[تقديم بقلم معالي الدكتور الوزير عبد الله بن عبد المحسن التركي]
اقتضاء الصراط المستقيم
لمخالفة أصحاب الجحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم بقلم معالي الدكتور
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي، الذي أرسله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وعلى آله وصحابته، ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن من أعظم مقاصد الدين وأصوله، تمييز الحق وأهله عن الباطل وأهله، وبيان سبيل الهدى والسنة، والدعوة إليه، وكشف سبل الضلالة والبدعة، والتحذير منها.
وقد اشتملت نصوص القرآن والسنة، على كثير من القواعد والأحكام التي تبين هذا الأصل العظيم والمقصد الجليل.
ومن ذلك، أن قواعد الشرع ونصوصه اقتضت وجوب مخالفة المسلمين للكافرين، في عقائدهم وعباداتهم وأعيادهم وشرائعهم، وأخلاقهم الفاسدة، وكل ما هو من خصائصهم وسماتهم التي جانبوا فيها الحق والفضيلة.
وقد عني سلفنا الصالح- ﵏ ببيان هذا الأمر، وكان من أبرز من صنف فيه، شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨هـ ﵀.
1 / 1
وذلك في كثير من مصنفاته، لاسيما كتابه الشهير: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم".
وقد عالج هذا الكتاب مسائل كثيرة تهم المسلمين اليوم، كما كان الحال في زمانه. ومن جملة هذه المسائل، بيان أن الأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع، توافرت على الأمر بمخالفة غير المسلمين، والنهي عن موافقتهم، وأن في مخالفتهم مصالح ظاهرة، كما أن في موافقتهم مفاسد ظاهرة كذلك، وأن النصوص وآثار السلف بينت أصناف الذين أمرنا بمخالفتهم، ونهينا عن التشبه بهم، كأهل الكتاب والمشركين والمنافقين وأهل الجاهلية، والأعراب الجفاة الذين لم يتفقهوا في الدين، والأعاجم من الفرس والروم، الذين لم يدخلوا الإسلام، ولم يلتزموا شرائعه، وأهل الفسق والفجور والفساد ونحوهم؛ لأن هؤلاء كلهم في سبيل الضلالة والغواية.
وقد فصل شيخ الإسلام- ﵀ في هذا الكتاب القيم جملة من الأمور التي جاء النهي الشديد عن التشبه بغير المسلمين فيها، وعن متابعتهم في شيء منها، وبخاصة مسألة الأعياد حيث بيّن أن الإسلام شرع للمسلمين عيدين في السنة، هما عيد الفطر وعيد الأضحى فحسب، ونهى أشد النهي عن متابعة الكافرين وأهل البدع في أعيادهم.
وعرض كذلك مسائل أخرى جاءت النصوص الشرعية وآثار السلف الصالح بالنهي عن متابعة غير المسلمين فيها، كالبناء على القبور واتخاذها مساجد، وكالغلو في الصالحين، واتخاذ المشاهد والمزارات، وسائر البدع والمحدثات في الدين، وكالافتتان بالنساء، والتفرق في
1 / 2
الدين، والعصبيات والتحزبات والشعارات، والطرق والمناهج المحدثة في الدين، المستمدة من أعداء الإسلام والمسلمين، وغير ذلك من المسائل المهمة التي عرضها المؤلف، والتي تعالج الكثير من الأمراض التي ابتليت بها بعض المجتمعات الإسلامية المعاصرة، ويعد منهج شيخ الإسلام في عرض هذه المسائل أنموذجًا لمنهج السلف في العرض والاستدلال والمناقشة والرد.
وبالجملة: فإن هذا الكتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" يعد بحق من أجود الكتب التي صنفها السلف في هذا الباب.
لذا فقد حرصت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد على طبعه ونشره وتوزيعه، مشاركة منها في معالجة مشكلات المسلمين اليوم، وانطلاقًا من رسالتها التي أوجبها الله عليها، ثم ناطتها بها حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود التي ما فتئت- بحمد الله- تحرص على نشر العلم والدعوة إلى السنة، والإسهام في معالجة أحوال الأمة الإسلامية، وحل مشكلاتها في ضوء العقيدة السليمة، ونهج السلف القويم، وتخليصها من البدع والمحدثات، وجمع كلمتها على الحق والهدى.
نسأل الله أن يحفظ خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده، وسمو النائب الثاني، ويجزيهم خيرًا على جهودهم في سبيل جمع المسلمين على الحق، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي كلمته، ويعز بهم السنة وأهلها، ويقمع البدعة وأنصارها.
وإني لأشكر للأخ الفاضل الأستاذ الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل، محقق هذا الكتاب، جهده الذي بذله في خدمته، وحرصه على
1 / 3
أن ينتفع الناس به، وإذنه للوزارة في نشره وتوزيعه، سائلًا الله تعالى أن يوفقه إلى مزيد من العلم النافع والعمل الصالح، وأن يثيبه ويجازيه أحسن الجزاء.
كما أسأله سبحانه أن يوفق طلاب العلم، والحريصين على معرفة الحق بدليله من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، وبخاصة من يتصدى لدعوة الناس إلى دين الله المستقيم، للاستفادة من هذا الكتاب القيم، وغيره من مؤلفات العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
د. عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
1 / 4
[مقدمة]
مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، القائل في كتابه الكريم: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٣] (١) . والقائل: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦١ - ١٦٣] (٢) .
ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة ونصح الأمة، وحذرها من التشبه بالكفار، فقال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» (٣) وبشَّر ببقاء هذا الدين وبقاء أهل السنة على الحق، فقال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» (٤) . صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، ومن اهتدى بهديه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
_________
(١) سورة الأنعام: الآية ١٥٣.
(٢) سورة الأنعام: الآيات ١٦١ - ١٦٣.
(٣) جاء ذلك في حديث متفق عليه، سيأتي تخريجه في تحقيق الكتاب. انظر: فهرس الأحاديث، حرف اللام.
(٤) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، انظر: صحيح مسلم، كتاب الإمارة - باب قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . " الحديث رقم (١٠٣٧) (٣ / ١٥٢٤) . وانظر: فتح الباري (٦ / ٦٣٢)، كتاب المناقب، باب (٢٨)، الحديث رقم (٣٦٤٠) و(٣٦٤١) .
1 / 5
وبعد:
فإنه من أوجب الواجبات على العلماء وطلاب العلم، العناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، دراسة، وحفظًا، واستنباطًا، وتحليلًا، وتعليمًا، وتطبيقًا، جمعًا بين العلم والعمل؛ لأنهم مؤتمنون على ذلك كله، وقد وضعت فيهم الأمة ثقتها وائتمنتهم على دينها، وقبل ذلك كله وبعده، هم مسؤولون أمام الله تعالى عن هذه الأمانة: أمانة العلم والعمل به، وتبليغه، وحفظه، والدعوة إليه، حتى تتم بهم القدوة والأسوة إلى الخير.
وإن مما ائتمنوا عليه هذا التراث العلمي الثمين، الذي تركه أئمة الإسلام، أسلافنا الأماجد في شتى صنوف العلم، وإن الكثير من هذا التراث لا يزال مخطوطًا، ومكنوزًا في زوايا المكتبات في شتى بقاع العالم، رغم شدة حاجة المسلمين إليه، وإني لأرى أنه من أول واجبات طالب العلم في هذا العصر العناية بهذه الكنوز، وخدمتها، بإخراجها للناس، محققة صافية يانعة، لتكون نبراسًا لكل مسلم في خضم الثقافات الغازية والأفكار الهدامة التي روجها أعداء الإسلام بين المسلمين اليوم.
وإن من أجدر تلك المخطوطات بالعناية، وأجودها وأنفعهما للمسلمين اليوم: كتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ﵀، وإن كانت بحمد الله لقي الكثير منها شيئًا من العناية من المحققين وطلاب العلم، لكن بقي الأكثر يحتاج إلى عناية وإخراج وإعداد وتحقيق ودراسة.
وانطلاقًا من هذا الواجب، وقع اختياري على كتاب من كتب الشيخ وهو:
1 / 6
"اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" للعناية به تحقيقًا وتعليقًا، وإخراجه للناس موثقًا قدر الاستطاعة، وذلك في أطروحة الدكتوراه (١) .
هذا مع العلم أن هذا الكتاب سبق أن طُبع عدة طبعات، من أمثلها تلكم التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي ﵀، الذي كان له الجهد المشكور في خدمة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب الإمام أحمد بن حنبل، وسواهما من السلف.
لكن الكتاب لا يزال بحاجة إلى مزيد من الخدمة: من تحقيق، ودراسة، وتخريج لأحاديثه، وآثاره التي لم تخرَّج، وإلى توثيق لنصوصه، وترجمة لأعلامه.
وهذا لا يعني أن أدَّعي بأني سأقوم بأفضل من عمل الشيخ حامد الفقي ﵀، لكني سأشاركه بجهد المقل، وأعتذر سلفًا عن التقصير، وأسال الله العفو والمغفرة.
والله هو وحده المعين والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
_________
(١) تقدمت بتحقيق هذا الكتاب إلى قسم العقيدة والمذاهب المعاصرة في كلية أصول الدين بالرياض (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) لنيل درجة الدكتوراه؛ بإشراف الدكتور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، مدير المعهد العالي للقضاء. وقد أجيزت قبل لجنة المناقشة والحكم المكونة من المشرف؛ والشيخ زيد بن عبد العزيز الفياض الأستاذ بقسم العقيدة والمذاهب المعاصرة بكلية أصول الدين بالرياض؛ والدكتور جعفر شيخ إدريس، الأستاذ المشارك بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالرياض. وقد عملت بالتوجيهات والملاحظات التي أبدتها اللجنة قبل طبع الكتاب. (المحقق) .
1 / 7
[القسم الأول: الدراسة]
القسم الأول ويشمل:
* ترجمة موجزة للمؤلف.
* وصف النسخ المخطوطة.
* الكتاب المحقَّق: اسمه وتاريخ تأليفه.
* منهج تحقيق الكتاب والتعليق عليه.
* دراسة تحليلية لبعض موضوعات الكتاب.
1 / 9
[ترجمة موجزة للمؤلف]
ترجمة موجزة للمؤلف ١ - نسبه: هو شيخ الإسلام الإمام: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية، الحراني، ثم الدمشقي. كنيته: أبو العباس.
٢ - مولده ونشأته: وُلد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة (٦٦١هـ)، ولما بلغ من العمر سبع سنين انتقل مع والده إلى دمشق هربًا من وجه الغزاة التتار، وقد نشأ في بيت علم وفقه ودين، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، منهم جده الأعلى (الرابع) محمد بن الخضر، ومنهم عبد الحليم بن محمد بن تيمية، وعبد الغني بن محمد بن تيمية، وجده الأدنى عبد السلام بن عبد الله بن تيمية مجد الدين أبو البركات صاحب التصانيف التي منها: المنتقى من أحاديث الأحكام، والمحرر في الفقه، والمسودة في الأصول وغيرها، وكذلك أبوه عبد الحليم بن عبد السلام الحراني، وأخوه عبد الرحمن وغيرهم.
ففي هذه البيئة العلمية الصالحة كانت نشأة صاحب الترجمة، وقد بدأ بطلب العلم أولًا على أبيه وعلماء دمشق، فحفظ القرآن وهو صغير، ودرس
1 / 11
الحديث والفقه والأصول والتفسير، وعُرف بالذكاء وقوة الحفظ والنجابة منذ صغره، ثم توسع في دراسة العلوم وتبحر فيها، واجتمعت فيه صفات المجتهد منذ شبابه، فلم يلبث أن صار إمامًا يعترف له الجهابذة بالعلم والفضل والإمامة، قبل بلوغ الثلاثين من عمره.
٣ - إنتاجه العلمي: وفي مجال التأليف والإنتاج العلمي، فقد ترك الشيخ للأمة تراثًا ضخمًا ثمينًا، لا يزال العلماء والباحثون ينهلون منه معينًا صافيًا، توفرت منه الآن المجلدات الكثيرة، من المؤلفات والرسائل والفتاوى والمسائل وغيرها، هذا من المطبوع، وما بقي مجهولًا أو مكنوزًا في عالم المخطوطات كثير.
ولم يترك الشيخ مجالًا من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة، وتخدم الإسلام، إلا كتب فيه وأسهم بجدارة وإتقان، وتلك خصلة قلما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ.
فلقد شهد له أقرانه وأساتذته وتلاميذه وخصومه بسعة الاطلاع، وغزارة العلم، فإذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع أنه لا يتقن غيره، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه، وإن المطلع على مؤلفاته وإنتاجه، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان، والذب عن الدين، والعبادة والذكر، ليعجب كل العجب من بركة وقته، وقوة تحمله وجلده، فسبحان من منحه تلك المواهب.
٤ - جهاده ودفاعه عن الإسلام: الكثير من الناس يجهل الجوانب العملية من حياة الشيخ، فإنهم عرفوه عالمًا ومؤلفًا ومفتيًا، من خلال مؤلفاته المنتشرة، مع أن له مواقف مشهودة في مجالات أخرى عديدة أسهم فيها إسهامًا قويًّا في نصرة الإسلام وعزة
1 / 12
المسلمين، فمن ذلك: جهاده بالسيف وتحريضه المسلمين على القتال، بالقول والعمل، فقد كان يجول بسيفه في ساحات الوغى مع أعظم الفرسان الشجعان، والذين شاهدوه في القتال أثناء فتح عكا عجبوا من شجاعته وفتكه بالعدو (١) .
أما جهاده بالقلم واللسان، فإنه ﵀ وقف أمام أعداء الإسلام من أصحاب الملل والنحل والفرق والمذاهب الباطلة والبدع كالطود الشامخ، بالمناظرات حينًا وبالردود أحيانًا، حتى فند شبهاتهم ورد الكثير من كيدهم بحمد الله، فقد تصدى للفلاسفة، والباطنية، من صوفية وإسماعيلية ونصيرية وسواهم، كما تصدى للروافض والملاحدة، وفند شبهات أهل البدع التي تقام حول المشاهد والقبور ونحوها، كما تصدى للجهمية والمعتزلة وناقش المتكلمين والأشاعرة.
والمطلع على هذا الجانب من حياة الشيخ يكاد يجزم بأنه لم يبق له من وقته فضلة، فقد حورب وطورد وأُوذي وسُجن مرات في سبيل الله، وقد وافته منيته مسجونًا في سجن القلعة بدمشق.
ولا تزال بحمد الله ردود الشيخ سلاحًا فعَّالًا ضد أعداء الحق والمبطلين، لأنها إنما تستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهدي السلف الصالح، مع قوة الاستنباط، وقوة الاستدلال والاحتجاج الشرعي والعقلي، وسعة العلم، التي وهبها الله له.
وأكثر المذاهب الهدامة التي راجت اليوم بين المسلمين هي امتداد لتلك الفرق والمذاهب التي تصدى لها الشيخ وأمثاله من سلفنا الصالح، لذلك ينبغي للدعاة المصلحين أن لا يغفلوا هذه الناحية، ليستفيدوا مما سبقهم به سلفنا الصالح.
_________
(١) انظر: الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للبزار ص (٦٧، ٦٨)، تحقيق زهير الشاويش.
1 / 13
ولست مبالغًا حينما أقول: إنه لا تزال كتب الشيخ وردوده هي أقوى سلاح للتصدي لهذه الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي راجت وبدأت تخرج أعناقها اليوم من جديد، والتي هي امتداد للماضي، لكن منها تلك التي تزينت بأزياء العصر، وغيرّت أسماءها فقط، مثل البعثية، والاشتراكية، والقومية، والقاديانية، والبهائية، وسواها من الفرق والمذاهب، ومنها ما بقي على شعاره القديم كالشيعة، والرافضة، والنصيرية، والإسماعيلية، والخوارج ونحو ذلك.
٥ - خصاله: بالإضافة إلى ما اشتهر به هذا الإمام من العلم والفقه في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد وهبه الله خصالًا حميدة، اشتهر بها وشهد له بها الناس، فكان سخيًّا كريمًا يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهما، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن، وكان ورعًا زاهدًا لا يكاد يملك شيئًا من متاع الدنيا سوى الضروريات، وهذا مشهور عنه عند أهل زمانه حتى بين عامة الناس، وكان متواضعًا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين، فما كان يلبس الفاخر ولا الرديء من اللباس، ولا يتكلف لأحد يلقاه، واشتهر أيضًا بالمهابة والقوة في الحق، فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس، فكل من رآه أحبه وهابه واحترمه، إلا من سيطر عليهم الحسد من أصحاب الأهواء ونحوهم.
كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله، وكان ذا فراسة، وكان مستجاب الدعوة، وله كرامات مشهودة. ﵀ رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
1 / 14
٦ - عصره: لقد عاش المؤلف ﵀ في عصر كثرت فيه البدع والضلالات، وسادت كثير من المذاهب الباطلة، واستفحلت الشبهات، وانتشر الجهل والتعصب والتقليد الأعمى، وغزيت بلاد المسلمين من قبل التتار والصليبيين (الإفرنج) .
ونجد صورة عصره جلية واضحة من خلال مؤلفاته التي بين أيدينا؛ لأنه اهتم بأجلِّ أمور المسلمين وأخطرها، وساهم في علاجها بقلمه ولسانه ويده، فالمتأمل في مؤلفات الشيخ يجد الصورة التالية لعصره:
- كثرة البدع والشركيات خاصة حول القبور والمشاهد والمزارات المزعومة، والاعتقادات الباطلة في الأحياء والموتى، وأنهم ينفعون ويضرون، ويُدعون من دون الله.
- انتشار الفلسفات والإلحاد والجدل.
- هيمنة التصوف والطرق الصوفية الضالة على العامة من الناس، ومن ثم انتشار المذاهب والآراء الباطنية.
- توغل الروافض في أمور المسلمين، ونشرهم للبدع والشركيات، وتثبيطهم للناس عن الجهاد، ومساعدتهم للتتار، أعداء المسلمين.
- وأخيرًا نلاحظ تَقَوِّي أهل السنة والجماعة بالشيخ وحفزه لعزائمهم، مما كان له الأثر الحميد على المسلمين إلى اليوم، في التصدي للبدع والمنكرات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم.
وقد وقف الشيخ ﵀ في عصره إزاء هذه الانحرافات موقفًا مشهودًا، آمرًا وناهيًا، وناصحًا، ومبينًا، حتى أصلح الله على يديه الكثير من أوضاع المسلمين، ونصر به السنة وأهلها، والحمد لله.
1 / 15
٧ - وفاته: إن من علامات الخير للرجل الصالح، وقبوله لدى المسلمين: إحساسهم بفقده حين يموت، لذلك كان السلف يعدون كثرة المصلين على جنازة الرجل من علامات الخير والقبول له، لذلك قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز" (١) أي أن أئمة السنة يفقدهم الناس إذا ماتوا ويكونون أكثر مشيعين يوم يموتون، ولقد شهد الواقع بذلك، فما سمع الناس بمثل جنازتي الإمامين: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية، حين ماتا، من كثرة من شيعهما وخرج مع جنازة كل منهما، وصلى عليهما، فالمسلمون هم شهداء الله في أرضه.
هذا وقد توفي الشيخ ﵀، وهو مسجون بسجن القلعة بدمشق، ليلة الاثنين ٢٠ من شهر ذي القعدة سنة (٧٢٨هـ)، فهبَّ كل أهل دمشق ومن حولها للصلاة عليه وتشييع جنازته، وقد أجمعت المصادر التي ذكرت وفاته أنه حضر جنازته جمهور كبير جدًّا يفوق الوصف.
﵀ وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء (٢) .
_________
(١) انظر: مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي ص (٥٠٥) . تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي.
(٢) مصادر الترجمة:
١- الأَعلام، لخير الدين الزركلي (١ / ١٤٤) .
٢- الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للحافظ عمر البزار، تحقيق زهير الشاويش.
٣- البداية والنهاية، لابن كثير (٤ / ١٣٥ - ١٣٩) .
٤- شذرات الذهب، لابن العماد (٦ / ٨٠ - ٨٦) .
٥- فوات الوفيات، لمحمد بن شاكر الكتبي (١ / ٧٤ - ٨٠) .
٦- كتاب الذيل على طبقات الحنابلة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد البغدادي (ص (٣٨٧ - ٤٠٨) .
٧- مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لابن الجوزي، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي.
1 / 16
[وصف النسخ المخطوطة للكتاب]
وصف النسخ المخطوطة للكتاب تم تحقيق هذا الكتاب من خمس نسخ مخطوطة، منها نسختان قديمتان إحداهما كتبت سنة (٧١٥هـ) أي قبل وفاة المؤلف بثلاث عشرة سنة، والثانية سنة (٧٨١هـ) أي بعد وفاة المؤلف، أما الثلاث النسخ الباقية فهي متأخرة على ما سأبينه إن شاء الله. وقد رمزتُ لكل نسخة برمز، وسميتها برموزها في الهامش وهي: (أ) و(ب) و(ج) و(د) و(ط)، وأردفتها بالمطبوعة التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي ﵀، وقد لاحظت كثرة الفروق بينها وبين المخطوطات المتوفرة لدي، مما جعلني أرجح بأنها نسخت عن مخطوطة لم ترد إليَّ. وعلى هذا جعلتها بمثابة النسخة السادسة.
١ - النسخة الأولى، ورمزها (أ): وجدتها ضمن مخطوطات مكتبة (شستربتي) التي ابتاعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وتوجد الآن بمكتبتها المركزية بالرياض، برقم (٤١٦٠) (١) وهي نسخة قديمة يرجع تاريخها إلى ما قبل وفاة المؤلف بثلاثة عشر عامًا فقد كتبت سنة (٧١٥هـ)، كما هو منصوص في آخرها، وناسخها هو: هلال بن علي بن هلال بن زامل الجعفري، وهي نسخة مقابلة بالأصل كما أشار ناسخها في آخرها.
_________
(١) أعلمت أن المكتبة وضعت لها فهارس جديدة بعد أن استقيت منها هذا الرقم فليلاحظ.
1 / 25
وعدد أوراقها (٢٤٦) ورقة (٤٩٢) صفحة، في كل صفحة (١٩) سطرًا من القطع المتوسط.
وخطها متوسط، وتكثر فيها الأغلاط الإملائية، ويوجد فيها سقط أحيانًا، وطمس لكنه قليل.
٢ - النسخة الثانية، ورمزها (ط): صورتها عن نسخة موجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت رقم (٢٩٨٢) عام، ورقم (٨٦) في التوحيد وعلم الكلام. وقد كتبت أيضًا قديمًا (٧٨١هـ) أي بعد وفاة المؤلف بثلاث وخمسين سنة فقط، وناسخها محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمد اليونيني الحنبلي. وعدد أوراقها (٢٠٨) ورقة، أي (٤١٦) صفحة، في كل صفحة (١٩) سطرًا من القطع المتوسط، وهي نسخة أيضًا مقابلة، وفيها شبه كبير بالنسخة الأولى (أ) مما يرجح أنهما قوبلتا على نسخة واحدة، فهما كثيرًا ما تتفقان في الأخطاء والسقط، إلَّا أن الثانية (ط) أجود من الأولى (أ) في الخط والإملاء، أما ما عدا ذلك فهما تتفقان في الغالب.
٣ - النسخة الثالثة، ورمزها (ب): وقد صورتها من قسم المخطوطات بجامعة الملك سعود بالرياض برقم (٢٧)، وقد صورتها جامعة الملك سعود عن نسخة موجودة بالمكتبة السعودية التابعة لرئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، تحت رقم (٥٦٤ / ٨٦) .
وقد كتبت سنة (١٢٢٣)، وناسخها اسمه مصطفى المدعو بالشوراني، وهي نسخة واضحة وجيدة الحفظ، وفيها بعض التعليقات الهامشية، وحرفها صغير، وعدد أوراقها (٢١٦) ورقة (٤٣٢) صفحة من القطع المتوسط في كل صفحة (١٥) سطرًا.
1 / 26
وهي أجود النسخ إتقانًا، وأقلها أخطاء، ويندر فيه السقط، وقد قوبلت بأصول كما هو منصوص في آخرها وفي أثنائها.
٤ - النسخة الرابعة، ورمزها (ج): وقد وصلتني من دار الكتب بالقاهرة مصورة بالميكروفلم، وهي بدار الكتب المصرية تحت رقم (٤١٥٥) تصوف.
وهي مجهولة التاريخ، ولم يكتب عليها اسم الناسخ، ولكن يظهر لي من شكلها أنها متأخرة النسخ. عدد أوراقها (٢٧٠) ورقة (٥٤٠) صفحة من القطع المتوسط، كل صفحة تتكون من (٢٣) سطرًا، وحرفها كبير، وخطها جميل وواضح، وهي قليلة الأخطاء والسقط، كما أنها نسخة مقابلة أيضًا.
٥ - النسخة الخامسة، ورمزها (د): وقد وصلتني أيضًا مصورة بالميكروفلم من دار الكتب المصرية بالقاهرة تحت الرقم (٢٥٤٠) تصوف وأخلاق.
وهي مجهولة الناسخ وتاريخ النسخ، لكن يظهر لي أنها حديثة النسخ كسابقتها، وعدد أوراقها (٢٤٠) ورقم (٤٨٠) صفحة من القطع المتوسط في كل صفحة (٢٣) سطرًا، وحرفها متوسط وخطها جميل وواضح جدًّا، وقليلة الأخطاء والسقط وهي مقابلة أيضًا، وكثيرًا ما تتفق مع النسخة (ج)، بل يقل الاختلاف بينهما مما جعلني أرجح أنهما كُتبتا عن أصل واحد.
* كما توجد لدي نسختان أخريان كنت أستأنس بهما عند اختلاف النسخ، لكني لم أعتمدهما؛ لأن الأولى- وهي نسخة وصلتني من مكتبة برلين بألمانيا- كانت ناقصة ولا يوجد منها إلا أقل من النصف الأخير منها، ونصفها الأول وجزء من آخرها مفقود، ويظهر أنها كتبت في حدود سنة (٨٠٠هـ)، وهي في مكتبة برلين تحت رقم (٢٠٨٦) .
1 / 27
والثانية يكثر فيها التحريف والتصحيف، وهي مصورة بقسم المخطوطات بجامعة الملك سعود، تحت رقم (١٢٠٣) وترجَّح لدي أنها مصورة عن مخطوطة توجد بمكتبات الأوقاف ببغداد، وهي متأخرة النسخ فقد كتبت سنة (١٣٠٤هـ) .
* أما المطبوعة- فهي تلك التي أخرجها الشيخ محمد حامد الفقي - طبعت بمطبعة السنة المحمدية- وهي الطبعة الثانية سنة (١٣٦٩هـ) علمًا بأن الكتاب طبع مرات، لكن هذه الطبعة من أجودها وأكثرها تداولًا في الأسواق وبين الناس، ولم تخرّج أحاديثها وآثارها، ولم يترجم أعلامها، إنما كتب عليها بعض التعليقات، كما أن الشيخ محمد حامد ﵀ لم يشر إلى النسخة المخطوطة التي استنسخ عنها الكتاب.
وقد قابلتها مع النسخ المخطوطة، تتميمًا للفائدة، وخدمة للقارئ والكتاب؛ لأنها نسخة متداولة ومشهورة وستبقى كذلك، لذلك رأيت أنه لزامًا عليَّ أن أنبه على فروقها في ضوء المخطوطات.
1 / 28
[الكتاب المحقق اسمه وتاريخ تأليفه]
الكتاب المحقق
اسمه وتاريخ تأليفه ١ - اسمه وعنوانه: اختلفت النسخ في اسم الكتاب اختلافًا طفيفًا:
ففي النسخ: (ب ج د): (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) .
وفي (أ): لم أستطع أن أتبين العنوان كله؛ لأن آخره مطموس، فالواضح منه (كتاب اقتضاء) فقط.
وفي (ط): (اقتضاء الصراط المستقيم في الرد على أصحاب الجحيم) .
وفي نسخة برلين: (اقتضاء الصراط المستقيم ومجانبة أصحاب الجحيم) .
وفي نسخة جامعة الملك سعود رقم (١٢٠٣): (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أهل الجحيم) .
وفي المطبوعة: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) .
كما أن المؤلف ﵀ قد أشار إلى الكتاب في كتبه الأخرى، ففي المجلد الثاني والعشرين (ص١٥٤) من مجموع الفتاوى أشار إلى الكتاب وسماه: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم)، ولذلك رجحت هذا العنوان للكتاب، ولأن أكثر النسخ المخطوطة اتفقت عليه.
1 / 29
كما أشار المؤلف إلى الكتاب مرة أخرى في مجموع الفتاوى (١٠ / ٣٧١) لكنه ذكر صدر العنوان (اقتضاء الصراط المستقيم) فقط، وهذا قد أجمعت عليه جميع النسخ.
٢ - تاريخ تأليفه: أما عن تاريخ تأليف الكتاب، فإن هناك ما يدل على أن الكتاب ألف قبل سنة (٧١٥هـ)، وهذا هو تاريخ نسخ المخطوطة (أ) التي أشرت إليها آنفًا.
ولم يتبين لي بالتحديد في أي سنة تم تأليف الكتاب، إنما في الكتاب وأثنائه ما يدل على أنه لم يكن من أقدم كتب الشيخ؛ لأن كثيرًا ما يحيل أثناء عرضه لموضوعات الكتاب على كتاباته وبحوثه السابقة، وذلك في مواضع كثيرة جدًّا خاصة في آخر الكتاب، مما يشير إلى أنه سبقته للمؤلف بحوث ومؤلفات كثيرة، والله أعلم.
1 / 30