الأغلبية السكانية
أما وجوه الاختلاف بين الجامعتين فتتمثل أكثر ما تتمثل في الإطار العام للدائرة التي
أولهما: الإطار التنظيمي الذي يحدد العلاقات المتبادلة بين الجامعتين: «دولة واحدة،
وليس ثمة موقف نظري أو عقدي يحول دون اتخاذ الشكل المناسب لأوضاع الجماعات وأي ظرف
وثاني الجانبين متعلق بمبدأ المواطنة؛ أي إمكانية إيجاد صيغة للمساواة التامة بين
وأتصور أن كلتا الجامعتين يمكن أن تقوم بدور التغذية المتبادلة في هذا الشأن. إن الإنجاز
•••
إلى هنا وأنا مع الأستاذ الكبير طارق البشري في كل ما قاله، ففعلا لن نكون مسلمين صالحين
هنا لا تعارض بين الأغلبية وبين عالمية الإسلام ولا بين القومية والإسلامية.
وهذا رد قوي مفحم على الجماعات الإسلامية التي تنادي بإلغاء نظرة العروبة والقومية
إنك لا تستطيع أن تبني الطابق الثاني من البيت قبل أن يرتكز على الطابق الأول، ولا تستطيع
النقطة الثانية التي أعجبتني تماما في كلمة الأستاذ طارق البشري هي قوله: إنه ما دام
•••
أما الشيء الذي لست أبدا مع الأستاذ طارق البشري فيه، فهو حين يقول في نهاية
بقيت الإشارة إلى وجود التنافي بين الجامعتين، وأهم هذه الوجوه في ظني هو الوضع
•••
لا يا سيدي.
إني معك تماما أن الإسلام دين ودنيا، وأن الحكم بما جاء به الإسلام هو القاعدة التي لا
أما أن نعود إلى نظام البيعة واختيار «أمير المؤمنين» بأن يجتمع شعب كالشعب المصري
إن السر المستتر وراء هذه الدعوة إلى تطبيق الشريعة، في الحكم، هو أن يتولى رجال الدين
إنها دعوة مكشوفة لاجتثاث الحكومات المدنية الحديثة، وركوب الدعاة كراسي الحكم، وتطبيق
إننا محتاجون من هذه الجامعة الإسلامية الكبرى التي نتحدث عنها والجامعة العربية الصغرى
إن القضية أكبر بكثير من أن تكون صراعا بين العلمانية والحكم الإسلامي، فلا تناقض في
كل ما في الأمر أنهم يريدون «هؤلاء الدعاة والمدعية» الاستيلاء على الحكم، وبعدها يفعل
والحديث الشريف الذي يقول اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، ترجمته الواضحة هي التفكير
لا تلطموا الخدود!
كنا مجموعة من الكتاب والمثقفين في جلسة شبه خاصة مع أحد كبار الحكام العرب،
والحقيقة أن كلامه كان مفاجأة، لكنه لم يكن مفاجأة كاملة، فالحقيقة الواضحة التي ترى
وإذا كان هذا كله قد حدث، فماذا يكون قد تبقى من القوة أو الفاعلية العربية، بل حتى داخل
للرجل حق، كل الحق، في قوله إن السياسة العربية، بما فيها وعلى رأسها الجامعة العربية،
أما الجزء المضحك الآخر من الحديث، فهو الذي يتعلق بأن يقوم المثقفون العرب بقيادة
ذلك هو الجانب المضحك في الموضوع؛ فالمثقفون في كل مكان من العالم لهم كلمتهم المسموعة
أما نحن هنا فإذا جئنا بالمتنبي وشكسبير معا وفرضناهما فرضا على مشاهدي التليفزيون
•••
هذا عن وضع المثقفين كمبدعين، أما وضعهم كتنظيمات واتحادات فهو أكثر إثارة للضحك
بالطبع هذا شيء يبدو كالمستحيل، والمستحيل الآخر أن تستطيع الحكومات العربية بوضعها
ذلك أن أخطر فكرة أو دعوة تفتقت في العالم العربي بعد الحرب، فكرة القومية العربية التي
ولذلك كان لا بد أولا من اغتيال رمز الفكرة عبد الناصر؛ تبريرا للهزيمة الساحقة
أما العراق فقد كان على إيران أن تتكفل به، وأما سورية فلتنغرز في لبنان إلى النخاع،
أما المغرب العربي فقد كان لا بد من خلق عدة مشاكل تلهيه، ليس فقط عن العروبة ولكن
•••
هذا على مستوى الدول العربية.
أما على المستوى العقائدي، فقد كان لا بد من اختلاق دعاوى إسلامية تبعد الإسلام عن
أما العروبة فقد كان لا بد من محوها محوا تاما أو بإظهار الفكرة الإسلامية وكأنها
الأوضاع العربية وحتى الإسلامية الحقيقية متردية إذن، ليس بالصدفة، ولا للتشرذم أو الضعف
فلنكف إذن عن لطم الخدود وشق الأثواب وتعذيب أنفسنا ونقدها؛ فنحن ضحايا خطة علمية
ولا تستطيع دولة عربية واحدة أن تقبل هذا، ولا حتى مؤتمر قمة عربي تطرقع فيه القبلات
أجل أيها الناس، إن المأساة التي نحياها تمت بخطة، ولن نخرج منها إلا بخطة وإلا بإعمال
البحث عن التراب الخماسيني
نتذكر - بسرعة - أننا كنا قد توسعنا في الحديث حول لماذا فشل الملوك والرؤساء العرب في
وإن هذه الطريقة - طريقة تأنيب النفس ولطم الخدود وشق الجيوب وتمزيق الصدور على طريقة
فما حدث كان بناء على خطة خبيثة مبيتة للعدوان على الأمة العربية كلها وحتى مدخلة في
وهكذا بدأنا في البحث عن أسباب فشلنا وخيبتنا حتى في الاجتماع أو عقد مؤتمر، وذلك
ووجدنا - في محاولتنا للإجابة - أنها تشكل الأساس الحقيقي للخلافات العربية؛ فبعد
وعلى ذلك الأساس اعتبرنا الخلاف بين الأنظمة العربية أو بين الحكام العرب على وجه الدقة
تلك مسألة تستوجب أن نعري المواقف العربية تماما، ونعري الحكم العربي في كل مكان؛
إذن الخلاف هو بين رؤساء حكوماتنا وقادتها، يدخلوننا فيه رغم أنوفنا، ويجعلوننا نحارب
إذن هي تراجيديا عربية، كل ما في الأمر أنها لا تدور على مسرح، ولا يسقط فيها الضحايا
•••
وكما يقولون - غني عن البيان - إن هذا الوضع يثلج قلوب عدونا تماما. وكم نزفت،
وهكذا لم يكن غريبا أن ينشأ الصراع بين السوريين والمنظمة حول التحرير - تحرير؟ أي تحرير
وقد يبدو ما أقول لغوا، ولكن ماذا أفعل ونحن نحيا فعلا في عصر اللغو؛ مصر بأكملها لم
وهل من حق عميد كلية الطب أن يتأكد من شخصية الطبيبة التي تدخل الامتحان عن طريق إنزال
وإسلاماه ... الدين في خطر ... والدنيا ستقوم لو كشفت الفتاة عن وجهها ليتأكدوا من
إن التيار الديني في الجامعات ليس وليد اليوم، كنا ونحن طلبة في الجامعة لدينا تنظيمات
صلى الله عليه وسلم
وعلى المسلمين ليحضهم في ثلاثة أرباعه
إذن العروبة أصبحت مزادات ومزايدات عربية بين مدعي قيادة العرب والأمناء على القومية
والإسلام ذلك الدين الذي جاء ليبشر بإله واحد أحد، وبمسلمين موحدين، لا فرق بين مسلم
الوضع القبلي إذن لم ينته بمجيء الإسلام وعلى يديه، ولكنه، إبان مقاومتنا للغزوة
•••
إذن، بذرة قبلية قديمة، أعيد النفخ فيها، وتولى أبالسة جدد إذكاءها في نفوس حكامنا
حتى أصبح تبادل الاتهامات شيمة من شيم وجودنا العربي الحالي. أرني دولة عربية واحدة لا
بل ائتني بدولة عربية أو بنظام عربي ليس في نظر الجميع متهما بتهمة خطيرة ما.
ماذا تفعل تلك الاتهامات ؟!
إنها بالضبط كمشاعل الأيدروجين التي يلحمون بها الحديد، كل ما في الأمر أنها تفعل هنا
•••
والكارثة أننا لا نرى هذا كله!
نعاني منه جميعا ونشكو ونجأر منه، ولا نراه.
وتلك هي الكارثة.
لقد نجح المخطط الأميركي الإسرائيلي في خلق زوبعة رملية كالطوز أو كرياح الخماسين، أعمت
أعمت عيون الأمة،
حتى عيون مثقفيها وشعرائها وكتابها؛
أولئك الذين كان مفروضا أن يعتلوا صاري المركب، وبمناظيرهم الحدسية والقصرية الثاقبة
هؤلاء أيضا أعماهم غبار العاصفة، فلم يعودوا يبصرون، إلا أن يصرخوا أنهم لا يبصرون، وأن
ومن أجل هذا،
فإن أي كتابة يتصدى بها الإنسان ليدرس أسباب ما نحن فيه، وأي مؤتمر أو حوار ينعقد لينقب
ولست أقول هذا يائسا، لست أقوله لأجد لنفسي أو لغيري العذر، إنما أقوله لندرك جميعا
في حاجة إما أن نعود نرى جيدا ومن جديد،
وإما أن نيأس حقا ونكتب على جدران الزمن وصية للأجيال القادمة، من يعبر منا، نقول
•••
أم كان - وهو في الحقيقة - نعمة؟!
إذن لماذا تحول - على أيدينا طبعا - إلى نقمة؟
موتونا وريحونا
في لندن:
اعتقلت السلطات البريطانية 160 متظاهرا من بين أكثر من ألفي متظاهر تجمعوا
وقد أعلنت تاتشر أنها وضعت جميع المنشآت العسكرية والحكومية البريطانية في
وأكد نبيل كينوك زعيم المعارضة العمالية في مجلس العموم البريطاني إدانته
وفي روما:
اتهم بنيتو كراكسي رئيس وزراء إيطاليا الولايات المتحدة بعدم احترام
وفي برلين الغربية:
قامت عشرات المظاهرات أمس في أنحاء ألمانيا الغربية احتجاجا على العدوان
وقد انتقدت المعارضة الديمقراطية الاشتراكية العدوان الأميركي.
وفي مدريد:
اندلعت موجة من المظاهرات في العاصمة الإسبانية بمدينة برشلونة احتجاجا على
وفي باريس:
أكد رولان دوما وزير الخارجية الفرنسي السابق أن الهجوم الأميركي ضد ليبيا
وفي واشنطن:
أصدرت الحكومة الأمريكية أوامرها بتشديد إجراءات الأمن على رحلات الطائرات
•••
أوروبا الغربية كلها، حليفة أمريكا، قامت للعدوان الأميركي على هذا الشعب
في الرباط:
أدانت المغرب رسميا العدوان الأميركي، وأعلن الملك الحسن الثاني في برقية
وفي عمان:
عززت سلطان الأردن قوات البوليس الخاصة بمكافحة الشغب بقوات من الجيش لحماية
وفي أبو ظبي:
أعلنت دولة الإمارات العربية عن إلغاء اجتماع وزاري مشترك كان مقررا عقده
وفي تونس:
أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية إدانتها الكاملة للعدوان الأميركي، ووقوفها
وفي الكويت:
أعلن الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية تأييد الكويت لعقد قمة عربية لبحث
وفي الظهران:
عقد مجلس الوزراء السعودي اجتماعا طارئا برياسة جلالة الملك فهد ملك
وفي الخرطوم:
ذكرت وكالة الأنباء السودانية أن السودان قد قررت استدعاء صلاح أحمد محمد
وأخيرا في القاهرة:
عرضت الحكومة المصرية على السلطات الليبية مساعدات طبية لعلاج الجرحى بعد أن
شجب، استنكار، بحث، استنفار القوات لحماية السفارات الأمريكية والبريطانية،
وكأن ما حدث كان مفاجأة هبطت على العالم العربي كما يحدث الرعد فجأة، وكأن أمريكا لم تضرب
وكأن العالم كله، بما فيه المواطنون العاديون في العالم العربي، لم يكونوا يتحدثون عن الوضع
أما المضحك حقا فإنه في وسط هذه المعمعة التي يتعرض لها الشعب الليبي أن يقيم مجلس
أعتقد أنه من استعراضنا لتلك البرقيات التي أوردتها وكالات الأنباء العالمية ونشرتها
لا هم ينسقون عسكريا فيما بينهم، ولو حتى لاستعراض القوة، ولا هم يتركون شعوبهم لتقوم
ولا هم يتحسبون لكل أمر حسابه قبل أن يقع؛ فيتباحثون قبل أن يقع، ويقلبون الأمر على وجوهه
•••
إن الهجوم الأميركي على ليبيا، والهجوم الأميركي على الطائرة المصرية، والهجوم الأميركي
بصراحة أكتب هذه الكلمات وأنا في حالة غثيان بالغ؛ فمنذ وعيي بعروبتي وأنا أعتز بها
ولكن العكس كان يحدث تماما؛ فسحابة الصيف تتغامق حتى تسود السماء، والعثرة تتحول إلى
وما حزني فقط على ما جرى ويجري لشعب ليبيا؛ فتاريخ الأمة العربية الحديث منذ الخمسينيات
كل ما في الأمر أن الشعوب لا تسكت على هزائمها أبدا؛ فبعد هزيمة 67 بدأت مصر وسورية في
فهل هو مجرد حلم آخر من أحلام اليقظة؟
اللهم إن كان الأمر كذلك فإني سأفعل كما فعل الشاعر إسماعيل الحبروك، حين قال أيام
سأنام حتى لا أرى
بلدي تباع وتشترى
أو كما قال الشاعر الشعبي مأمون الشناوي: «يا تبلشفونا، يا ترسملونا، يا تموتونا وتريحونا.
ملعون أبوكم على أبونا.»
وآسف للغة الشوارع التي أنهيت بها القصيدة؛ فلم يعد أمامنا سوى استعمال أبشع الكلمات
على هامش الحرائق النفطية
حين فاجأتنا محطات الإذاعة والصحف بأنباء الحريق الذي حدث في محطات البترول في الكويت،
إننا أمة مستهدفة محسودة.
في زياراتي الكثيرة حتى لأمريكا، كنت أحس بالأمريكان وهم يتحدثون عن العرب وبترول العرب
وإذا كان هذا شعور الغرب، فالكويت أيضا محسودة من قبل بعض الأنظمة العربية
ليس على بترولها فقط، وعلى طريقتها شبه الاشتراكية في توزيع عوائد النفط بحيث نستطيع
ولكن الحسد الأكبر سببه أن هذه العوائد البترولية الضخمة لم يصاحبها قيام حكومات
وأعتقد أن هذه الدرجة هي المسئولة الأولى عن ضربة الحريق، وقبلها ضربة محاولة اغتيال سمو
ذلك لأنه من خلال هذه الديمقراطية الحاكمة، استطاعت الكويت أن تتخذ مواقف أصيلة جديرة
والهدف من كل هذا التخريب - كما هو واضح لكل ذي عينين - أن تغير الكويت من سياستها،
وهذا شيء أستطيع أن أؤكده - وأنا بعيد عن مجريات الحوادث والأمور - أنه بالتأكيد لن يحدث
فالذي يذوق طعم العزة لا يمكن أن يستسلم للقهر،
والذي يذوق طعم الإرادة الحرة لا يمكن أن يرضى بقيود العبد.
ولن يرضى أي كويتي عن نظامه وعن الطريقة التي اختارها لحياته بديلا. لقد جعلتني الظروف
وكان يعجبني في أي منهم، مهما كان مركزه ومهما كان وضعه الاجتماعي، ذلك الاعتزاز العظيم
فيا إخواننا وأصدقاءنا في الكويت، لا يحزننكم هذا الحريق أو غيره؛ فمعناه الأوحد أن
إننا جميعا معكم، صحيح لا نملك لكم - الآن على الأقل - إلا قلوبنا نضعها بجوار قلوبكم،
وغدا ستكون جولتنا.
وهذا ليس كلام إنشاء وأدب، إنه الحقيقة التي يعلمنا التاريخ إياها؛ فدولة الظلم ساعة
فقوانين التاريخ لا ترحم.
تيبس المفاصل الفكرية والإرادية
لا أعرف ما هو سر ذلك الدقيق أو الغبار المثبط الذي يتسلل داخل وحول خلايا جسد الإنسان
أكثر من عشر أفكار قصص تعن لي في اليوم الواحد، مشاريع تغير مجرى الحياة تماما،
هكذا أكون وأنا مسافر، وأنا في الخارج، وأنا بعيد، وأعود، وبقوة الاندفاع الذاتي أبقى
ثم يبدأ الدقيق الناعم، الرمل الخفي الأصفر، التراب الذري المنطفئ، يبدأ يتسرب ... في
ويئوب الإنسان في النهاية إلى حالة «الموت-الحياة»، تلك التي نحياها جميعا. •••
كنت أظن أن هذه حالتي الخاصة، ولكن وجدتها الظاهرة العامة المستشرية، هناك شيء ما حقيقي
ما هو ذلك الشيء؟
أهو فقدان الهمة الفكرية القيادية الموحدة؟
أهو هذه الأعداد الهائلة من البشر التي معها يحب المواطن منها الإنسانية مجردة، ولكنه
أهي الشمس الحامية الساطعة التي تجعل الواقع شديد الإضاءة بكل ما فيه من بشاعة وقبح؟ بحيث
والكسل الجماعي هذا في رأيي نقطة هامة؛ فإذا كان بعض الناس يعتنقون التفسير الاقتصادي أو
بل حتى تسليم المرأة لنفسها أو تسليم المرأة للرجل؛ أحيانا كثيرة لا يكون عن تحلل أو
أم يكون السبب أننا مطحونون تقديريا، سواء التقدير المادي أو الأدبي، بحيث يتساوى من
أم هي المشاكل الصغيرة؛ الصغيرة التي تستحيل كل منها إلى مشكلة كبيرة؛ كبيرة حين لا
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والحديث الشريف يقول: «اعقلها وتوكل»؛ أي افعل الواجب
أفي تراث أي شعب في الدنيا مثل يقول: «الكسل أحلى مذاقا من العسل» إلا ذلك التراث
أم هذا كله، مرة واحدة، ومعا، يكون ذلك الدقيق الرملي الناعم الذي يتسلل داخل وخارج وحول
خريف البطريرك وصيفنا
على «بلاج» البحر اصطحبت «ماركيز»، ليس أروع من القراءة على صوت الموسيقى الهادئة
وكمقلدين للغرب باستمرار، أخذنا هذا المبدأ عنهم، ولكننا أخذناه كما نأخذ «المودة» في
ولكن انظر إلى «بلاجاتنا» واعجب ما شاء لك العجب؛ فالأسرة مكومة لا يتحرك أفرادها تحت
للأسف أخذنا قشرة الفكرة ولم نأخذ محتواها الحقيقي؛ وهكذا تحولت بلاجاتنا إلى مآكل ومشارب
وبالمناسبة فكرة اللجوء إلى أحضان الطبيعة ليست غريبة علينا نحن العرب؛ فأنا أعرف عادة أهل
•••
نعود إلى «ماركيز».
أو بالأصح جابرييل جارثيا ماركيز، أنبغ كتاب أمريكا اللاتينية، والحاصل في العام قبل
قرأت هذه الرواية قبيل حصول ماركيز على جائزة نوبل، وقرأتها بالإنجليزية، وكانت سمعة
وكان محظورا عليها شرب القهوة، وكانت ابنتها «جدتي» شديدة الصرامة معها في هذا، وشديدة
إلخ.
كنت أسرق لها البن والسكر، وأستعير لها قليلا من «المضغة» من جدي، وكان طبيبا وإنسانا
جعلني ماركيز - سامحه الله - أسرح مع عائلتي وجدتي وأم جدتي؛ فالحقيقة أنه عن عمد اكتشف
وهي معادلة، الغريب أنها لم تراود «ماركيز» فقط، ولكنها راودتنا هنا قبله بكثير؛ فحين بدأت
ولكن براعة ماركيز أنه كتب بهذه الطريقة الروائية، في حين أن روايتنا العربية لا تزال
ماركيز أخرج الرواية تماما من ثوبها الأوروبي وكساها ثوبا أمريكيا جنوبيا إسباني
والحقيقة أن هذا ليس السبب في انتشار الأدب الكاريبي؛ فقد أخذ الكتاب الكاريبيون في
بعد الصفحات الخمسين التي انتهيت منها، عاودت القراءة في اليوم التالي، ووجدت أني بعد
وكدت أدع الرواية جانبا ولا أكملها وقد مللت، وكنا في الشهر الثامن فعلا والدنيا صيف
واكتشفت في النهاية أن ماركيز يقصد بهذا أن يقول إن الأشخاص هم نفس الأشخاص رغم توالي
وفي روايته التي «فرغت» من قراءتها (خريف البطريرك) وهي مترجمة ترجمة «شامية» إلى
إن ماركيز يتحدث عن البطريرك الذي كان باستطاعته أن يغير الوقت؛ فقد صحا ذات يوم على أثر
بطريرك ماركيز أوقف الشمس مرة، وأمر بمرور النجم المذنب فمر، وسأل مرة حاشيته عن كم
في روايته ما يدفعك للقيء، ولا يتوانى عن استخدام ألفاظ تقشعر لها أبدان القراء في عالمنا
يختلط في روايته الجد بالهزل بالسخرية بالمبالغات بالخرافات بالحقائق، إنه كتب بعض أجزاء
كان هذا هو انطباعي لدى قراءتي للخمسين صفحة الأولى أيضا، كما حدث لي مع روايته «مائة
وكففت عن القراءة، فلم يعد جديدا في الرواية، إنما هو افتعال وتجديد لنفس ونفس
إن كتابة ماركيز تشبه سلسلة من الدوائر المتداخلة؛ فهو في صفحاته الأولى يرسم الرواية
وهذه طريقة «ماركيزية» تماما في الكتابة، يخيل إلي أنها خاصة بماركيز وحده، وأنا
بلاد غريبة عنا تماما وقريبة بالدم منا جدا.
والمصادفة المحضة هي التي جعلتني أقرأ «خريف البطريرك»، وأتشبع وجدانيا بها، في نفس
جولة في عقول القراء
جولة خطيرة داخل العقل المصري، وفي أحيان كثيرة العربي، وجدتني غارقا فيها. جاءت
جولة خطيرة لأنني لأول مرة أتلقى هذا العدد الرهيب من الخطابات حول موضوع واحد، وتجيئني
نحن فعلا - مهما نقدنا أنفسنا - شعب متحضر حقا؛ ولهذا فإني أعتقد أن كل الدعاوى
والقدم هنا هو العراقة البشرية وتراكم الخبرات والمعارف والثقافات؛ بحيث تترسب طبقات
وأستطيع أن أقسم تلك الخطابات تقسيما رئيسيا وأقول: إن ستين في المائة منها تصور
أما الذي دهشت له حقا فهو أن هناك نسبة كبيرة جدا فهمت تماما ما أعنيه،
وبالمناسبة أقول: إن هذا التطرف في فرض الوصاية والتعصب على المسلمين يقابله في الناحية
•••
أما الذي لفت نظري حقا فهو أن معظم الخطابات التي شابها التشنج والعصبية جاءت من
ومن «أمثلة» تلك الخطابات عدد منها يسائلني باستنكار كبير: كيف أجادل في تطبيق شريعة
وهذا هو لب الموضوع، فإن أحدا لا ينادي أبدا بعدم تطبيق الشريعة الإلهية الإسلامية؛ إنه
ودعونا نأخذ مثلا طازجا وأخيرا: الأستاذ الكبير خالد محمد خالد، وهو من هو؛ ممن لا
وعماد هذا القول أن الأمة ليست مصدر السلطات، ولكن الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات؛
صلى الله عليه وسلم
الذين قالوا، وهم
من هذا الاختلاف ترون أيها الإخوة أن القضية ليست شريعة الله؛ فهذا أمر لا خلاف عليه،
وهذا هو عين ما تساءلت عنه في مقالي الأول للأستاذ خالد محمد خالد: شريعة من
في سياحتي تلك داخل عقول كثير من القراء أدركت واكتشفت أن ثمة غسل مخ
إن التليفزيون في عصرنا الحاضر قد أصبح هو صانع عقل المواطن وتفكيره؛ فالخطابات التي
والمشكلة هي أن تليفزيوننا مثله مثل بقية التليفزيونات العربية لا يتيح الفرصة للرأي الآخر،
إننا مسلمون أبا عن جد؛ مسلمون بالميلاد، ومسلمون بالاختيار، ولا نريد العبث بإيماننا
الجائزة رقم 40 مليون
وصلني هذ الخطاب، من خطابات كثيرة، جعلني أفكر فعلا في تبني بريد القراء، وأن أتولى
أنا شخصيا كنت أرى العكس تماما، وكنت - ولا أزال - أعتقد أن بريد القراء هو أهم
وطالما تمنيت أن أتولى الإشراف على هذا الباب، رغم إدراكي أنه بالطريقة التي أراه بها، عبء
ذلك أنه في مجمله رجع الصدى، والإشارات الخافتة في أحيان كثيرة التي ترد من
فصحافتنا، مثل معظم وسائل إعلامنا، إن لم تكن كلها، هي محطات إرسال تمسك فيها
أما ردود أفعال تلك الكلمات أو الكتابات فهي أشياء غير مهمة بالمرة لدى وسائل إعلامنا،
وعلى طول السنين وكثرتها، وشيوع الطريقة وذيوعها، خلق إعلامنا نوعا جديدا غريبا من
بمعنى آخر، فإن وسائل إعلامنا، باستمرارها طول الأربع والعشرين ساعة، وبكافة الأنواع
ولهذا اخترت أن أحرر هذا الباب؛ فمجلتنا تلك مجلة جديدة، ولأول مرة يتاح لي أن أختار ما
باختصار نحن نصدرها لنغير من دور المجلة أو دور الصحافة في عالمنا العربي. ولست أزعم
•••
ولأنها جديدة، فإن بريدها لم يأت بعد، وأنا في انتظاره؛ ولهذا سأستخرج من بريدي السابق
ولم أفعل هذا لأن الخطاب يحتوي أشياء خطيرة أو مشاكل عويصة أو أي شيء. الحقيقة أن الخطاب
إليكم نص الخطاب، وبعده لنا كلام:
أهديك التحية، والحقيقة أنا مرتبكة تماما وأنا أكتب لك؛ فتلك أول مرة أفكر فيها
قرأت مقالك الأخير الذي تتحدث فيه عن مشاكل القاهرة، وازدحام شوارعها الخانق،
إنني يا سيدي تعيسة جدا بهذه الحياة، ولا أعرف ماذا أستطيع أن أفعل لأخفف من
هل أهرب؟
هل أجن وأتزوج أول من يتقدم لي؟
هل أبدأ أزاول حياة سرية مثل غيري من صديقاتي؟
بالله عليك: قل لي ماذا أفعل؟
ملحوظة: أرجوك لا تنشر اسم المدينة التي أنا منها.
الحائرة: س. ع. (...)
هذا هو الخطاب الذي أرقني في مرقده بدرج مكتبي لعدة أشهر، ولا يزال، فالحالة التي
والغريب في الأمر أن الأهل، سواء كان الأب أو الأم أو الأخ الأكبر لا ينتبه أبدا إلى هذه
إن المجتمعات الغربية (برأسماليتها واشتراكيتها) قد حلت تلك المشكلة بإيجاد نواد للشباب
قلدنا هذا في بعض النوادي في القاهرة أو الإسكندرية أو بغداد أو دمشق، ولكن الأغلبية
وهذا الأمر نطبقه على البنات وحدهن؛ فنحن نثق بالأولاد تمام الثقة، ونعطيهم الحرية
وكأننا نتصور هؤلاء الفتيات كتلا من اللحم والشحم لا روح لها ولا أحلام، ولا تطلعات ولا
يا فتاتي الحائرة نصيحتي لك أن تصارحي والدتك أولا بهذه المشكلة، وتحاولي أن تفهميها
فالإنسان - رجلا أو امرأة - كائن اجتماعي، والمجتمع بالنسبة لذلك الكائن مثل الماء
التلوث الذممي
هناك بعض أشياء أصبحت تسترعي انتباهي في الفترة الأخيرة، وقد أجد لها بعض التفسير هنا
زمان، حيث بدأت أعمل في الحكومة، في المستشفيات الجامعية، وصحة مصر، و«حكيمباشي»
وليس هذا فقط هو كل ما كنت قد بدأت ألاحظه.
بدأت ألاحظ، ومنذ أوائل السبعينيات إلى الآن، أن بعض الموظفين المفروض أن يكونوا حامين
وليسوا موظفين من صغارهم الذين تدفعهم حاجتهم ورقة حالهم إلى ارتكاب مثل هذه الأعمال. وأذكر في هذا المجال أني كنت مفتش أحد مكاتب الصحة الكائنة في حي شعبي كثير السكان، وأن بعض
ورغم إشفاقي على الشاب وعائلته إلا أني نبهت عليه تنبيها قاطعا بأن لا يأخذ نقودا لا
ووعدني أنه لن يفعل.
ولكن الحانوتية جاءوني بعد هذا، وذكروا لي أنه لا يزال يتقاضى اثنين جنيه عن كل ميت باسمي
وحين عرفت أن الكاتب الثاني لا يزال يفرض الإتاوة باسمي أحضرته إلى المكتب، وقلت له في
فإذا به يبتسم ابتسامة معوجة ويقول لي: سيبك من حكاية النيابة دي، فأنت لا تستطيع أن
وحين سألته مندهشا: لماذا؟
قال: لأنني جعلتك توقع على تصريح دفن، دسسته بين تصريحات الدفن التي توقعها في اليوم
وغضبت تماما وقلت له: أتكون مرتشيا وتهددني أيضا؟
وأمسكت سماعة التليفون، وأبلغت وكيل نيابة الدرب الأحمر.
المضحك في الموضوع أن السيد وكيل النيابة ترك عملية التزوير (إذ كانت البيانات الأولى
وكان جزائي أكبر من جزاء الكاتب، ومن يومها قررت أن أستقيل من صحة مصر وأبحث لي عن عمل
•••
أتذكر هذا كله لأوضح أن حكاية تقاضي رشوة أو عمولة كانت في الخمسينيات جريمة كبرى، حتى لو
ولا يفعل هذا الجهلاء منهم فقط، وإنما يفعلها الكبار، بل وبعض العلماء وأساتذة جامعات،
هنا لا بد نتوقف، ونتوقف طويلا؛ فالمسألة ليست مسألة نزوة عابرة أو ضعفا بشريا
وأن توجد في مجالات الاقتصاد والصناعة والجمارك والعلوم، معناها أنها على وجه التقريب
من أول بيوت الخبرة إلى شراء الطائرات إلى إقامة المشاريع إلى صرف الاعتمادات.
المسألة أصبحت ما يسمونه «ظاهرة».
بمعنى أن الضمير العام قد استنام إليها، ولم يعد يرى فيها جريمة كبرى، إنما اخترع لها
وحتى لو وجد الأمر على هذا الوضع، لما شكل خطرا، ما دام الضمير العام للمجتمع ككل
إن ما أعتقد أنه قد حدث، أن ثمة تلوثا قيميا، بالضبط مثل التلوث الجوي والمائي، قد حدث
وأصبح النموذج الأمثل للاغتناء هو أن «تضرب» من موقعك الوظيفي، أو غير الوظيفي، «ضربة»
والطريقة الوحيدة لإزالة هذ التلوث الذممي، هو سل سيف القانون، ينال وبالعقوبات
أجل.
حدث لنا نوع من التلوث الذممي.
ولم ينقذنا منه سوى مجيء مبارك إلى الحكم، وعدد من القضايا الهامة التي تم فيها كشف
هذه القضايا قد هبطت حدة حمى الجرائم، ولا هوادة، كل من يقع تحت طائلته، وحتى كل من لا
ولنلتف جميعا حول القانون والقضاة، بكل حماسنا نؤيده ونحميه؛ فهو يحمينا، وحمايته لنا
إننا يجب أن نضع قضية التلوث الذممي الذي حدث لنا في أخطر موقع من اهتماماتنا؛ لأننا إذا
باب الخلق وباب العدالة
الداخل إلى محكمة باب الخلق كالخارج منها، مذهول مذهول مذهول. أعتقد أني أكتب لقراء
هكذا دخلت ...
مروعا، زائغ العينين، أنظر إلى ذات اليمين فأجد أجساد نساء مكومة في قضايا آداب،
إيه يا محكمة باب الخلق!
فعلا كانت أول مرة أدخلها، أو على الإطلاق أدخل أية محكمة، فحتى حين قبض علي عام
اعتقلت من الباب إلى الباب، باب بيتنا في شارع سعد زغلول آنذاك إلى باب معتقل القلعة،
فعلا، أول مرة بإرادتي المطلقة وخبرتي أدخل محكمة باب الخلق، زبونا عاديا طالب حق،
وكائنا ما كنت، ظالما أو طالب تعويض، شاكيا أم مشكوا في حقه؛ فالمحكمة هي المحكمة،
طوال العام الماضي بأكمله، كان أول دخول لي لتلك المحكمة، وكان أول تردد، وكانت جلسات
أجل، فهي لم تكن قضية خاصة، أهانني بها شخص خاص، وأنها هكذا صممها القدر، وكأنه كان هو
وقد يلومني الآن كثيرون على هذا الشعور، وقد يرون فيه نزقا وطيشا وقلة تبصر؛
إنها بالضبط، كما نطق بها «الزعيم المعلم» فتحي رضوان، وأنا واقف على أطراف أصابعي، في
كنت أجرب، هكذا مباشرة ووجها لوجه، الظلم صارخا وواضحا وبلا أي لبس أو تخف،
دروب ومسالك وحيطان عالية شوهاء قبحها الزمن، وشوهت سقفها العالي صرخات
العدالة في مصر مكانها عتيق مشوه، خربشته أظافر تستغيث من الضيم، أو هي
فجأة وأنا وسط وجودي ككاتب، ومزاولة ذلك الوجود الشرعي والقانوني والبشري فجأة اغترف
وكل هذا لأنه طالب بضرورة وأهمية أن يتثقف الناس.
حدث هذا من عام مضى، على وجه التحديد في شهر يوليو من عام 1984م. وهالني ما حدث، وحيرني
وصحيح أن أناسا كثيرين، مثقفين وعاديين هبوا يرفضون هذا ويشجبونه ويدافعون عني،
إما هذا وإما أن أضع مصير كرامتي كلها وكرامة الثقافة، وقد أصبحت في الخندق معي، أمام
ولم يعتذر الوزير ...
وأصر ألا يعتذر عما كان واضحا لكل ذي عينين، بل حتى للذي بلا عينين، أنه خطأ فاحش
وكان لا بد من اللجوء إلى القضاء المدني.
ذلك أن اللجوء إلى القضاء الجنائي، الذي كان الحل الطبيعي الأوحد، كان يحتم رفع الحصانة
وكيف يرفع حزب الأغلبية، وكيف ترفع أغلبية ذلك الحزب، الثقة عن وزيرها، وكل عمل
وهكذا وجدت نفسي، فجأة دون أن أدري كيف، أقف في طابور المواطنين الطويل الذي يسمى
وما أغرب وأعتى الإحساس أنك مظلوم، وأن ظلمك واضح، وأنك لا تملك أن تستخلص حقك بيديك من
وأنت تدخل مع هذا الطابور مبنى محكمة باب الخلق، وترى جدرانها الداخلية المحطمة
وبالضبط كان هذا هو شعوري وأنا جالس في القاعة 16 من هذا المبنى، ومعي مراسل وكالة
أجل العدل.
ما أعذب وأروع تلك الكلمة! خاصة حين لا يكتبها كاتب ثائر أو مصلح اجتماعي يريد
كانت الجلسة الحاسمة يوم الخميس 4 إبريل، تلك التي سوف تحجز فيها القضية بعد ذلك للحكم
حرصت على الحضور المبكر، ومع هذا وصلت المحكمة في التاسعة والنصف، ولم أجد أن محامي
ولكني في حضوري المبكر هذا وجدت مفاجأة.
كان قبلي قد حضر ذلك الرجل المهيب الأستاذ فتحي رضوان، في السبعين هو، ولكن نضارة وجهه
ما كدت أرى وجهه حتى أحسست كأني الغريق قد وجد طوق النجاة.
كان متطوعا، دون أن أتذكر إخباره، وأزوده بمذكرات الأستاذ عبد العزيز محمد. والدكتور
هذه المرة هو محام.
إنه غاية ما أستحق من تكريم.
وحين رأى المستشار محمد جمال مصطفى، رئيس الدائرة، أن عدد الحاضرين كبير، وأن القضية تبدو
وجاءت اللحظة.
نودي علينا ...
وازدحمنا أمام الحاجز الفاصل بيننا وبين المستشار والقضاة وأمين سر الجلسة.
ومن جديد رحت أتفحص الوجوه التي طالما حاولت أن أستجمع فراستي وكل خبرتي لأتبين من
من جديد رحت أرقب المستشار محمد جمال مصطفى؛ ذلك الذي ربما لا يعرف أن مصيري ككاتب، أو
الرجل رئيس المحكمة، رأس القعدة، حتى منظاره ثابت فوق أنفه كميزان العدالة لا ينطق بشيء
عضو اليمين الأستاذ رمضان عوض، شاب رصين الملامح، ترى الآلاف مثله في النوادي
عضو اليسار الأستاذ مدحت قصري، صغير السن، ولكنه لأمر ما كبير الإرادة والعزم. لكأنهم
يا سلام! ما أروع الجد المصري حين يتلبس ملامح أولئك الجنود المجهولين الذي يشكلون
لو جاء حكم هؤلاء السادة ضدي، لما انزعجت كثيرا؛ لإيماني أنهم لا يمكن إلا أن يكون
وقف فتحي رضوان، أسد مصر مذ دخل الحركة الوطنية لأول مرة، ومحاميها، واستهل مرافعته
لقد أنشئت الصحافة المصرية منذ أكثر من مائة وخمسة عشر عاما، وأنشئت الوزارة
ثم مضى يشرح الأبعاد البشعة التي أوردها الوزير في مقالته، والجميع حتى محامي الوزير
ثم تلاه ذلك الرجل الهادئ الباسم، الممتع تماما في جلساته الخاصة وعلاقاته بزملائه
وأجلت القضية للحكم في جلسة 20 من الشهر.
وفي آخر النهار تبينت أن يوم 20 سيكون إجازة، أو لن يكون باقيا على آخر جلسة في الموسم
وفي ذلك الخميس ذهبت مع أن المفروض كان ألا أذهب، وجلس معي نفر من الأصدقاء المحامين
وفي السادسة والربع، وبعد سبع ساعات من المداولات، رفعت الجلسة.
وكان الحكم لصالحي.
وليس المهم ما تمخض عنه الحكم من تعويض قدره عشرون ألف جنيه، إنما المهم أنه في حيثيات
وأنا واقف أراقبهم يهبطون في موكبهم المجيد دوت في القاعة السفلى زغرودة من امرأة نالت
في صالون العقاد
طويت الصفحة الأخيرة من كتاب «في صالون العقاد» لكاتبنا الفذ أنيس منصور، وأنا أحس أني
أقول من «تاريخ الحضارة المصرية»؛ لأنه كان هناك وقت في مصر كانت فيه حركة ثقافية عامرة،
إنه كتاب جامع رائع، حتى إنني كنت في أحيان كثيرة أتوقف وأسأل نفسي: ترى كيف كتب أنيس
هنيئا للتلميذ بأستاذه، وهنيئا للأستاذ بتلميذه، وهنيئا للمكتبة العربية بواحد من أعظم
القطاع الخاص الجديد
وجه لي صديقنا الكبير نجيب محفوظ - عبر برنامج إذاعي - سؤالا: لماذا وأنا الذي عرف
وفي الحقيقة أن السؤال أثار مواجعي - شكرا له - ذلك أني أحب المسرح حبا أكثر من حبي
إلى أن حدث وبدأ القطاع العام يستيقظ في الثمانينيات، وبدأ يفكر في تقديم بعض المسرحيات
والتجربة التي خرجت بها من تقديم المسرحية كانت خطيرة؛ فقد ثبت لي أنه بعد انتشار محطات
وهكذا تقبلنا جميعا تضحية فنان كنور الشريف بعمله السينمائي من أجل إشباع هوايته
وهكذا - أيها الصديق الكبير - وجدت نفسي بين أمرين: إما التوقف نهائيا عن تقديم
إذن ليس المهم هو أن يكون المقدم هو القطاع الخاص أو العام، المهم هو ما يقدمه هذا أو
كان لا بد من خلق قطاع خاص يدفع أجور القطاع الخاص، ويقدم نوعا جديدا من المسرح ليس
وهكذا رحبت أيضا أن يأخذ الفنان شاكر عبد اللطيف مسرحية لي ينشئ بها فرقة، ورحبت أيضا
أما المشكلة يا عزيزنا الكبير نجيب محفوظ، فهي في القطاع الخاص في السينما، ولنضع تهمة
«النديم» الكتاب
وصلني من الإسكندرية المجيدة العدد الثالث من «كتاب» النديم. وكتاب النديم مجلة ثقافية
تحية لكل من ساهم في هذا العدد الرائع من كتاب «النديم».
وتحية خاصة وخالصة للصديق فاروق عبد القادر الذي أسهم في العدد بتحليل عظيم لكتاب الدكتور
•••
لماذا لا يتكلم مسئول الأرض؟
تحية طيبة، وبعد؛
كنت أطالع مقالكم عن تجريف الأرض وتحويل طمينا الذي لا يقدر بثمن إلى طوب
ماذا لو صدر قانون يلزم المصالح والهيئات الحكومية والقطاع العام عند إقامة
مجرد رأي.
محمد عوض أحمد
السويس
ما استرعى انتباهي في هذه المقالة الجزء الخاص بتجريف الأرض.
من وجهة نظري أعتبر هذه المسألة أصبحت قضية على المستوى القومي، تهم كل مواطن
د. سميرة عبد الحميد شحاتة كامل
باحثة أولى بمركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية
من الغريب أن يصل صوتي من السويس إلى الجامعة
لماذا لا يتكلم؟!
عمان - دمشق - القاهرة
لنقفز قفزة واسعة جدا، من أقصى الشرق الآسيوي البعيد في اليابان والفلبين وتايلاند
كنت في الأسبوع قبل الماضي مدعوا لافتتاح الموسم الثقافي لنادي خريجات الجامعة في
أجل، في الوقت الذي عزلت فيه القاهرة تماما عن أمتها العربية، وسقطت الحركة الثقافية
ولكن السبعينيات ما كادت تمضي ويجيء عهد مصر الجديدة في أوائل الثمانينيات، بعد رحيل أنور
ورغم أن المسائل السياسية لا تزال حيص بيص، إلا أننا ثقافيا على الأقل بدأنا نعود
هكذا كان لقائي بإخواننا كتاب ومثقفي وصحفيي وتليفزيونيي الأردن. •••
وكنت قد قرأت أوائل المسرحية وأنا في القاهرة قبل ذهابي إلى عمان؛ مسرحية منذر
زمان، كان عمل المخابرات التجسس على ما حدث أو ما يحدث. الموساد، باعتبارها طليعة وضليعة
هذه المرة ظللت - ككاتب مسرحي - أتأمل كيف ألفت الموساد هذه القصة بطريقة تبدو
وهكذا يذهب الشاب لوداع الفتاة بنفسه عند شركة خطوط العال في مطار لندن، والفتاة، تعرف أو
المهم أنهم يتركون الشاب ولا يقبضون عليه في المطار، وإنما يتركونه حتى يذهب إلى السفارة
وأيضا لم يكن المطلوب سوريا وحدها، فبعد دمغ ليبيا بالإرهاب وضربها بالقنابل، ثم
والمشكلة التي لا نعرفها نحن كمصريين أو كعرب، أن المسألة ليست ليبيا أو سوريا، المسألة
ولأن هناك في هذا الكون إلها عادلا، ولأننا - نحن العرب - نضرب من أعدائنا ضرب
ضرب، ضرب، ضرب. ضرب تحت الحزام وفوق الحزام، سرا وعلى الملأ، من رفع سعر الفائدة إلى
•••
مسرحية هنداوي-تاتشر-موساد، كانت مسرحية فاشلة، بدلا من أن يبكي الناس على مأساتها،
ولأن ألمانيا الغربية لم تصدق، ولم تنضم لتاتشر في اتهاماتها، فقد كان لا بد أن
وما دمت لم أستمتع بمسرحية مسز تاتشر ولا بالعرض القادم في ألمانيا «كول»، فقد قررت أن
حتى عقلي يموج بمشاعر مختلفة، وأنا في الطائرة التي ستأخذ أربعين دقيقة فقط للذهاب إلى
•••
الحقيقة لا أستطيع أن أصف بالتفصيل كل ما حدث، فمن لحظة أن وضعت قدمي في مطار دمشق وثمة
ما أبأسها من محكمة! وما أباسها من ظروف سياسية فرقتنا! ورحم الله من كان ومن كانوا
•••
حسن جدا.
إن قيام اتحاد الفنانين العرب بداية لأن ندرك أن الروابط الثقافية العربية لا يصح أن
فإذا كان السياسيون العرب قد فشلوا في توحيد كلمتهم، ألا يمنحوننا - نحن الكتاب
إن الثقافة والكتابة والفن هي أهم إنتاج عربي على الأقل.
وهي بطبيعتها مجمعة لا تفرق، متآلفة لا تشتبك، واشتباكاتها إذا حدثت محمودة؛ فهي تكون
والثقافة المصرية بالذات، ومنذ السبعينيات، قد وصلت على أيدي المسئولين عنها والأجهزة
وقد شاهدت بعيني في عمان وبغداد ودمشق وتونس والمغرب والكويت والإمارات والسعودية
وإذا تجمعنا ثقافيا فمن الممكن - بعد هذا وليس قبله أبدا - أن نتجمع اقتصاديا، ثم
•••
نكون أو لا نكون.
كان هذا عنوان محاضرتي.
والإجابة التي عدت بها: إذا لم نقم ثقافيا أولا فلن نكون؛ فالثقافة هي روحنا
خطاب من كاتب نجدي
بدوي بكل ما تحمل الكلمة من إيجابية وأنفة وتواضع وكرم وكبرياء ... في السبعين، ولكنه
في الأسبوع الذي قضيته في المملكة العربية السعودية مدعوا لحضور مهرجان الثقافة
والحقيقة أني منذ قابلت الرجل، بهرني بشخصيته، الحياة العائلية التي يحياها، وكيف أقام
وحين دعانا، نحن وفود الدول العربية المشتركة في المهرجان، حوالي سبعين كاتبا من الكويت
ولكن أعذب حديثه كان عن «نجد»، وكنت لأول مرة أزور «نجد» التي تقع في الرياض، عاصمة
إلى أن كان ذات يوم ودعانا - نحن الوفد المصري - إلى بيته في جلسة خاصة، وفي حديقة منزله
وحين سألناه لماذا، قال: لأنه في تلك القصيدة لم يكتف بهجاء كافور، ولكنه سب الشعب
وسأله سائل منا، وكنا كامل الزهيري ورجاء النقاش قد أخذنا بحديث الرجل، عن أية
طلب من ابنه أن يحضر سبعة كتب، وكنا سبعة، من كتاب «رسائل إلى ولدي»، وجاءت الكتب،
وحسبت أن إهداءاته لن تخرج عن الإهداءات التقليدية التي تذيل بها كتبنا: إلى الأخ
سبعة إهداءات مختلفة، هكذا على السليقة، وبديهة حاضرة؛ حيث إنه كان إذا رن التليفون
معجزة بدوية حقيقية فسرت لي كثيرا من أمور الشخصية العربية، والنجدية بشكل خاص؛ فأهل
وقد ذكر لي الشيخ عبد العزيز أن جيشين فقط هما اللذان نجحا في الوصول إلى نجد؛ جيش خالد
•••
وكنت قد أهديت الشيخ عبد العزيز التويجري كتابي «فقر الفكر وفكر الفقر»، ولقد أعدتني
وفوجئت أمس بخطاب من الشيخ عبد العزيز موجه لي، ولكني حين قرأته وجدت أن من العبث أن
عزيزي الأخ الدكتور يوسف إدريس
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
لا أدري كيف الطريق إليك في هذه الرسالة؛ فقصتك مع الحياة والطريق الذي مشيت
صلى الله عليه وسلم
والكعبة المشرفة، رأيتك في كلمات مؤثرة تقول لي: لقد رأيت
إذا، ليت الإنسان لا تأخذه فيما يتصور أنه متناقضات في هذا العالم الداخلي منه
عزيزي الدكتور
لأنك فيما كتبته لي أكدت أن لقاءاتنا أعطتك قناعات مشرقة في نفسك، وأن لهذه
قد لا يرى الإنسان اليوم القدوة الصالحة في هذا العصر لعظمة الرسالة الإنسانية في
عزيزي
لعلك تعرف أنني بدوي، لم أدخل مدرسة، فلا تطالبني بما يطالب به الفقيه أو
عزيزي
ألا يمكن أن نرد كل ما يعانيه إنسان هذا العصر من عذاب وألم وفقر ونزيف دماء
طبعا هناك في علو الزمن للإسلام وللمسلمين شموس وأقمار، هم من يضيئون لنا الطريق
وختاما تقبل تحياتي.
أخوكم
هذا كما نردف خطاب كاتب لم يدخل مدرسة، وعلم نفسه بنفسه، ووصل إلى تلك المرتبة العليا
أما عن تساؤلاته الخاص بي، وعن إيماني، فإني أعتذر له؛ لأني لن أجيب، فأنا أعتبر أن
إني أفضل أن أعبد الله في صمت وبلا جعجعة ولا إعلان، فإذا كان الإسلام الحنيف دينا
•••
شكرا أيها الأخ على خطابك، وليت الحديث بيننا لا ينقطع، فمع مثلك ومن مثلك يتعلم المرء
ذلك الرجل المحير للبرية
ذلك المحير للبرية ... العقيد معمر القذافي.
ما من جلسة ضمت مثقفين عربا أو أجانب، أو حتى جلسات مختلطة ... وما من مرة تطرق الموضوع
كانت هناك بالطبع مجموعة ضخمة تكتفي بالقول أو الصفات المعتادة التي كان يطلقها عليه
ولكن كان هناك ذلك النفر الذي لا يكتفي بهذا النعت الساذج للعقيد، ولكنه يؤكد - وكأنه
والغريب أن مثل تلك التحليلات قد قيلت بنصها وحذافيرها عن «ثورة» حسني الزعيم في سورية
قيل هذا كما قلت، وألفت فيه كتب، بل وظهرت وثائق تنشرها الآن وزارة الخارجية
هذا كله سمعناه ككلام مجالس، بل أعترف أننا كنا منتبهين إليه، وقلنا هذه تعود إلى
كنت في ذلك الوقت سكرتير عام اتحاد طلبة كلية طب قصر العيني، ومندوب الكلية في اتحاد
في أواسط عام 1950م بدأنا نقلق خوفا على الحكم الوفدي في ذلك الوقت الذي كان قد وصل إلى
وحين حدث حريق القاهرة في 26 يناير، وأعلنت الأحكام العرفية في 27 يناير عام 51، وأقيل
وبالضبط، وعقب «ثورة» الفاتح من سبتمبر عام 1969م في ليبيا، بادر كثير من المكافحين
وكان الكثيرون كلما جلا الإنجليز عن معسكر ما بسهولة، وكلما سلم الإيطاليون ممتلكاتهم
ولكن الخلاف بين السادات والقذافي ما لبث أن انفجر، وجاءت حرب 73 ليشكك القذافي في أمرها
ثم بدأت حكاية تصفية المعارضة الليبية جسديا في الداخل والخارج.
ثم قاد القذافي مع الأسد والعراق جبهة الصمود والتصدي.
وكل تلك الأعمال كانت تؤكد أن القذافي يقف في المعسكر المعادي للاستعمار بشدة، في حين أن
وهكذا احترت في أمر القذافي مثل ما احتار الكثيرون في أمره. وجاء عام 1982م بعد أكثر من
وذات مرة، وأنا أتناقش مع رئيس تحرير مجلة الموقف العربي، سألته لماذا يقف العقيد القذافي
إني أريد أن أعرف الإجابات عن تساؤلاتي تلك.
فقال لي: ولماذا لا تسأل الأخ العقيد نفسه؛ فهو لا شك خير من يجيبك، فهل أنت على استعداد
وانبثق في رأسي خاطر جريء، لماذا لا أقابل العقيد، وأدير معه حوارا أنشره في مجلة
قال: وهل سيسمحون لك في القاهرة بالذهاب إلى ليبيا؟
قلت: إن الكاتب ليس له أي ولي أمر، وبالذات تجاه الدول ذات العلاقات السيئة بالنظام
قال: وهو كذلك.
وفي اليوم التالي كانت تنتظرني برقية من وزير الإعلام الليبي تدعوني لزيارة ليبيا، وتذكرة
وكنت والطائرة تحلق فوق مطار طرابلس، وأنا أتساءل عن كنه ما سوف أشاهده وأعرفه عن هذا
هل أنا في طريقي لمقابلة أمين عام القومية العربية كما تقول عنه إذاعة الوطن العربي
هل أنا في طريقي لمقابلة قائد الثورة القومية وأنبغ تلميذ في مدرسة عبد الناصر الثورية
أم أنا في طريقي لمقابلة أكذوبة تضخمت حتى أصبحت كالحقيقة؟ •••
كان العقيد في جولة استغرقت أربعة أيام حتى ضقت بالانتظار وصممت على السفر في اليوم
ولكن في نفس هذه الليلة كلمني الأخ محمد الزاوي وزير العدل ورئيس اتحاد الكتاب الليبي
وحين أقرأ هذه الأيام في الأخبار أن الغارات والقنابل الأمريكية ركزت قصفها على ثكنات
والتقينا الدكتور مفتاح، وهو أصلا زميل طبيب، درس الطب في كلية طب عين شمس كما ذكر لي،
كنا في شهر يناير «كانون الثاني»، وكان الوقت يقترب من منتصف الليل، وكانت الدنيا
وهناك بعد مسيرة لا تقل عن الكيلومتر، وجدنا خيمة متوسطة الحجم مستطيلة الشكل، يطل منها
ودخلنا الخيمة، وفوجئت بالعقيد القذافي يهب واقفا، وقد كان جالسا وأمامه مكتب منخفض
وبدأ اللقاء مصافحة باليد وانتهى بعناق أخوي. وجلست على «كنبة» قريبا من مكتب العقيد
وعن قرب أخذت أتأمل ذلك الشاب الذي يقيم الدنيا ويقعدها وهو جالس إلى هذا الكرسي
وبعد التحية والسلام وجدت أسناني تصطك، ولا أستطيع مواصلة الحديث فسألني العقيد: ما
قلت: الدنيا برد جدا يا سيادة العقيد.
فأمر في الحال بإحضار «شالية أخرى» توضع بجواري من الناحية الأخرى ورغم مجيء الشالية
قلت له: لماذا يا سيادة العقيد تختار هذه الخيمة، في هذا البرد، ومع تلك الشوالي التي
والحقيقة أن إجابته لم تكن فقط إجابة، ولكنها كانت أيضا أحد المفاتيح التي لا بد أن
قال: أليس لكل رئيس قاعة أو لكل ملك إيوان يقابل فيه ضيوفه، هذا هو إيواني وديواني أحب أن
قلت: أتقابل كل ضيوفك وزوارك هنا؟
قال: نعم، وقبلك كان يجلس تيودوراكيس «الموسيقي اليوناني المشهور الذي ألف موسيقى زوربا»
ووصلتني الفكرة، هذا رئيس دولة يريد أن يقول، دون أن يقول، إنه مثقف أيضا، وربما فنان من
قلت: ولكن جارودي وتيودوراكيس، من بلاد أوروبا، الباردة، فليس هذا الطقس غريبا عليهم
وضحك العقيد، وضحكنا، واستطرد:
أنا أحب مصر جدا، أحبها أكثر منكم، وجزء كبير من حبي لعبد الناصر أنه مصري، ولو كان
لماذا يخسرنا؟ ولماذا نخسره؟
وقع علي سؤال العقيد القذافي كالصاعقة، أو بالأصح كالصاعقة غير المباشرة؛ ذلك أنه كعادة
لا أذكر الكلمات بالضبط، ولكني فهمت أنه يسألني إن كان الرئيس حسني مبارك قد أوفدني
والحقيقة أني استغربت تماما السؤال، فلم يدر في خلدي أبدا أن يرى العقيد القذافي
أما الانطباع الثاني فإنه ضابط وطني «حارب» إسرائيل فعلا؛ إذ كان قائدا لسلاح الطيران
وما دام ضابطا وطنيا، وما دام ضابطا قد حارب الإسرائيليين فعلا، وليس من شرفة قصر أو
أو ربما يكون هذا هو انطباع العقيد القذافي إثر زيارته لمصر أيام عبد الناصر، وبعد نجاح
يومها تولى هيكل شرح الظروف التي قال فيها الرئيس القذافي هذا الكلام؛ فعندما عقد مؤتمره
وبكل بساطة وصراحة شرحت للعقيد القذافي الموقف وقلت له: إني أتيت بإرادتي المطلقة، وإني
وأنا أذكر له هذا كنت أحدق في ملامحه، وقد حشدت ذكائي كله لأعرف إن كان قد اقتنع بكلامي
وسكت العقيد، وكنت أعتبره سكوت الذي اقتنع، ولكنه كان بين كل حين وحين يعود، وبطريقة
وأعود أذكر له أن شيئا مما يتصوره لم يحدث، وأني قد ألقى اللوم الشديد، وربما العقبات؛
وأخيرا بدا عليه شبه اقتناع.
ودخلنا في الموضوع وسألته: ما الذي يغضبك يا سيادة العقيد من النظام المصري، ولماذا تسلط
قال: نحن لسنا ضد مصر كمصر، ولكننا ضد مصر المرتبطة بمعاهدة كامب ديفيد التي نزعت السلاح
قلت: وما هي الطريقة لإعادة العلاقات الودية بين مصر وليبيا وإيقاف هذا الهجوم؟
قال: أن تلغي مصر معاهدة كامب ديفيد.
قلت: هكذا.
قال: هكذا.
قلت: إني معك يا سيادة العقيد أن معاهدة كامب ديفيد كانت خيانة تامة لبطولة الجيش المصري
هذا شيء.
أما الشيء الأهم فأعتقد أن ليس على قلب إسرائيل أحلى من أن تلغي مصر المعاهدة وتعود
قال: تحاربوها ولو بالعصي والحجارة.
قلت: يا سيادة العقيد أنحن في عصر تحارب فيه الجيوش والدول بالعصي والحجارة.
قال: فيتنام؟!
قلت: فيتنام كان يقودها حزب جند الشعب بأسره حتى أصبح الشعب كله جيشا، فهل هذا هو نفس
قال: إذا أطلقت حكومتكم السراح للقوات المسلحة لاستعادت سيناء كاملة السلاح ولهزمت
قلت: أتعتقدون يا سيادة العقيد أن مصر باستطاعتها أن تلغي معاهدة كامب ديفيد الآن وتحارب
قال: على الأقل تعلنون أنكم في طريقكم لإلغاء كامب ديفيد.
قلت: إن هذا الإعلان نفسه يعادل تماما إلغاء المعاهدة، فلن تنتظر إسرائيل أن «نسير» في
قال: إذن ماذا تفعلون؟
قلت: تساعدنا أنت وتساعدنا بقية الحكومات العربية بالمعونات والدعم لكي نقوى ونصل فيها
قال: وماذا يضمن أنكم بهذه المساعدات تستعدون للحرب أو لإلغاء كامب ديفيد؟
قلت: لأن الحكم في مصر حكم وطني كما تعرف.
قال: أعرف، وأعرف أن الرئيس مبارك ورث تركة مثقلة بما خلفه السادات من قيود.
قلت: أما وأنت تعرف هذا تزيد هذه التركة ثقلا على ثقل باتهام هذا النظام الوطني
•••
وكنت خلال هذا الحوار كله، وخلال الجمل المخزونة منه - إذ أنا أكتب الآن من الذاكرة -
أتفرس في ملامحه فأجده جادا كل الجد، يتحدث وكأنه يرى الحلم متحققا أمامه، أو أنه
أهو حالم ثوري؟
ولكن الحالمين الثوريين (مثل الليندي في شيلي) لا يمكثون طويلا في الحكم؛ إذ تستطيع
أم يكون الاستعمار الأميركي سعيدا بالدور الذي يلعبه على الساحة العربية كل السعادة؛ دور
ذلك سؤال آخر، كان بين الحين والحين يخطر لي. •••
إلى أن بدأت قصة خليج سرت، وبدأ الصدام بين الأسطول والطيران الأميركي، وبين البحرية
لا يمكن أن يحدث هذا.
ثم كيف لا توجد معاهدة دفاع مشترك بين ليبيا وموردة سلاحها الأولى الاتحاد
أهو اتفاق بين القوتين العظميين.
أم هي حرب صليبية جديدة يشنها الغرب بشقيه ضد العرب والمسلمين؟
أسئلة تحير الألباب والعقول.
فإما أن الذين يحكمون واشنطن سذج أو مجانين، ليغامروا بسمعة أمريكا الدولية بمهاجمة دولة،
ولماذا لم تعهد أمريكا بصبيتها المرتزقة إسرائيل لتقوم بما قامت به هي الفاجرة العظمى
ثم ما هو سر عدم تدخل الاتحاد السوفييتي، وله أسطول ضخم في البحر الأبيض، حتى بالتلويح
ولماذا استنجد القذافي بالعرب، وهو الذي يزود إيران التي تحاول تقويض الجبهة العربية
وهل تم لأمريكا اجتثاث الإرهاب كما زعمت، وهي تستعد علنا للهجوم على ليبيا، ثم وهي
أسئلة محيرة تماما ومتناقضة تماما، وقد تكون كلها حقيقية، وقد تكون كلها محض
•••
ولكني لا أكتب هذا لأتساءل أو أفترض، أنا أكتب هذا لأحذر العقيد أن سياسته ضد الدول
والأدهى من هذا أنه لا يوجد سبب قوي قاهر بينه وبين مصر أو تونس أو غيرها يدعوه لهذه
ولا خلاف على حدود.
لا خلاف على أرض أو نقود.
ربما هناك اختلافات سياسية، وتوجيهية، ولكن من قال إن خلافات مثل تلك جديرة بأن تصعد إلى
فالمسألة بعد محاولة اغتياله هو بالذات لم تعد هزلا.
وحاجته إلى جيرانه العرب أكثر بكثير من حاجتهم إليه.
فبسياسته تلك سيخسر على طول الخط.
وستكون خسارة الأمة العربية فيه كبيرة أيضا.
فلماذا يخسرنا؟
ولماذا نخسره؟
لماذا لا نضع أيدينا في يديه، حتى لو كنا الآن على الأقل ضعافا، ولكن مثلنا الشعبي
هذه رسالة من كاتب مصري عربي لا يريد لك ولا للشعب الليبي إلا العزة والمنعة والقوة ... أرجو - جيدا - أن تقرأها؛ فقد كتبتها بكل ما أملك من إخلاص.
العرب على شفا هاوية
أجل، هل وجود دول عربية بترولية غنية ودول غير بترولية فقيرة هو السبب في هذا التشرذم
لا أعتقد أبدا أن البترول مسئول من قريب أو بعيد عما حدث للأمة العربية من خلافات
ولقد سمينا الخلاف بالتحزب القبلي في كافة أرجاء الوطن، والآن جاء الوقت الذي لا بد
نشأت إذن تلك القبائل متناثرة، ولم يكن ارتباطها بالأرض «الوطن الأرض» قويا؛ فقد كانت
وحين بدأت الغزوات تجتاح العالم العربي، كرست تلك الغزوات هذا الوضع، بل وشجعته وأبقت عليه؛
ولكنا لا نزال نتحدث عن البترول.
فهل كان البترول نعمة؟
أم كان نقمة؟
كان نعمة ما في ذلك شك، ونعمة على الجزيرة العربية بشكل خاص؛ فحين كانت تلك الجزيرة لا
وكان حريا بالدول العربية البترولية أن تدرك هذا الكنز العربي الذي اكتشف، وتدرك أيضا
ولكن أحدا لم يصغ لي في ذلك الحين، بل ردت علي صحيفة كويتية قائلة إن هذا
معنى آخر، البترول كان ممكنا أن يصبح قوة للعرب منفردين ومجتمعين يتحكمون هم في
أسلمنا كنزنا للغريب.
وبقينا نجتمع ونجتمع، ويصرح وزراء البترول ويصرحون، والمتحكم الوحيد فينا هو عدونا الذكي
•••
لا قوة عسكرية، لأن الجيوش العربية مجتمعة تسليحها أقل من التسليح الإسرائيلي، ولا قوة
•••
والهزيمة ليست عيبا بالمرة، بالعكس، إن تعريفي الدائم للهزيمة هي أنها نصر مؤجل،
وما دمنا قد هزمنا على تلك الصورة وفي كافة الميادين.
فماذا نفعل؟
أولا:
لا بد أن نعترف أننا هزمنا. «حين هزم قائد الثورة الوطنية الصينية
فالأول كان في عام 1948م.
والثاني كان 67.
وهذه هي الهزيمة الثالثة.
تلك أولا.
وثانيا:
المنهزم الشاطر هو الذي يجلس - كما ذكرت قبلا - بهدوء وتأمل عميقين،
ثالثا:
لقد تركنا مهمة التفكير والتدبير طويلا - أطول من اللازم - لحكامنا
ولهذا لا بد من فتح السجون الفكرية، والقنوات المسدودة، وإشراك «كل»
رابعا:
تغيير شامل لميثاق الجامعة العربية، ورفع حكاية الإجماع، ويكفي تماما
خامسا:
بداية تكوين جيش عربي موحد مختلط ومشترك، وبداية تسليح عربي موحد
سادسا:
ضرورة وحتمية البداية فورا في إنشاء سوق عربية مشتركة ومشاريع عربية
ولست هنا أجعل من نفسي مؤتمرا يخرج بكل التوصيات الممكنة في هذا
فما دفعني لأن أقول هذا سبب قاهر وملح؛ إننا على شفا هاوية السقوط في
ونبدأ إنقاذ أنفسنا من اليوم.
اليوم واليوم وليس غدا.
الهزيمة الثالثة
حسن جدا، فتورنا سببه موقف احتجاج لا واع على كثير، إن لم يكن كل شيء، مما يجري
ولكن هذا كان من عمل وابتكار قيادة الشعب الفرنسي المغلوب على أمره؛ قيادة المقاومة
ولو كانت قياداتنا العربية، خاصة تلك القيادات التي تدعي الثورية القصوى والصمود والتصدي
فالناس العاديون ليسوا بالضرورة والسليقة والوراثة مخلوقات خارقة البطولة، أو هكذا يجب أن
فإن لم يكن بالضرورة هو شخصيا، فأولاده وإخوته وأقرباؤه لا محالة هالكون . هنا يصل
هكذا يصعد الإنسان العادي سلم البطولة، ومن مستوى سطح الأرض والمعيشة خطوة فخطوة يجد
أقول: لو كان قادتنا الثوار العظماء المتحمسون لمعركة لا ينال فيها أحدهم أذى، ولا
ولو كنا، كقادة عرب، أو مصريين بالذات، قد وعينا هذا الدرس لأدركنا أن لا القوات
إن نجاح ثورة 19 مرجعه إلى أن المطلب الشعبي فيها بدأ بسيطا جدا، وممكنا جدا،
وكانت النتيجة أن شباب الوفد حين قام بجمع توقيعات وبصمات الملايين على تلك العرائض، قد
وحين نمى إلى علم الإنجليز هذا الذي بدأ يحدث ، والإنجليز قوم أذكياء لهم باعهم الطويل
•••
تلك مقدمات قد طالت وأطلتها عن عمد لأهميتها؛ فمن الواضح أن شعبنا المصري وحكومتنا
وبدأ مبارك بمنظمة التحرير، وتلك كانت بداية هامة جدا، وفي بضعة شهور كان عرفات في
فالمضحك أن بعض البلاد العربية (الصاعدة والرافضة) تتصور أن كامب ديفيد لا تزال هي السبب
لقد حولت كامب ديفيد انتصار أكتوبر العسكري إلى هزيمة سياسية، حتى لو كانت قد أدت إلى
كل هذا تفعله دولة أفلتت كالوحش الكاسر من قفص السلوك البشري، وانطلقت أسودها ونمورها
•••
لا يمكن أن يكون هذا كله قد حدث لأن مصر لا تزال ملتزمة - حكوميا فقط - بكامب ديفيد،
كل ما في الأمر أن هناك شيئا واحدا لا بد أن نملك الشجاعة لقوله والاعتراف به؛ إن ما
والهزيمة أبدا ليست كارثة، وكلمة الزعيم الصيني الكبير صن يات صن لا تزال ترن في أذني
إن أولى بوادر الانتصار هي الكف عن مخادعة النفس، والاعتراف بأنك هزمت، وأولى بوادر
•••
نعم، إن كل الأعراض على ساحتنا العربية تؤكد لكل ذي عينين، ولكل أعمى أنها علامات هزيمة
وإذا كانت تلك الهزيمة قد أخذت شكل الصراع بين الطوائف في بعض بلادنا العربية، وشكل
إذا كانت الهزيمة على المستوى العربي العام قد أخذت هذا الشكل، فهي في مصر قد أخذت
بل أن يؤدي الحال إلى أن تصل الهزيمة إلى الحد الذي أصبح أسهل شيء للمواطن المصري أن
ذلك هو الشكل وتلك هي الأشكال التي أخذتها الهزيمة الثالثة في بلادنا الحبيبة مصر.
وفي الهزيمة الأولى عام 1948م رفضناها واستنكرناها وقامت ثورة 23 يوليو ترد لنا الاعتبار،
في هزيمة 67 اكتشفنا أننا هزمنا؛ لأننا قمنا بثورة على الورق؛ فإجراءاتنا فيها كانت
وكان أن شددنا الأحزمة على البطون، وبنينا قواعد الصواريخ تحت وابل القنابل الإسرائيلية،
وهكذا عبرنا القنال في 73 وانتصرنا. •••
في هزيمتنا الثالثة تلك، نحن لسنا أمام هزيمة عسكرية ملموسة، ولا بضعة قواد من الجيش ممكن
أعرف أن الكثيرين سيزايدون ويغالون ويقولون: بل أنت المهزوم، بل أنت المخطئ، بل أنت
لا، هذه هزيمة ألبسوها طاقية إخفاء بحيث لا نراها، ولن نراها إلا إذا توقفنا فقط ورمقنا
فحتى الديدان ترفض حياة الهزيمة، وتزحف، ملليمترا ملليمترا؛ لتخرج من المأزق، وتنقض
حتى الديدان إذا أيقنت أنها هزمت، أو في سبيلها لأن تهزم، ينتفض فيها كل ما تمتلكه من
•••
لقد بدأنا القضية بعرض الفتور، ثم اكتشفنا أن الفتور راجع لحالة الغضب، وها نحن أخيرا
ربما إذا أدرك السبب، وبطل العجب، وأيقن أن الهزيمة وصلت إلى عقر داره وتجويف صدره،
ولأننا نعرف حال إنساننا وما آل إليه.
فلا تطلبوا منه، ولا تتوقعوا، أن يهب من نومه المريض أو مرضه النائم فجأة، ويمتشق
ليكن مطلبنا منه مثلما فكرت ودبرت قيادة المقاومة الفرنسية أيام الاحتلال؛ شيئا
ليكن شيئا بسيطا جدا؛ لا شعار اشتر البضائع المصرية، ولا تشجعوا منتجاتنا المحلية،
لتكن البداية أن نطلب من المواطنين عكس ما طالبت به المقاومة الفرنسية؛ أن يسرعوا في
فقط يسرعون في إنهاء الأعمال المطلوبة منهم.
فقط ينجزون في ساعة ما يأخذ ساعتين لإنجازه.
بهذا، ومن هنا، نصعد السلم، ونتعلم خطوة خطوة أن نصعد، إلى أن نبلغ الدرجة التي ينقلب
دعونا من الحديث عن الجبهة والحوار الناصري الإسلامي، وأخبار الشيخ صلاح أبو إسماعيل مع
دعونا من هذا كله.
ولنبدأ بهذا الجهد الصغير الذي نقدر عليه تماما، أن نسرع إذا مشينا، أن نسرع إذا عملنا،
لماذا لم يفعلوا هذا؟
بعض الناس فهم خطأ أن الكتاب وهم يكتبون عن مؤتمر القمة الإسلامي، ويحللون ويرجون
نعم، لقد التقى الرؤساء والملوك وتزاوروا، وألقوا خطبهم الحافلة بالأماني الطيبة
ثم انقسم المؤتمر كالعادة إلى لجان، ودارت الحوارات والاجتهادات، تحت المعانقات
ومن كان يتوقع أكثر من هذا لا بد أنه كان يعيش حالة أحلام يقظة وحالة جري وراء
ولكن هناك بالتأكيد أشياء إيجابية وقعت وحدثت، وهناك بالفعل تغيرات جرت، فأن يمضي الملوك
أجل، مجرد أن يلتقي 44 رئيسا وملكا إسلاميا كان قد أصبح أمرا يكاد حدوثه يقترب من
ثم أن يجتمع هذا العدد الكبير، ويجمع على حتمية وضرورة إنهاء الحرب العراقية الإيرانية
ولكن مثل تلك الخطوات التي ذكرتها، حدثت وجرت، والتقى حسين مع عرفات بالمصادفة،
أما كون أن تدور بعض المهاترات والاتهامات، وأن تظل سوريا تصر على موقفها الرافض لمصر
كل هذه المعارك الجانبية كانت أشياء طبيعية ومتوقعة، وحدوثها لا يعد في رأيي كارثة،
فصحيح أننا كمسلمين وكعرب أجمعنا، ولا نزال نجمع، على ضرورة إنهاء الحرب العراقية
بل حتى وصلنا في تواضع أمانينا إلى ضرورة وأهمية أن يحضر رئيس الدولة الإيرانية أو
أم أن الخلافات والتنافرات بين المسلمين على اختلاف مللهم ونحلهم شيء والخلاف بين
الغريب في الأمر أن أحدا لم يتعرض لهذه النقطة في الاجتماعات العلنية، وربما أيضا في
وكنت عند هذه النقطة بالذات أرقب - مثل غيري من ملايين المسلمين - ماذا سيفعل المؤتمر قبل
ومن الواضح بعد اجتماع المؤتمر وانفضاضه، أن شيئا جديدا لم يحدث وأن خطوة واحدة إلى
وهذا في رأيي هو الشيء غير الطبيعي؛ الشيء الذي يجعل أي إنسان محدود الفهم يعتقد أن كل
وهذا في رأي الحقيقة والواقع شيء ليس صحيحا بالمرة؛ فليس صحيحا أن قوة إيران تعادل قوة
ولقد كنت أتصور أن يكون هذا هو الشغل الشاغل لكل المجتمعين في الكويت، ولقد كنت أتصور
•••
كنت أنتظر هذا ...
وكأني كنت أحد هؤلاء المجتمعين.
فصحيح أننا كلنا لم نجتمع أو نشترك في هذا المؤتمر،
ولكن هذا المؤتمر كان - في جوانب كثيرة منه - يعد ممثلا ومفكرا باسم كل المسلمين،
فقد تصورت أن الدول الإسلامية، خمس وأربعون دولة، منها أربع وأربعون دولة في ناحية ودولة
يا
. الكافرين
كان طبيعيا إذن ألا يقتصر عمل تلك الدول الأربع والأربعين على اتخاذ مجرد قرار أو
كان مفروضا أن يحدث شيء حاسم آخر.
لماذا - والوضع هكذا - لم يأخذ هؤلاء الملوك والرؤساء والحكام الأربعة والأربعون طائراتهم
فالذي يريد أن يفض «خناقة» - مجرد خناقة ولا أقول حربا - لا يكتفي بمجرد الجلوس حول
كان مفروضا أن يذهبوا جميعا إلى طهران على مرأى ومسمع من العالم كله، بإسلامه وبغير
فماذا أنتم فاعلون بنا؟
لا أعتقد أن حكام إيران كانوا في هذه الحالة سيصفون الملوك والرؤساء الأربعة والأربعين
ولن يجرءوا حتى على اعتقالهم أو حبسهم أو المساس بشعرة واحدة بهم.
كان - هؤلاء الحكام الإيرانيون - سيواجهون موقفا عمليا واقعيا حاسما؛ إما أن
سوف يتكشف للعالم أجمع أن عداء حكام إيران للعراق وللعرب ليس عداء بين مسلمين ومسلمين،
•••
أما إذا لم يحدث هذا،
وإذا قوبل هذا الوفد الذي يجمع كل حكام ورؤساء المسلمين بما يليق به من مكانة
وتولى الحكام الإيرانيون عرض قضيتهم أو قضية حقهم أمام هذه المحكمة الإسلامية العليا
فإن الملوك والرؤساء المسلمين سيكونون حينئذ قد قاموا بأبسط ما يمليه واجبهم كحكام
لو كان المجتمعون في الكويت قاموا بعمل كهذا؛
إذن لشهدنا بمثل هذا العمل حقبة إسلامية عربية جديدة.
إذن لبدأنا نضع أقدامنا على أول الطريق لحل مشاكلنا المكدسة بين عربنا وعربنا ومسلمينا
•••
ولكن شيئا من هذا لم يحدث.
ولأن شيئا من هذا لم يحدث،
فقد كان لا بد أن يحدث النقيض،
وأن يخرج المسلمون والعرب من المؤتمر وهم - في الظاهر - أقل خلافا وأكثر اتفاقا، ولكنهم
•••
شكرا للكويت الشقيقة التي نجحت في إقامة مؤتمر ما كان أحد يتصور أنه سيقوم أو
شكرا للملوك والرؤساء العرب الذين لبوا الدعوة للاجتماع أو احتملوا ساعات من الجدل
شكرا للرؤساء الذين قابلوا الرؤساء، والملوك الذين قابلوا الملوك، والرؤساء الذين
شكرا لهم جميعا، فقد أثبتوا لنا بما لا يدع أي مجال للشك أنهم قادرون أن يجتمعوا إذا
وقادرون أن يتفقوا إذا حسنت نياتهم، ولكنهم، وهذه هي الكارثة الحقيقية، قد أثبتوا لنا
فالمشاكل لا تحل بالبيانات تتلى في الاجتماعات، ولا بالقرارات تعقبها القرارات،
ولا بالدار البيضاء مقررات تعقبها قمة الكويت بقرارات،
إنما المشاكل تحل بعمل و«بإجراء وبقدرة على الفعل» و«الحركة» و«التطبيق»،
وليس بأي شيء آخر سواها تحل المشاكل أو توقف الحروب.
أسرع يا بني وصور
بعيدا عن القضايا التي أصبح الحديث فيها «محلك سر» بعيدا عن المناوشات الدائرة بين
بعيدا عن الغلاء الذي يكوي القلوب والجيوب، والتسعيرة التي تظهر وتختفي كعفاريت الظهر،
بعيدا عن هذا كله ...
لا أعيش قرير العين رائق البال، أنا نوم مستريح الضمير ؛ فالواقع أني لا أنام إلا
ليس لأني قلق البال ولا مؤرق الضمير والحمد لله،
ولكن لأن نفق أكتوبر تحت رأسي مباشرة، منذ ثلاثة أشهر والدق شغال، طوال الأربع والعشرين
الحقيقة كانت الضجة في أول قدومها مفاجأة أقلقت مضاجع بضع مئات من سكان شارع النيل الذين
كانت من المفاجأة والصخب بحيث كنا لا ننام ليلا أو نهارا، وكأننا في حرب ذات غارات
ثم عدنا أخيرا متمنين أن تكون الأعمال الإنشائية الثقيلة في النفق قد انتهت، ولكن
وكنت منذ بدأ العمل قد أغلقت جميع النوافذ والمنافذ التي تطل على موقع العمل، دون فائدة؛
وأول ليلة بعد العودة حاولت النوم بلا أي اعتبار للضجة فقد أصبحت الضجة ملازمة لصحونا
إلى الساعة الثالثة صباحا لم أستطع النوم، وما دام لا فائدة من النوم فلتكن اليقظة ولتكن
ثم كان ما ليس منه بد، وفتحت نافذة مطلة على موقع العمل في النفق؛ فوجدت بصري يتوه،
نهاري كامل موجود في قلب الليل البهيم، رجال رائحون غادون يبدون من العلو الذي كنت أنظر
كان ذلك منذ حوالي أسبوع، وكان النفق قد تم تبطين جانبيه بالخرسانة المسلحة، وجاري
لم أفطن إلى أن النهار قد طلع إلا حين واجهتني الشمس الحمراء وهي تشرق وكأنها جهاز إضاءة
كنت قد أمضيت ثلاث ساعات لم تتسرب إلي فيها لحظة ملل واحدة، وقد امتصني ما يدور
كل يعرف عمله، وكل يتحرك إليه وبه، ولا كلام ولا قهقهات ولا «أجيب لك شاي»، ولا توقف
حسن جدا أن الرئيس حسني مبارك أصر على تحديد يوم 6 أكتوبر موعدا لافتتاح النفق؛ فقد
لقد قرأت بحثا للدكتور عبد الكريم درويش رئيس أكاديمية الشرطة عن مشكلة الإدارة في مصر،
•••
بالأمس، وفي ظرف أيام لا تزيد على الأربعة، فتحت النافذة لأجد - ويا لدهشتي! - أن كومة
أيقظت ابني بهاء خريج معهد السينما هذا العام، وطلبت منه أن يبقى معي في النافذة بعض
قلت له: لماذا لا تأخذ كاميرتك وتنزل إلى الشارع، وتصور ما يدور، وتصنع «الكلوزات» للعمال
قال بعد تفكير: صحيح، فكرة ... بس دي حتى ما تنفعش فيلم تسجيلي.
قلت له: يا ابني دعك من الأفلام والأنواع والأوهام. إنه صحيح لن يكون فيلما تسجيليا،
قال: كيف؟
قلت: كما انتابتني فترة يأس من أحوالنا، كلما بدأت ثقتي في الإنسان المصري تهتز، كلما
أسرع يا ابني، واحمل كاميرتك، وصور، فما أشد حاجتنا اليوم أن نرى أنفسنا في لحظة عمل! وحقيقة فنحن لا نرى الآن إلا في لحظات كلام وكتابة وكلام ومؤتمرات وخطب ولجان ... أسرع يا
الموهبة
عشرات الأسئلة التي طالما حيرتني، ساعات التأملات الطويلة والقراءات والمناقشات
فلتة من فلتات موهبة الكتابة والإخراج السينمائي جسدت موهبة الموسيقار؛ فالفيلم يتناول
بدايات التدفق والوصول إلى القمة، ثم الموت المدبر من موسيقار معاصر له وكان يشغل وظيفة
الفيلم كان يرويه هذا المنافس نصف الموهوب، ويعترف فيه أنه هو الذي كان وراء موت موزار في
وهكذا حين قدم موزار إلى البلاط ليعمل ضمن موسيقييه، بهرته موهبة هذا الشاب إلى درجة كادت
وطفلا، صاخبا، ضاحكا، غير مقيم وزنا للبروتوكلات ولا لمناصب، دخل موزار، وحيا
فأجاب: جميل جدا، وحينئذ سأله الإمبراطور: أتستطيع عزفه؟ قال: بالتأكيد، فقال
وجلس موزار إلى البيانو ليعزف مارش سيريللي، نفس اللحن ولكن، أي فرق، إذا به وهو يعزف
وهنا يبدأ الصراع؛ موهبة لا تعرف قدرها، تطلق الموسيقى كما تتنفس وتتنفس موسيقى، وبين
سيحطم موزار فن قواعد الأوبرا فيدخل الرقص؛ ويعترض البيروقراطية ويكادون ينجحون في إيقاف
وأنا أشاهد تلك الأجزاء تذكرت كلمة قالها برنارد شو مرة: إن الناس العاديين لا يرعبهم
فانهمك موزار في العمل في اللحن الجنائزي، وكلما انهمك فيه وغاص كان يغوص أعمق وأعمق في
كل ما في الأمر أن عبقرية الكاتب المسرحي الإنجليزي بيتر شيفر استطاعت أن تلتقط هذه
ولكن الفن العظيم يهشمه في طريقه إلينا كل تحيز مذهبي أو طائفي، والموهبة العظيمة
حتما سأكتب قصتها
أريد أن أكتب قصة؛ قصة حديثة جدا وقريبة جدا؛ فقد وقعت أحداثها خلال أيام قليلة
قصة حديثة؛ لأنني كففت عن قراءة القصص التي تبدأ بكانت الريح تزوم، والقمر محاقا،
كففت عن قراءة قصص الخيال الطفولية وكأنما تكتب من أطفال ليقرأها أطفال؛ كففت لأن ما
ماذا يكون شعر الخنساء، أو تكون تراجيديا «أوديب» أو «هاملت» الذي يتأرجح بين أن يكون أو
فهي قصة أبطالها رؤساء دول، وفتيان عرب، وقنابل وطائرات مخطوبة، ورجال جبنوا فماتوا
أريد أن أكتب قصة ... قصتها.
ولكنها ليست قصة مجردة ، حديث من فراغ وفي فراغ.
إنها قصة حدثت ودارت في قلب وخلفية الجحيم الذي نحياه.
وأبطالها كلهم وكأنما يساقون إلى مصيرهم، وحتفهم بقدر لا يستطيعون منعه أو دفعه أو حتى
•••
ثلاثة فتية عرب ...
أحدهم ولد - حيث يقول - في قرية يحتسي فيها أبوه زيت الزيتون كل صباح ليكتسب الصحة
وزميلاه اللذان قابلاه في أثينا، لأول مرة يلتقي الثلاثة، عربا كنا ونبقى عربا، لا
لم يتوقف أحدهم ليناقش ما علاقة إنقاذ فلسطين بقتل ركاب مدنيين أبرياء، وهل الطائرة
أبدا، لم يتوقف أحدهم ليناقش نفسه، أو قائده؛ فهو شاب عربي يريد الخلاص، وقد أقنعوه أن
فإذا كان قد تشكك أو تردد فإنهم كانوا سيقولون له: وهل كان الفلسطينيون في دير ياسين وكفر
إننا نحارب إرهابا بإرهاب، وأعداؤنا إرهابيون سفاكون، وهكذا يجب أن نكون؛ لنهزمه،
ولكن تلك طائرة مصرية، وركابها معظمهم عرب، و...
فيجيب القائد الحكيم الخطير: إن مصر تقود القضية للسلام، والسلام ضدنا، السلام على طريقة
وبالطبع لا يرضون، وأمرك يا سيدي، هات البنادق والقنابل، وإلى اللقاء المرتقب في
البطل المجهول الثاني، يوناني أرزقي، عرضوا عليه كذا ألفا لقاء أن يحمل لفافة من طائرة
يوناني كادح، ماذا يهمه هو، أن تنتقل لفافة مهما كان محتوياتها، من عربي إلى عربي، أو
وهكذا ترتحل الطائرة، حاملة في جعبتها كل متناقضات العالم العربي، والعالم عامة، عربا
وهكذا تتحول القضية العربية والفلسطينية من مقالات يدبجها إخواننا الكتاب والمفكرون
في غمضة عين كانت الطائرة مخطوفة.
وكان الأبطال المغاوير الثلاثة قد سيطروا على الموقف تماما، وأرسوا أبشع أنواع الرعب
من السهل على أي إنسان أن يجلس إلى هذا المكتب، بعيدا عن المكان والزمان، مستريح الخاطر
مستحيل!
إن أي رفة جناح لطائرة عادية، أو أي مطب هوائي تصادفه يسقط قلوب ركابها جميعا، مهما بلغت
إن البشر لا يتصرفون بنفس الطريقة في كل المواقف؛ فالموقف المباغت، خاصة لو كان يتهدد
وهكذا فهناك فارق هائل بين الصورة - ونحن نستعيدها الآن، بعيدا تماما عن حدوثها - وبين
فجأة، شل تفكير الجميع.
الوحيدون الذين أصبحوا يفكرون هم السفاحون الذين احتلوا الطائرة وسيطروا عليها، بل أعتقد
وهنا، وفي مثل هذا الجو تتجلى بطولة رجل الأمن مدحت؛ فأمامه ثلاث قنابل يدوية مصوبة إليه
ولكن زملاءه كان لهم تصرف آخر؛ فقد آثروا الاستسلام وألقوا بمسدساتهم أرضا. هكذا
أما قائد الطائرة، فأعتقد أن مسئوليته كبرى عن الفاجعة التي حدثت؛ ففي حالة كتلك هو
ولهذا كان قرار الكابتن أن يراوغ ويفرغ بنزين الطائرة ويفرغ إطاراتها من الهواء، كان في
وقد فسر هو هذا بقوله إنه كان خائفا أن يرغمه المختطفون على التوجه إلى ليبيا حيث يفجرون
ومن رأيي أن الكابتن أصيب بحالة من الارتباك أدت به إلى هذا التفكير الخطأ. وأنا - من
الخطأ الأكبر الثاني الذي ارتكبه الكابتن هو مطالبته بالتدخل بقوات من خارج الطائرة تنقذ
وقد تبع هذا الخطأ وكنتيجة له، سلسلة من الأخطاء؛ ففي سبيل التحريض على التدخل، بالغ القائد
وهناك طرق علمية للتدخل، منها إدخال الغازات المخدرة، ومحاصرة الطائرة إلى درجة إنهاك
وبقيت بعد هذا القصة التي أريد أن أكتبها:
قصة شادية ...
كبيرة المضيفات.
تلك التي أطلقوا سراحها لتبلغ رسالة إلى المطار ثم تعود إلى الطائرة. وأريد أن أسأل كم
إنه موقف يفوق في رأيي بطولة الفتيات والرجال الذين يقبلون أن يلغموا أنفسهم ليفجروا
أما شادية، فلم تكن مقاتلة، ولم تكن ثورية، ولم تكن منضمة إلى حزب أو حركة، ولم تكن
ها هي فتاة مصرية حقيقية، عروس تستعد للزفاف، ناضجة وليست مراهقة في السادسة عشرة أو
لماذا فعلت هذا؟!
إنه الإحساس بالواجب، وبكلمة الشرف، وبالوعد الذي قطعته، وخجلها أن تنكص، نفس هذه
يا لعار بعض الرجال!
ويا لشجاعة بعض النساء!
فالشجاعة ليست رجلا أو امرأة، الشجاعة إنسان - رجل أو امرأة - يحس بواجبه، ولا يتردد في
سأكتب قصتها، وليتني أملك ساعتها، شجاعتها؛ لأؤدي واجبي ككاتب تجاه فتاة ضربت مدينتها
من بين الرصاص وقنابل الدخان والحرائق واستغاثات البشر واختناقات الأطفال والجثث المكومة،
وإذا لم تصدقوا فشاهدوا معي صورة الجثث مرة أخرى؛ صور حطام الطائرة؛ وصور الهول الذي
شاهدوا أم شادية بملابسها البيضاء، في المطار وهي تقول أنا أم البطلة، وشاهدوا مدحت في
شاهدوا كل ذلك لتدركوا ما آلت إليه القضية ...
ولتدركوا أيضا أنه رغم كل شيء ورغم المأساة، ففينا بطلات من النساء وأبطال من الرجال، بل
شاهدوا حطام القضية، وتذكروا جيدا ذلك الحطام.
وهنيئا لك يا إسرائيل.
وهنيئا لك يا مستر ريغان الذي بدأت القرصنة وتؤمن بها.
وهنيئا لك يا أبو كذا وأبو كذا وابن كذا وابن كذا ...
أما أنت يا مصر ...
أما أنتم أيها الفلسطينيون الأحرار ...
أما أنتم أيها الأبرياء الذين راحوا ضحية لا حول لها ...
فلكم العزاء.
فالله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل.
وما حادث مصرع 250 جنديا أمريكيا يحرسون إسرائيل في سيناء، ببعيد.
اللهم لا شماتة، ولكن أيها الناس، هناك عدالة إلهية على الأرض.
أقسم أن هناك عدالة إلهية على الأرض مع عدالة السماء.
الرأس والحل والنظام
أكتب لأني أريد فعلا أن أكتب، مرة أخرى أحتشد وينتقل ما بالرأس إلى الأصابع والأنامل،
وقف في المنتصف رافضا أن يتحرك خطوة حتى يعرف إلى أين، حتى يعرف لماذا، حتى يرى إن كان
- اكتب.
قال: ما أنا بكاتب؟ - اكتب.
قال: ما أنا بكاتب؟ - لا تتمرد.
قال: ما أنا بمتمرد، إن هو إلا سؤال. - السؤال أيضا تمرد.
قال: حين يصبح السؤال تمردا، تصبح الكتابة معصية وخطأ لا يغفر. - سم واكتب.
قال:
بسم الله الرحمن الرحيم .
تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء
.
وسكت. - اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ؟ - اقرأ.
قال: ما أنا بقارئ؟ -
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق
.
قال: صدق الله العظيم، الكتابة أمانة، وقد عرضت الأمانة على الأرض والسماء فأبين أن
•••
ولكنني فعلا مشتاق أن أكتب، مثلما أنت تشتاق أن تأكل أو تشرب، أو تهفو بجنون إلى أخذ
شهور ثلاثة والقارئ الكاتب مشتاق للقارئ القارئ، وكل شيء يحول بينهما إلى حد أن لا شيء
الحقيقة أن أسهل شيء في الدنيا - كما ترون - أن يكتب الإنسان.
وأصعب شيء في الدنيا كما لا بد تعرفون، أن يكتب الإنسان.
وبلادنا ووطننا الصغير والكبير، ومواطننا كبر أم صغر يمر بمرحلة تدور لها الرءوس ولو كانت
وأنت ككاتب ليس مفروضا أن تكتب لتشكو مما يشكو منه الناس ويعرفونه ربما أعمق منك.
وليس مفروضا أن تكتب لتحاصر العينين بانتقاداتك بحيث لا يعود الإنسان يعرف من أين وإلى
أنت لا تكتب لأنك تفكر، وليس أي فكر أو أي تفكير، لكنه ذلك النوع الذي يسمونه الفكر
الفكر الذي وجد الحل، ويراه واضحا وضوح الشمس، بحيث ما عليه إلا أن يفتح للناس.
فإذا لم يكن الحل هناك ...
وإذا كانت الأمور قد استغلقت وتعقدت، بحيث - حتى لو كنت تملك ذلك المفتاح الواحد السحري
الحل إذن أن تسكت!
ولكن الكارثة أن السكوت ليس هو الحل، فلا بد - شئت أم أبيت - أن تظل تفكر؛ فأنت
أيكفي هذا ليعذرني القارئ في الشارع، في العمل، في البحر والبر، وكل مكان، الذي يسأل:
أيكفي ما سبق وذكرته إجابة تشفي الغليل!
لا أعتقد.
فأنا شخصيا غير مقتنع.
لا بد أن هناك شيئا أكبر وأخطر وأشمل هو الذي يخيم علينا جميعا ولا يكفي قلم
يا صديقي المواطن؛ بطل والله أنت، وأي بطل!
ليست البطولة أن تجيد التصويب وتذهب إلى ساحة الوغى أو عند الكمين وتقتل أول عدو
هذا في رأيي هو البطولة الصغرى.
البطولة الكبرى حتى ليس أن تعبر المانش أو تجيد سباحة المسافات الطويلة، البطولة الكبرى
وبلادنا في مرحلتنا هذه بحر عالي الأمواج صاخبها.
بحر وكأنما يريد أن يبتلع الناس والزرع والأشياء وكل ما على سطح الأرض.
ولكنا، بوجودنا هذا الذي يبدو فوضويا وبلا معنى وشديد البشاعة، نصنع المعجزة؛ نغرق
لا، نحن لا نغرق.
نحن نغرق «بضم النون».
تجرح أجسادنا، وتمزق ثيابنا، ويصيب الرشاش كرامتنا، ونفرط في أشياء عزيزة وغالية
ولكنه كفاح «البطل»؛ ليعيش، ليغوص في الحفر والبرك والمستنقعات والبحور.
بطل أنت يا مواطني العزيز، وأنت تخرب ما أصلحه الدهر، بطل وأنت تصلح ما خربه الدهر،
ولا أقول هذا نفاقا لك أو تعزية ...
فأنت في غنى عن النفاق لأنك في لحظة تحدد الحياة والموت، وفي غنى عن التعازي؛ لأنك تعرف
متأكد أنا تماما أنك تفهمني.
برغم أني أتكلم، وكأنما ب «اللاوندي»، ولكني متأكد أنك تفهمني.
فأنا، بفوضاك، أفهمك.
بكل منا وقد راح يخترع لنفسه قانون وجود، أفهمك، بل وينتج عن ملايين القوانين، ويا
وأنا مثلك لم أمت.
وأنت مثلي لا تعيش كما تريد وكما يجب.
وأنا وأنت البطل. •••
يخيل إلي أن ما من شعب عاش على سطح الأرض ومر بما مررنا به من تجارب وأزمات.
خذ عصر المماليك أو عصر البطالسة.
خذ أي عصر ...
واقرأ كيف جاوزناه واجتزناه ولا زلنا باقين، وسنظل إلى ما شاء الله نبقى.
أنا هذه المرة لا أكتب لأشرح وضعا سياسيا استعصى علي أو علينا فهمه، ولا لأثير
أنا في الحقيقة أكتب لأونس نفسي.
وأونس من يريد الونسة معي.
أكتب كما أريد أن يكتب لي، وأحس به طبطبة حنان صادقة، تخفف عني، وتشجعني، تطمئنني،
وما دامت العبرة بالنوايا، فليحاسبني الله سبحانه على نيتي، أو فليغفرها لي، فما أكثر ما
بالأمس سألني ابني الأكبر: «إيه» النظام؟ والتعبير أحد نتاجات المرحلة، ويعني شيئا أكثر
وكأنما فوجئت بالسؤال؛ فقد اضطربت.
وكأن السؤال ليس همي صباح مساء.
قلت: أن يكون هناك نظام.
ولكني أيضا وأنا أقولها كنت أفعل، وكأني أعتذر أو أقول: يا بني لست أدري.
وأمس، سألت ابنتي ذات السنوات الخمس: ما هو الحل يا نسمة؟
قالت الشقية وهي تحاورني: حل «إيه»؟
قلت: يعني الحل. أي حل؟
قالت بتأنيب: الحل يبقى حل مسألة، فأنت «مش» عارف المسألة و«عايز» تعرف الحل! «إيه
شكرا يا نسمة، فعلا لكي نعرف ما هو الحل، لا بد أن نعرف ماذا نريد حله، أو بالتعبير
فإذا لم نكن نعرف الرأس ولا المسألة، ومع هذا فنحن نحلها وماضون في حلها، وببطولة نفعل،
بل المعجزة الأكبر، والتي لم تحدث أبدا في التاريخ، ولكنا لا بد أن نحدثها، هي أن
أجل يا بني ويا ابنتي، حينذاك فقط نعرف ما هو النظام وما هو الأصل.
قد لا تفهمانني، ولكن يكفي إحساسكم بي وإحساسي بكم.
نامعلوم صفحہ