لا يمكن إنكار أن هذه الأمثلة التوضيحية أمثلة متطرفة نوعا ما؛ ففي حين يوجد دوما عدد معين من الحروب والنزاعات الحدودية التي تحدث على الكوكب، فإن الغارات العسكرية للحرب الأمريكية الضخمة في العراق نادرة نسبيا. بالمثل، قليل من المناطق الحدودية يوجد به المزيج المتقلب من الخصائص التي تميز مناطق الحدود الأمريكية المكسيكية. ولكن، بقدر ما قد تكون هذه المواقف متطرفة، فإنها توضح على الأقل أن أهمية الإقليم في العالم الحديث لا يمكن التقليل منها، وتشير كذلك إلى أن هذه الأهمية تتعلق بكل من كيفية تنظيم العلاقات الاجتماعية على مستوى الكوكب، وكيف أن حياة عدد لا حصر له من الأفراد تأثرت سلبا، بطريقة ما أو بأخرى، بآليات الإقليمية الحديثة. وهذا بالطبع يسري على الجميع.
إن هذين المثالين يعالجان الموضوع على نحو سطحي فقط؛ فكل منهما يتعلق بشكل واحد فحسب من الإقليم، ارتبط بالمؤسسة السياسية للدولة القومية الحديثة. وتشمل وسائل التواصل الأساسية، التي يوضح على أساسها هذا النوع من الإقليم، العلاقات الدولية، والقانون الدولي، والجغرافيا السياسية. ولكن المساحات الإقليمية البالغ عددها 200 أو نحو ذلك، التي تشكل المنظومة الدولية للدول، لا تستنزف الأشكال التي يتخذها الإقليم في العالم الحديث. في الواقع، اعتمادا على المنظور النظري للمرء ودقة تحليله، يوجد على الأرجح مليارات الأقاليم، ما بين كبيرة وصغيرة، وهناك تكوينات وتجمعات إقليمية لا حصر لها تشكل الحياة الاجتماعية والعلاقات والتفاعلات البشرية؛ ففي «داخل» الدول توجد تقسيمات سياسية وإدارية، ومحميات، ومناطق، ومقاطعات، وضواح، وأبرشيات، ونواح عديدة؛ وتوجد أيضا قطع أراض، وشقق، وغرف، ومكاتب، وزنزانات، ومعسكرات لا حصر لها ... والقائمة لا تنتهي. وتشمل إقليمية الدول القومية أقاليم فوق وطنية، ومتعددة الجنسيات، ودولية عديدة ظهرت بفعل معاهدات أو اتفاقيات مثل الاتحاد الأوروبي أو منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية. وقد يتمثل الإقليم في المساحة التي تشمل عضوية الناتو، وفي المنطقة التي يحظر فيها وقوف السيارات أمام محل البقالة؛ كما قد يتمثل في المتنزهات، والسجون، ومباني الأندية؛ وفي أماكن العمل، والأماكن التي تهيمن عليها العصابات، والمؤسسات التجارية المتعددة الجنسيات. وفيما يتعلق بكل مكان من هذه الأماكن، من المهم معرفة إن كنت ب «الداخل» أم ب «الخارج». وقد تكون الأقاليم المصغرة للحياة اليومية أهم بالنسبة إلى معظم الناس على الأرجح، أو على الأقل أكثر بروزا ووضوحا من الأقاليم الكبيرة الواسعة للسياسة العالمية.
دعنا نفكر على نطاق مصغر لبرهة، ولتبدأ من حيث أنت؛ انظر حولك إلى الطرق التي تتشكل بها أيامك بناء على الحيز الاجتماعي الذي تشغله، تأمل الغرف المسموح لك بدخولها وتلك التي تقصى عنها، أو لا يسمح لك بدخولها إلا بإذن. في أي نظام اجتماعي تعتبر فيه الملكية الخاصة سمة جوهرية، ينغلق معظم عالم التجربة اليومية عليك، وهذا العالم مقسم إلى أقاليم أيضا فيما يتعلق بالمساحات العامة والخاصة؛ تخيل مدى تأثير التغيرات في هذا التكوين العام/الخاص على حياتك اليومية؛ تخيل، على سبيل المثال، أن الكثير من المساحات «العامة» التي تمتد خلالها مسارات يومك قد «خصخصت» وصارت شروط دخولك إليه أو إقصائك عنه تعتمد على قدرتك على الدفع، أو على أي من الشروط التي يختار «المالكون» الجدد فرضها عليك مقابل دخولك (للمساعدة في تجسيد هذه التجربة الفكرية على نحو مادي، تأمل الاختلافات بين شارع رئيسي «تقليدي» في مدينة صغيرة، ومركز تجاري حديث). تخيل أيضا أن دخولك قد صار مشروطا بهيئتك: أبيض البشرة؟ أنثى؟ شاب؟ هذا هو التجسيد العملي للإقليمية. على الجانب الآخر، تخيل أن ما اعتدت أن يكون مساحة خاصة - مكانك الخاص، منزلك، غرفة نومك - من المزمع فتحه لمراقبة حكومية مستمرة، وأن الصور التي تلتقط تبث عبر شاشة التليفزيون؛ إن هذا أيضا من شأنه تشكيل نمط مهم إلى حد ما من المراجعة الإقليمية. والآن تخيل كليهما نظاما اجتماعيا توقف فيه «العام» و«الخاص» كما نعرفهما عن أن يكونا طريقة جوهرية لأقلمة الحياة الاجتماعية.
أو تأمل هذا: كان راي أوليفر يمتلك مزرعة بالقرب من جيمستاون بولاية كنتاكي، ووفقا للويس بول القاضي بالمحكمة العليا الأمريكية، فقد «علق لافتات «ممنوع التجاوز» على مسافات متساوية، وأوصد البوابة عند المدخل المؤدي إلى وسط المزرعة» (466 الولايات المتحدة، 170 1983، 173). في أحد الأيام تحرك شرطيان من ولاية كنتاكي، بناء على بلاغ ورد إليهما، بالسيارة إلى أرض أوليفر، متجاوزين منزله ومتجهين إلى البوابة الموصدة. ووسط تجاهلهما لكل من لافتة «ممنوع التجاوز» وصيحات أحد الأشخاص التي انطلقت من بعيد تأمرهما ب «الخروج»، تجولا حول البوابة ودخلا إلى منطقة شجرية على أرض أوليفر، وعلى بعد نحو ميل من منزل أوليفر، في بقعة محاطة بالأشجار من جميع الجوانب، عثرا على ماريجوانا مزروعة. غادر الشرطيان، عائدين إلى المدينة لاستصدار أمر تفتيش من أحد القضاة، ثم عادا إلى مزرعة أوليفر للقبض عليه. في القانون الأمريكي لم ترتكب الشرطة تجاوزا فحسب، بل انتهكت حقوق الخصوصية المحمية دستوريا لأوليفر، أو على الأقل كان هذا ما دافع به محاميه في محاكمته. ويحظر التعديل الرابع للدستور الأمريكي على الجهات الفاعلة الحكومية إجراء عمليات تفتيش دون مذكرة، أو على الأقل هذا ما يبدو، وأعلنت المحكمة العليا في مناسبات عدة أن الأدلة التي يتم الحصول عليها على نحو غير قانوني (أي أدلة على جريمة يتم التحصل عليها بالمخالفة للتعديل الرابع) يتم استبعادها من المحاكمات الجنائية؛ وهذا ما يسمى بمبدأ ثمرة الشجرة المسمومة. واتفقت المحكمة في الرأي مع محامي أوليفر. إن أوليفر «فعل كل ما أمكن توقعه منه للتأكيد على خصوصيته في الجزء الذي جرى تفتيشه من المزرعة» (ص173)، والشرطة تصرفت على نحو غير قانوني بقيامها بالتفتيش أولا، ثم استصدار مذكرة فقط بعد أن ثبت نجاح التفتيش؛ وتم رفض الدعوى رسميا.
غير أن الحكومة استأنفت على الحكم وقضت محكمة أعلى بإلغائه، ووافقت المحكمة العليا الأمريكية على الاستماع إلى الدعوى، وقررت أن الشجرة لم تكن مسمومة في النهاية. فأوجه الحماية القانونية التي كفلها التعديل الرابع، مثلما علل جمهور المشرعين، تسري فقط على منزل الفرد والمنطقة المحيطة به مباشرة (وهي مساحة تسمى النطاق المباشر). وأكد الجمهور على أن «جيوبا معينة فقط هي التي ينبغي أن تكون متحررة من أي تدخل حكومي تعسفي» (ص178). وعلى الرغم من الأقفال واللافتات، فإن أجزاء أخرى من حيازة الشخص تكون عرضة للتدخل الحكومي التعسفي، والتفتيش في هذه الأماكن لا يستلزم إذنا، ويطلق على هذه الأجزاء «النطاقات المفتوحة»، بالرغم مما أوضحه القاضي لويس بول من أن «النطاق المفتوح لا يحتاج لأن يكون «مفتوحا» ولا «نطاقا» مثلما يستخدم هذان المصطلحان في الحديث الدارج» (ص180). ونظرا لأن هذا الموقع المعزول المحاط بالأشجار كان «نطاقا مفتوحا»، لم يكن من الممكن حجبه عن مرأى العامة، ولم يكن لدى مالك الأرض توقع منطقي بالخصوصية هناك؛ وعليه، لم يكن ينبغي استبعاد الدليل على الجريمة ولا رفض الدعوى.
غير أن قضاة آخرين من قضاة المحكمة العليا لم يروا الأمر على هذا النحو؛ فقد تعرضت المساحة الخاصة بأوليفر (وحقوقه)، في رأيهم، لاعتداء من قبل الحكومة، وكانت الشرطة مدانة بالتعدي الجنائي. وقد كتب القاضي ثرجود مارشال مستشهدا بملاحظات القاضي بول من قضية أخرى يقول:
من بين الحقوق الأساسية المرتبطة بالملكية حق إبعاد الآخرين؛ فالشخص الذي يمتلك حيازة سوف يكون لديه توقع مشروع بالخصوصية بمقتضى هذا الحق في الإبعاد، والجهات الفاعلة الممثلة للحكومة التي لا تحمل إذنا - باستثناء حالات الطوارئ - ليست أقل قابلية للإبعاد من أي شخص آخر، ويزيد من قوة هذه الحقوق والتوقعات اللافتات والأقفال. ومن خلال تعيين حدود الأرض بالتحذيرات بوجوب عدم دخول العامة، يكون المالك قد أزال أي غموض فيما يتعلق برغباته. (ص195)
إن كلمة «ابتعد»، بالنسبة إلى المعارضين، وبالنسبة إلى قاضي المحاكمة تعني ابتعد. ولكن لسوء حظ أوليفر وغيره ممن لا حصر لهم، المعرضة حيازاتهم الآن لعمليات تفتيش دون إذن استنادا إلى هذه القضية؛ كان القاضي مارشال يكتب رأيا معارضا، وليس رأيا للأغلبية.
سوف يكون من الضروري لنا العودة إلى قضية راي أوليفر في موضع لاحق من هذا الفصل. أما النقطة موضع التركيز الآن فهي أن الإقليم والإقليمية لا يتعلقان فقط بقضايا الحدود الدولية والعلاقات الدولية؛ ففي قضية أوليفر توجد أقاليم متعددة على نحو عملي؛ فإذا نظرنا إلى القضية من ناحية ما، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العام والخاص، وعند النظر إليها من ناحية أخرى، نجدها تتعلق ب «إعادة» أقلمة العلاقة بين الحيازة والفيدرالية الدستورية في الولايات المتحدة. أما عند تناولها تفصيلا، فنجدها تتعلق بإعادة تشكيل العلاقات الإقليمية بين «المنزل»، و«النطاق الملحق»، و«النطاقات المفتوحة» - أو بالأحرى استخدام هذه المفاهيم لإعادة هيكلة العلاقة بين الإقليم، والسلطة، والتجربة. ومهما حاولنا تشريحها، فإن طريقة فهم هذه الأقاليم (من جانب الملاك، ورجال الشرطة، والقضاة) ضرورية؛ فربما، بالنسبة إلى راي أوليفر، شكلت الفارق بين إيداعه السجن أو عدم إيداعه إياه.
لنتأمل قضية حيازة أخرى. كان والاس ماسون يحتفظ بحمام زاجل بحظيرة في فناء منزله، ولكن أحدهم كان يقتحم الحظيرة ويسرق حماماته؛ لذا، في «ليلة مظلمة ممطرة»، ولدى رؤيته ظلالا قاتمة لأشخاص في فنائه، أطلق نيران بندقيته على المعتدين (159، محاضر جلسات جنوبية، مجموعة 2، 7001964 و701)؛ فأصاب مايكل ماكيلر البالغ من العمر 14 عاما، وصديقه ليو شنيل البالغ من العمر 13 عاما. أصيب مايكل في ظهره وقضى بقية حياته مشلولا. لم يلق القبض على ماسون أو يتهم بجريمة، إلا أن والد مايكل قام بمقاضاة ماسون، ورفضت محكمة الموضوع الدعوى، واستأنف ماكيلر أمام محكمة لويزيانا العليا، وأعلنت أغلبية هيئة المحكمة أن:
نامعلوم صفحہ