يعد الفصل الثاني، وهو بعنوان «النظرية»، هو الجزء الأكثر أصالة ونفعا من هذا الكتاب؛ فهذا الجزء، الذي يعد إطارا تحليليا أكثر منه نظرية في حد ذاته، يعمل كدليل مجالي أو «مرشد» لرؤية نتائج أو عواقب العمليات الإقليمية. ومرة أخرى يتأسس الإطار بطريقة معينة بحيث لا يتقيد بأنواع معينة من الإقليم مثل الدول القومية، أو الغرف، أو الدوائر الانتخابية. كذلك يتصل معنى «النظرية» بحيادية ساك الصريحة فيما يتعلق بالنظريات الاجتماعية الأخرى، التي كانت بارزة آنذاك، خاصة تفسيرات فيبر للتنظيم الحديث والماركسية الجديدة. ويعرض ساك نظريته كنظرية «تجريبية ومنطقية» (ص28)، ويعقد قياسات تمثيلية تجريبية مع التنظير في العلوم الاجتماعية؛ ولكن نظرا لأن آثار الإقليمية «تتعلق بالأشخاص، وليس بالذرات، فإن المسمى الأكثر ملاءمة لها هو «أسباب» أو دوافع محتملة، أو «عواقب أو نتائج» محتملة، للإقليمية» (ص28). وهذا مهم ليس فقط من أجل مهمة إزالة الصفات الطبيعية عن الإقليمية البشرية، ولكن أيضا - كما سأناقش لاحقا - من أجل تبرير الافتراضات التي توضع بشأن البشر، لا سيما ميلنا العقلاني المؤثر نحو العالم، وميل أحدنا نحو الآخر. ومما يمثل أهمية أيضا اعترافه بأنه في الوقت الذي قد يشير فيه ضمنا وقوع هذا السلوك الإقليمي أو ذاك إلى المعيارية أو إلى قضايا أخلاقية، فإن الإقليمية «في حد ذاتها» محايدة معياريا؛ فمن الممكن استخدامها لأهداف (أسباب) خبيثة، أو حميدة، أو محايدة أخلاقيا. إذا فلا بد أيضا أن تجاهد النظرية من أجل الحفاظ على الحيادية الأخلاقية والسياسية والأيديولوجية. «إن النظرية ذاتها لن تقدم إجراءات يمكن بمقتضاها الحكم على فعل ما، استنادا إلى حيثياته، بأنه جيد أو سيئ» (ص31). وهذا بالطبع ليس من شأنه أن يمنع المرء من تطبيق إطار ساك من أجل تفسير أو تطوير المزاعم المعيارية.
تتألف «البنية الذرية» (ص29) للإقليمية من 10 «ميول» و14 «مجموعة أساسية» من الميول ينظر إليها بوصفها نتائج محتملة للاستراتيجية، وأي مثال للإقليمية يمكن تحليله فيما يتعلق بوجود أو غياب هذه المكونات أو أهميتها النسبية. وقد قدمت الميول الثلاثة الأولى بالفعل؛ فهي جزء من التعريف: التصنيف وفقا للمنطقة، والتواصل، وفرض السيطرة. وتعطى الميول أرقاما من أجل وضوح العرض. والميول التعريفية (1، 2، 3) موجودة دوما، أما الميول السبعة «المحتملة» (4-10)، فهي أكثر عرضية. (1)
في تفصيله بشأن «التصنيف وفقا للمنطقة» يؤكد ساك على مميزات إعلان منطقة ما محظورة مقارنة بحصر جميع الأشياء داخل الإقليم المحظور الوصول إليها. وهكذا يمكن أن تكون الإقليمية استراتيجية تعميمية؛ ومن ثم قد تكون استراتيجية أكثر ملاءمة أو فاعلية للاستخدام. بالطبع، كما سنرى، يتعلق التصنيف وفقا للمنطقة بما هو أكثر بكثير من إقامة مناطق «ممنوعة» أو حظر الوصول إلى الأشياء الموجودة داخل الحيز. (2)
ثمة ميل أو «سبب» أساسي ثان للتصرف على نحو إقليمي، هو أنه من خلال استخدام الحدود، يصبح «التواصل» أكثر سهولة. (3) «يمكن أن تكون الإقليمية هي الاستراتيجية الأكثر فاعلية في «فرض» السيطرة» (ص32). مرة أخرى، ينصب التركيز على مميزات الاستراتيجيات الإقليمية على الاستراتيجيات غير الإقليمية في تفعيل الوصول إلى الأشياء أو الموارد. والمثير في الأمر أنه بالنظر إلى دوافع ساك الواضحة المناهضة للتطبيع، تشير الأمثلة المستخدمة في توضيح هذا الميل إلى السلوك الحيواني وليس الأشكال البشرية للسلطة. (4) «توفر الإقليمية وسيلة «للتجسيد المادي» للسلطة» (ص32). فحيث إن السلطة الاجتماعية لا تكون مرئية أو محسوسة دائما، قد يكون من آثار الإقليمية جعلها تبدو على هذا النحو؛ فالإقليم، من خلال علاماته المادية الدالة عليه مثل الأسوار والبوابات وحرس الحدود وما إلى ذلك، يمنح بعض أشكال السلطة مرجعا ماديا في العالم. (5) «يمكن استخدام الإقليم من أجل «إزاحة» الانتباه عن العلاقة بين المسيطر والمسيطر عليه» (ص33). ومثل الميل نحو التجسيد المادي، قد يكون من تأثير هذا الميل التعتيم على الجوانب الاجتماعية للسلطة. (6)
على نحو متصل، «يساعد الإقليم على جعل العلاقات «مجردة»» (ص33)، من خلال تقنية تطبيق القواعد على الأماكن (والأدوار الاجتماعية). وتحت بعض الظروف يمكن أن يؤدي الإقليم إلى إضفاء الغموض على العلاقات الشخصية. ويضرب ساك مثالا لحارس سجن مسئول عن السجناء في مجموعة بعينها من الزنزانات بصرف النظر عن هوياتهم، وليس عن كل سجين كفرد مهما كان مكانه. بالمثل، عادة ما تتحدد العضوية (والحقوق) في مجتمع سياسي ما بمحل الإقامة داخل إقليم ما. (7)
يحدد ساك «وظيفة إجلاء المكان» للإقليم، ويعد هذا ادعاء خفيا (أو غامضا) نوعا ما. وفيما يبدو أن ما يشار إليه هو أنه في ظل بعض الظروف يمكن أن يبدو الإقليم «وسيلة عامة، ومحايدة، وأساسية يقام بها مكان ما» (ص33). ومثاله على ذلك حقوق الملكية في الأرض. (8) «تعمل الإقليمية (أو ربما لمزيد من الدقة: الإقليم) بمنزلة حاوية أو قالب للخصائص المكانية للأحداث» (ص33). ووظيفة هذه الحاوية (أو حتى وظيفتها «الظاهرية») شديدة الأهمية لتحديد نطاق ظواهر مثل السلطة السياسية والسيادة والحقوق والمسئوليات، كما أنها تلعب دورا مهما في وضع تعريفات مكانية للهوية. (9)
الإقليمية، في ظل ظروف معينة، لا سيما تلك المرتبطة بالحداثة، «تساعد على خلق فكرة «الحيز القابل للإخلاء اجتماعيا»» (ص33)؛ أي إن تصور أجزاء من الحيز الاجتماعي كأقاليم أو حاويات مكانية من شأنه تيسير إمكانية وضع تصورات لهذه الأجزاء باعتبارها أجزاء «ممتلئة» أو «خاوية»؛ ومن ثم فإن مساحة شاغرة أو «منطقة مشاع»، بينما لا تكون خالية من المحتويات المادية بالمعنى الحرفي للكلمة، يمكن النظر إليها على هذا النحو، وهذه التصورات يمكن، بدورها، أن تشكل السلوك. (10)
الأقاليم تكاثرية. «الإقليم يمكن أن يساعد على توليد مزيد من الإقليمية» (ص34). وهذا التأثير التكاثري - الذي يتحقق، لنقل، من خلال التشعب أو الدمج - مهم على نحو خاص فيما يتعلق بالتشكيل الإقليمي للتسلسلات الهرمية.
تمثل هذه «الميول» العشرة المقدمة هنا في شكل قائمة كما في كتاب «الإقليمية البشرية»، نتائج مهمة؛ البعض منها واضح نوعا ما، بل تعريفي، والبعض الآخر يعبر عن رؤى استبصارية أحدث لآليات الإقليمية. وكل منها مجرد وخفي نوعا ما. وهذا التجريد يعد ميزة وأساسا لنفعية النظرية، وكل منها ينظر إليه كمورد أساسي يجري بواسطته تحليل العواقب المحتملة للإقليمية في أي سياق اجتماعي نواجهه أيا ما كان. أما الخطوة التالية في النظرية، فهي دراسة مجموعة صغيرة من توافقات (مجردة بالقدر نفسه) من هذه الميول من أجل رؤية أوضح للتفاصيل الأدق للإقليمية.
توافقات أساسية
نامعلوم صفحہ