ارتشاف الضرب من لسان العرب
لأبي حيان الأندلسي (المتوفى: ٧٤٥ هـ)
تحقيق وشرح ودراسة: رجب عثمان محمد
مراجعة: رمضان عبد التواب
الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة
1 / 1
الطبعة: الأولى
١٤١٨ هـ - ١٩٩٨ م
1 / 2
[الجزء الأول]
بسم الله الرحمن الرحيم
قال سيدنا الشيخ العالم العلامة المحقق الصدر القدوة أثير الدين أبو حيان ابن سيدنا الشيخ أبي الحجاج محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي النفزي غفر الله له.
الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين. أما بعد:
فإن علم النحو صعب المرام، مستعص على الأفهام، لا ينفذ في معرفته إلا الذهن السليم، والفكر المرتاض المستقيم، وكان من تقدمنا قد انتزع من الكتاب تآليف قليلة الأحكام، عادمة الإتقان والإحكام، يحلها النقد، وينحل منها العقد، وربما أهملوا كثيرًا من الأبواب وأغفلوا ما فيه من الصواب، فتآليفهم تحتاج إلى تثقيف، وتصانيفهم مضطرة إلى تصنيف.
ولما كان كتابي المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل قد جمع من هذا
1 / 3
العلم ما لا يوجد في كتاب، وفرع بما حازه تآليف الأصحاب، رأيت أن أجرد أحكامه، عارية إلا في النادر من الاستدلال والتعليل، وحاوية لسلامة اللفظ، وبيان التمثيل؛ إذ كان الحكم إذا برز في صورة المثال، أغنى الناظر عن التطلب والتسآل.
ونفضت عليه بقية كتبي، لأستدرك ما أغفلته من فوائده، وليكون هذا المجرد مختصًا عن ذلك بزوائده، وقربت ما كان منه قاصيًا، وذللت ما كان عاصيا، حتى صارت معانيه تدرك بلمح البصر، لا تحتاج إلى إعمال فكر، ولا إكداد نظر، وحصرته في جملتين:
الأولى: في أحكام الكلم قبل التركيب.
الثانية: في أحكامها حالة التركيب.
وربما انجر بعض من أحكام هذه من أحكام الأخرى لضرورة التصنيف، وتناسب التأليف، وقصدت بذلك - يعلم الله - تسهيل ما عسر إدراكه على الطلاب، وتحصيل ما أرجوه في ذلك من الأجر والثواب.
ولما كمل هذا الكتاب خلوا مبانيه من التثبيج والتعقيد، حلوًا معانيه للمفيد والمستفيد، سميته «ارتشاف الضرب من لسان العرب»، ومن الله أستمد الإعانة، وأستعد من إحسانه لصواب المقال والإبانة
1 / 4
الجملة الأولى في الأحكام الإفرادية
ونقدم القول في مواد الكلم: وهي حروف الهجاء وتسمى حروف المعجم، وحروف العربية عددًا، ومخرجًا، وصفة فعددها سبعة وعشرون حرفًا، خلافًا للمبرد في زعمه أن الهمزة ليست منها، والمخارج ستة عشر، خلافًا لقطرب، والجرمي، والفراء، وابن دريد، في زعمهم أنها أربعة عشر.
1 / 5
ومحل الخلاف هو: مخرج اللام، والنون، والراء: فمذهب هؤلاء أنه مخرج واحد، ومذهب الجمهور أنها ثلاثة مخارج، وهو الصحيح لتباينها عند الاختبار.
فالمخرج الأول أقصى الحلق وهو: الهمزة، والهاء، والألف على رتبة واحدة، خلافًا لأبي الحسن في زعمه أن الهمزة أول، وأن الهاء والألف في رتبة واحدة، وخلافًا لأبي العباس أحمد بن عمار المهدي، وغيره في زعمهم أن الهمزة أول وهي: من أول الصدر وآخر الحلق، وهي أبعد الحروف مخرجًا، ثم الألف تليها، وهي صوت لا يعتمد [له]، ثم الهاء بعدها، وخلافًا لمن زعم أن الهاء قبل الهمزة في المرتبة، وأنها أدخل إلى
1 / 6
الصدر، وخلافًا لأبي الحسن شريح في زعمه أن الألف هوائية لا مخرج لها، فحروف الحلق عنده ستة، وقد روى هذا عن الخليل.
المخرج الثاني: وسط الحلق وهو: العين والحاء، وظاهر كلام سيبويه أن الحاء بعد العين، وهو نص كلام مكي بن أبي طالب، ويظهر من كلام المهدوي أن العين بعد الحاء، وهو نص أبي الحسن شريح.
المخرج الثالث: أدنى الحلق إلى الفم، وهو للغين والخاء ويظهر من كلام سيبويه أن الغين قبل الخاء، وهو قول أبي الحسن، ونص مكي على تقدم الخاء فيه
1 / 7
على الغين، وزعم ابن خروف أن سيبويه لم يقصد ترتيبًا فيما هو من مخرج واحد.
المخرج الرابع: أول أقصى اللسان وهو للقاف، وهو مما يلي الحلق، وما فوقه من الحنك، وقال شريح: القاف مخرجها من أول اللهاة مما يلي الحلق، ومخرج الخاء.
المخرج الخامس: ثاني أقصى اللسان، وهو للكاف من أسفل مخرج القاف، من اللسان قليلًا، وما يليه من الحنك.
المخرج السادس: وهو للجيم والشين والياء، وهي من وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، خلافًا للخليل في الياء، إذ زعم أنها هوائية لا مخرج لها كالألف، ويظهر أن الجيم قبلها، خلافًا للمهدوي في زعمه أن الشين تلي الكاف، والجيم والياء يليان الشين.
1 / 8
المخرج السابع: وهو للضاد، وهي من أول حافة اللسان وما يليه من الأضراس من الجانب الأيسر عند الأكثر، أو الأيمن عند الأقل، وكلام سيبويه يدل على أنها تكون من الجانبين، خلافًا لمن ذهب إلى أنها تختص بالجانب الأيمن، وخلافًا للخليل، في زعمه أنها شجرية من مخرج الجيم والشين.
المخرج الثامن: وهو للام وهي من حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرفه ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مما فوق الضاحك، والناب، والرباعية والثنية.
1 / 9
المخرج التاسع: وهو للنون، وهي من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا متصلًا بالخيشوم تحت اللام قليلًا.
المخرج العاشر: هو للراء، وهي من مخرج النون من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا العليا، غير أنها أدخل في ظهر اللسان قليلًا من النون، وتقدم مذهب الجرمي. ومن وافقه، وهو الظاهر من كلام الخليل.
المخرج الحادي عشر: وهو للدال والطاء والتاء، وثلاثتها تخرج مما بين طرف اللسان وأصول الثنايا العليا مصعدا إلى جهة الحنك.
المخرج الثاني عشر: وهو للزاي والسين والصاد، وثلاثتها ما بين طرف اللسان وفويق الثنايا السفلى ويقال في الزاي: زاء وزى.
المخرج الثالث عشر: وهو للظاء والذال والثاء، وثلاثتها من بين طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا.
المخرج الرابع عشر: وهو للفاء، وهي من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا.
المخرج الخامس عشر: وهو للباء والميم والواو، وثلاثتها ما بين الشفتين،
1 / 10
فتنطبقان في الباء والميم لا في الواو خلافًا للخليل في الواو، إذ هي عنده هوائية لا مخرج لها، وخلافًا للمهدوي فيها، إذ فصلها من الباء والميم، وجعل لها على حدتها مخرجًا؛ وهي عنده السادس عشر مخرجًا.
المخرج السادس عشر: مخرج الخيشوم، وهو للنون الساكنة الخفيفة المخفاة التي لم يبق منها إلا الغنة.
وأما الساكنة سكونًا خالصًا كالنون في نحو: يضربن، فسيبويه بين أن مخرجها من مخرج النون المتحركة.
واختبار المخرج وتحققه يكون بابتداء همزة الوصل جائيًا بعدها بالحرف ساكنًا، ملحوظًا به صفة ذلك الحرف.
1 / 11
ولبعض الحروف فروع تستحسن، فمن ذلك الهمزة المسهلة، وهي فرع عن الهمزة المحققة، وهي عند سيبويه حرف واحد نظرًا إلى مطلق التسهيل، وعند السيرافي ثلاثة أحرف نظرًا إلى التقييد بالألف أو الواو أو الياء، والغنة فرع عن النون.
وألفا الإمالة والتفخيم، وهما فرعان عن الألف المنتصبة، والإمالة بين اللفظين، لم يعتدها سيبويه، وإنما اعتد الإمالة المحضة وقال: «التي تمال إمالة شديدة كأنها حرف آخر قريب من الياء».
والشين التي كالجيم فرع عن الجيم الخالصة، وذلك قولهم في «أشدق:
1 / 12
أجدق»، والصاد والجيم والسين اللواتي كالزاي فروع عن الزاي الخالصة، وذلك نحو: مزدر في مصدر بين الصاد والزاي، وفي زهير: سهير بين السين والزاي، وفي جابر: زابر بين الجيم والزاي.
واللام المفخمة فرع عن اللام المتوسطة بين الترقيق والتفخيم، وذلك في اسم الله تعالى، إذا كان قبلها مفتوح أو مضموم، وفيما قرأ به القراء، وأتت به الرواية الصحيحة من تفخيمها على ما نقله أهل الأداء.
وفروع تستقبح وهي: كاف كجيم فرع عن الكاف الخالصة، وهي لغة في اليمن كثيرة، وفي أهل بغداد يقولون في كمل: جمل، وجيم ككاف فرع عن
1 / 13
الجيم الخالصة يقولون في رجل: ركل، يقربونها من الكاف، وعد سيبويه هذا حرفًا واحدًا، لأن النطق لا يختلف، وراعى ابن جني الأصل، فعد ذلك حرفين، وتبعه ابن عصفور، وابن مالك، وجيم كشين فرع عن [الجيم الخالصة، وأكثر ذلك إذا سكنت وبعدها دال نحو: قولهم في الأجدر: الأشدر، وقالوا في اجتمعوا: اشتمعوا، وصاد كسين فرع عن] الصاد الخالصة نحو: سابر في صابر، وطاء كتاء فرع عن الطاء الخالصة نحو: تال في طال؛ وهي تسمع من عجم أهل المشرق، ظاء كثاء فرع عن الظاء الخالصة نحو: ثالم
1 / 14
في ظالم، وباء كـ «فاء» فرع عن الباء الخالصة وهي كثيرة في لغة الفرس، وتارة يغلب لفظ الباء، وتارة يغلب لفظ الفاء، وذلك نحو: «بلخ» و«أصبهان».
وضاد ضعيفة قال الفارسي: إذا قلت: ضرب ولم تشبع مخرجها، ولا اعتمدت عليه، ولكن تخفف وتختلس، فيضعف إطباقها، وقال ابن خروف: هي المحرفة من مخرجها يمينًا أو شمالًا كما ذكر سيبويه.
وقال مبرمان: يقربون الثاء من الضاد، وذلك في لغة قوم ليس في أصل حروفهم الضاد، فإذا تكلفوها ضعف نطقهم بها، وكذا قال ابن عصفور، ومثل بقولهم: في أثر ذلك: في أضر ذلك.
1 / 15
وفي تفسير الضاد الضعيفة بهذا، وفي تمثيله نظر، والذي يظهر أن الضاد الضعيفة التي هي تقترب من الثاء، عكس ما قال مبرمان، وابن عصفور فتقول في اضرب زيدًا: اثرب زيدًا بين الضاد والثاء، وأما القاف المعقودة فقال السيرافي: رأينا من يتكلم بالقاف بينها وبين الكاف انتهى، وهي الآن غالبة على لسان من يوجد في البوادي من العرب، حتى لا يكاد عربي ينطق إلا بالقاف المعقودة، لا بالقاف الخالصة الموصوفة في كتب النحويين، والمنقولة عن وصفها الخالص على ألسنة أهل الأداء من أهل القرآن.
وقد بلغت الحروف بفروعها المستحسنة والمستقبحة سبعة وأربعين حرفًا، وفي التمهيد: زاد بعضهم أحرفًا لم يذكرها سيبويه، وهي الشين كالزاي كقولهم في اشرب: ازرب، والجيم كالزاي كقولهم في اخرج، اخرز، والقاف كالكاف كقولهم في القمح: الكمح، فقد بلغت هذه الأحرف خمسين حرفًا.
القول في صفات الحروف: المهموسة يجمعها «سكت فحثه شخص» والهمس: الصوت الخفي، فإذا جرى مع الحرف النفس لضعف الاعتماد عليه كان مهموسًا، والضاد والخاء أقوى مما عداهما.
1 / 16
والمجهورة ما عداها ويجمعها «ظل قند يضغم زر طاو إذ يعج» والجهر ضد الهمس، فإذا منع النفس أن يجرى معه حتى ينقضي الاعتماد عليه كان مجهورًا، قال سيبويه: إلا أن النون والميم قد يعتمد لهما في الفم والخياشيم فتصير فيهما غنة، والشديدة يجمعها: «أجدك تطبق» والشدة امتناع الصوت أن يجرى في الحرف، والرخوة يجمعها: «خس حظ شص هز ضغث قذ»، ومتوسطة بين الشدة والرخاوة ويجمعها «ولينا عمر»، والمهموسة كلها غير التاء والكاف رخوة ويجمعها «سفه شخص حث».
والمجهورة الرخوة يجمعها (غض طزذن)، والمجهورة الشديدة «طبق أجد»، وتسمى هذه حروف القلقلة، وما بين الشدة والرخاوة مجهور، والمطبقة الصاد والضاد والطاء والظاء، والمستعلية هذه والغين والخاء والقاف ويجمعها «قظ خص ضغط»، وما عداها منخفضة وبعضهم يقول: مستفلة، والمتقلقلة
1 / 17
يجمعها «قطب جد»، والجمهور على أن الباء متقلقلة دون التاء، وذهب بعض أهل النحو والأداء إلى أنها التاء دون الباء، وقد ذكر سيبويه التاء في المتقلقلة، وهي من المهموسة، وقد ذكر لها نفخًا.
والمشربة الزاي والظاء والذال والضاد والراء، واللينة: الألف والواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها يجمعها «واي»، وأمكنهن عند الجمهور في المد الألف، خلافًا لأبي بكر الصقلي في زعمه أن أمكنهن في المد الواو ثم الياء ثم الألف.
والجمهور على أن الفتحة من الألف، والضمة من الواو، والكسرة من الياء، فالحروف قبل الحركات، وقيل عكس هذا وقيل ليست الحركات مأخوذة من الحروف، ولا الحروف مأخوذة من الحركات، وصححه بعضهم.
1 / 18
والهمزة حرف صحيح، وقال الفارسي: حرف علة، وقيل شبيهة بحرف العلة، والمنحرف اللام وزاد الكوفيون، وتبعهم مكي: الراء، والمكرر الراء قال سيبويه وغيره «وهو حرف شديد جرى فيه الصوت لتكريره وانحرافه إلى اللام فصار كالرخوة ولو لم يكرر لم يجر الصوت فيه».
وقال الصيمري وشريح: هو بين الشدة والرخاوة، وظاهر كلام سيبويه أن التكرير صفة ذاتية للراء، وإلى ذلك ذهب شريح قال: وقد ذهب قوم من أهل الأداء إلى أن الراء لا تكرير فيها مع تشديدها، ولا نعلم وجهه، ولا أن أحدًا من المحققين بالعربية ذكر أن تكريرها يسقط عنها جملة انتهى.
وبالتكرير قرأنا على من قرأ بشرق الأندلس، وبعدم التكرير البتة قرأنا على شيوخ غرناطة، وهو مذهب مكي وأبي عبد الله المقامي.
والهاوي الألف، والمهتوت الهمزة والهت عصر الصوت، والهت أيضًا
1 / 19
الحطم والكسر، وبعضهم يقول فيها المهتوف بالفاء، والهتف الصوت بقوة.
والذلقية قال مكي ثلاثة: الراء واللام والنون، وفي بعض نسخ العين للخليل حروف الذلق: ر، ل، ن، ف، ب، م يجمعها «مل فنبر»، والذلق: الطرف من كل شيء، والفاء والباء والميم في حين خروجها من الشفة لا عمل للسان فيها، وثلاثة في حيز اللام والراء والنون من طرف اللسان على مقدم الغار الأعلى، ولا توجد كلمة خماسية، ولا رباعية بناؤها من الحروف المصمتة إلا ما ندر من ذلك نحو: عسجد، وعسطوس، والدهدقة، والزهزقة، فلا يحسن بناء الرباعي الأصول ولا الخماسيها إلا ويكون بعض حروف الذلاقة فيها، وذلك نحو: جعفر وسفرجل.
1 / 20