الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد
تأليف
الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
جميع الحقوق محفوظة لفريق مساحة حرة
[![](../Images/logo4.png)](http://www.masaha.org)
<http://www.masaha.org>
[مقدمة]:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على سوابغ نعمه، وتتابع مننه، وترادف أنعامه، وتوالي إفضاله. وله الشكر على جزيل فواضله، وكريم مواهبه.
وصلى الله على سيد أنبيائه وخاتم أصفيائه محمد النبي المنتجب من أشرف العناصر وأكرم المناصب، وعلى آله الطيبين الأئمة الراشدين، النجوم الزاهرة والغرر الباهرة، وسلم تسليما.
وبعد:
فاني ممتثل ما رسمه الشيخ الأجل، أطال الله بقاءه، وعضد كافة أوليائه بطول أيامه وامتداد زمانه، وجعل ما خوله من محبة العلم وأهله وإيثار الدين وصرف الهمة اليه، وحبب اليه ما يكسبه الجمال عاجلا ويثمر الخلاص آجلا.
من إملاء مختصر يشتمل على بيان ما يجب اعتقاده ومعرفته، ويلزم العمل به والمصير اليه، مما لا يخلو منه مكلف في حال من الأحوال، وأن أقرب ذلك
صفحہ 3
بأدلة واضحة وبراهين نيرة، لا أطول القول فيها فيمله ولا أقصر على الإتيان على الغرض فيحصر دونه.
وأتبع ذلك بما يجب العمل به من العبادات على وجه الاختصار مما لا يستغنى عنه، فان الكتب المعمولة في الأصول والفروع كثيرة، غير أنها مبسوطة جدا أو مختصرة لا تأتي على الغرض.
وأنا ممتثل ما رسمه ومجيب الى ما دعا اليه.
ومن الله الكريم أستمد المعونة، وإياه اسأل التوفيق لإتمامه.
وقد رتبته على فصول
صفحہ 4
فصل (فيما يلزم المكلف)
الذي يلزم المكلف أمران: علم، وعمل. فالعمل تابع للعلم ومبني عليه.
والذي يلزم العلم به أمران: التوحيد، والعدل.
فالعلم بالتوحيد لا يتكامل إلا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها معرفة ما يتوصل به الى معرفة الله تعالى، والثاني معرفة الله على جميع صفاته، والثالث معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات، الرابع معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، الخامس معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم.
والعدل لا يتم العلم به الا بعد العلم بأن أفعاله كلها حكمة وصواب، وأنه ليس في أفعاله قبيح ولا إخلال بواجب. ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمس أشياء : أحدها معرفة حسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما،
صفحہ 5
والرابع معرفة الإمامة وشروطها، والخامس معرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فأنا إن شاء الله أبين فصلا فصلا من ذلك على أخصر ما يمكن وأوجزه، وأردف ذلك بما يجب العمل به من الشرعيات على هذا المنهاج إن شاء الله.
ومن جهته التوفيق والتسديد.
صفحہ 6
القسم الأول الأصول الاعتقادية
صفحہ 7
فصل (في ذكر بيان ما يتوصل به الى ما ذكرناه)
لا طريق إلى معرفة هذه الأصول التي ذكرناها الا بالنظر في طرقها، ولا يمكن الوصول الى معرفتها من دون النظر.
وانما قلنا ذلك لان الطريق إلى معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها:
(أولها) أن يعلم الشيء ضرورة لكونه مركوزا في العقول، كالعلم بأن الاثنين أكثر من واحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وان الجسمين لا يكونان في مكان واحد في حالة واحدة، والشيء لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منفيا، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول.
(والثاني) أن يعلم من جهة الإدراك إذا أدرك وارتفع اللبس، كالعلم بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس (1).
(والثالث) أن يعلم بالأخبار، كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك.
صفحہ 9
(والرابع) أن يعلم بالنظر والاستدلال.
والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الأول، لأن ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون أكثر من اثنين وان الشبر لا يطابق الذراع. والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء فكيف يجوز أن يكون ضروريا.
وليس الإدراك أيضا طريق الى العلم بمعرفة الله تعالى، لأنه تعالى ليس بمدرك بشيء من الحواس على ما سنبينه فيما بعد، ولو كان مدركا محسوسا لأدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة.
والخبر أيضا لا يمكن أن يكون طريقا الى معرفته، لان الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستندا الى مشاهدة وادراك، كالبلدان والوقائع وغير ذلك، وقد بينا أنه ليس بمدرك ، والخبر الذي لا يستند إلى الإدراك لا يوجب العلم. ألا ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد (صلى الله عليه وآله) فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لان ذلك طريقه الدليل، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لان ذلك طريقه الدليل.
فاذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر، لم يبق الا أن يكون طريقه النظر.
فان قيل: أين أنتم عن تقليد [الإباء و] (1) المتقدمين؟
قلنا: التقليد ان أريد به قبول قول الغير من غير حجة- وهو حقيقة التقليد- فذلك قبيح في العقول، لان فيه اقداما على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد جهلا لتعريه من الدليل، والاقدام على ذلك قبيح في العقول. ولأنه ليس في العقول تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا
صفحہ 10
ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل.
فان قيل: نقلد المحق دون المبطل.
قلنا: العلم بكونه محقا لا يمكن حصوله الا بالنظر، لأنا ان علمناه بتقليد آخر أدى الى التسلسل، وان علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه من باب التقليد، ولذلك لم يكن أحدنا مقلدا للنبي أو المعصوم فيما نقبله منه، لقيام الدليل على صحة ما يقوله.
وليس يمكن أن يقال: نقلد الأكثر ونرجع إليهم. وذلك لان الأكثر قد يكونون على ضلال، بل ذلك هو المعتاد المعروف. ألا ترى أن الفرق المبطلة بالإضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير.
ولا يمكن أن يعتبر أيضا بالزهد والورع، لان مثل ذلك يتفق في المبطلين فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل فعلم بذلك أجمع فساد التقليد.
فان قيل: هذا القول يؤدي الى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم، لأن أكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه من الفقهاء والأدباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ولا يهتدون الى ما يقولونه، وانما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك، ويؤدي الى تكفير الصحابة والتابعين [وأهل الأمصار، لأنه معلوم أن أحدا من الصحابة والتابعين] (1) لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شيء منه، فكيف يقال بمذهب يؤدي الى تكفير أكثر الأمة وتضليلها، وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه.
قيل: هذا غلط فاحش وظن بعيد، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي
صفحہ 11
إلى معرفة الله، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون ويجري بينهم، فان جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وان لم تكن واجبة، وانما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة الى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به، وكيف يكون ذلك منهيا عنه أو غير واجب والنبي (عليه السلام) لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد إظهار الأعلام والمعجزة من القرآن وغيره، ولم يقل لأحد أنه يجب عليك القبول من غير آية ولا دلالة.
وكذلك تضمن القرآن من أوله الى آخره التنبيه على الأدلة ووجوب النظر (1).
قال الله تعالى أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء (2).
وقال أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت.
وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت (3).
وقال وفي أنفسكم أفلا تبصرون (4).
وقال قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه. من نطفة خلقه (5) الاية.
وقال:
صفحہ 12
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب إلى قوله إنك لا تخلف الميعاد (1).
وقال فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا الى قوله متاعا لكم ولأنعامكم (2).
وقال ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين الى قوله فتبارك الله أحسن الخالقين (3).
وقال إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (4) و لقوم يعقلون (5) و لأولي الألباب (6) و لمن كان له قلب (7) يعني عقل.
وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول.
وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الأدلة وينصبها ويدعو الى النظر فيها، ومع ذلك يحرمها. ان هذا لا يتصوره الا غبي جاهل.
فأما من أومى إليه من الصحابة والتابعين وأهل الأعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام، فأول ما فيه أنه غير مسلم، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك، وهو شائع ذائع في خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) في الاستدلال على الصانع والحث على النظر والفكر في إثبات الله تعالى معروف مشهور، وكذلك كلام الأئمة (عليهم السلام) من أولاده، وعلماء المتكلمين في كل عصر معروفون مشهورون.
صفحہ 13
وكيف يجحد ذلك وينكر وجوده، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه» وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته المعروفة «أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أن من حلته الصفات فهو مخلوق، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق» ثم قال «بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالنظر يثبت حجته، معلوم بالدلالات، مشهور بالبينات» (1) الى آخر الخطبة.
وخطبة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقال الحسن (الحسين خ ل) (عليه السلام): «والله ما يعبد الله الا من عرفه فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالا» وأشار بيده.
وقال الصادق (عليه السلام): «وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك» (2).
ثم انه يلزم مثل ذلك الفقهاء، فانا نعلم ما فرعه الفقهاء (3) من المسائل ودونوه في كتبهم ودارت بينهم من العلل والأقيسة لم يخطر لأحد من الصحابة والتابعين ببال ولا نقل شيء منه عن واحد منهم. فينبغي أن يكون ذلك كله باطلا، أو يقولوا ان الصحابة لم يكونوا عالمين عارفين بالشرع، فأي شيء أجابوا عن ذلك في الفروع فهو جوابنا في الأصول بعينه، وهو أن يقال انهم كانوا عالمين بأصول الشريعة فلما حدثت حوادث في الشرع لم يكن استخرجوا أدلتها من الأصول قلنا مثل ذلك فإنهم كانوا عارفين بالأصول من التوحيد والعدل مجملا، فلما
صفحہ 14
حدثت شبهات لم تسبقهم استخرجوا أجوبتها من الأصول.
ولو سلمنا أنهم كانوا غير عارفين بما يعرفه المتكلمون لم يدل على ما قالوه لأنه لا يجوز أن يكونوا عالمين بالله تعالى على وجه الجملة وخرجوا بذلك عن حد التقليد وتشاغلوا بالعبادة أو الفقه أو التجارة، ولم ينقدح لهم فيما اعتقدوه شك ولا خطرت لهم شبهة يحتاجون الى حلها، فاقتنعوا بذلك وكانوا بذلك قد أدوا ما وجب عليهم.
والمتكلمون لما أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة خطرت لهم شبهات ووردت عليهم خواطر لزمهم حل ذلك والتفتيش عنه حتى لا يعود ذلك بالنقض على ما علموه.
وكل من يجري مجراهم ممن تخطر له هذه الشبهات فإنه يلزمه حلها ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فإنه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة. ومن لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فإنه لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات حتى يلهه ويلزمه التفتيش عنها والأجوبة عنها.
وان فرضنا في آحاد الناس من لم يحصل له علم الجملة ولا علم التفصيل وانما هو على تقليد محض، فإنه مخطىء ضال عن طريق الحق وليس يتميز له ذلك.
فان قالوا: أكثر من أومأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه.
قلنا: وذلك أيضا لا يلزم، لأنه لا يمتنع أن يكون عارفا على الجملة وان تعذرت عليه العبارة عما يعتقده، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه.
فان قيل: قد ذكرتم أنه يخرج الإنسان عن حد التقليد بعلم الجملة، ما
صفحہ 15
حد ذلك بينوه لنقف عليه؟
قلنا: أحوال الناس تختلف في ذلك: فمنهم من يكفيه الشيء اليسير، ومنهم من يحتاج الى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره حتى يزيد بعضهم على بعض الى أن يبلغ الى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته. وليس يمكن حصر ذلك لشيء لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.
فان قيل: فعلى كل حال بينوا لذلك مثالا على وجه التقريب.
قلنا: أما على وجه التقريب فانا نقول: من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الأحوال من صغر الى كبر ومن طفولة الى رجولة ومن عدم عقل الى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة والى الهرم ثم الموت، وغير ذلك من أحواله، علم أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك.
فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه. ويعلم أنه لا بد أن يكون عالما من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاتساق، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم، وبهذا القدر يكون عالما بالله تعالى على الجملة.
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد الى منتهاه، فمنه ما يصير شجرا عظيما يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ، ومنه ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الأقوات، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح، ومنه ما يكون خشبة في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك،
صفحہ 16
وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك واتساقه ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله، فيكون عارفا بالله على الجملة.
وكذلك إذا نظر الى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد، فيعلم ببديهة أنه لا بد أن يكون من صح ذلك منه قادرا عليه ممكن منه (1) وأنه مخالف له ولأمثاله، فيكون عند ذلك عارفا بالله.
وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره، فمتى عرف الإنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاعتقاد، فان مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص.
وأكثر من أشرتم اليه يجوز أن يكون هذه صفته، وان بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله، فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر، على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل.
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إن شاء الله.
فان قيل: أصحاب الجمل على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة، وإذا لم
صفحہ 17
يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات، لأن معرفة هذه الأشياء لا يمكن الا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل.
قلنا: يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة، لأنه إذا علم بما قدمناه من الأفعال ووجوب كونه قادرا عالما وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادرا بقدرة محدثة لأنها كانت تجب أن تكون من فعله، وقد تقرر أن المحدث لا بد له من محدث، وفاعلها يجب أن يكون قادرا أولا، فلو لا تقدم كونه قادرا قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة، فيعلم أنه لم يكن قادرا بقدرة محدثة، ولأجله علم أنه كذلك لأمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فيعلم أنه يجب أن يكون قادرا على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص .
وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالما علم أن ما لأجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم [دون معلوم] (1)، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع الا من عالم، فلا بد أن يتقدم كونه عالما لا بعلم محدث، وما لأجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوما لفقد الاختصاص. فيعلم أنه لا يشبه الأشياء، لأنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة، لان المثلين لا يكون أحدهما قديما والآخر محدثا.
ويعلم أنه غير محتاج، لأن الحاجة من صفات الأجسام، لأنها تكون الى جلب المنافع أو دفع المضار وهما من صفات الأجسام، فيعلم عند ذلك أنه غني.
ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والإدراكات، لأنه لا يصح أن يدرك الا ما
صفحہ 18
يكون هو أو محله في جهة، وذلك يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم.
وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات، وعلم كونه غنيا، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وان لم نعلمه مفصلا، لان القبيح لا يفعله الا من هو جاهل بقبحه أو محتاج اليه وكلاهما منتفيان عنه، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الالام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك.
ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات، لأن النبي إذا ادعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ولولا صدقه لما فعله، لان تصديق الكذاب لا يحسن، وقد أمن ذلك بكونه عالما غنيا.
فاذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات، لكونهم صادقين على الله وأنه لا يتعبد الخلق الا بما فيه مصلحتهم.
وإذا ثبتت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ولا فكر هو في فروع ذلك لم يلزمه أكثر من ذلك .
ومتى أورد عليه شبهة فان تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه، وان لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها.
وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين، فإنهم ليس يكادون يلتفتون الى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه بل ربما أعرضوا عنها واستغفروا عن سماعها وإيرادها وقالوا: لا تفسدوا علينا ما علمناه. وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم.
صفحہ 19
فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجمل.
ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا ما يلزم من هو فوق هؤلاء ممن ينظر ويبحث وتطرقه الشبهات وان لم يبالغ في استيفاء ذلك، ليكون قد ذكرنا أمر الفريقين وبينا أحوال الفئتين. والله تعالى الموفق للصواب.
فصل (في ذكر بيان ما يؤدى النظر فيه الى معرفة الله تعالى)
لا يمكن الوصول إلى معرفة الله تعالى الا بالنظر في حدوث ما لا يدخل تحت مقدور المخلوقين، وهو الأجسام والاعراض المخصوصة، كالألوان والطعوم والأراييح والقدرة والحياة والشهوة والنفار وما جرى مجرى ذلك.
فأما ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر (1) كالحركات والسكنات والاعتمادات والأصوات، فلا يمكن بالنظر فيها الوصول إلى معرفة الله تعالى.
والكلام في حدوث الأجسام أظهر، لأنها معلومة ضرورة لا يحتاج فيها في العلم بوجودها الى الدليل بل انما يحتاج الى الكلام في حدوثها، ثم بيان أن لها محدثا يخالفها فيكون ذلك علما بالله، ثم الكلام في صفته.
ولنا في الكلام في حدوث الأجسام طريقان:
أحدهما: أن ندل على أنها ليست قديمة،
فيعلم حينئذ أنها محدثة، لأنه لا واسطة بين القدم والحدوث.
والطريق الثاني: أن نبين أنها لم تسبق المعاني المحدثة،
فيعلم أن حكمها حكمها في الحدوث.
(وبيان الطريق الأول) هو أن الأجسام لو كانت قديمة لوجب أن تكون في
صفحہ 20
الأزل في جهة [من جهات] (1) العالم، لان ما هي عليه من الحجم والجثة يوجب ذلك.
ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة اما أن تكون للنفس أو لمعنى قديم أو لمعنى محدث أو بالفاعل. فاذا بين فساد جميع ذلك علم أنها لم تكن قديمة ولا يجوز أن تكون في الأزل في جهة الفاعل، لان من شأن الفاعل أن يتقدم على فعله، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة، لان القديم لا يمكن أن يتقدم عليه غيره، والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الأزل.
وكونها في الجهة للنفس يوجب استحالة انتقالها، لان صفات النفس لا يجوز تغيرها وزوالها، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها، فبطل أن يكون كذلك للنفس.
ولا يجوز أن تكون كذلك لمعنى قديم، لأنها لو كانت كذلك لوجب إذا انتقل الجسم أن يبطل ذلك المعنى، لان وجوده فيه على ما كان يوجب كونه في الجهتين، وذلك محال.
والانتقال لا يجوز على المعنى، لأنه من صفات الجسم.
فقد بطل جميع الأقسام، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت كونها محدثة، لأنه لا واسطة بين الأمرين على ما بيناه.
(وبيان الطريقة الثانية) أن نبين أربعة فصول: أحدها أن في الأجسام معان غيرها، والثاني أن نبين أن تلك المعاني محدثة، والثالث أن نبين أن الجسم لم يسبقها في الوجود، والرابع أن ما لم يسبق المحدث يجب أن يكون محدثا.
والذي يدل على الفصل الأول: انا نعلم أن الجسم يكون على صفات من
صفحہ 21
اجتماع وحركة فتتغير الى أن يصير مفترقا وساكنا، فلا بد من أمر غيره، لأنه لو لم يكن أمر لبقي على ما كان عليه.
ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر نفس الجسم، ولا ما يرجع اليه من وجود أو حدوث أو جسمية، لان جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى غيرها، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات.
ولا يجوز أن يكون ذلك لعدم معنى، لان عدم معنى لا اختصاص له بجسم دون جسم ولا بجهة دون غيرها، وكان يجب أن تتغير الأجسام كلها وتنتقل إلى جهة تغيرها، وذلك باطل.
ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل، لأنه: ان أريد بذلك أنه فعل فيه معنى أوجب تغيره وانتقاله، فذلك وفاق وهو المطلوب. وان أرادوا أن الفاعل جعله على هذه الصفات ولم يفعل معنى فذلك باطل، لان من شأن ما يتعلق بالفاعل من غير توسط معنى أن يكون القادر عليه قادرا على احداث تلك الذات.
ألا ترى أن من قدر على احداث كلامه قدر على أن يجعله على جميع أوصافه من أمر ونهي وخبر وغير ذلك، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على احداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا. والواحد منا يقدر على أن يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ولا يقدر على احداثه، فدل ذلك على أن هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل، فلم يبق بعد ذلك شيء يعقل الا أنه صار كذلك لمعنى.
والذي يدل على حدوث ذلك المعنى أن المجتمع إذا فرق أو المتحرك إذا سكن لا يخلو أن يكون ذلك المعنى الذي كان فيه باقيا كما كان أو انتقل عنه أو عدم. ولا يجوز أن يكون موجودا كما كان، لان ذلك يوجب كونه مجتمعا مفترقا متحركا ساكنا، لوجود المعنيين معا فيه في حالة واحدة، وذلك محال
صفحہ 22
ولا يجوز أن يكون انتقل عنه، لان الانتقال من صفات الجسم دون العرض، ولأنه لو انتقل لم يخلو اما أن يكون انتقل مع جواز ألا ينتقل أو وجب انتقاله.
ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج الى معنى كالجسم، وذلك يؤدي الى إثبات معان لا نهاية لها، ولو وجب انتقاله لأدى إلى وجوب انتقال الجسم، والمعلوم أن الجسم لا يجب انتقاله ان لم ينقله ناقل، فلم يبق من الأقسام الا أنه عدم.
ولو كان قديما لما جاز عدمه، لأنه قديم لنفسه، وصفات النفس لا يجوز خروج الموصوف عنها. ألا ترى أن السواد لا يجوز بياضا ولا الجوهر عرضا ولا الحركة اعتمادا وغير ذلك، لان هذه الأشياء على ما هي عليه لنفسها فلا يجوز عليها التغيير. فلما ثبت عدمها دل على أنها لم تكن قديمة، وإذا لم تكن قديمة وجب كونها محدثة.
والذي يدل على الفصل الثالث- وهو أن الجسم لم يخل منها- هو أنه معلوم ضرورة أن الأجسام للعالم لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو متحركة أو ساكنة، فثبت بذلك أنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.
ومن قال ان الأجسام كانت هيولى لا مجتمعة ولا مفترقة. ربما أشار بذلك إلى أنها كانت معدومة فسماها موجودة، كما يقولون موجود بالقوة وموجود في العلم، وذلك عندنا ليس بوجود في الحقيقة. ومتى أرادوا ذلك كان خلافا في العبارة لا يعتد به.
وأما الفصل الرابع فالعلم به ضرورة، لان من المعلوم ان كل ذاتين وجدا معا ولم تسبق إحداهما الأخرى، فإن حكمهما حكم واحد [في الوجود] (1) ألا ترى انا إذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن يكون أحدهما أسبق من الآخر لأن ذلك متناقض، وكذلك إذا فرضنا أن الجسم
صفحہ 23