الإرشاد
الإرشاد إلى نجاة العباد للعنسي
فهو أن يعرف أنه عبد مملوك، من نور أحدثه مالكه وهو ربه، وخلقه، وصوره، وقدره وأنعم عليه بنهاية ما يمكن في حقه من النعم، التي لم تكن تصلح في حقه نعم أعظم منها ولا أكثر مما تقتضيه الحكمة الإلهية، ويعرف أنه في نفسه ضعيف حقير، مسكين صغير، جعل أصله من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، كان منزله أخس منزل، ومسكنه أذل مسكن، إبتداء محله وقراره في موضع ذلة وصغار، موضع الحيض والقذارات والأماكن المنفورات، خرج من مجرى البول مرتين، ومر من الطريق الرذلة في طريقين، مشى عند خروجه منكوسا على أم رأسه، حتى رجع إلى الأصل الذي خلق وهي الأرض ذات الصدع، إما سعيدا بعمله، وإما شقيا بقبيح فعله، صغيرا حقيرا ضعيفا لا يعقل ولا يفهم، ويجهل ولا يعلم، ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا موتا، ولا سمعا ولا بصرا، ولا نطقا ولا عقلا، ولا شهوة ولا لذة، والله تعالى يربيه أحسن التربية، ويغذيه أحسن الغذاء، ويكبره وينميه، ويحفظه ويحميه، ويزيد في جسمه، وفي سمعه، وفي بصره، وفي عقله، وتعريف نطقه قليلا قليلا، حتى يصير شابا جميلا، سميعا بصيرا، عاقلا نظيفا، يجتلب النفع ويجتنب الضرر، وصار يكتم أقذاره التي تخرج من سبيله، وكان قبل ذلك يتلوث بها ولا يخفيها، وكان قبل ذلك متظاهرا بها يكره أن يصيب فعله، ويودعها بطنه، ويعرف أنه يأكل ويشرب، ويجوع ويعطش، ويزيد وينقص، وتعتريه الأمراض والعاهات، ويصيبه ما يكره من الآفات، ويعرف أنه يبول ويتغوط، ويخرج منه القذارات من الحيض والمني، والمذي والودي، فإنه لا يزال يحمل ذلك كله، وكلما خرج شئ خلفه آخر من جنسه، ويعرف أنه يلد ويولد، وينام ويتيقظ، ويبزق ويتمخط، ويعتريه الوسخ والنتن والعرق، والخوف والقلق، والهم والغم، واللذة والألم، والشهوة والنفرة، والفاقة والحاجة،ويعرف أنه يجوز عليه التوهم والتخيل، والظن والعجز والجهل، والعمى والصمم، والبكم والخرس، إما عاجلا وأما آجلا، ويعرف أنه كلما دامت حياته يبلى شبابه، وينحل جسمه، وتزول نظارته، وتتكفت جلدته، ويبيض شعره، وتضعف قوته، وتقل شهوته وبهجته، ويتناقص سمعه وبصره، وحسه وعقله، وتسقط أسنانه، ويرتفع حسنه وإحسانه، ويعود إلى أذل حال من الصغر والتربية، ثم يموت ويفنى، ويصير بين أهله ملقى كالحجر الصمي، وهي أعز منه وأنفع وأجدى، يستوحش أحبابه قربه، ويحبون بعده، ثم يرد إلى باطن أصل خلقته وهو الثرى، مطروحا في لحد، منفردا بعمله، ينتن ويقذر، وتسارع إليه الديدان عند شمها لرائحته، ثم تتقذره وتتركه، ثم يبلى جلده ثم عظمه، ثم يصير ترابا مطحونا، ثم هباء منثورا، ثم يجمع ربه جسمه من كل أو ب ومكان، ويعيده إلى ما كان، ويسمعه دعاء الداعي إلى أمر نكر، ثم يبعث وينشر ويحشر، ويوافى به إلى المحشر، ويسأل ويحاسب، ويصير بعد ذلك إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفد عذابها.فهذه صفة العبد في نفسه، وهي نقيض صفة ربه، فإن الله تعالى أزلي، والعبد أولي، وخالق والعبد مخلوق، ورازق والعبد مرزوق، وقادر والعبد يعجز، وعالم والعبد يجهل، وحي والعبد يموت، وإله مالك والعبد مملوك مربوب، وليس بجسم والعبد جسم، ولا يحله عرض ويحل العبد العرض، وللعبد كيفية وكمية وكونية وزمانية، والرب يتنزه عن ذلك، والله تعالى عدل، والعبد فيه الجهل، يظلم نفسه وغيره، والله تعالى يبين ويمكن ويرشد ويهدي، والعبد يضل ويضل ويغوي، والله تعالى ينعم ويثيب ويعاقب، والعبد على نقيض هذه المناقب.
فهذه صفة العبد الذليل وتلك صفة الرب الجليل، وفي معرفة ذلك ما يدعو إلى التواضع والإذلال للنفس لطلب عزها الأبدي، والإجلال لله عز وجل بالجريان في ميدان رضاءه في الفعل والترك.
صفحہ 306