بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي نشر للْعُلَمَاء أعلاما وَثَبت لَهُم على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أقداما وَجعل مقَام الْعلم أَعلَى مقَام وَفضل الْعلمَاء بِإِقَامَة الْحجَج الدِّينِيَّة وَمَعْرِفَة الْأَحْكَام وأودع العارفين لطائف سره فهم أهل المحاضرة والإلهام ووفق العاملين لخدمته فهجروا لذيذ الْمَنَام وأذاق المحبين لَذَّة قربه وأنسه فشغلهم عَن جَمِيع الْأَنَام أَحْمَده ﷾ على جزيل الإنعام وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْملك العلام وَأشْهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا مُحَمَّدًا ﷺ عَبده وَرَسُوله وَصفيه وخليله إِمَام كل إِمَام وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وَذريته الطيبين الطاهرين صَلَاة وَسلَامًا دائمين متلازمين إِلَى يَوْم الدّين وَبعد فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه الْقَرِيب
1 / 3
الْمُجيب مُحَمَّد الشربيني الْخَطِيب إِن مُخْتَصر الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الحبر الْبَحْر الفهامة شهَاب الدُّنْيَا وَالدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الشهير بِأبي شُجَاع الْمُسَمّى بغاية الِاخْتِصَار لما كَانَ من أبدع مُخْتَصر فِي الْفِقْه صنف وَأجْمع مَوْضُوع لَهُ فِيهِ على مِقْدَار حجمه ألف التمس مني بعض الأعزة عَليّ المترددين إِلَيّ أَن أَضَع عَلَيْهِ شرحا يُوضح مَا أشكل مِنْهُ وَيفتح مَا أغلق مِنْهُ ضاما إِلَى ذَلِك من الْفَوَائِد المستجدات وَالْقَوَاعِد المحررات الَّتِي وَضَعتهَا فِي شروحي على التَّنْبِيه والمنهاج والبهجة فاستخرت الله تَعَالَى مُدَّة من الزَّمَان بعد أَن صليت رَكْعَتَيْنِ فِي مقَام إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه وَجعل الْجنَّة منقلبه ومثواه فَلَمَّا انْشَرَحَ لذَلِك صَدْرِي شرعت فِي شرح تقربه أغين أولي الرغبات راجيا بذلك جزيل الْأجر وَالثَّوَاب أجافي فِيهِ الإيجاز المخل والإطناب الممل حرصا على التَّقْرِيب لفهم قاصده والحصول على فَوَائده ليكتفي بِهِ الْمُبْتَدِي عَن المطالعة فِي غَيره والمتوسط عَن الْمُرَاجَعَة لغيره فَإِنِّي مُؤَمل من الله تَعَالَى أَن يَجْعَل هَذَا الْكتاب عُمْدَة ومرجعا ببركة الأكرم الْوَهَّاب فَمَا كل من صنف أَجَاد وَلَا كل من قَالَ وفى بالمراد وَالْفضل مواهب وَالنَّاس فِي الْفُنُون مَرَاتِب وَالنَّاس يتفاوتون فِي الْفَضَائِل وَقد تظفر الْأَوَاخِر بِمَا تركته الْأَوَائِل وَكم ترك الأول للْآخر وَكم لله على خلقه من فضل وجود وكل ذِي نعْمَة مَحْسُود والحسود لَا
1 / 4
يسود وسميته بالإقناع فِي حل أَلْفَاظ أبي شُجَاع أعانني الله على إكماله وَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم بكرمه وأفضاله فَلَا ملْجأ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا إعتماد إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وأسأله السّتْر الْجَمِيل قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَي أبتديء وأفتتح أَو أؤلف وَهَذَا أولى إِذْ كل فَاعل يبْدَأ فِي فعله بِبسْم الله يضمر مَا جعل التَّسْمِيَة مبدأ لَهُ كَمَا أَن الْمُسَافِر إِذا حل أَو ارتحل فَقَالَ بِسم الله كَانَ الْمَعْنى باسم الله أحل أَو ارتحل وَالِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَهُوَ الْعُلُوّ فَهُوَ من الْأَسْمَاء المحذوفة الإعجاز كيد وَدم لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال بنيت أوائلها على السّكُون وَأدْخل عَلَيْهَا همزَة الْوَصْل لتعذر الِابْتِدَاء بالساكن وَقيل من الوسم وَهُوَ الْعَلامَة وَفِيه عشر لُغَات نظمها بَعضهم فِي بَيت فَقَالَ ... سم وسما وَاسم بِتَثْلِيث أول ... لَهُنَّ سَمَاء عَاشر تمت انجلى ...
وَالله علم على الذَّات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد لم يتسم بِهِ سواهُ تسمى بِهِ قبل أَن يُسمى وأنزله على آدم فِي جملَة الْأَسْمَاء قَالَ تَعَالَى ﴿هَل تعلم لَهُ سميا﴾ أَي هَل تعلم أحدا سمى الله غير الله وَأَصله إِلَه كإمام ثمَّ أدخلُوا عَلَيْهِ الْألف
1 / 5
وَاللَّام ثمَّ حذفت الْهمزَة الثَّانِيَة طلبا للخفة ونقلت حركتها إِلَى اللَّام فَصَارَ اللاه بلامين متحركين ثمَّ سكنت الأولى وأدغمت فِي الثَّانِيَة للتسهيل والإله فِي الأَصْل يَقع على كل معبود بِحَق أَو بَاطِل ثمَّ غلب على المعبود بِحَق كَمَا أَن النَّجْم اسْم لكل كَوْكَب ثمَّ غلب على الثريا وَهُوَ عَرَبِيّ عِنْد الْأَكْثَر وَعند الْمُحَقِّقين أَنه اسْم الله الْأَعْظَم وَقد ذكر فِي الْقُرْآن الْعَزِيز فِي أَلفَيْنِ وثلثمائة وَسِتِّينَ موضعا وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ تبعا لجَماعَة أَنه الْحَيّ القيوم قَالَ وَلذَلِك لم يذكر فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الْبَقَرَة وَآل عمرَان وطه والرحمن الرَّحِيم صفتان مشبهتان بنيتا للْمُبَالَغَة من مصدر رحم والرحمن أبلغ من الرَّحِيم لِأَن زِيَادَة الْبناء تدل على زِيَادَة الْمَعْنى كَمَا فِي قطع بِالتَّخْفِيفِ وَقطع بِالتَّشْدِيدِ وَقدم الله عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ اسْم ذَات وهما اسْما صفة وَقدم الرَّحْمَن على الرَّحِيم لِأَنَّهُ خَاص إِذْ لَا يُقَال لغير الله بِخِلَاف الرَّحِيم وَالْخَاص مقدم على الْعَام
فَائِدَة قَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِيره قيل إِن الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء إِلَى الدُّنْيَا مائَة وَأَرْبَعَة صحف شِيث سِتُّونَ وصحف إِبْرَاهِيم ثَلَاثُونَ وصحف مُوسَى قبل التَّوْرَاة عشر والتوراة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَالْفرْقَان ومعاني كل الْكتب مَجْمُوعَة فِي الْقُرْآن ومعاني الْقُرْآن مَجْمُوعَة فِي الْفَاتِحَة ومعاني الْفَاتِحَة مَجْمُوعَة فِي الْبَسْمَلَة ومعاني الْبَسْمَلَة مَجْمُوعَة فِي بائها وَمَعْنَاهَا بِي كَانَ مَا
1 / 6
كَانَ وَبِي يكون مَا يكون زَاد بَعضهم ومعاني الْبَاء فِي نقطتها الْحَمد لله بَدَأَ بالبسملة ثمَّ بالحمدلة اقْتِدَاء بِالْكتاب الْعَزِيز وَعَملا بِخَبَر كل أَمر ذِي بَال أَي حَال يهتم بِهِ شرعا لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع أَي نَاقص غير تَامّ فَيكون قَلِيل الْبركَة وَفِي رِوَايَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد بِالْحَمْد لله وَجمع المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى كَغَيْرِهِ بَين الابتداءين عملا بالروايتين وَإِشَارَة إِلَى أَنه لَا تعَارض بَينهمَا إِذْ الِابْتِدَاء حَقِيقِيّ وإضافي فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة أَو أَن الِابْتِدَاء لَيْسَ حَقِيقِيًّا بل هُوَ أَمر عرفي يَمْتَد من الْأَخْذ فِي التَّأْلِيف إِلَى الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فالكتب المصنفة مبدؤها الْخطْبَة بِتَمَامِهَا وَالْحَمْد اللَّفْظِيّ لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ على جِهَة التبجيل أَي التَّعْظِيم سَوَاء تعلق بالفضائل وَهِي النعم القاصرة أم بالفواصل وَهِي النعم المتعدية فَدخل فِي الثَّنَاء الْحَمد وَغَيره وَخرج بِاللِّسَانِ الثَّنَاء بِغَيْرِهِ كالحمد النَّفْسِيّ وبالجميل الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على غير جميل إِن قُلْنَا بِرَأْي ابْن عبد السَّلَام إِن الثَّنَاء حَقِيقَة فِي الْخَيْر وَالشَّر وَإِن قُلْنَا بِرَأْي الْجُمْهُور وَهُوَ الظَّاهِر أَنه حَقِيقَة فِي الْخَيْر فَقَط ففائدة ذَلِك تَحْقِيق الْمَاهِيّة أَو دفع توهم إِرَادَة الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز عِنْد من يجوزه وبالاختياري الْمَدْح فَإِنَّهُ يعم الِاخْتِيَارِيّ وَغَيره تَقول مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها وبعلى جِهَة التبجيل مَا كَانَ على جِهَة الِاسْتِهْزَاء والسخرية نَحْو ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾ وَعرفا فعل ينبيء عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ إِنَّه منعم على الحامد أَو غَيره سَوَاء كَانَ ذكرا بِاللِّسَانِ أم اعتقادا
1 / 7
ومحبة بالجنان أَو عملا وخدمة بالأركان كَمَا قيل ... أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا ...
وَالشُّكْر لُغَة هُوَ الْحَمد عرفا وَعرفا صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من السّمع وَغَيره إِلَى مَا خلق لأَجله والمدح لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل مُطلقًا على جِهَة التَّعْظِيم وَعرفا مَا يدل على اخْتِصَاص الممدوح بِنَوْع من الْفَضَائِل وَجُمْلَة الْحَمد لله خبرية لفظا إنشائية معنى لحُصُول الْحَمد بالتكلم بهَا مَعَ الإذعان لمدلولها وَيجوز أَن تكون مَوْضُوعَة شرعا للإنشاء وَالْحَمْد مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى كَمَا أفادته الْجُمْلَة سَوَاء جعلت فِيهِ أل للاستغراق كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَهُوَ ظَاهر أم للْجِنْس كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ لِأَن لَام لله للاختصاص فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره تَعَالَى أم للْعهد العلمي كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِذْ هما فِي الْغَار﴾ كَمَا نَقله ابْن عبد السَّلَام وَأَجَازَهُ الواحدي على معنى أَن الْحَمد الَّذِي حمد الله بِهِ فِي نَفسه وحمده بِهِ أنبياؤه وأولياؤه مُخْتَصّ بِهِ وَالْعبْرَة بِحَمْد من ذكر فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره وَأولى الثَّلَاثَة الْجِنْس وَقَوله رب بِالْجَرِّ على الصّفة مَعْنَاهُ الْمَالِك لجَمِيع الْخلق من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالدَّوَاب وَغَيرهم إِذْ كل مِنْهَا يُطلق عَلَيْهِ عَالم يُقَال عَالم الْإِنْس وعالم الْجِنّ إِلَى غير ذَلِك وَسمي الْمَالِك بالرب لِأَنَّهُ يحفظ مَا يملكهُ ويربيه وَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا مُقَيّدا كَقَوْلِه تَعَالَى ﴿ارْجع إِلَى رَبك﴾ وَقَوله الْعَالمين اسْم جمع عَالم بِفَتْح اللَّام وَلَيْسَ جمعا لَهُ لِأَن الْعَالم عَام فِي الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَالْعَالمِينَ مُخْتَصّ بالعقلاء وَالْخَاص لَا يكون جمعا لما هُوَ أَعم مِنْهُ قَالَه ابْن مَالك وَتَبعهُ ابْن هِشَام فِي تَوْضِيحه وَذهب كثير إِلَى أَنه جمع عَالم على حَقِيقَة الْجمع ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَالم الَّذِي هُوَ جمع هَذَا الْجمع فَذهب أَبُو الْحسن إِلَى أَنه أَصْنَاف الْخلق الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْجَوْهَرِي وَذهب أَبُو عُبَيْدَة إِلَى أَنه أَصْنَاف الْعُقَلَاء فَقَط وهم الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة
1 / 8
ثمَّ قرن بالثناء على الله تَعَالَى وَالثنَاء على نبيه ﷺ بقوله وَصلي الله وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي لقَوْله تَعَالَى ﴿ورفعنا لَك ذكرك﴾ أَي لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي كَمَا فِي صَحِيح ابْن حبَان وَلقَوْل الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أحب أَن يقدم الْمَرْء بَين يَدي خطبَته أَي بِكَسْر الْخَاء وكل أَمر طلبه غَيرهَا حمدا لله وَالثنَاء عَلَيْهِ وَالصَّلَاة على النَّبِي ﷺ وإفراد الصَّلَاة عَن السَّلَام مَكْرُوه كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي أذكاره وَكَذَا عَكسه وَيحْتَمل أَن المُصَنّف أَتَى بهَا لفظا وأسقطها خطأ وَيخرج بذلك من الْكَرَاهَة وَالصَّلَاة من الله تَعَالَى رَحْمَة مقرونة بتعظيم وَمن الْمَلَائِكَة اسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّين أَي وَمن الْجِنّ تضرع وَدُعَاء قَالَه الْأَزْهَرِي وَغَيره وَاخْتلف فِي وَقت وجوب الصَّلَاة على النَّبِي ﷺ على أَقْوَال
أَحدهَا كل صَلَاة وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي فِي التَّشَهُّد الْأَخير مِنْهَا
وَالثَّانِي فِي الْعُمر مرّة
وَالثَّالِث كلما ذكر وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيّ من الشَّافِعِيَّة والطَّحَاوِي من الْحَنَفِيَّة وَاللَّخْمِيّ من الْمَالِكِيَّة وَابْن بطة من الْحَنَابِلَة
وَالرَّابِع فِي كل مجْلِس
وَالْخَامِس فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره لقَوْله ﷺ لَا تجعلوني كقدح الرَّاكِب بل اجعلوني فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن جَابر
وَمُحَمّد علم على نَبينَا ﷺ مَنْقُول من اسْم مفعول الْفِعْل المضعف سمي بِهِ بإلهام من الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يكثر حمد الْخلق لَهُ لِكَثْرَة خصاله الحميدة كَمَا رُوِيَ فِي السّير أَنه قيل لجده عبد الْمطلب وَقد سَمَّاهُ فِي سَابِع وِلَادَته لمَوْت أَبِيه قبلهَا لم سميت ابْنك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ من أَسمَاء آبَائِك وَلَا قَوْمك قَالَ رَجَوْت أَن يحمد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض وَقد حقق الله تَعَالَى رَجَاءَهُ كَمَا سبق
1 / 9
فِي علمه وَالنَّبِيّ إِنْسَان حر ذكر من بني آدم سليم عَن منفر طبعا وَمن دناءة أَب وخنا أم أُوحِي إِلَيْهِ بشرع يعمله بِهِ وَإِن لم يُؤمر بتبليغه وَالرَّسُول إِنْسَان أُوحِي إِلَيْهِ بشرع وَأمر بتبليغه فَكل رَسُول نَبِي وَلَا عكس وعَلى آله وهم على الْأَصَح مؤمنو بني هَاشم وَبني الْمطلب وَقيل كل مُؤمن تَقِيّ وَقيل أمته وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين وَالْمطلب مفتعل من الطّلب واسْمه شيبَة الْحَمد على الْأَصَح لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيبَة ظَاهِرَة فِي ذؤابتيه وهَاشِم لقب واسْمه عَمْرو وَقيل لَهُ هَاشم لِأَن قُريْشًا أَصَابَهُم قحط فَنحر بَعِيرًا وَجعله لِقَوْمِهِ مرقة وثريدا فَلذَلِك سمي هاشما لهشمه الْعظم وعَلى صَحبه وَهُوَ جمع صَاحب والصحابي من اجْتمع مُؤمنا بِالنَّبِيِّ ﷺ فِي حَيَاته وَلَو سَاعَة وَلَو لم يرو عَنهُ شَيْئا فَيدْخل فِي ذَلِك الْأَعْمَى كَابْن أم مَكْتُوم وَالصَّغِير وَلَو غير مُمَيّز كمن حنكه ﷺ أَو وضع يَده على رَأسه وَقَوله أَجْمَعِينَ تَأْكِيد
وَفِي بعض النّسخ أما بعد سَاقِطَة فِي أَكْثَرهَا أَي بعد مَا تقدم من الْحَمد وَغَيره وَهَذِه الْكَلِمَة يُؤْتى بهَا للانتقال من أسلوب إِلَى آخر وَلَا يجوز الْإِتْيَان بهَا فِي أول الْكَلَام وَيسْتَحب الْإِتْيَان بهَا فِي الْخطب والمكاتبات اقْتِدَاء برَسُول الله ﷺ وَقد عقد البُخَارِيّ لَهَا بَابا فِي كتاب الْجُمُعَة وَذكر فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة وَالْعَامِل فِيهَا أما عِنْد سِيبَوَيْهٍ لنيابتها عَن الْفِعْل أَو الْفِعْل نَفسه
1 / 10
عِنْد غَيره وَالْأَصْل مهما يكن من شَيْء بعد فقد سَأَلَني أَي طلب مني بعض الأصدقاء جمع صديق وَهُوَ الْخَلِيل وَقَوله حفظهم الله تَعَالَى جملَة دعائية أَن أعمل أَي أصنف مُخْتَصرا وَهُوَ مَا قل لَفظه وَكثر مَعْنَاهُ لَا مَبْسُوطا وَهُوَ مَا كثر لَفظه وَمَعْنَاهُ قَالَ الْخَلِيل الْكَلَام يبسط ليفهم ويختصر ليحفظ فِي علم الْفِقْه الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من بَين الْعُلُوم بِالذَّاتِ وباقيها لَهُ كالآلات لِأَن بِهِ يعرف الْحَلَال وَالْحرَام وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام وَقد تظاهرت الْآيَات وَالْأَخْبَار والْآثَار وتواترت وتطابقت الدَّلَائِل الصَّرِيحَة وتوافقت على فَضِيلَة الْعلم والحث على تَحْصِيله وَالِاجْتِهَاد فِي اقتباسه وتعليمه فَمن الْآيَات قَوْله تَعَالَى ﴿هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿وَقل رب زِدْنِي علما﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء﴾ والآيات فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة
وَمن الْأَخْبَار قَوْله ﷺ من يرد الله بِهِ خيرا يفقه فِي الدّين رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَقَوله ﷺ لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك من حمر النعم رَوَاهُ سهل عَن ابْن مَسْعُود وَقَوله ﷺ إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة مَشْهُورَة
وَمن الْآثَار عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كفى بِالْعلمِ شرفا أَن يَدعِيهِ من لَا يُحسنهُ ويفرح بِهِ إِذا نسب إِلَيْهِ وَكفى بِالْجَهْلِ ذما أَن يتبرأ مِنْهُ من هُوَ فِيهِ وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا الْعلم خير من المَال الْعلم يحرسك وَأَنت تحرس المَال وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة وَالْعلم يزكو بِالْإِنْفَاقِ وَعَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من لَا يحب الْعلم لَا خير فِيهِ فَلَا يكن بَيْنك وَبَينه معرفَة وَلَا صداقة فَإِنَّهُ حَيَاة الْقُلُوب ومصباح البصائر وَعَن الشَّافِعِي أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ طلب الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة وَعَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مجْلِس فقه خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة
1 / 11
ثمَّ اعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ فِي فضل الْعلم إِنَّمَا هُوَ فِيمَن طلبه مرِيدا بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَمن أَرَادَهُ لغَرَض دُنْيَوِيّ كَمَال أَو رياسة أَو منصب أَو جاه أَو شهرة أَو نَحْو ذَلِك فَهُوَ مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى ﴿من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب﴾ وَقَالَ ﷺ من تعلم علما ينْتَفع بِهِ فِي الْآخِرَة يُرِيد بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة أَي لم يجد رِيحهَا وَقَالَ ﷺ أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة أَي من الْمُسلمين عَالم لَا ينْتَفع بِعِلْمِهِ وَفِي ذمّ الْعَالم الَّذِي لم يعْمل بِعِلْمِهِ أَخْبَار كَثِيرَة وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة لمن وَفقه الله تَعَالَى
وَالْفِقْه لُغَة الْفَهم مُطلقًا كَمَا صَوبه الأسنوي وَاصْطِلَاحا كَمَا فِي قَوَاعِد الزَّرْكَشِيّ معرفَة أَحْكَام الْحَوَادِث نصا واستنباطا على مَذْهَب أَي مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي من الْأَحْكَام فِي الْمسَائِل مجَازًا عَن مَكَان الذّهاب وَذكر المُصَنّف هُنَا الشَّافِعِي
1 / 12
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فلنتعرض إِلَى طرف من أخباره تبركا بِهِ فَنَقُول هُوَ حبر الْأمة وسلطان الْأَئِمَّة مُحَمَّد أَبُو عبد الله بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن عبد الْمطلب بن عبد منَاف جد النَّبِي ﷺ لِأَنَّهُ ﷺ مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف وَهَذَا نسب عَظِيم كَمَا قيل
نسب كَأَن عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى
نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا ... مَا فِيهِ إِلَّا سيد من سيد
حَاز المكارم والتقى والجودا
وشافع بن السَّائِب هُوَ الَّذِي نسب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لَقِي النَّبِي ﷺ وَهُوَ مترعرع وَأسلم أَبوهُ السَّائِب يَوْم بدر فَإِنَّهُ كَانَ صَاحب راية بني هَاشم فَأسر فِي جملَة من أسر وفدى نَفسه ثمَّ أسلم وَعبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بِالْهَمْز وَتَركه ابْن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على هَذَا النّسَب إِلَى عدنان وَلَيْسَ فِيمَا بعده إِلَى آدم طَرِيق صَحِيح فِيمَا ينْقل
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِي ﷺ كَانَ إِذا انْتهى فِي النّسَب إِلَى عدنان أمسك ثمَّ يَقُول كذب النسابون أَي بعده
ولد الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على الْأَصَح بغزة الَّتِي توفّي فِيهَا هَاشم جد النَّبِي ﷺ وَقيل بعسقلان وَقيل بمنى سنة خمسين وَمِائَة ثمَّ حمل إِلَى مَكَّة وَهُوَ ابْن سنتَيْن وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين والموطأ وَهُوَ ابْن عشر وتفقه على مُسلم بن خَالِد مفتي مَكَّة الْمَعْرُوف بالزنجي لشدَّة شقرته من بَاب أَسمَاء الأضداد وَأذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة مَعَ أَنه نَشأ يَتِيما فِي حجر أمه فِي قلَّة من الْعَيْش وضيق خَال وَكَانَ فِي صباه يُجَالس الْعلمَاء وَيكْتب مَا يستفيده فِي الْعِظَام وَنَحْوهَا
1 / 13
حَتَّى مَلأ مِنْهَا خبايا ثمَّ رَحل إِلَى مَالك بِالْمَدِينَةِ ولازمه مُدَّة ثمَّ قدم بَغْدَاد سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا سنتَيْن وَاجْتمعَ عَلَيْهِ علماؤها وَرجع كثير مِنْهُم عَن مَذَاهِب كَانُوا عَلَيْهَا إِلَى مذْهبه وصنف بهَا كِتَابه الْقَدِيم ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ خرج إِلَى مصر وَلم يزل بهَا ناشرا للْعلم ملازما للاشتغال بجامعها الْعَتِيق إِلَى أَن أَصَابَته ضَرْبَة شَدِيدَة فَمَرض بِسَبَبِهَا أَيَّامًا على مَا قيل ثمَّ انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَهُوَ قطب الْوُجُود يَوْم الْجُمُعَة سلخ رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَدفن بالقرافة بعد الْعَصْر من يَوْمه وانتشر علمه فِي جَمِيع الْآفَاق وَتقدم على الْأَئِمَّة فِي الْخلاف والوفاق وَعَلِيهِ حمل الحَدِيث الْمَشْهُور عَالم قُرَيْش يمْلَأ طباق الأَرْض علما وَمن كَلَامه ﵁
أمت مطامعي فأرحت نَفسِي
فَإِن النَّفس مَا طمعت تهون ... وأحييت القنوع وَكَانَ مَيتا
فَفِي إحيائه عرضي مصون ... إِذا طمع يحل بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
وَله أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَا حك جِلْدك مثل ظفرك
فتول أَنْت جَمِيع أَمرك ... وَإِذا قصدت لحَاجَة
فاقصد لمعترف بقدرك
وَقد أفرد بعض أَصْحَابه فِي فَضله وَكَرمه وَنسبه وأشعاره كتبا مَشْهُورَة وَفِيمَا ذكرته تذكرة لأولى الْأَلْبَاب وَلَوْلَا خوف الْملَل لشحنت كتابي هَذَا مِنْهَا بِأَبْوَاب وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مَا فِيهِ الْكِفَايَة وَيكون ذَلِك الْمُخْتَصر فِي غَايَة الِاخْتِصَار أَي
1 / 14
بِالنِّسْبَةِ إِلَى أطول مِنْهُ وَغَايَة الشَّيْء مَعْنَاهَا ترَتّب الأثرعلى ذَلِك الشَّيْء كَمَا تَقول غَايَة البيع الصَّحِيح حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَغَايَة الصَّلَاة الصَّحِيحَة إجزاؤها وَفِي نِهَايَة الإيجاز بمثناة تحتية بعد الْهمزَة أَي الْقصر وَظَاهر كَلَامه تغاير لَفْظِي الِاخْتِصَار والإيجاز والغاية وَالنِّهَايَة وَهُوَ كَذَلِك فالاختصار حذف عرض الْكَلَام والإيجاز حذف طوله كَمَا قَالَه ابْن الملقن فِي إشاراته عَن بَعضهم وَقد علم مِمَّا تقرر الْفرق بَين الْغَايَة وَالنِّهَايَة يقرب أَي يسهل لوضوح عِبَارَته على المتعلم أَي المبتديء فِي التَّعَلُّم شَيْئا فَشَيْئًا درسه أَي بِسَبَب اختصاره وعذوبة أَلْفَاظه ويسهل أَي يَتَيَسَّر على المبتديء أَي فِي طلب الْفِقْه حفظه عَن ظهر قلب لما مر عَن الْخَلِيل أَن الْكَلَام يختصر ليحفظ
تَنْبِيه حرف المضارعة فِي الْفِعْلَيْنِ مَفْتُوح وسألني أَيْضا بعض الأصدقاء أَن أَكثر فِيهِ من التقسيمات لما يحْتَاج إِلَى تقسيمه من الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة الْآتِيَة كَمَا فِي الْمِيَاه وَغَيرهَا مِمَّا ستعرفه وَمن حصر أَي ضبط الْخِصَال الْوَاجِبَة والمندوبة فأجبته أَي السَّائِل إِلَى ذَلِك أَي إِلَى تصنيف مُخْتَصر بالكيفية الْمَطْلُوبَة وَقَوله طَالبا حَال من ضمير الْفَاعِل أَي مرِيدا للثَّواب أَي الْجَزَاء من الله ﷾ على تصنيف هَذَا الْمُخْتَصر لقَوْله ﷺ إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَقَوله رَاغِبًا حَال أَيْضا مِمَّا ذكر أَي ملتجئا إِلَى الله ﷾ فِي الْإِعَانَة من فَضله عَليّ بِحُصُول التَّوْفِيق الَّذِي هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة فِي العَبْد للصَّوَاب الَّذِي هُوَ ضد الْخَطَأ بِأَن يقدرني الله على إِتْمَامه كَمَا أقدرني على ابْتِدَائه فَإِنَّهُ كريم جواد لَا يرد من سَأَلَهُ وَاعْتمد عَلَيْهِ إِنَّه ﷾ على مَا يَشَاء أَي
1 / 15
يُريدهُ قدير أَي قَادر وَالْقُدْرَة صفة تُؤثر فِي الشَّيْء عِنْد تعلقهَا بِهِ وَهِي إِحْدَى الصِّفَات الثَّمَانِية الْقَدِيمَة الثَّابِتَة عِنْد أهل السّنة الَّتِي هِيَ صِفَات الذَّات الْقَدِيم الْمُقَدّس وَهُوَ ﷾ بعباده جمع عبد وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الْمُحكم الْإِنْسَان حرا كَانَ أَو رَقِيقا فقد دعِي ﷺ بذلك فِي أشرف المواطن ك ﴿الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب﴾ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ وَقَالَ أَبُو عَليّ الدقاق لَيْسَ لِلْمُؤمنِ صفة أتم وَلَا أشرف من الْعُبُودِيَّة كَمَا قَالَ الْقَائِل ... لَا تدعني إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أشرف أسمائي ...
وَقَوله لطيف من أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاع واللطف الرأفة والرفق وَهُوَ من الله تَعَالَى التَّوْفِيق والعصمة بِأَن يخلق قدره الطَّاعَة فِي العَبْد
فَائِدَة قَالَ السُّهيْلي لما جَاءَ البشير إِلَى يَعْقُوب ﵊ أعطَاهُ فِي الْبشَارَة كَلِمَات كَانَ يَرْوِيهَا عَن أَبِيه عَن جده عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهِي يَا لطيفا فَوق كل لطيف ألطف بِي فِي أموري كلهَا كَمَا أحب ورضني فِي دنياي وآخرتي وَقَوله خَبِير من أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَيْضا بِالْإِجْمَاع أَي هُوَ عَالم بعباده وبأفعالهم وأقوالهم وبمواضع حوائجهم وَمَا تخفيه صُدُورهمْ
وَإِذ قد أنهينا الْكَلَام بِحَمْد الله تَعَالَى على مَا قصدناه من أَلْفَاظ الْخطْبَة فَنَذْكُر طرفا من محَاسِن هَذَا الْكتاب قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فَنَقُول إِن الله تَعَالَى قد علم من مُؤَلفه خلوص نِيَّته فِي تصنيفه فَعم النَّفْع بِهِ فَقل من متعلم إِلَّا ويقرؤه أَولا إِمَّا بِحِفْظ وَإِمَّا بمطالعة وَقد اعتنى بشرحه كثير من الْعلمَاء فَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنه كَانَ من الْعلمَاء العاملين القاصدين بعلمهم وَجه الله تَعَالَى
جعل الله تَعَالَى قراه الْجنَّة وَجعله فِي أَعلَى عليين مَعَ الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَفعل ذَلِك بِنَا وبوالدينا ومشايخنا ومحبينا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
وَلما كَانَت الصَّلَاة أفضل الْعِبَادَات بعد الْإِيمَان وَمن أعظم شُرُوطهَا الطَّهَارَة لقَوْله ﷺ مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وَالشّرط
1 / 16
مقدم طبعا فَقدم وضعا بَدَأَ المُصَنّف بهَا فَقَالَ
1 / 17
هَذَا كتاب بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة
اعْلَم أَن الْكتاب لُغَة مَعْنَاهُ الضَّم وَالْجمع يُقَال كتبت كتبا وَكِتَابَة وكتابا وَمِنْه قَوْلهم تكتبت بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا وَكتب إِذا خطّ بالقلم لما فِيهِ من اجْتِمَاع الْكَلِمَات والحروف
قَالَ أَبُو حَيَّان وَلَا يَصح أَن يكون مشتقا من الْكتب لِأَن الْمصدر لَا يشتق من الْمصدر
وَأجِيب بِأَن الْمَزِيد يشتق من الْمُجَرّد
وَاصْطِلَاحا اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم ويعبر عَنْهَا بِالْبَابِ وبالفصل أَيْضا
فَإِن جمع بَين الثَّلَاثَة قيل الْكتاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم مُشْتَمِلَة على أَبْوَاب وفصول ومسائل غَالِبا وَالْبَاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْكتاب مُشْتَمِلَة على فُصُول ومسائل غَالِبا والفصل اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْبَاب مُشْتَمِلَة على مسَائِل غَالِبا
وَالْبَاب لُغَة مَا يتَوَصَّل مِنْهُ إِلَى غَيره والفصل لُغَة الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ وَالْكتاب هُنَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى محذوفين كَمَا قدرته وَكَذَا يقدر فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ وَإِذ قد علمت ذَلِك فَلَا احْتِيَاج إِلَى تَقْدِير ذَلِك فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل اختصارا
(الطَّهَارَة لُغَة وَشرعا) وَالطَّهَارَة لُغَة النَّظَافَة والخلوص من الأدناس حسية كَانَت كالأنجاس أَو معنوية كالعيوب يُقَال طهر بِالْمَاءِ وهم قوم يتطهرون أَي يتنزهون عَن الْعَيْب وَأما فِي الشَّرْع فَاخْتلف فِي تَفْسِيرهَا وَأحسن مَا قيل فِيهِ إِنَّه ارْتِفَاع الْمَنْع الْمُتَرَتب على الْحَدث وَالنَّجس فَيدْخل فِيهِ غسل الذِّمِّيَّة والمجنونة ليحلا لحليلهما الْمُسلم فَإِن الِامْتِنَاع من الْوَطْء قد زَالَ وَقد يُقَال إِنَّه لَيْسَ شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ لم يرفع حَدثا وَلم يزل نجسا وَكَذَا يُقَال فِي غسل الْمَيِّت الْمُسلم فَإِنَّهُ أَزَال الْمَنْع من الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلم يزل بِهِ حدث وَلَا نجس بل هُوَ تكرمة للْمَيت وَقيل هِيَ فعل مَا تستباح بِهِ الصَّلَاة
1 / 18
(تَقْسِيم الطَّهَارَة إِلَى وَاجِب ومستحب) وتنقسم إِلَى وَاجِب كالطهارة عَن الْحَدث ومستحب كتجديد الْوضُوء والأغسال المسنونة ثمَّ الْوَاجِب يَنْقَسِم إِلَى بدني وقلبي فالقلبي كالحسد وَالْعجب وَالْكبر والرياء
قَالَ الْغَزالِيّ معرفَة حُدُودهَا وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين يجب تعلمه والبدني إِمَّا بِالْمَاءِ أَو بِالتُّرَابِ أَو بهما كَمَا فِي ولوغ الْكَلْب أَو بِغَيْرِهِمَا كالحريف فِي الدّباغ أَو بِنَفسِهِ كانقلاب الْخمر خلا
(القَوْل فِي أَنْوَاع الْمِيَاه) وَقَوله (الْمِيَاه) جمع مَاء وَالْمَاء مَمْدُود على الْأَفْصَح وَأَصله موه تحركت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فقلبت ألفا ثمَّ أبدلت الْهَاء همزَة
وَمن عَجِيب لطف الله تَعَالَى أَنه أَكثر مِنْهُ وَلم يحوج فِيهِ إِلَى كثير معالجة لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ (الَّتِي يجوز التَّطْهِير بهَا) أَي بِكُل وَاحِد مِنْهَا عَن الْحَدث والخبث
وَالْحَدَث فِي اللُّغَة الشَّيْء الْحَادِث وَفِي الشَّرْع يُطلق على أَمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وعَلى الْأَسْبَاب الَّتِي يَنْتَهِي بهَا الطُّهْر وعَلى الْمَنْع الْمُتَرَتب على ذَلِك وَالْمرَاد هُنَا الأول لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يرفعهُ إِلَّا المَاء بِخِلَاف الْمَنْع لِأَنَّهُ صفة الْأَمر الاعتباري فَهُوَ غَيره لِأَن الْمَنْع هُوَ الْحُرْمَة وَهِي ترْتَفع ارتفاعا مُقَيّدا بِنَحْوِ التَّيَمُّم بِخِلَاف الأول
وَلَا فرق فِي الْحَدث بَين الْأَصْغَر وَهُوَ مَا نقض الْوضُوء والمتوسط وَهُوَ مَا أوجب الْغسْل من جماع أَو إِنْزَال والأكبر وَهُوَ مَا أوجبه من حيض أَو نِفَاس
والخبث فِي اللُّغَة مَا يستقذر وَفِي الشَّرْع مستقذر يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وَلَا فرق فِيهِ بَين المخفف كبول صبي لم يطعم غير لبن والمتوسط كبول غَيره من غير نَحْو الْكَلْب والمغلظ كبول نَحْو الْكَلْب
وَإِنَّمَا تعين المَاء فِي رفع الْحَدث لقَوْله تَعَالَى ﴿فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا﴾ وَالْأَمر للْوُجُوب فَلَو رفع غير المَاء لما وَجب التَّيَمُّم عِنْد فَقده
وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع على اشْتِرَاطه فِي الْحَدث إِزَالَة الْخبث لقَوْله ﷺ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ حِين بَال الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء والذنُوب الدَّلْو الممتلئة مَاء
وَالْأَمر للْوُجُوب كَمَا مر فَلَو كفى غَيره لما وَجب غسل الْبَوْل بِهِ وَلَا يُقَاس بِهِ غَيره لِأَن الطُّهْر بِهِ عِنْد الإِمَام تعبدي وَعند غَيره مَعْقُول الْمَعْنى لما فِيهِ من الرقة واللطافة الَّتِي لَا تُوجد فِي غَيره
الْأَفْعَال كَانَ بِمَعْنى الْحل وَهُوَ هُنَا بِمَعْنى الْأَمريْنِ لِأَن من أَمر غير المَاء على أَعْضَاء الطَّهَارَة بنية الْوضُوء أَو الْغسْل لَا يجوز وَيحرم لِأَنَّهُ تقرب بِمَا لَيْسَ مَوْضُوعا للتقرب فعصى لتلاعبه (سبع مياه) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة أَحدهَا (مَاء السَّمَاء) لقَوْله تَعَالَى ﴿وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء﴾
1 / 19
تَنْبِيه يجوز إِذا أضيف إِلَى الْعُقُود كَانَ بِمَعْنى الصِّحَّة وَإِذا أضيف إِلَى مَاء ليطهركم بِهِ وَبَدَأَ المُصَنّف ﵀ بهَا لشرفها على الأَرْض كَمَا هُوَ الْأَصَح فِي الْمَجْمُوع
وَهل للمراد بالسماء فِي الْآيَة الجرم الْمَعْهُود أَو السَّحَاب قَولَانِ
حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ فِي دقائق الرَّوْضَة وَلَا مَانع من أَن ينزل من كل مِنْهُمَا
(و) ثَانِيهَا (مَاء الْبَحْر) أَي المالح لحَدِيث هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَسمي بحرا لعمقه واتساعه
تَنْبِيه حَيْثُ أطلق الْبَحْر فَالْمُرَاد بِهِ المالح غَالِبا ويقل فِي العذب كَمَا قَالَه فِي الْمُحكم
فَائِدَة اعْترض بَعضهم على الشَّافِعِي فِي قَوْله كل مَاء من بَحر عذب أَو مالح فالتطهير بِهِ جَائِز بِأَنَّهُ لحن وَإِنَّمَا يَصح من بَحر ملح وَهُوَ مخطىء فِي ذَلِك
قَالَ الشَّاعِر (الطَّوِيل) فَلَو تفلت فِي الْبَحْر وَالْبَحْر مالح لأصبح مَاء الْبَحْر من رِيقهَا عذبا وَلَكِن فهمه السقيم أَدَّاهُ إِلَى ذَلِك قَالَ الشَّاعِر وَكم من عائب قولا صَحِيحا وآفته من الْفَهم السقيم (و) ثَالِثهَا (مَاء النَّهر) العذب وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وسكونها كالنيل والفرات وَنَحْوهمَا بِالْإِجْمَاع
(و) رَابِعهَا (مَاء الْبِئْر) لقَوْله ﷺ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء لما سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ تَوَضَّأ مِنْهَا وَمن بِئْر رومة
تَنْبِيه شَمل إِطْلَاقه الْبِئْر بِئْر زَمْزَم لِأَنَّهُ ﷺ تَوَضَّأ مِنْهَا
وَفِي الْمَجْمُوع حِكَايَة الْإِجْمَاع على صِحَة الطَّهَارَة بِهِ وَإنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ سِيمَا فِي الِاسْتِنْجَاء لما قيل إِنَّه يُورث البواسير وَذكر نَحوه ابْن الملقن فِي شرح البُخَارِيّ وَهل إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ حرَام أَو مَكْرُوه أَو خلاف الأولى أوجه حَكَاهَا الدَّمِيرِيّ وَالطّيب النَّاشِرِيّ من غير تَرْجِيح تبعا للْأَذْرَعِيّ
وَالْمُعْتَمد الْكَرَاهَة لِأَن أَبَا ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَزَال بِهِ الدَّم الَّذِي أدمته قُرَيْش حِين رَجَمُوهُ كَمَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم وغسلت أَسمَاء بنت أبي بكر وَلَدهَا عبد الله ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم حِين قتل وتقطعت أوصاله بِمَاء زَمْزَم بِمحضر من الصَّحَابَة وَغَيرهم وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهَا أحد مِنْهُم
(و) خَامِسهَا (مَاء الْعين) الأرضية كالنابعة من أَرض أَو الْجَبَل أَو الحيوانية كالنابعة من الزلَال وَهُوَ شَيْء ينْعَقد من المَاء على صُورَة الْحَيَوَان أَو الإنسانية كالنابعة من بَين أَصَابِعه ﷺ من ذَاتهَا على خلاف فِيهِ وَهُوَ أفضل الْمِيَاه مُطلقًا
1 / 20
(و) سادسها (مَاء الثَّلج) بِالْمُثَلثَةِ (و) سابعها (مَاء الْبرد) بِفَتْح الر لِأَنَّهُمَا ينزلان من السَّمَاء ثمَّ يعرض لَهما الجمود فِي الْهَوَاء كَمَا يعرض لَهما على وَجه الأَرْض قَالَه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة
فَلَا يردان على المُصَنّف وَكَذَا لَا يرد عَلَيْهِ أَيْضا رشح بخار المَاء لِأَنَّهُ مَاء حَقِيقَة وَينْقص بِقَدرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه وَغَيره وَإِن قَالَ الرَّافِعِيّ تازع فِيهِ عَامَّة الْأَصْحَاب وَقَالُوا يسمونه بخارا أَو رشحا لَا مَاء على الْإِطْلَاق وَلَا مَاء الزَّرْع إِذا قُلْنَا بطهوريته وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن أحد الْمِيَاه الْمَذْكُورَة
(القَوْل فِي أَقسَام الْمِيَاه من حَيْثُ التَّطْهِير بهَا وَعَدَمه) (ثمَّ الْمِيَاه) الْمَذْكُورَة (على أَرْبَعَة أَقسَام)
أَحدهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره (غير مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله (وَهُوَ المَاء الْمُطلق)
(حَقِيقَة المَاء الْمُطلق) وَهُوَ مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم مَاء بِلَا قيد بِإِضَافَة كَمَاء ورد أَو بِصفة كَمَاء دافق أَو بلام عهد كَقَوْلِه ﷺ نعم إِذا رَأَتْ المَاء يَعْنِي الْمَنِيّ قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ وَلَا يحْتَاج لتقييد الْقَيْد بِكَوْنِهِ لَازِما لِأَن الْقَيْد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم كَمَاء الْبِئْر مثلا ينْطَلق اسْم المَاء عَلَيْهِ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَة للِاحْتِرَاز عَنهُ وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْقَيْد فِي جَانب الْإِثْبَات كَقَوْلِنَا غير الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد لَازم
اه
(المَاء الْمُطلق يَشْمَل الْمُتَغَيّر بِمَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حكما أَو اسْما) تَنْبِيه تَعْرِيف الْمُطلق بِمَا ذكر هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج
وَأورد عَلَيْهِ الْمُتَغَيّر كثيرا بِمَا لَا يُؤثر فِيهِ كطين وطحلب وَمَا فِي مقره وممره فَإِنَّهُ مُطلق مَعَ أَنه لم يعر عَمَّا ذكر
وَأجِيب بِمَنْع أَنه مُطلق وَإِنَّمَا أعْطى حكمه فِي جَوَاز التَّطْهِير بِهِ للضَّرُورَة فَهُوَ
1 / 21
مُسْتَثْنى من غير الْمُطلق على أَن الرَّافِعِيّ قَالَ أهل اللِّسَان وَالْعرْف لَا يمتنعون من إِيقَاع اسْم المَاء الْمُطلق عَلَيْهِ وَعَلِيهِ لَا إِيرَاد وَلَا يرد المَاء الْقَلِيل الَّذِي وَقعت فِيهِ نَجَاسَة وَلم تغيره وَلَا المَاء الْمُسْتَعْمل لِأَنَّهُ غير مُطلق
(و) ثَانِيهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره إِلَّا (أَنه مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله شرعا تَنْزِيها فِي الطَّهَارَة (وَهُوَ المَاء المشمس) أَي المتشمس لما روى الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يكره الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص لَكِن بِشُرُوط الأول أَن يكون بِبِلَاد حارة أَي وتنقله الشَّمْس عَن حَالَته إِلَى حَالَة أُخْرَى كَمَا نَقله فِي الْبَحْر عَن الْأَصْحَاب
وَالثَّانِي أَن يكون فِي آنِية منطبعة غير النَّقْدَيْنِ وَهِي كل مَا طرق نَحْو الْحَدِيد والنحاس
وَالثَّالِث أَن يسْتَعْمل فِي حَال حرارته فِي الْبدن لِأَن الشَّمْس بحدتها تفصل مِنْهُ زهومة تعلو المَاء فَإِذا لاقت الْبدن بسخونتها خيف أَن تقبض عَلَيْهِ فيحتبس الدَّم فَيحصل البرص وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن اسْتِعْمَاله فِي الْبدن لغير الطَّهَارَة كشرب كالطهارة بِخِلَاف مَا إِذا اسْتعْمل فِي غير الْبدن كَغسْل ثوب لفقد الْعلَّة الْمَذْكُورَة وَبِخِلَاف المسخن بالنَّار المعتدل وَإِن سخن بِنَجس وَلَو بروث نَحْو كلب فَلَا يكره لعدم ثُبُوت النَّهْي عَنهُ ولذهاب الزهومة لقُوَّة تأثيرها وَبِخِلَاف مَا إِذا كَانَ بِبِلَاد بَارِدَة أَو معتدلة وَبِخِلَاف المشمس فِي غير المنطبع كالخزف والحياض أَو فِي منطبع نقد لصفاء جوهره أَو اسْتعْمل فِي الْبدن بعد أَن برد وَأما الْمَطْبُوخ بِهِ فَإِن كَانَ مَائِعا كره وَإِلَّا فَلَا كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَيكرهُ فِي الأبرص لزِيَادَة الضَّرَر وَكَذَا فِي الْمَيِّت لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَفِي غير الْآدَمِيّ من الْحَيَوَان إِن كَانَ البرص يُدْرِكهُ كالخيل وَإِنَّمَا لم يحرم المشمس كالسم لِأَن ضَرَره مظنون بِخِلَاف السم وَيجب اسْتِعْمَاله عِنْد فقد غَيره
أَي عِنْد ضيق الْوَقْت
(القَوْل فِي المَاء شَدِيد السخونة والبرودة) وَيكرهُ أَيْضا تَنْزِيها شَدِيد السخونة أَو الْبُرُودَة فِي الطَّهَارَة لمَنعه الإسباغ وَكَذَا مياه ديار ثَمُود وكل مَاء مغضوب على أَهله
1 / 22