على علماء الأمصار
في تقرير المختار من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة
للإمام
يحيى بن حمزة
تحقيق
عبد الوهاب بن علي المؤيد علي بن أحمد مفضل مقدمة المحقق
صفحہ 1
{
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي أرسله الله بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. محمد بن عبدالله، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وعلى أصحابه الذين كانوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
وبعد:
فهذه مقدمة كتاب (الانتصار) التي كانت جهد المقل ولم تكن أقل الجهد. ولم يكن كذلك، تصدير هذا الكتاب الجليل بها لمجرد تقليد سار عليه المحققون والناشرون، بقدر ما رأينا فيها قبل كتابتها، وحرصنا عليه أثناء إعدادها.. مدخلا يمهد لبدايته، ويوثق مصادره ومراجعه، ويعرف به مخطوطة، ويروي ملامح عزلة قرون سبعة عاشها الكتاب، مشتتة أجزاؤه، ومتناثرة مجلداته في المكتبات العامة والخاصة داخل اليمن وخارجها. وهي في نفس الوقت، مقدمة لتحقيق الكتاب في حدود ما اقتضاه الحال وسمح به الإمكان، من أغراض التمهيد والتوثيق والتعريف هذه إلى جانب ما تضمنه وتناوله التحقيق من الملاحق والهوامش الخاصة بالكتاب، ليخرج في الصورة اللائقة به ولو في الحد الأدنى. ومن الله تعالى نستمد العون والتوفيق، واحتسابه عملا خالصا لوجه الله في خدمة التراث الفكري الإسلامي. إنه سميع مجيب وعلى كل شيء قدير.
صفحہ 5
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
تمهيد:
عندما كنا في المدرسة العلمية(¬1) طلابا.. كنا نسمع عن كتاب (الانتصار) اسما مجردا وملخصا في هذه الكلمة، مثل ما نسمع عن الإمام يحيى بن حمزة.. وذلك عند أن نسمع من أساتذة المدرسة (المشائخ)، أو فيما نقرؤه من كتب المنهج المقررة، في عبارات: (قال في الانتصار..)، (أورده صاحب الانتصار..)، (أوضحه يحيى بن حمزة)، (وخالفه يحيى بن حمزة)، (وهو ما قاله الإمام يحيى بن حمزة في الانتصار).
وقلما يرد فيما نقرؤه من هذه الكتب اسم كتاب (الانتصار) مقرونا باسم مؤلفه. ولذا فإن كثيرا من الطلاب حينها لم يكن يعرف أو يهتم بأن يعرف أن كتاب (الانتصار) هو من مؤلفات يحيى بن حمزة، أو أن يحيى بن حمزة هو مؤلف الكتاب.
وإذا اقتصر الطالب على الكتب المقررة في المدرسة العلمية، فإنه يقضي السنوات الخمس أو السبع أو التسع فيها، دون أن يعرف عن كتاب (الانتصار) أكثر من أنه كتاب في الفقه.. وعن يحيى بن حمزة أكثر من أنه واحد من كبار علماء اليمن. أما ما زاد عن ذلك من معلومات أخرى، مثلا: عن حجم (الانتصار) وأجزائه وحتى اسمه الكامل وتعليله، وعن عصر يحيى بن حمزة ومؤلفاته.. وما إلى ذلك.. فإنها أشياء لا يعرفها إلا العالمون، والسبب لا يعود إلى عدم توفر هذه المعلومات أو مصادرها فقط، بل يعود أولا وقبل كل سبب، إلى عدم الاهتمام بشيء خارج نص الدروس المقررة.
وهذه الحال لا تخص كتاب (الانتصار) أو مؤلفه يحيى بن حمزة.. بل تعم كل الكتب والمؤلفين مما ليس مقررا ضمن منهج المدرسة. وأكثر من هذا، أن الحال تعم أيضا، الكتب المقررة فيما يتعلق بأسماء الكتب ومؤلفيها. حيث أن تداول أسمائها يأتي ملخصا، ثم لا تتجاوز معارف الطلاب في الغالب، تلك الأسماء والألقاب والعناوين الملخصة.
وعلى سبيل المثال.. أسماء الكتب المقرونة ملخصة باسم المؤلف، كما كانت متداولة في المدرسة العلمية من الكتب المقررة مثل:
صفحہ 6
- كافل لقمان(¬1).
- متن ابن الحاجب. أو الحاجبية(¬2).
ولا نبالغ إذا قلنا بأن القليل أو النادر من طلاب المدرسة العلميه حينها، من كان يعرف أو يهتم بأن يعرف أن اسم الكتاب الأول كاملا، هو: (الكاشف لذوي العقول عن معاني الكافل بنيل السؤول)، وأن اسم مؤلفه: أحمد بن محمد بن لقمان (أصول الفقه). وأن اسم الكتاب الثاني: (كافية ذوي الأرب في معرفة كلام العرب) (نحو). وهكذا معظم الكتب ومؤلفيها.
وهكذا ظللنا في المدرسة العلمية السنوات الثلاث الأولى من سنوات الدراسة بها(¬3) وتركنا المدرسة ونحن لا نعرف عن كتاب (الانتصار) أكثر من أنه كتاب في الفقه للإمام يحيى بن حمزة، ولا نعرف عن يحيى بن حمزة ما قد يتجاوز العلم بأنه مؤلف كتاب (الانتصار).
ونعتقد أن هذه الحال هي أكبر وأعمق من صورتها التي تظهر بها، وأنها ذات علاقات وآثار متعددة وواسعة في مجال التراث الفكري الإسلامي في اليمن. وأنها بالتالي.. جديرة بالبحث وما أكثر الجوانب والمجالات الجديرة بالبحث في تراثنا الإسلامي في اليمن. وهذا يلح علينا أن نمر بجانبين من هذه الحال التي كانت قائمة:
الأول: أسبابها.
ونعتقد أن من أوائل الأسباب:
1- أسلوب المؤلفين.. حيث درجوا على تداول عناوين وأسماء الكتب والمؤلفين بأساليب ملخصة، تعتمد:
أولا: على الاقتصار في ذكر أي منها، ومنهم في حدود حاجة الاستدلال والتوضيح وذكر المرجع. فيكتفي الواحد منهم في مؤلفه بذكر ما لا بد منه في المسألة.
صفحہ 7
ثانيا: استخدام أبرز وأقل الكلمات عند الإشارة إلى المرجع، فيقول مثلا: ذكره صاحب (الغاية)(¬1) وقال في (الأزهار)، وهكذا.
2- كذلك فإن مؤلفي كتب التراث هذه -وبصفة عامة لا تكاد تجد فيها حالة استثناء- درجوا على قصر كل منها في نطاق موضوعه فقط، من بداية الكتاب ب(أما بعد فإن علم (كذا)..) (وهذا ما دفع بي إلى تأليف هذا الكتاب الذي سميتة) (فأقول وبالله التوفيق..). وحتى يصل إلى نهايته في (والله تعالى أعلم، وبهذا تم الكتاب بعون الله تعالى في يوم...).
دون أن يعطي المؤلف أي اهتمام لمسألة التراجم أو الفهارس الملخصة لما ذكره في مؤلفه من أعلام ومراجع. وهي قاعدة وأسلوب شائعان لدى مؤلفي كتب التراث الإسلامي في البلدان العربية وغيرها، وإن كانت في اليمن ربما أظهر وأكثر.
قد يقال بأن صعوبة الكتابة المخطوطة باليراع والمحبرة واليد، كانت السبب الأول. ونعتقد أن هذا ليس السبب الأول ولا الأخير، فهم معروفون بالصبر على تحمل كل المشاق والصعاب من البحث عن الكتب واستيعابها قراءة واستقراء، ومن الترحال والتنقل بين المدن والأقطار لطلبه وتلقيه عن أعلامه.. إلى الحد الذي يدفع أعلاما من أمثال عبدالرزاق الصنعاني(¬2) أن يذهب إلى الشام والعراق بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، بحثا عن بضعة أحاديث يريد أن يسمعها من رواتها أو من طرق أخرى، وأن يرحل الشافعي إلى اليمن مؤكدا إصراره بقوله المشهور: (لابد من صنعاء وإن طال السفر)، ولنفس الغرض. وغيرهما كثير.
صفحہ 8
ولكن السبب الحقيقي كما نعتقد، هو عدم إعطاء جانب التراجم والفهارس ملحقة بالمؤلفات، أي اهتمام؛ لأنهم لا ينظرون إليها في عصورهم من الزاوية التي ننظر إليها الآن. ولا يعني هذا أنهم يطرحون شيئا من قيمة التراجم العلمية، أو ينقصون مكانتها في كونها فنا مستقلا ذا وظيفة أساس في تصنيف النسيج الفكري للفنون والعلوم المتعددة، ولكن الذي يظهر من مؤلفاتهم بعامة أنهم في هذه الناحية، يحرصون على تأكيد ما يمكن أن نطلق عليه صفة التخصص والفصل في التأليف بين مختلف الفنون والعلوم. ولذا ظلت كتب ومؤلفات التراجم والمعاجم والطبقات، علما متميزا مستقلا عما عداه. (ومن أراد مزيد تفصيل فليرجع إلى المطولات) (¬1).
والجانب الثاني:
عدم الاهتمام بتدريس كتب التراجم أو حتى بإدخالها ضمن مراجع المنهج المقرر.
الانتصار ل(الانتصار):
وكتاب (الانتصار) هذا الذي نقدمه مطبوعا إلى مكتبة الفكر الإسلامي، بوصفه واحدا من أبرز وأشهر وأوسع مخطوطات التراث اليمنية.. هو - أيضا - شأنه شأن سائر المؤلفات التراثية في خلوه خلوا كليا من التراجم والهوامش فضلا عن الفهارس، وحتى في المفردات والأعلام والعناوين التي قد تشتبه بنظائر مغايرة دون وجود قرائن مميزة يمكن الاعتماد عليها.. حتى في مثل هذه الحال فإن المؤلف لا يقطع استرساله في البحث ليوضح شيئا منها إلا في القليل النادر. وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه النظرة أو الأسلوب، يعود بالدرجة الأولى إلى دقة التصنيف الموضوعي في كتب هؤلاء المؤلفين بصفة عامة. ويضاف إلى ذلك أن المؤلف منهم كصاحب (الانتصار)، يكون قد استقرت في اعتقاده قاعدة ثابتة في طرق التعلم والتعليم وبالتالي التأليف.. وهي أن الكتاب (أي كتاب) ليس موضوعا للمبتدئ في طلب العلم، ولكنه للشيخ أو الأستاذ الذي بلغ من العلم درجة تؤهله لتدريس الكتاب. ومن هنا فإن القضية تبدو محكوما فيها ومفروغا منها سلفا.
وهذه القضية واحدة من القضايا أو العناصر التي جعلت تحقيق كتاب (الانتصار) يبدو لدينا أكثر صعوبة من غيره من كثير من الكتب التراثية الأخرى. وقد أعجز عن وصف المفاجأة التي أثارت في نفسي كثيرا من الدهشة والاستغراب، عند أن عرض علي الأخ والصديق الأستاذ علي بن أحمد مفضل فكرة القيام بتحقيق هذا الكتاب.
صفحہ 9
وبقدر ما سببت عدم موافقتي المطلق بأسباب لا أزال أراها موضوعية.. فقد كان قادرا على إقناعي بالموافقة بأسباب هي الأخرى موضوعية. وكان السبب الأول لعدم موافقتي آتيا من حقيقة لدي تتضمن اقتناعا وحرصا ثابتين:
- اقتناعي بأن تحقيق المخطوطات التراثية، أصبح فنا مستقلا من فنون العلم والفكر أكثر من كونه جزءا من مهنة النشر في هذا العصر الذي يطلق عليه (عصر المطابع) ضمن أشهر صفاته.
- وحرصي على أهمية هذا الكتاب وما احتواه من علم جم ومنهج فذ أن يتم تحقيقه ونشره في الصورة اللائقة به؛ لأنني وغيري أشعر بالإشفاق والألم لكثير من المخطوطات التي صدرت تحت عبارة (تحقيق وتصحيح)، وليس فيها - وللأسف الشديد - من التحقيق شيء غير اسم لشخص كتبه بعد هاتين الكلمتين، وقد يضيف تصديرا في بضعة أسطر يستهل بها الكتاب. ومثل هذا لا يمكن أن يكون تحقيقا، ولكنه في أحسن الحالين يكون نسخا للمخطوطة إن لم يكن مسخا لها، من حيث أن ما هو مقبول في المخطوطة ليس مقبولا في نسختها عند طبعها ونشرها. ومن هنا فإن ما أعرفه من شروط يجب أن تتوفر في عمل التحقيق، هي قطعا متوفرة لدى غيري من المهتمين بهذا الجانب أكثر مني. وليس الإلمام بأصول التحقيق وسعة الاطلاع في كتب التراث والتفرغ، كل الشروط أو ربما أكثرها أهمية.
ولأن زميلي صاحب الفكرة والمشروع لتحقيق (الانتصار)، ينظر إلى الكتاب بعين الفقيه المطلع الحريص على نشر الكتاب بوصفه الغاية الأولى، وبوصف ما عداها من غايات مجرد وسائل تسخر لخدمتها، فقد أقنعني بإصرار كثير، وعزم متين عبر عنهما بكلمات قليلة . قال ما خلاصته:
أولا: إن الواجب لا يخص المتفرغين للتحقيق في كتب التراث؛ لأنه واجب ديني وفكري يقع على كل شخص بحسب وعيه بهذا الواجب، وبحسب قدرته على أدائه.
وثانيا: وكما أن المبدأ أو القاعدة في أداء الواجب محددة بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.. فإن المفهوم المفروغ منه في هذه الآية، أن الأداء واجب في حدود وسع النفس وقدرتها، ولا يسقط بمجرد الاحتمال المسبق لعدم القدرة على أداء الواجب كاملا غير منقوص. فدعنا نعمل ما في وسعنا أولا، ثم نحكم عليه بالقبول أو الرفض.
صفحہ 10
ومن هذه القاعدة الفقهية وترتيبها المنطقي رأيتني أشاطر هذا الزميل المفضل الإصرار والعزم داعين الله تعالى أن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وأن يجعل من هذا العمل انتصارا لكتاب (الانتصار) من عزلة المخطوطات وحالة الشتات التي باعدت بين مجلداته ونسخه وأجزائه. ومن الله نستمد العون.
منهج المقدمة:
تدور مقدمة التحقيق للكتاب حول ثلاثة محاور تشمل في طيها أبرز الفقرات والعناصر الداخلة ضمن منهج التحقيق بالشكل الذي نحاول فيه أن لا يهمل أصلا ثابتا من هذه العناصر ولا يثبت مهملا لا علاقة مباشرة له بالخط العام للتحقيق ومقاصده وغاياته الأولى.
وتتحدد المحاور الثلاثة في:
- دوافع التحقيق وغايته.
- موضوع كتاب الانتصار.
- شخصية المؤلف.
المحور الأول: دوافع التحقيق وغايته
ننطلق في تحقيقنا لهذا الكتاب من فهمنا اللغوي لكلمة (التحقيق)، وهو أنه عمل مستقل يتغيا محاولة لإظهار حقائق يحددها الغرض منه، بصورة كلية أو جزئية، أو تقتصر على أبرزها أو في حدود ما يمكن إظهاره منها. سواء أكانت هذه الحقائق من متن الموضوع أم مترتبة على وضعه، مفهومة من سياقه أم مضافة إليه بحكم علاقته بما عداه من موضوعات مماثلة من جهة، وبغاياته من جهة موازية.
صفحہ 11
وهذا الفهم يتيح لنا المضي في تحقيق الكتاب (.. في حدود ما يمكن إظهاره منها..) وهو حد أدنى لا حد لأقله. كما أن اعتبارنا هذا الفهم بهذا الحد في التحقيق يجعل التحقيق ممكنا وأكثر إمكانا من انتهاج التحقيق، إما باعتبار الحد الاصطلاحي له ، وإما باعتبار الحد الموضوعي الذي يبرز القيمة العلمية للكتاب، وتميز أسلوبه ومنهجه. بينما الحد أو الفهم الأول قد يزيح شبح التهيب، ويتيح الإقدام على العمل في حدود ما يمكن أن يكون (أضعف الإيمان) وننطلق في تحقيق هذا الكتاب من دوافع أو أسباب أربعة:
أولها: قيمة الكتاب التراثية والفكرية في إطار الفقه الإسلامي، وهي قيمة لا يحددها موضوعه مجردا.. بل أيضا، ميزات قلما تتوافر مجتمعة في غيره بمثل ما هي فيه. ومنها مثلا:
1- 1- حجم الكتاب. حيث يقع في ثمانية عشر جزءا.
2- 2- منهجه الذي يجعل منه موسوعة إسلامية رائعة، سواء في أعلام الفكر الإسلامي ومدارسه ومؤلفاته، أم في تقرير آراء كل علم وفريق ومدرسة في كل مسألة، وإيراد أدلة واجتهادات وأقوال كل منهم منقحة معللة.. مما يجعل من الكتاب بحثا شاملا في إطار أصبح يسمى، بالفقه المقارن.
3- 3- أسلوبه في تبويب وترتيب الموضوعات والمسائل في تصنيف وتسلسل يحدد ويحقق استقلال الموضوع من جهة، ويحافظ على الاتساق العام والترابط الموضوعي من جهة أخرى وبقدر متساو ومتناسب وبارز. وسنتحدث عن الكتاب بصورة أوسع عند الحديث عن موضوعه.
ثانيها: نشر الكتاب، وهذا الدافع يمثل في ذات الوقت الغاية الأولى من التحقيق، ولكن نشر الكتاب يأتي دافعا قويا في الحالين؛ إذ أن إهمال كتاب بهذا الحجم والقيمة العلمية من التراث الإسلامي اليمني، يعد أكثر من إهمال لأهميته، وإهدار لقيمته إلى ما قد يصل به إلى حد يقرب فيه التساوي بين وجوده وعدمه، ثم لا يلبث هذا الإهمال أن يجعل منه نسيا منسيا. وخصوصا إذا أخذنا في الاعتبار:
صفحہ 12
1- أن عصر المطابع الذي نعيشه يختلف كثيرا عن عصر المخطوطات، حيث أصبح الاعتماد في عصرنا على الكتاب المطبوع المتداول المتوافر بكثرة، سواء في المدارس والمعاهد والكليات العامة والمتخصصة، أم في مراكز البحوث والدراسات. عدا القلة من الباحثين. ناهيك عن اهتمام الأفراد خارج هذه المؤسسات ممن ينحصر اهتمامهم في الغالب في جانب الاطلاع.. ومن هنا فإن الاهتمام عموما بالكتاب المخطوط، يكاد في هذا العصر، ينحصر في غايتين:
أولاهما: في هواية اقتناء الكتاب التراثي المخطوط. وهذه الغاية ترجح جانب القيمة الأثرية التراثية التاريخية فيه على القيمة العلمية.
وثانيتهما: وفي القيمة المرجعية له.. وهذه الغاية يؤمها الباحث الحصيف. وقد أصبحت نادرة، وخصوصا إذا استثنينا الباحثين المتخصصين في كتب التراث أو الاختصاصيين بها.
بينما -بطبيعة الحال- كان الكتاب المخطوط قبل ثلاثين عاما في اليمن بالذات، كتابا مقروءا ومتداولا، يستتنسخه الناس ويشترونه، ويتوارثونه ويحافظون عليه، لغرض القراءة، ولقيمته العلمية قبل كل شيء. ومن هذه المقارنة البسيطة بين عصر المخطوطات وعصر المطابع، تتضح أهمية النشر دافعا وغاية وحرصا على قيمته العلمية من النسيان وعدم الفائدة.
2- ثم إن أقصى ما يمكن أن يلاقيه الكتاب المخطوط من عناية، لا يتجاوز توثيقه في بعض المكتبات العامة ومراكز البحوث. وفي هذه الحال فإن وجوده لا يتجاوز كثيرا مساحة العنوان في أدلة وقوائم هذه المكتبات والمراكز.
ثالثها: ندرة الكتاب، وندرة الكتاب مخطوطا بمعنى قلته وندرته في أيدي الناس، هي حالة تعم كل كتاب مخطوط؛ إذ أن نسخ أي مخطوطة مهما تكن نسخا كثيرة، فإنها في الحد الأقصى لعدد نسخها لن تتجاوز العشرات. ولكن هذا الكتاب (الانتصار) هو وقليل من أمثاله، تظل فيه ندرة الكثرة أو كثرة الندرة حالة أخص به وأظهر فيه.. لسبب واحد كاف ناهيك بغيره. وهو حجم كتاب (الانتصار) الذي يبلغ ثمانية عشر جزءا. وهذا ما جعل منه مخطوطة نادرة حيث توجد، من حيث أنها لا تكاد توجد منه نسخة كاملة بأجزائها الثمانية عشر في مكان واحد. فكل مكان بحثنا فيه عن هذا الكتاب أثناء القيام بجمع نسخ منه لغرض تحقيقه، لم نجد فيه نسخة كاملة من الانتصار، سواء في المكتبات العامة أو الخاصة. وظل السؤال عنه والبحث قائمين طيلة فترة التحقيق وحتى بداية الطبع ولا يزالان.
صفحہ 13
وقد يكون مثيرا للاستغراب القول، بأنا بدأنا في هذا المشروع بمقابلة النسختين الأوليين من حيث حصولنا عليهما، وليس بين أيدينا من كل نسخة منهما غير الأجزاء الثلاثة الأولى من الكتاب، ونحن في ذات الوقت لا نعرف من أين سنحصل على بقية الأجزاء لنسخة واحدة، فضلا عن بقية الأجزاء لكلتا النسختين ونسخ أخرى. وكان هذا تنفيذا لمبدئنا الذي جعلناه رائدنا في هذا المشروع، وهو المبدأ الرباني الإنساني {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.. أن نعمل بما في وسعنا، وبما يتوفر لدينا من أجزاء ونسخ، وحتى لو كان جزءا واحدا أو نسخة واحدة. ولولا الإصرار على هذا المبدأ لما بدأنا.
وتقابل ندرة الكتاب هذه، ما سبقت الإشارة إليه من قيمة هذا الكتاب الموسوعة بحق، ولدرجة أنه من الكتب التي قلما أمكن لغيرها من نظائرها أن يغني عنها. ولا نريد أن نطلق حكما يحتاج إلى كثير من التروي والنظر العلميين، فنقول باستحالة حلول أي كتاب آخر من كتب الفقه الإسلامي اليمني محله، على كثرتها واتساع مجالها.
وقيمة الكتاب لم يعد ممكنا ظهورها والإفادة منها مالم يطبع الكتاب وينشر، ويصبح في متناول العالم والمتعلم والباحث على حد سواء، وفي أي مكان وزمان، وإلا فلا نعتقد أنه يفرط في الرأي من يقول بأن المخطوطات في هذا العصر حبيسة حبرها وجلودها، وعديمة الفائدة العامة والخاصة إلا للقلة من ملاكها، إن لم يشملها عصر النشر وزمن الطباعة والمطابع.
رابعها: غاية التحقيق.
كذلك تأتي غاية تحقيق الكتاب هنا، دافعا لتحقيقه. وهنا، وفي كتاب (الانتصار) بصفة خاصة بالنسبة إلينا.. نعتقد أن التحقيق في مفهومه ومنهجه، أو في جانبيه النظري والعملي، يعني رأيا في هذين الجانبين نوضحه فيهما كما يلي:
أ- الجانب النظري.
نلخص الجانب النظري لنسخ المخطوطة، في فقرات ثلاث:
1- المخطوط بين عصرين:
صفحہ 14
نعرف أن طباعة المخطوطة من كتب التراث، تنقلها طفرة من عصرها الذي تم فيه تأليفها إلى العصر الحديث نقله واحدة لا تدرج فيها ولا تمهيد. وهذه النقلة لا يمكن أن نفهمها على أنها بسيطة وسهلة؛ لأن قضيتها هنا لا تنحصر في عملية التقنية الآلية التي يعبر عنها بأنها كتاب كانت كلماته مخطوطة باليراع والمحبرة، تم نسخه طباعة بواسطة آلة الكمبيوتر. إن القضية كما نعتقد، أعمق وأوسع وأكبر من هذا الفهم البسيط.. لأنها قضية اجتماعية تاريخية لغوية ثقافية، فليس من السهل والطبيعي تقديم هذه المخطوطة مطبوعة إلى القارئ المعاصر والعادي خصوصا، ليتعامل معها تعاملا طبيعيا كأي كتاب آخر، ويلغي عشرة أو ثمانية أو خمسة قرون من السنين تفصل بينه وبين تلك المخطوطة، إن فارق الزمن لا بد أن يظل مؤثرا في علاقة القارئ المعاصر بتلك المخطوطة أثرا ينعكس على مدى استفادته منها وإفادتها إياه، انخفاضا وتدنيا وركاكة في أحسن الأحوال، إن لم ينصرف عنها انصرافا كليا. وهذا ما هو حاصل بالفعل وموجود، وحتى مع الاعتراف بأن هناك أسبابا أخرى تصرف الأجيال المعاصرة عن كتب التراث المطبوعة، برغم تميز هذه الفترة بالإقبال النسبي عليها، ومنها مثلا سببان:
أولهما: تميز هذا العصر بالانتشار الكثير والواسع للعلوم والفنون والوسائل الحديثة في التعليم والتثقيف والمهن والترفيه.
ثانيهما: ارتباط العلوم الحديثة بالمعيشة ارتباطا مباشرا.
ومع الاعتراف كذلك، بأن هذه المخطوطات بالنسبة إلى العربي ومن يتكلم العربية، هي مكتوبة بلغته، إلا أنه لا مجال من الاعتراف أيضا، بأن الفارق الزمني يعني أشياء كثيرة ومؤثرة.. يعني الفوارق في المصطلحات والاستخدام اللغوي والتوظيف المعنوي والدلالي للمفردات واختلاف الأسلوب بصفة عامة. إضافة إلى أن لعلماء الفكر الإسلامي في كل نوع وفرع منه مصطلحات خاصة به، سواء في المسميات أو الاشتقاقات أو المجازات أو الجمل والتعابير الأخرى.
2- وظيفة التحقيق:
صفحہ 15
من ذلك.. نجد أن التحقيق لأي مخطوط يصل إلى ما يقارب الضرورة. ولكن على أساس أن يكون التحقيق كاملا قدر الإمكان؛ لأن وظيفة التحقيق هنا تكون -بصفة عامة- مقربة للمسافة الفاصلة بين القارئ وحتى الباحث المعاصر من جهة، وبين الكتاب المخطوط من الجهة الأخرى. وتأكيد ضرورة التحقيق يظهر جليا عند أن تكون وظيفته تقريب الكتاب كما سبق؛ لتتحقق الغاية من نشر الكتاب في أكبر قدر ممكن متاح، وهي إبراز قيمته العلمية وتسهيل الاستفادة منه لطالب العلم والباحث على حد سواء.
3- بين النشر والنسخ:
وقد سبقت الاشارة إلى المستوى المتدني الذي وصل إليه التحقيق للمخطوطات، وهذه الحال موضع شكوى لا في اليمن فحسب، بل في معظم الأقطار العربية والإسلامية التي توجد بها المخطوطات التراثية، بصورة تجعل من تحقيقها ونشرها عملا متميزا ومستقلا. والعجب ليس فقط من إقدام هؤلاء المحققين على نشر المخطوطات وهم غير مؤهلين لذلك العمل، ولكنه أيضا يكون أكثر من حال القادرين على التحقيق ممن لديه اطلاع واسع، وتجربة سالفة، وفهم بأصول العمل. ثم نجدهم ينسخون المخطوطة طباعة دون أن يضيفوا إليها أي شيء مما هو ضروري ومهم في وجوده وسهل في إنجازه، مثل تبويب الموضوعات وفهرسها. وهؤلاء يصدق عليهم قول الشاعر: (¬1)
ولم أر في عيوب الناس شيئا ... كنقص القادرين على التمام
... والذي نعرفه عن التحقيق، منذ أن فتحنا أعيننا على الكتب المطبوعة المحققة من كتب التراث عن طريق رواد التحقيق والنشر في اليمن، أمثال الأساتذة الأفاضل: القاضي عبدالواسع بن يحيى الواسعي، وعلي بن اسماعيل المؤيد رحمهما الله وغيرهما.
نعرف أن التحقيق عمل متميز مستقل يضاف إلى المخطوطة يعرف بها، مخطوطة وموضوعا ومؤلفا. ويسهل الاستفادة منها في فهارس وملاحق عدة. ولكن أن ينسخ الكتاب فقط.. فهذا لا يمكن أن يكون من التحقيق في شيء، وهو إلى العمل التجاري أقرب وألصق منه بالعمل الثقافي العلمي المسئول.
ب - الجانب العملي:
صفحہ 16
وهنا.. أجدني مضطرا لاستكمال الاستطراد الذي تجاوزت به بابه بحكم شدة الترابط بين هذين الجانبين. وفي هذا الجانب العملي من التحقيق، نركز موضوعه في فقرات أربع:
الأولى: النسخ والأمانة العلمية:
قلنا في الحد المبسط والعملي للتحقيق ما معناه: بأنه كشف وإضافة حقائق في الكتاب وإليه تبرز قيمته العلمية وتسهل استفادة القارئ المعاصر منه، بين أكثر قدر ممكن منها وأقل قدر لا بد منه.
ولعل في مثل هذا الحد قدرا جيدا من المرونة والتسامح عن بلوغ الحد الأعلى من ناحية، وقدرا من الحرص والتمسك بالحد الأدنى الذي يمثل أضعف الإيمان من ناحية أخرى، وفي ذلك إتاحة الفرصة لتحاشي الإفراط في شروط التحقيق التي تؤدي إلى الابتعاد عن تحقيق المطبوعة ونشرها، والسمو عن التفريط في الاكتفاء بنسخها طباعة دون أن يلمس المطلع أي جهد للتحقيق. وبما أن حالة الإفراط المانعة من التحقيق، هي سالبة عدمية.. فإن حالة التفريط إيجابية تتمثل في عمل يحدد موضع وموضوع الحديث عنه.
ونمر به في مثالين:
أحدهما: النسخ المجرد:
وبين أيدينا عدد من المخطوطات النادرة التي تم طبعها دون أثر فيها للتحقيق، والغريب أن من تولوا نشرها، يصرون على أن يسموا هذا النشر تحقيقا مكتوبا على صفحاتها الأولى ومحفورا على أغلفتها. وكما سبق، فإن هذا الإخراج للمخطوطة يكون عدمه أفضل من وجوده؛ ذلك أنه يمنع في الغالب، إقدام شخص آخر على التحقيق مرة أخرى لذلك الكتاب. ثم إن فائدته تظل قليلة وحبيسة في داخله. وكان أقل قدر من أضعف الإيمان أن يضع الناشر تبويبا للموضوعات وفهارس لها.. ولكن الذي حدث أنه لم يضف شيئا.. ولدي بعض من هذه الكتب لا أجدني قادرا على الاستفادة منها أبسط المعارف إلا بأن أتصفح الكتاب من غلافه إلى غلافه في كل حالة أبحث فيها عن علم أو مفردة أو رأي لمؤلفه.
وثانيهما: الإخلال بالأمانة العلمية:
صفحہ 17
وهذه الحالة أو المثال أشد سوءا وأكثر ظلما وهضما للكتاب ولمؤلفه. وقد ظهرت لدينا في فترات متباعدة من العشرين عاما الأخيرة، بضعة كتب تراثية تم نشرها وإدخال إضافات إلى صميم موضوع الكتاب منها. وحذف كلمات وجمل، بل ومفردات من أماكن متفرقة فيها. وذلك لغرض التحريف المتعمد للمخطوطة الأصل، باسم إخضاع آراء وأسلوب ومصطلحات الكتاب لمفاهيم وآراء معينة حدثت أخيرا على الساحة الفكرية والثقافيه والسياسية. ومثل هذا العمل، يعتبر جريمة علمية وتاريخية وخلقية وجنائية في حق الكتاب ومؤلفه خاصة، وفي حق الفكر والتاريخ عامة.
وتمثل هاتان الحالتان قضية الأمانة العلمية والتاريخية، ولذا يجب على من يستطيع، وفي المقدمة العلماء والمثقفون.. الوقوف بحزم إلى جانبها ضد أي شخص عمل أو يحاول أن يعمل في اتجاهها والمس منها والإساءة إليها. ولا نريد أن نسمي أمثلة من هذه الكتب، حرصا على ترك المسئولية لأصحابها المباشرين في مؤسساتها المختصة.. على أمل أن يتم تدارك القصور والخطأ في الطبعة القادمة لمثل هذه الكتب.
الثانية: العودة إلى التراث:
والملاحظ أن ظاهرة العودة إلى كتب التراث الإسلامي، أصبحت حقيقة تتصاعد من عام إلى آخر. وبصرف النظر عن أسبابها ودوافعها مما ليس هذا مكانها.. فإنها ظاهرة تزيد من دوافع الاهتمام بنشر كتب التراث الإسلامي من جهة، وبرفع مستوى التحقيق لهذه الكتب من جهة ثانية.
ففي كل محافظات ومدن الجمهورية في اليمن مثلا.. تزايد الطلب على المخطوطات اليمنية في الفكر الإسلامي، بصورة أصبحت تمثل قضية لدى الجيل الشاب بصفة خاصة. ولندرة طباعة ونشر هذه المخطوطات، اعتمد الناس على تصويرها كما هي، في نسخ تتعدد وتتكاثر بين وقت وآخر، حتى أن مئات من المخطوطات أصبحت صورها المنسوخة منتشرة بشكل بارز ومميز في المكتبات الخاصة والمساجد وحلقات التدريس وغيرها، ولا يزال الإقبال يزداد ويتصاعد عليها حتى أصبحت آلات طبع المخطوطات عن طريق التصوير وآلات التجليد، مهنا وحرفا رائجة يعيش منها ويتفرغ فيها كثير من الناس.
صفحہ 18
الثالثة: عزلة التراث اليمني:
وبالإضافة إلى ندرة الكتاب مخطوطا كما أشرنا إلى هذا العامل بوصفه واحدا من الدوافع لتحقيق المخطوطات ونشرها، فإن موضوع عزلة التراث الفكري اليمني.. يمثل أيضا واحدا من أبرز الدوافع لتحقيق ونشر أي مخطوطة.
ونتحدث عن هذا الموضوع من جوانب ثلاثة:
أولا: مدى عزلة التراث اليمني في الداخل:
أعرف أن أشياخا مطلعين وفتيانا متطلعين من أشياخنا وفتياننا العلماء والمتعلمين، قد يقدمون أكثر من اعتراض أو استدراك أو تحفظ على هذا الموضوع من حيث أن كتب التراث الإسلامي اليمنية لم تعد تعيش حالة توصف بالعزلة، بعد أن فتح الباب على مصراعية للتحقيق والنشر، وبعد أن توفرت وسائل الطباعة ودور النشر والمهتمون بالتحقيق وخرج إلى النور مئات من المخطوطات.
وفي الحقيقة التي نعتقدها ونقتنع بها.. فإن هذا الاعتراض من وجهته العامة وارد ومقبول في جملته لا تفصيله؛ كونه لا يتعارض مع الحقيقة.. ولكنه لم يطرح الحقيقة كلها ومن كل جوانبها وطبقا للأسس التي تقوم عليها والمعايير التي تقاس بها. وحقيقته بالتالي، تظل نسبية من جانب، ومنطلقة من مدى توفر الوسائل تشريعا ومؤسسات نشر من جانب آخر.
وبطرح الحقيقة من جميع جوانبها وبأبرز أسسها ومعاييرها، يتضح صدق العزلة على الحال الذي تعيشه كتب التراث. وألخص ذلك في ملامح أربعة:
صفحہ 19
1- إن المقصود بتعبير العزلة، هو عزلة هذا التراث اليمني عن القارئ في داخل الجمهورية اليمنية وخارجها في الأقطار العربية خصوصا، ثم الإسلامية عموما، هذا جانب من العزلة.. وجانب ثان، وهو عزلة كتب التراث عن حياة الناس الفقهية والثقافية عموما. ولا نقصد بذلك فرضها على فئة أو مؤسسة أو منهج دراسي، وإنما المقصود بهذا هو عزلتها عن الناس والأماكن، في حدود الحاجة والفائدة القائمتين على الطلب والرغبة. وجانب ثالث، وهو أن المخطوطة هي في حد ذاتها ووضعها وطبيعتها، عزلة للكتاب. وتزايد الإقبال على كتب التراث بين أوساط الناس بمختلف فئاتهم وثقافاتهم، المخطوطة منها (عن طريق التصوير كما سبق) والمطبوعة.. يؤكد بما لا مجال فيه للشك، أنه لو أصبحت المخطوطة من كتب التراث مطبوعة منشورة، لشملها هذا الإقبال. ولم يعد الآن مستغربا أن يسمع الواحد منها بين وقت وآخر أصحاب دور نشر في سوريا ولبنان بالذات، يسألونه عن مدى معرفته بشيء من التراث اليمني يمكن أن يتولوا طبعه ونشره ابتداء أو إعادة. وهم لا يعنون كتبا بعينها ولكن أي كتب. وهذا السؤال نسمعه أكثر أثناء معارض الكتاب الدورية التي تقيمها جامعة صنعاء. وفيه دلالة كافية على رواج كتب التراث؛ إذ أن كثيرا من أصحاب هذه الدور أصحاب هدف محدد ومعروف سلفا، وهو المردود المالي من هذا العمل. وبرغم ذلك فإنهم أصحاب هدف مشروع وعمل يستحق التشجيع والتسهيل والمساعدة لإنجازه.
المناظرة بين المشرق والمغرب:
ومثال آخر من الواقع.. وهو أن الحوار الذي عقده أستاذان من أبرز الباحثين العرب(¬1) وأدارته بينهما إحدى المجلات العربية(¬2) تحت عنوان عام، هو (المناظرة بين المشرق والمغرب) في حلقات خلال العام 1989م، وهذا الحوار شغل مساحة واسعة من القراء في الوطن العربي وخارجه، وظلت المطالبة باستمراره والتعليق على جوانب منه، تزداد وتتسع. كما كان من نتائجه انصراف أعداد غير قليلة من مختلف فئات الناس، إلى البحث عن كتب التراث والسؤال عن عناوين منها متعددة . وذلك ما لم يكن متوقعا بهذه الكثرة على الأقل. ودلالة المثال في أن الحوار كان في مجال القضايا الفكرية التراثية، ثم ما استتبع ذلك من استخدام المدارس والمذاهب والإعلام في إطار الفكر الإسلامي، مادة للحوار. وإضافة إلى هذا، فإن شطر هذا الحوار - كما قرأت أخيرا قد صدر في كتاب.
صفحہ 20
2- وبما أن المخطوطة عزلة للكتاب كما سلف، ونقرؤ مثلا: من المحقق القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي، حيث يقول عن مخطوطة: (العقود اللؤلؤية) (¬3) بأنها النسخة الوحيدة من الكتاب.. فإن ما لا يزال من تراث الفكر اليمني سجين المخطوطات، يزيد عن ما نسبته 90
تسعون في المئة أو عن تسعة أعشاره.. اعتمادا على أدنى التقديرات لعدد المخطوطات من كتب التراث اليمني(¬1).
1- 3- عزلة المكتبات الخاصة:
ونتجاوز ما تسرب من كتب التراث اليمني إلى الخارج خلال حقب مرت من التاريخ، ولا يزال يتسرب بصورة ربما أكثر من الماضي، وبكل الوسائل والطرق المشروعة وغير المشروعة، والطرق غير المشروعة أكثر، وذلك مما هو الآن في كثير من المتاحف والمكتبات العامة وهو كثير(¬2)، ناهيك عما ضل عن طريق هذه المكتبات والمتاحف، والتجاوز قائم على أساس أن هذا الجانب منها يقع في متناول الباحث والمطلع القادرين.. إذا تجاوزنا هذا، فإن النسبة الكبرى من المخطوطات اليمنية في الداخل، هي التي توجد في المكتبات الخاصة، وهي واقعة تحت احتكار ملاكها الذين يمتنع كثير منهم حتى عن إعطاء بيانات كاملة وشاملة عما بحوزتهم، إلى المراكز والمكتبات العامة، فضلا عن تقديم شيء منها إلى هذه المكتبات العامة التي تقع في متناول الباحث والمطلع.
واحتكار المكتبات الخاصة للمخطوطات، يكاد يكون عادة متوارثة لدى الأسر اليمنية كغيرها من الأسر في غير اليمن، ولعلها في اليمن أرسخ وأعمق.. ومن آيات ذلك، على طريق التمثيل ظاهرتان:
أولاهما: أن مخطوطات الأسر المالكة لها، أصبحت معروفة تقريبا، بحيث يمكن للمطلع على المخطوطات والمهتم بها.. معرفة عناوين الكتب التي تملكها الأسرة أو الأسر الفلانية، هذا من حيث أسماء وموضوعات المخطوطات في أبرزها وأشهرها على الأقل. وكذا يمكنه من حيث شكل المجلدات تمييز نسخ المخطوطات ونسبتها إلى ملاكها. حتى أشبهت المخطوطات في ملكياتها، العمارات والعقارات تقريبا، فلا تستغرب أن تسمع شخصا يتحدث عن الفوارق والميزات بين نسخة آل فلان من الكتاب الفلاني، وبين نسخ أخرى منه للأسر الفلانية مثلا.. من حيث جودة ونوع الخط والهوامش والتصحيح ...إلخ.
صفحہ 21
وثانيتهما: ترتب على حرص الأسر على مخطوطاتها، أو تسبب فيه ونتج عنه أن انتشر واشتهر في أوساط كثير من الأسر اليمنية -ولا يزال لدى بعضها حتى اليوم- حصر توارث المخطوطات من الكتب بصفة خاصة على الذكور من أفراد الأسرة دون النساء، حتى لا يخرج موروثها من الكتب إلى أسر أخرى. ولكن دون وجود تعصب أو تحيز ضد الوارثات من النساء أو إنكار حقهن بأية صفة من الإكراه أو الحرمان، بل برضاهن أولا، وبتعويضهن عن الكتب من المنقولات الموروثة الأخرى ثانيا، أو أن يشتري الرجل نصيب قريبته من أسرته، بعد القسمة بثمن الزمان والمكان حسب تقويم عدول مختصين، ويساعد على ذلك في الغالب، عدم اهتمام المرأة بالمخطوطات من جهة، وكثيرا ما تشاطر أسرتها الحرص على الاحتفاظ بالمخطوطات المتوارثة.
وهذه عادات وأساليب ليس هذا موضع مناقشتها، وقد لا يجد المعترض سبيلا شرعيا إلى الطعن فيها، طالما ظلت قائمة على الصفة الشرعية التي استعرضنا جانبا منها في المثال الأخير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى.. فإن الحرص الشديد من أصحاب المكتبات الخاصة على مجلداتهم، وهو حرص يشمل في الغالب المتعلمين وغيرهم من أفراد الأسرة الواحدة.. لا يبدو أنه آت من فراغ، ولكن له أسبابا فرضتها حالات تعرضت فيها الكتب للضياع بطرق مشروعة أو شبه مشروعة، كالعارية التي لا ترد، وكأخذها بصورة مؤقتة لبعض المدارس، ثم بعد فترة من الزمن والنسيان تصبح وقفا بطريق الخطأ، أو تتنقل من شيخ (أستاذ المدرسة العلمية) إلى آخر، وربما من مدرسة إلى أخرى.. وبطرق غير مشروعة، كالمصادرة والنهب والابتزاز والسرقة...إلخ. ثم من ناحية ثالثة، أن اعتقادا ترسخ لدى كثير من الأسر اليمنية يربط المحافظة على المخطوطات الموروثة بشيء من كرامة وسمعة الأسرة، وهو اعتقاد قد بدأ بانتشار المطابع بالدرجة الأولى، يتلاشى في طريقه إلى الانحسار.
4- عزلة المكتبات العامة:
وكما سبق، فإن وجود المخطوطات في المكتبات العامة، وإن كان وجودها فيها أقل عزلة وأكثر حضورا، إلا أنها في حد ذاتها عزلة أيضا، لولا تبريرها بأنها أهون الشرين كما يقال، وأن ذلك هو كل ما في الإمكان حاليا؛ ذلك أن وجودها تظل فائدته محصورة تقريبا على الباحث والدارس، بمن فيهم أصحاب الدراسات الأكاديمية العليا أو المتخصصة. ويؤكد هذه العزلة في بلادنا وما شابهها بصفة خاصة، عوامل عدة مثل:
صفحہ 22
أ- إن جمهور المكتبات العامة من المثقفين في بلادنا، جمهور لم يتجمهر بعد ولا يكاد يظهر بما يستحق أن يذكر، فما بالنا بعامة الناس.
ب - إن الحصول على نسخ أو أوراق منسوخة من محتويات المكتبات العامة، لا يزال أمرا صعبا ومرتفع التكاليف عند إمكانه. وكثيرا ما يتعذر ذلك في بعض المخطوطات لأسباب غالبا ما تكون غير منطقية ولا مقبولة.. وعلى سبيل المثال، فقد أفادنا مسئول في إحدى المكتبات العامة للمخطوطات، أثناء المحاولة للحصول على نسخ من بعض المراجع.. أفاد بأن لديه أمرا من المسئول الأول عن المؤسسة المشرفة على المكتبة يقضي بمنع تصوير المخطوطات بحجة أن ذلك يسبب التفسخ وشيئا من الإساءة المادية (تمزق بعض الأوراق والتجليد) إلى المخطوطات، وهو عذر مقبول لو كان النسخ متعذرا إلا من المخطوطة الأصل، ولكنه غير مقبول ولا مقنع إذا عرفنا أن بالإمكان تصوير نسخة واحدة من كل مخطوط بواسطة فنيين متخصصين، ثم النسخ عن الصورة، هذا من جهة.. ومن أخرى فإن المفروض استخدام أحدث أجهزة النسخ والتصوير التي تؤدي الغرض ولا تضر بالمخطوطة، ولا تسبب لها أي إساءة. وهو احتجاج كما ترى، يعتبر دليلا على عدم الاهتمام بحق النسخ والاطلاع، وعدم الاهتمام بصيانة المخطوطات، وعدم وضع الحل الجذري، أكثر من كونه مبررا مقنعا بعدم النسخ.
ثانيا: عزلة الفهم الخاطئ.
والجانب الثاني من الجوانب الثلاثة التي حددتها لتناول موضوع عزلة التراث الفكري اليمني.. هو عزلة الفهم الخاطئ لهذا التراث ، وأطلق عليه هنا صفة العزلة.. إطلاقا لا يستخدم ضربا من معاني وأساليب الكناية أو المجاز، ولكن هذا الفهم قد مثل عزلة للتراث الفكري اليمني (الزيدي) بكل ما تعنيه الكلمة في دلالتها الحقيقية من دلالة لغوية. وأحاول توضيح هذا الجانب في أربعة من وجوهه:
صفحہ 23