شكر وتقدير
مقدمة: ما الإنسانوية؟
1 - تاريخ الإنسانوية
2 - الحجج المؤيدة لوجود الإله
3 - الحجة المعارضة لوجود الإله
4 - الإنسانوية والأخلاق
5 - الإنسانوية والعلمانية
6 - الإنسانوية والتعليم الأخلاقي والديني
7 - معنى الحياة
8 - المناسبات الإنسانوية
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
شكر وتقدير
مقدمة: ما الإنسانوية؟
1 - تاريخ الإنسانوية
2 - الحجج المؤيدة لوجود الإله
3 - الحجة المعارضة لوجود الإله
4 - الإنسانوية والأخلاق
5 - الإنسانوية والعلمانية
6 - الإنسانوية والتعليم الأخلاقي والديني
7 - معنى الحياة
8 - المناسبات الإنسانوية
مراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الإنسانوية
الإنسانوية
مقدمة قصيرة
جدا
تأليف
ستيفن لو
ترجمة
ضياء وراد
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
شكر وتقدير
أود أن أشكر بشكل خاص أندرو كوبسون (الرئيس التنفيذي للرابطة البريطانية الإنسانية)، ورونالد ليندسي (المدير التنفيذي لمركز البحث) لتعليقاتهما المفصلة على المسودات الأولى من هذا الكتاب. لقد كانت مساعدتهما قيمة للغاية. لكن هذا الكتاب بأكمله مسئوليتي الخاصة، ولا ينبغي افتراض أنه يمثل آراء أي شخص آخر، أو أي منظمة إنسانوية بعينها. كما أود أن أشكر ديفيد بابينو، وديفيد بولوك (رئيس الاتحاد الإنسانوي الأوروبي)، وجون شوك، وريجينالد ويليامز، وهو مراجع لا أعرفه يعمل لصالح مطبعة جامعة أكسفورد، وختاما قراء مدونتي:
http://www.stephenlaw.org ، لمساعدتي بتعليقاتهم ومقترحاتهم البناءة.
مقدمة: ما الإنسانوية؟
حملت كلمة «إنسانوية» - ولا تزال تحمل - مجموعة شتى من المعاني؛ فهي تشير في معناها الرحب إلى منظومة فكرية تعتبر فيها القيم والاهتمامات والكرامة الإنسانية ذات أهمية خاصة. وبهذا المعنى، ربما يصبح تقريبا كل شخص منا إنسانويا (حتى الدينيون).
إلا أن المنضمين إلى لواء «الإنسانوية» اليوم، ولا سيما في المملكة المتحدة، عادة ما يقصدون شيئا أكثر تحديدا؛ فهم لديهم رؤية للعالم من نوع خاص لا يقبلها الجميع بالتأكيد، وتلك الرؤية هي محور هذا الكتاب.
فما الذي يميز الرؤية الإنسانوية إذن؟ من الصعب أن نكون محددين جدا في هذا الشأن؛ فحدود المفهوم مطاطة، لكني أعتقد أن أغلب الإنسانويين سيتفقون على الأرجح على شيء من قبيل التوصيف السباعي المختصر التالي (مع عدم وجود ترتيب معين للنقاط الواردة فيه):
أولا: يؤمن الإنسانويون أن العلم، والعقل بشكل أعم، أداتان مهمتان للغاية يمكننا - ويجب علينا - أن نستخدمهما في كافة مناحي الحياة، ولا ينبغي النظر لأي معتقدات على أنها ممنوع الخوض فيها وغير خاضعة للاستقصاء العقلاني.
ثانيا: الإنسانويون إما ملحدون وإما على الأقل لا أدريون. إنهم يتشككون في الزعم بوجود إله أو آلهة، وكذلك يتشككون في وجود الملائكة والشياطين وغيرها من مثل هذه الكيانات فوق الطبيعية.
ثالثا: يؤمن الإنسانويون أن هذه الحياة هي الحياة الوحيدة لنا؛ فلا توجد حياة أخرى تعود فيها أرواحنا إلى أجسادنا بعد موتنا، كما لا توجد جنة أو نار. ولاحظ أن الموقف الإنسانوي المتشكك في وجود آلهة والحياة الآخرة ليس «موقفا إيمانيا» عقائديا، بل نتيجة لإخضاعهم هذه المعتقدات للاستقصاء النقدي واكتشاف أنها قاصرة بصورة خطيرة.
رابعا: تنطوي الإنسانوية على إيمان شديد بوجود وأهمية القيمة الأخلاقية. كما يؤمن الإنسانويون بأنه ينبغي أن نستمد أخلاقنا عن طريق دراسة الطبيعة الفعلية للبشر وما يساعدهم على الازدهار في هذه الحياة، لا الحياة الآخرة. وينكر الإنسانويون المزاعم السلبية على غرار أنه لا يمكن وجود قيمة أخلاقية دون الإله، وأننا لن نكون - أو يستبعد أن نكون - أخيارا دون الإله أو دون دين يرشدنا. ويقدم الإنسانويون حججا وتبريرات أخلاقية لا تعود للمعتقد أو السلطة الدينية.
خامسا: يؤكد الإنسانويون على استقلالنا الأخلاقي الفردي؛ فمن مسئوليتنا كأفراد أن نصدر أحكامنا الأخلاقية الخاصة لا أن نحاول تسليم تلك المسئولية إلى سلطة خارجية ما - مثل زعيم سياسي أو عقيدة دينية - لتصدر تلك الأحكام بالنيابة عنا. يؤيد الإنسانويون تبني أشكال من التعليم الأخلاقي تؤكد على تلك المسئولية، التي ستزودنا بالمهارات التي سنحتاجها من أجل الاضطلاع بتلك المسئولية كما ينبغي.
سادسا: يؤمن الإنسانويون أنه يمكن أن يكون لحياتنا معنى دون أن يهبنا الإله إياه؛ فهم يفترضون أن حيوات بابلو بيكاسو، وماري كوري، وإرنست شاكلتون، وألبرت أينشتاين - على سبيل المثال - كانت حيوات ثرية ومهمة وذات معنى؛ سواء وجد الإله أم لا.
شكل 1: اختار كل من الرابطة البريطانية الإنسانية والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، اللذين يتبعهما الكثير من المنظمات الإنسانوية حول العالم؛ شكل الإنسان السعيد ليكون رمزا لهما.
سابعا: الإنسانويون علمانيون؛ بمعنى أنهم يفضلون مجتمعا ديمقراطيا مفتوحا تتخذ فيه الدولة موقفا حياديا فيما يتعلق بالدين، وتحمي حرية الأفراد في اتباع واعتناق، أو رفض ونقد، الأفكار الدينية والإلحادية على حد سواء. وبينما يعارض الإنسانويون أي محاولة لإجبار الناس على اعتناق أي معتقد ديني، فهم معارضون بالقدر نفسه لإجبار الناس على الإلحاد، كما حدث في ظل حكم أنظمة شمولية معينة.
ثمة عدد من الرؤى الأخرى التي أحيانا ما ترتبط أيضا بالإنسانوية ولم أعرضها هنا. فعلى سبيل المثال، لاحظ أنه لا يجب على الإنسانوي، بوصفه الوارد هنا:
أن يكون يوتوبيا، مقتنعا أن استخدام العلم والعقل سيقود حتما إلى «عالم جديد بديع» من السلام والرضا.
أن يؤمن بأن البشر «وحدهم» هم المهمون، من الناحية الأخلاقية؛ فكثير من الإنسانويين يعتبرون سعادة ورفاهية الأنواع الأخرى مهمة أيضا.
أن يكون نفعيا، معتقدا أن تعظيم السعادة وتقليل المعاناة هو كل ما يهم، من الناحية الأخلاقية. وبينما يعتنق بعض الإنسانويين مذهب النفعية، وجميعهم تقريبا يعتقدون أن السعادة والمعاناة مهمتان من الناحية الأخلاقية؛ فليس كل الإنسانويين نفعيين.
أن يعتنق أشكال المذهب الطبيعي التي تقول بأن العالم الطبيعي المادي هو الواقع الوحيد الموجود، و/أو أن الحقائق الطبيعية المادية هي الحقائق الوحيدة الموجودة. يعتنق الكثير من الإنسانويين، وربما أغلبيتهم، شكلا من أشكال المذهب الطبيعي؛ بل إن بعضهم يعرف ضرب «الإنسانوية» الذي يعتنقه على أنه يتضمن أفكار المذهب الطبيعي. إلا أن التعريف الأرحب المستخدم هنا يتيح للإنسانويين نقد المذهب الطبيعي إن أرادوا ذلك. صحيح أن الإنسانويين يرفضون الإيمان بالآلهة والملائكة والشياطين وما إلى ذلك، أو على الأقل يتخذون موقفا لا أدريا بشأنها، لكن لا يقتضي ذلك اعتناقهم للمذهب الطبيعي. خذ كمثال عالم رياضيات يؤمن أن الرياضيات تصف واقعا رياضيا غير طبيعي (جنة رقمية من نوع ما). إن عالم الرياضيات هذا يرفض المذهب الطبيعي، لكن ذلك لا يستلزم أنه لا يمكن أن يكون إنسانويا. أو خذ كمثال فيلسوفا يرى أنه أثبت، على سبيل المثال، أن الحقائق الأخلاقية أو الحقائق بشأن ما يدور في عقولنا الواعية ، هي حقائق موجودة إلى جانب جميع الحقائق الطبيعية والمادية. مجددا، لا أرى سببا يمنع مثل هذا الفيلسوف من أن يكون إنسانويا. وكشف مسح حديث عن أنه من المشتغلين بالفلسفة لا يؤمن بالإله سوى 14,6٪، وأنه دون 50٪ مباشرة منهم يعتنقون المذهب الطبيعي. وأرى أنه لا ضرورة من التقيد بتعريف ل «الإنسانوية» يستبعد على نحو تلقائي الذين لا يؤمنون بالمذهب الطبيعي أو لا يؤمنون بوجود آلهة.
أن يعتنق المذهب العلمي، معتقدا أن كل سؤال جوهري يمكن من حيث المبدأ أن يجيب العلم عنه. ولنأخذ الأسئلة الأخلاقية مثالا على ذلك. بإمكان الإنسانويين القبول - وغالبا ما يقبلون - بأن العلم والعقل وحدهما غير قادرين على تحديد الصواب أو الخطأ أخلاقيا، رغم أن قراراتنا الأخلاقية يمكن أن تستقى من الاكتشافات العلمية. وقد يفترض الإنسانوي أن هناك أسئلة أخرى - مثل: «لم توجد الأشياء في الأساس؟» - هي أيضا أسئلة جوهرية لا يستطيع العلم الإجابة عنها. ولا يتشكك الإنسانويون إلا في إجابة واحدة بعينها؛ وهي أن الكون من صنع إله واحد أو أكثر.
من أجل تفنيد الإنسانوية كما وصفتها، لا يكفي أن أفند اليوتوبية أو النفعية أو المذهب العلمي أو المذهب الطبيعي. فبإمكان الإنسانوي أن يرفض هذه المذاهب الفلسفية كلها أو أن يظل محايدا إزاءها.
ينتقد الإنسانويون أحيانا لأنهم لا «يؤيدون» أي شيء، وكثيرا ما يتم تصويرهم على نحو مبالغ فيه في صورة معترضين، تتشكل صورتهم بالكامل من خلال ما يرفضونه؛ وهو الإيمان بوجود إله أو آلهة.
لكن لاحظ أنه حتى المؤله (المؤمن بوجود إله) يرفض الإيمان بالآلهة العديدة «الأخرى» التي آمن بها الناس عبر القرون (مثل آلهة الرومان والإغريق والنورديين وشعوب المايا والمصريين القدماء وما إلى ذلك). ويظل الإنسانوي غير مقتنع بوجود إله من الأساس.
علاوة على ذلك، لاحظ أنه، كما أشرنا هنا، تتجاوز الإنسانوية مجرد الإلحاد أو اللاأدرية؛ ومن الواضح أنها «تؤيد» الكثير من الأمور الأخرى.
فعلى سبيل المثال، تؤيد الإنسانوية حرية الفكر والتعبير ووجود مجتمع منفتح، وتؤيد أشكال التعليم الأخلاقي التي تؤكد على استقلالنا الأخلاقي وأهمية التفكير على نحو نقدي ومستقل. لا يرفض الإنسانويون المناهج العقائدية في الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل إنهم يؤيدون بشدة استحداث بدائل وضعية، وعقلانية، وفي الأساس أكثر دعما للعيش في هذه الحياة وسعيا لتحسين جودتها.
وأحيانا ما يوصف الفكر الإنسانوي على نحو مبالغ فيه؛ على أنه يقوم على مزيج غير متجانس من الأفكار المتباينة غير المترابطة. ولكن مجددا، هذا غير صحيح؛ فتركيز الإنسانوية منصب على «الأسئلة الكبرى»، على سبيل المثال: ماهية الأشياء الحقيقية، وماهية ما يجعل الحياة تستحق العيش في الأساس، وماهية الصواب والخطأ أخلاقيا والسبب وراء ذلك، وأفضل سبيل لتنظيم مجتمعنا. وفي حين يتناول الدين عادة مثل هذه الأسئلة، فإنها بوضوح ليست حكرا على الدين؛ فتلك الأسئلة تنتمي أيضا للفلسفة، وكان يجري تناولها على نحو عقلاني لا ديني قبل ظهور المسيحية. وما يجمع رؤانا السبع المميزة للإنسانوية في كيان أشبه بمنظومة فكرية هو؛ أولا: تركيزها المشترك على «الأسئلة الكبرى»، وثانيا: وجود درجة من الارتباط المتبادل فيما بينها (على سبيل المثال، إن كنت متشككا في وجود الآلهة، فسيقودك ذلك إلى التشكك في الزعم بأن الحس الأخلاقي مغروس بداخلنا من قبل إله)، وثالثا: الدور المهيمن الذي تلعبه النقطة الأولى؛ يؤمن الإنسانويون بهذه الرؤى حيال «الأسئلة الكبرى»، ليس في صورة «موقف إيماني» معتنق على نحو عقائدي، ولكن لأنهم يعتبرونها بشكل أكبر مواقف منطقية يمكن تبنيها، وذلك بعد أن أخضعوا البدائل المختلفة للاستقصاء العقلاني.
وفي النهاية، أود أن أتحدث عن تعارض الإنسانوية الشديد مع الدين. من الواضح أن كثيرا من الإنسانويين لا يعتبرون الدين زائفا وحسب، وإنما أيضا خطرا، بل يراه بعضهم شرا عظيما، ولكن ليس جميعهم كذلك؛ فعدد كبير من الدينيين يؤيدون كثيرا من الرؤى التي وصفت الإنسانوية في إطارها، كما أنهم علمانيون، ويقبلون بإمكانية وجود منظومة أخلاق وحياة ذات معنى حتى في غياب الإله، وكذلك قد يتشاركون مع الإنسانويين في كثير من أهدافهم. يسعد الكثير من الإنسانويين بالعمل مع الأشخاص الدينيين والمؤسسات الدينية لتحقيق تلك الأهداف، وثمة بالطبع دينيون مستعدون للعمل مع الإنسانويين. وفي وقت كتابة هذا الكتاب، تبرع المركز البحثي «ثيوس»، التابع لجمعية الكتاب المقدس، لتنفيذ حملة دعائية للرابطة البريطانية الإنسانية تروج لفكرة أن الأطفال ينبغي ألا يحملوا دينا بعينه، بل ينبغي السماح لهم بالنضج بحرية بحيث يتخذون قرارهم بشأن أي الأديان سيعتنقون، هذا إن اعتنقوا دينا من الأديان. بالتأكيد يختلف الإنسانويون والدينيون بشأن قضايا جوهرية معينة، لكن ثمة الكثير الذي يمكنهم الاتفاق بشأنه، ولا يوجد سبب بعينه يمنع المنظمات الإنسانوية من إنشاء شراكات تعاون بناءة مع نظرائها الدينية.
يهدف هذا الكتاب إلى تقديم مزيد من الشرح عن الإنسانوية، كما وصفتها أعلاه، وإلى عرض الحجج المؤيدة لها.
الفصل الأول
تاريخ الإنسانوية
تعود جذور الإنسانوية الحديثة إلى الماضي حتى العالم القديم على الأقل؛ فنوعية «الأسئلة الكبرى» التي تتناولها الإنسانوية - على غرار: «هل الإله موجود؟» و«ما الذي يحقق حياة ذات معنى؟» و«ما الذي يجعل الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا؟» - هي أسئلة ما فتئت الإنسانية تطرحها لآلاف السنين. وفي كثير من الأزمنة والأمكنة، كان كل من المنهج المتبع في الإجابة عن تلك الأسئلة والإجابات اللادينية المعطاة مشابهين للمنهج الذي يتبعه الإنسانويون اليوم والإجابات التي يقدمونها. وكما سيتضح من العرض التالي، فإن الإنسانوية الحديثة بإمكانها الاعتماد على إرث فكري غني وممتد. (1) الفكر الهندي القديم
كان التشكك في التعاليم الدينية سمة من سمات بعض الكتابات الهندية المبكرة، بل إن أحد نصوص الأوبانيشاد يشكك حتى في وجود الإله براهما. وفي وقت لاحق، لم تتشكك مدرسة فكرية هندية ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد - منظومة كارفاكا - في وجود إله وحسب، بل أكدت على نحو واضح على عدم وجوده. ومدرسة كارفاكا الفلسفية مدرسة إلحادية ومادية في الأساس، تصر على أن العالم الطبيعي المادي يشكل كل ما هو موجود، وأنه لا فائدة من الكهنة، وأن الدين بدعة بشرية زائفة، وبدلا من أن نعيش حياة متقشفة، يجب علينا أن نستمتع بحياتنا إلى أقصى درجة، ونسعى خلف المتعة والسعادة. وتوضح مدرسة كارفاكا أن تبني موقف تشككي من جميع المعتقدات الدينية ليس ظاهرة حديثة، أو مقصورة على الغرب. (2) كونفوشيوس
يعتبر كونفوشيوس (551-479 قبل الميلاد) هو مؤسس الكونفوشيوسية؛ وهي منظومة فكرية هيمنت على الصين وأجزاء أخرى من آسيا لآلاف السنين. وعلى الرغم من أن كونفوشيوس سلم بوجود كل من الآلهة والقوى فوق الطبيعية، فإن منظومة الفلسفة الأخلاقية والسياسية التي وضعها استقلت على نحو كبير عن أي تقيد بالآلهة أو تلك القوى. وكونفوشيوس معروف على نحو خاص بما يسمى بالقاعدة الذهبية؛ إذ قال:
عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك. حسبك هذا القانون؛ فهو الأساس لغيره من القوانين.
لا يعتنق هذه القاعدة الذهبية كثير من الدينيين وحسب (فهي بالطبع مرتبطة بشخصيات دينية لاحقة، مثل السيد المسيح)، ولكن كثير من الإنسانويين أيضا. (3) اليونان القديمة
شهدت اليونان القديمة ازدهارا استثنائيا للثقافة البشرية، وكذلك الاستخدام المنهجي للعقل في التعامل مع مختلف المسائل الاجتماعية والأخلاقية والسياسية الجوهرية، وهذا الموقف التشككي الناقد أدى بالبعض إلى إنكار الإيمان بالآلهة.
ولليونان القديمة أيضا أهمية عند الإنسانويين المعاصرين؛ لأنها تقدم تطورات سياسية مهمة للإنسانوية؛ ولا سيما شكل محدود من «الديمقراطية» (رغم أن صورا من الديمقراطية ربما تكون قد ظهرت قبل ذلك، على سبيل المثال، في الهند في القرن السادس قبل الميلاد). وكانت بعض المدن الإغريقية - خاصة أثينا - «منفتحة» نسبيا، واستوعبت على نحو كبير التشكك في المعتقدات التقليدية، وشجعت على نشأة مجموعة متنوعة من الآراء الفلسفية.
ويمثل ثلاثة فلاسفة إغريق أوائل - طاليس وأناكسيماندر وأنكسيمانس - أهمية خاصة؛ فالطريقة النقدية المستقلة التي فكر بها هؤلاء الفلاسفة الميليتوسيين - بطرح التفسيرات الميثولوجية والدينية جانبا، ومحاولة تطوير أفكارهم ونظرياتهم اعتمادا على الملاحظة والعقل - تجعلهم بوضوح في غاية الأهمية من وجهة النظر الإنسانوية؛ فهم يتبنون العديد من أفكار الإنسانوية الرئيسية وقيمها. ويعتبر الكثيرون أناكسيماندر أبا علم الفلك؛ فقد وضع نموذجا آليا لعمل الأجرام السماوية، اختلف على نحو كبير عن التفسيرات الميثولوجية التي قدمت قبله. كما وضع أناكسيماندر نظرية، مبنية في أكثرها على الحفريات، مفادها أن الإنسان تطور من كائنات كانت تعيش في البحر.
ثمة فيلسوف مهم آخر من وجهة النظر الإنسانوية، وهو بروتاجوراس (490-420 قبل الميلاد). فقد تابع استدلاله بشأن الأخلاق والفضيلة دون أي اعتماد على مذهب أو معتقد ديني. وقد أعلن بروتاجوراس أنه لا أدري؛ إذ قال:
بخصوص مسألة الآلهة، لا سبيل لي إلى معرفة إن كانت موجودة أم لا، أو ما الشكل الذي قد تكون عليه، بسبب غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.
والاعتقاد المعروف به بروتاجوراس بشدة الآن هو:
الإنسان هو مقياس كل شيء، هو مقياس وجود ما يوجد من الأشياء، ومقياس عدم وجود ما لا يوجد منها.
فسر الفيلسوف الإغريقي أفلاطون مغزى مقولة بروتاجوراس السابقة بأن ما هو صحيح وما هو خاطئ نسبي بالنسبة إلى الفرد وما يؤمن به. فعلى سبيل المثال، إذا كنت أعتقد أن باريس هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إلي»؛ وإذا كنت تعتقد أن برلين هي عاصمة فرنسا، فهذا «صحيح بالنسبة إليك». لا توجد حقيقة موضوعية في المسألة؛ لا توجد حقيقة مطلقة على هذا النحو تفصل أينا على حق. ولاحظ أنه من خلال هذه الرؤية المجردة، النسبية للحقيقة، من الممكن جعل شيء صحيحا بمجرد الإيمان به. (فإذا كنت تريد أن تتمكن من الطيران، فما عليك سوى أن تؤمن بقدرتك على الطيران.) ويشتهر عن أفلاطون مهاجمته لهذا الشكل من النسبوية في محاورته «الثئيتتس»؛ حيث لفت الانتباه إلى أنه إن كانت النسبوية صحيحة، إذن فهي صحيحة فقط على نحو نسبي، ويمكن أن يجعلها أفلاطون خاطئة بمجرد الاعتقاد بأنها كذلك.
لم تكن رؤى بروتاجوراس النسبوية ذات أهمية تاريخية وحسب؛ فهذا الشكل من النسبوية شائع اليوم. وقد كتب ذات مرة الأستاذ الأكاديمي الأمريكي آلن بلوم قائلا:
ثمة أمر يمكن لأي أستاذ جامعي أن يتأكد منه تمام التأكد: تقريبا كل طالب يلتحق بالجامعة يعتقد، أو يقول إنه يعتقد، أن الحقيقة نسبية.
وفي الواقع، يعتقد على نطاق واسع أن النسبوية شيء يشبه المرض الذي يصيب المجتمع المعاصر ويقوض منظومته الأخلاقية؛ فعلى سبيل المثال، عندما اكتشف أن قوات الجيش الأمريكي قد عذبت مدنيين عراقيين في أبو غريب، قال ريتشارد لام، حاكم كولورادو:
هذا يعكس انهيارا في المجتمع. لقد تعطلت البوصلة الأخلاقية لهؤلاء الأشخاص لسبب ما، وظني أن ذلك بسبب أن النسبوية أصابتهم.
وقد عبر بابا الفاتيكان الحالي عن مخاوف مشابهة قائلا:
إننا نمضي نحو ديكتاتورية النسبوية التي لا تعتبر أي أمر أكيدا، والتي تهدف في المقام الأول إلى إرضاء غرور الذات ورغباتها.
كان لهذا القلق المعاصر بشأن النسبوية تأثير على السياسة التعليمية؛ فعلى سبيل المثال، قال نيك تيت، الرئيس التنفيذي لهيئة المؤهلات والمناهج بالمملكة المتحدة (فيما يتعلق بإدراج حصص المواطنة بالمنهج الوطني):
إذا كان هناك عدو يستحق الهزيمة، فإنه النسبوية.
وثمة خلاف على نطاق انتشار النسبوية الفعلي، إلا أنه من الجدير بالذكر أن النسبوية ليست ظاهرة حديثة، وأنها كانت محل أخذ ورد حتى في العصور القديمة.
وكثيرا ما يتم تصوير الإنسانويين المعاصرين على نحو مبالغ فيه على يد معارضيهم على أنهم مؤيدون للنسبوية، ولا سيما النسبوية «الأخلاقية»؛ وهي الرؤية القائلة بأن الحقيقة بشأن الصحيح أو الخاطئ أخلاقيا هي ما يعتقده الفرد أو المجتمع. إلا أن الإنسانويين - كما سأشرح في الفصل الرابع - معارضون للنسبوية عامة، وللنسبوية الأخلاقية خاصة.
كما أن أرسطو (384-322 قبل الميلاد) ذو أهمية لدى الإنسانويين؛ خاصة لأنه كان يحاول وضع نظرية عقلانية أخلاقية قائمة على دراسة وثيقة لطبيعة البشر، ولأن تركيز منظومته الأخلاقية ينصب على كيفية تحقيق نوع معين من السعادة أو الرفاهية في هذه الحياة (وليس في حياة ما ستأتي لاحقا). كان لأخلاق الفضيلة عند أرسطو - التي تركز على أهمية تكوين شخصية صالحة، لا على القواعد أو العواقب - تأثير بين الأخلاقيين المعاصرين، وفيهم بعض الأخلاقيين الإنسانويين.
لكن لعل أهم فيلسوف إغريقي من وجهة نظر الإنسانوية هو إبيقور (341-271 قبل الميلاد). كان إبيقور ماديا يعتقد، مثل الفيلسوف ديموقريطوس، أن المادة مكونة من أجزاء أو ذرات غير مرئية توجد في الفراغ وتحكمها قوانين. والبشر أيضا ماديون في الأساس، حسب اعتقاد إبيقور، لا يملكون روحا غير مادية أو خالدة. وهو يرى أن العدل يتمثل في التزامنا بالعقود والعهود التي نبرمها فيما بيننا، والتي مفادها ألا يؤذي أحدنا الآخر.
وللفلسفة عند إبيقور وظيفة علاجية في الأساس. كان هدفه هو وضع فلسفة للحياة من شأنها أن تتيح لنا التمتع بحياة سعيدة وهادئة خالية من الخوف.
شكل 1-1: إبيقور.
رغم أن إبيقور سلم بوجود آلهة، فقد افترض أنها قد لا تكون مهتمة بأمور البشر؛ فهي لا تكافئنا ولا تعاقبنا؛ ولذا ليست هناك حاجة للخوف منها. ورأى إبيقور أنه لا ينبغي الخوف كذلك من الموت؛ لأنه بمجرد أن نموت، ينقطع وجودنا بحيث لا نشعر بأي شيء. وحينذاك لا يوجد في الموت ما نخشاه؛ لا ألم ولا معاناة. يقول إبيقور في هذا الشأن:
سواء لم يكن لي وجود، أو كان لي وجود، أو ليس لي وجود الآن، فأنا لا أكترث!
كثيرا ما نقشت تلك المقولة على شواهد قبور أتباعه، ولا سيما على مدار عهد الإمبراطورية الرومانية، وكثيرا ما تتلى بجنازات الإنسانويين اليوم.
أكد إبيقور تأكيدا خاصا على الصداقة وجودة الحياة. كما اعتقد أن المتعة والألم هما المعياران الوحيدان لقياس الخير والشر؛ ونتيجة ذلك، كثيرا ما أسيء تفسير كلام إبيقور على أنه يوصي بحياة من اللذة المطلقة العنان؛ حياة من الشره والعربدة. لكن في الحقيقة، حذر إبيقور من الإفراط في إشباع الرغبات والإسراف الشديد في كل الأمور. ولإبيقور حيثية لدى الإنسانويين؛ لأنه وضع منهجا لعيش حياة طيبة بمعزل تام عن أي شواغل بشأن الآلهة أو الكيانات فوق الطبيعية. (4) الإمبراطورية الرومانية
أنتجت الإمبراطورية الرومانية القديمة عددا من المفكرين الذين عبروا، بدرجات متفاوتة، عن رؤية إنسانوية عامة.
على سبيل المثال، كان شيشرون (106-43 قبل الميلاد) متشككا، يرى أنه من المستحيل أن تتأتى معرفة عن الآلهة، واعتقد أن القيم الأخلاقية مستقلة عن الدين المؤسسي، وأنها تخضع للاستقصاء العقلاني الفلسفي.
كان الفيلسوف الروماني سنيكا (2 قبل الميلاد-65 ميلاديا) يرى أن:
الدين بالنسبة إلى البسطاء حقيقة، وإلى الحكماء كذب، وإلى الحكام وسيلة نافعة.
ومثل أغلب الإنسانويين اليوم، أصر سنيكا على أن «الوقت المناسب للعيش هو الآن.» (5) ابن رشد
إبان العصور الوسطى، كان الفكر المسيحي هو المسيطر على أوروبا على نحو كبير؛ فكانت جميع الأنشطة الفنية والفكرية تقريبا لاهوتية التوجه، ونادرا ما كان يتم التسامح مع التشكيك في المعتقد الديني التقليدي، وغالبا ما كان يقابل هذا بالعنف والتعذيب.
إلا أنه كانت توجد اتجاهات فكرية أكثر ليبرالية في العالم العربي. ولد المفكر العربي ابن رشد (1126-1198) في قرطبة بالأندلس، وهي بقعة اشتهرت بحريتها الفكرية النسبية. كان لشروح ابن رشد الواضحة والميسرة لأرسطو تأثير مهم على المفكرين المسيحيين الأوروبيين الذين كانوا يعيدون اكتشاف أعمال أرسطو، التي غابت بصورة عامة عن أوروبا المسيحية منذ القرن السادس. وفي الواقع، أطلق المفكر المسيحي توما الإكويني (1225-1274) على أرسطو «الفيلسوف» وعلى ابن رشد «الشارح».
وقال ابن رشد إنه عندما يتعارض النص الديني مع ما قاله فلاسفة على غرار أرسطو، يجب إعادة تفسير النص الديني باعتبار أنه يعتمد في أسلوبه على المجاز. وهذا المنهج الراديكالي الليبرالي نسبيا في تناول النصوص الدينية، الذي يعطي في الواقع العلم والعقل سلطة الاعتراض على الفهم الحرفي للنص، انتهى من العالم العربي. إلا أن ابن رشد غرس بذرة تحررية مهمة في الفكر الغربي؛ إذ زادت أهمية النقاشات حول إمكانية التقريب بين الدين والفلسفة. (6) عصر النهضة
يمتد عصر النهضة من القرن الرابع عشر حتى نهاية القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر، وكانت بدايته في فلورنسا بإيطاليا. تحققت الحركة جزئيا نتيجة لتجدد الاهتمام بالفكر الكلاسيكي؛ فقد أعاد أرباب الحركة اكتشاف أفكار وحجج المفكرين الإغريق والرومان ودراستها، تلك التي أعطت زخما عظيما للاستقصاء الفكري، الذي اتسع في تلك الفترة ليتخطى حدود اللاهوت المسيحي. واتسع أيضا نطاق الفنون المرئية، التي كانت تركز على نحو أساسي على الأمور الدينية، وأصبحت تركز على المذهب الطبيعي على نحو أكبر، إضافة إلى اعتمادها على الميثولوجيا الكلاسيكية إلى جانب الميثولوجيا اليهودية والمسيحية. ونشأ الرسم المنظوري. ودراسات ليوناردو دافنشي (1452-1519) لملامح الوجه البشري وما تخبرنا به عن شخصياتنا - التي ألهمت تصويره الفني للهيئة البشرية - توضح بدقة النحو الذي زاد به التركيز على دراسة الإنسان وثقافته إبان عصر النهضة.
كما كانت هناك ثورات دينية مهمة أيضا؛ فقد تصاعد النقد الموجه للكنيسة الكاثوليكية، التي تنامت النظرة إليها على أنها فاسدة، ولا سيما في مسألة بيع صكوك الغفران، التي وهبت مشتريها، المفترض دخولهم الجنة، العتق من العذاب في المطهر. وفي عام 1517، نشر مارتن لوثر (1483-1546) أطروحاته الخمس والتسعين عن قوة صكوك الغفران. وأتاح اختراع الطباعة انتشار مثل هذه الأفكار الجديدة والراديكالية على نطاق واسع. وأدت محاولات لوثر لإصلاح الكنيسة الكاثوليكية في النهاية إلى ما يسمى بحركة الإصلاح الديني ونشوء البروتستانتية، وإنهاء الهيمنة الدينية للكنيسة الكاثوليكية على أوروبا.
إبان عصر النهضة، ابتكر المنهج العلمي الحديث، ربما على يد فرانسيس بيكون (1561-1626) بشكل خاص. وبالتأكيد شهد هذا العصر بعض محاولات التحدي العلمي للفكر الديني. كان جوردانو برونو (1548-1600) دومينيكيا موسوعيا، وهو الذي دافع عن نظرية كوبرنيكوس القائلة بأن الأرض تدور حول الشمس. استجوبت محكمة التفتيش برونو حول آرائه الكونية وكذلك آرائه الدينية غير التقليدية الأخرى؛ وفي النهاية حكمت بحرقه على الخازوق. وكان الفيزيائي وعالم الفلك جاليليو (1564-1642) طرفا بأحد أكثر المواقف الدرامية التي تصور التوتر المتنامي بين الفكر العلمي والفكر الديني؛ فقد حذرت الكنيسة الكاثوليكية جاليليو ألا يؤكد بقوة صحة نموذج كوبرنيكوس عن مركزية الشمس (حيث يمكن استخدامه كأداة تنبئية مفيدة). إلا أن جاليليو أقدم على ذلك، وعلى نحو مستفز إلى حد كبير؛ ونتيجة لذلك، ألقي القبض عليه وهدد بالتعذيب والإعدام على يد محكمة التفتيش العليا. وبعد أن تنصل جاليليو من أفكاره، سجن فحسب، واستبدل بهذا الحكم بعد ذلك الإقامة الجبرية.
ويصر عدد من المعلقين الكاثوليك المحدثين على أنه لن يكون من المنصف وصف الكنيسة الكاثوليكية بأنها كانت مناهضة للعلم في ذلك الحين. ويرى بعضهم أن آراء برونو اللاهوتية، وليست آراءه الكونية، هي التي أوقعته في المشاكل مع محكمة التفتيش. إلا أن وثائق الفاتيكان كشفت خطأ هذا الزعم؛ مما يشير بوضوح إلى أن التحقيق مع برونو جرى بسبب آرائه الكونية. كما يذهب بعض المعلقين إلى أن جاليليو ألقي القبض عليه، لا لآرائه العلمية، وإنما لآرائه حول تفسير الكتاب المقدس. ولكن هذا غير صحيح؛ فلأن جاليليو ذهب إلى أن الأرض تدور حول الشمس، لم يكن أمامه خيار سوى أن يقول إما أن مزاعم الكتاب المقدس المخالفة لذلك كانت خاطئة فحسب (وهو الأمر الذي كان سيعد عملا انتحاريا بالطبع)، وإما أن تلك الأجزاء من الكتاب المقدس - التي «يبدو» أنها تزعم أن الأرض لا تتحرك - تحتاج إلى إعادة تفسير.
وفي الواقع، اعترف بعض علماء اللاهوت الكاثوليك، مثل الكاردينال بلارمين الذي كان مسئولا عن التحقيق مع جاليليو، أنه إن ثبت بالبرهان الحاسم أن الأرض تتحرك، فقد يحتاج الكتاب المقدس إلى إعادة تفسير. إلا أن المشكلة أن جاليليو لم يملك دليلا حاسما.
وعليه، فإن وصف موقف الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الحين بأنه كان متحجرا وغير مبال «بالكامل» بالتطورات العلمية الحديثة سيكون مبالغا فيه بعض الشيء. لكن يبدو أن الكنيسة كانت مؤيدة لتعذيب وقتل أي عالم مستعد للمعارضة العلنية لأفكارها الكونية القائمة على مركزية الأرض دون أن يملك دليلا علميا دامغا.
وبطبيعة الحال، يتفق تماما الغالبية العظمى من الدينيين اليوم على أن استخدام العلم والعقل في محاولة فهم الكيفية التي يسير بها الكون يجب ألا يخضع لأي رقابة أو توجيه ديني. في عام 2000، اعتذر البابا يوحنا بولس الثاني علانية، من بين جملة أشياء أخرى، عن محاكمة الكنيسة لجاليليو. إلا أنه في عام 1990، نقل الكاردينال راتسنجر، البابا بنديكت السادس عشر، البابا الحالي، عن الفيلسوف بول فايراباند فيما يبدو عن تأييد منه:
في زمن جاليليو، كانت الكنيسة تؤيد العقل أكثر بكثير من جاليليو نفسه. وكانت محاكمة جاليليو منطقية وعادلة.
والمعنى الدقيق الذي قصده راتسنجر بتلك الملاحظة محل خلاف، إلا أنه من الواضح أنه أثار دهشة بعض الإنسانويين. (7) عصر التنوير
يمتد عصر التنوير - المعروف أحيانا ب «عصر العقل» - من أواخر القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر. وقد شهد عصر التنوير نقدا متزايدا للمعتقدات والمؤسسات الدينية التقليدية من جانب جماعات دينية حديثة أكثر راديكالية، وقد أدى ذلك إلى انقسام الديانة المسيحية إلى مزيد من الطوائف. لكن رغم توجيه الانتقادات إلى الدين، كان ذلك عادة من وجهة نظر معتقدات دينية بديلة؛ فحينها كان وجود المعتقدات الإلحادية ما زال نادرا، وفي كثير من الأماكن كان اعتناق مثل هذه الأفكار ينطوي على المخاطرة بالوقوع تحت طائلة الاضطهاد.
في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر، نشر مفكرا عصر التنوير دنيس ديدرو (1713-1784) وجون دالمبير (1717-1783) «الموسوعة»؛ وهي ملخص محرر للمعارف احتوى على العديد من الأفكار الليبرالية والخاصة بالمذهب الطبيعي والتشككية الراديكالية. كان ديدرو ملحدا، وكان كلا الرجلين يوجهان انتقادات شديدة للدين المؤسسي. وقد حظر هذا الكتاب قبل أن يكتمل. وعصر التنوير باعتباره حركة فكرية وصف بمجموعة مختلفة من الطرق. وقد عرف ديدرو ودالمبير المفكر التنويري بأنه الشخص الذي:
يطأ بقدميه التمييز والتقليد والإجماع العام والسلطة؛ أي كل ما يستعبد أغلب العقول، وهو الذي يجرؤ على التفكير بنفسه.
لكن لعل أشهر تعريف لعصر التنوير يأتي من الفيلسوف إيمانويل كانط (1724-1804)، الذي كتب في عام 1784 مقالا قصيرا بمجلة حمل عنوان «ما التنوير؟» ووصف فيه عصر التنوير بأنه:
خروج المرء من إطار الطفولة الذي فرضه على نفسه. والطفولة هي غياب القدرة على استخدام المرء عقله دون توجيه من شخص آخر، وهي إطار يفرضه المرء على نفسه، يعتمد على نقص، لا في العقل، بل في العزيمة والشجاعة على استخدام العقل دون توجيه خارجي. لذا، فإن شعار عصر التنوير هو «تجرأ على المعرفة»؛ تمتع بالشجاعة لاستخدام عقلك!
يتهم بعض مفكري عصر التنوير بأنهم من أنصار «اليوتوبية»؛ أي إنهم يفترضون على نحو ساذج أن عصر العقل سيجلب حتما عصر السلام والرخاء والرضا. كما أن فكر عصر التنوير متهم أيضا ب «العقلانية» المفرطة، بافتراض أن المجتمع ومنظومة الأخلاق يمكن أن يكون لهما أساس عقلاني «بالكامل». والآن ثمة اعتقاد واسع الانتشار بأن ذلك كان خطأ؛ فلا يمكن استدعاء مبادئ الأخلاق بالكامل من عباءة العقل. وسيضيف كثير من منتقدي عصر التنوير أن هذا كان خطأ خطيرا؛ فنبذ الركائز القديمة المتمثلة في التقليد والسلطة الدينية من شأنه أن يؤدي إلى ترك منظومة الأخلاق والمجتمع دون أي ركائز على الإطلاق؛ وهي وصفة للفشل ووقوع الكوارث.
ولكن، رغم أن بعض مفكري عصر التنوير كانوا يوتوبيين في الواقع، وبعضهم - مثل كانط - افترض أنه يمكن تأسيس الأخلاق على العقل وحده، لاحظ أن توصيف كانط لعصر التنوير لا يقتضي أيا من هذين الاعتقادين؛ فالإيمان بأهمية تنشئة مواطنين متنورين بالمعنى الذي قصده كانط - مواطنين يجرءون على التفكير والشك، ويستخدمون قوى عقلهم لأبعد حد ممكن بدلا من مجرد القبول السلبي غير الناقد لما يقال لهم من سلطة دينية ما أو غيرها - لا يعني تأييد اليوتوبية أو افتراض أن الأخلاق والمجتمع يمكن أن تكون لهما ركائز عقلانية بالكامل. والإنسانوية الحديثة تنطوي بوضوح على التزام بالتنوير بحسب معنى كانط. وهذا لا يعني أن إنسانويي اليوم يوتوبيون، أو أنهم يبالغون في تقدير قدرات العقل (مع أن كلا الاتهامين يوجهان عادة إلى الإنسانوية المعاصرة).
ثمة نقد شهير آخر يوجه إلى كثير من مفكري عصر التنوير؛ وهو أنهم يفترضون خطأ أنه يمكن استخدام العقل دون الاحتكام إلى تقليد مشترك؛ فكما رأينا، عرف ديدرو ودالمبير المفكر التنويري بأنه الذي «يطأ» بقدميه التقليد. ولكن ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن هذه الرؤية غير متماسكة؛ لأنه أيا كانت صور التفكير التي سنستخدمها، «فإنها نفسها ستنبع من تقليد مشترك وتعتمد عليه.» على سبيل المثال، يقول الفيلسوف المعاصر أليستر ماكنتير:
كافة صور التفكير تحدث في سياق شكل تقليدي من أشكال الفكر.
فيزعم ماكنتير أنه لا يمكن «الخروج عن» التقليد بأسره والتفكير من منظور تخلى تماما عن التقليد. لذا، من وجهة نظر ماكنتير، من المستحيل عمليا أن نقوم بما يحضنا ديدرو ودالمبير على القيام به: استخدام العقل على أساس فردي، بمعزل عن أي تقليد.
لكن حتى لو كان ماكنتير على حق، فلا يستتبع ذلك أنه لا يجب علينا التشكيك في الفكر التقليدي. وكان ماكنتير نفسه واضحا في هذا الصدد، إذ أكد:
لا شيء يمكن أن يزعم أنه مستثنى من النقد التأملي.
أن نقول - عند استخدام العقل - إنه لا يسعنا سوى أن نعتمد على التقليد، فهذا شيء؛ وأما القول بأنه يجب ألا نبالغ في النقد عند فحص المعتقدات التقليدية، فهذا شيء آخر. ودعوة كانط بأنه يجب علينا أن نتجرأ على التشكك والتفكير بأنفسنا، لا القبول المستسلم بما يصرح به التقليد، تظل متماسكة. وإنها لدعوة التنوير التي يعتنقها الإنسانويون اليوم.
يعتبر ديفيد هيوم (1711-1776) مفكرا تنويريا ذا أهمية خاصة من وجهة نظر الإنسانوية. كان هيوم مؤرخا وفيلسوفا اسكتلنديا عبقريا أخضع الكثير من المعتقدات المفترضة منطقيتها للاستقصاء الناقد، وفيها المعتقدات الدينية. كان متشككا في المعجزات الدينية وغيرها من المعجزات. نشر كتاب هيوم «محاورات في الدين الطبيعي» بعد موته، وضم بعضا من أشد الانتقادات وأقواها التي وجهت في أي وقت إلى ما يعرف ب «براهين التصميم» المؤيدة لوجود الإله. ولا يزال الخلاف دائرا حول إن كان هيوم لا أدريا أم ملحدا، إلا أنه لم يؤمن بالإله.
طرح هيوم بعض الأسئلة المهمة حول «حدود العقل». وقال إن المعتقدات الأخلاقية غير قابلة أساسا للتبرير بالاحتكام إلى العقل أو الخبرة، مؤكدا على ما يلي:
لا ينافي العقل أني أفضل تدمير العالم بأسره على أن تخدش إصبعي.
كذلك قال هيوم إن التفكير الاستقرائي - المؤسسة عليه معتقداتنا كلها حول المستقبل - والعلوم التجريبية لا يمكن تبريرهما عقلانيا. وباعتبار أننا نرى الشمس تشرق كل يوم، فإننا نعتقد أنها ستشرق صباح غد، وفي الحقيقة، لا يسعنا سوى اعتقاد ذلك. مع ذلك، يقول هيوم إن افتراضنا أن الشمس ستشرق صباح غد ليس أكثر تبريرا من افتراضنا، على سبيل المثال، أن قرصا ضخما من أزهار التيوليب يبلغ عرضه مليون ميل سيعتلي الأفق بدلا من قرص الشمس.
ويتفق أغلب الإنسانويين المعاصرين مع هيوم في أن للعقل - رغم أنه يجب علينا استخدامه أينما نستطيع وبأفضل ما يمكننا - حدوده (رغم الخلاف حول إن كانت تلك الحدود تقع حيث افترض هيوم أم لا). (8) القرن التاسع عشر
في عام 1859، نشر تشارلز داروين (1809-1882) كتابه «أصل الأنواع»، الذي شرح كيف تطورت الأنواع الجديدة على مدار ملايين السنين. قبل داروين، كان الناس يفترضون أن الأنواع لا يمكن خلقها إلا بواسطة الإله. في الواقع، لم يمتلك مفكرو التنوير تفسيرا بديلا للطريقة التي ربما خلقت بها الأنواع. شرح داروين كيف أن آليات طبيعية بالكامل وخاضعة للبحث العلمي قادرة على إنتاج أنواع جديدة، وهو ما يعد تطورا مثيرا جدا. في الواقع، كان تطور الأنواع على هذا النحو مدعوما بقوة بالأدلة، وهو ما تعارض بالطبع تعارضا صريحا مع الكتاب المقدس.
شهد أيضا القرن التاسع عشر تطورات مهمة على صعيد نقد الكتاب المقدس، ولا سيما في ألمانيا. كان الباحثون الألمان مثل ديفيد شتراوس (1808-1874) ويوليوس فلهاوسن (1844-1918) بصدد الكشف عن الطبيعة الخرافية لقسم كبير من الكتاب المقدس. وفي ألمانيا أيضا، أنكر عالم اللاهوت والفيلسوف لودفيج فويرباخ (1804-1872) الأفكار الدينية التقليدية، وأكد على أن رب الدين التقليدي هو الإسقاط الوهمي الخارجي لطبيعة البشر الكامنة داخلهم، وانتقد فريدريش نيتشه (1844-1900) بشدة منظومة الأخلاق المسيحية، واتهمها بأنها معوقة للحياة، ومحملة بمشاعر الكراهية والسخط. وبالطبع قال كارل ماركس (1818-1883) إن الدين «أفيون الشعوب».
وفي بريطانيا، وضع الفيلسوفان جريمي بنثام (1748-1832) وجون ستيوارت ميل (1806-1873) نظرية أخلاقية ثورية تعرف باسم النفعية، وهي التي حددت الخير الأخلاقي من منطلق السعادة. وحسب بنثام، فإن «تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس هو أساس الأخلاق والتشريع.» وإحدى سمات النفعية الراديكالية هي الطريقة التي تستغني بها عن الحاجة إلى طرح أي كيان فوق طبيعي من أجل تعزيز أو تبرير منظومة الأخلاق. ويرى المؤمن بالنفعية أنه من أجل تقييم مدى صحة شيء أو خطئه أخلاقيا، يجب ألا نركز على أي شيء آخر غير ما يحدث في «هذا» العالم «الطبيعي». وبالنسبة إلى كثير من الدينيين، هذه الرؤى كانت - ولا تزال - غير مقبولة مطلقا. والكثير من العادات والقوانين والمؤسسات في زمان بنثام سببت الشقاء للعديدين. وتشير النفعية إلى أن تخفيف المعاناة حيث يمكننا ذلك ليس أمرا مرغوبا وحسب، وإنما هو في الواقع متطلب أخلاقي؛ ومن ثم قادت النفعية - ولا تزال تقود - كثيرا من النفعيين إلى الإصلاح القانوني والاجتماعي. وقد أدت نفعية بنثام إلى اعتقاده أن علينا التزامات أخلاقية تجاه المخلوقات الأخرى؛ لأنها تعاني أيضا مثلنا، فقد قال بنثام عن الحيوانات الأخرى:
سيحل اليوم الذي قد تكتسب فيه الحيوانات كافة تلك الحقوق التي لا يمكن أن تسلب منها إلا بالطغيان.
وبالتأكيد ليس جميع الإنسانويين نفعيين. إلا أن نشوء النفعية كان مهما بوضوح لنشوء الإنسانوية الحديثة، ولا سيما لأنها توضح مجددا كيف أنه يمكن التعبير والدفاع عن رؤية مميزة ومحكمة فكريا لمنظومة الأخلاق بمعزل تام عن أي معتقد ديني.
ظلت الرقابة على غير المؤمنين واضطهادهم في أوروبا قائمة، وشهد عام 1826 آخر ضحية لمحكمة التفتيش العليا، أعدم في إسبانيا (أعدم المدرس كايتانو ريبول خنقا لمزاعم تدريسه أفكارا ربوبية). وفي عام 1842، كان جي جيه هوليوك (1817-1906) (أول من صك مصطلح «العلمانية») آخر شخص (وربما أول شخص) يسجن في بريطانيا بتهمة الإلحاد. إلا أن أعدادا متزايدة من الشخصيات العامة كانت مستعدة علنا للتشكيك في مزاعم الدين. ففي بريطانيا، جهر الكتاب بيرسي بيش شيلي (1792-1822) وجورج إليوت (1819-1880) وتوماس هاردي (1840-1928) بإلحادهم. وفي عام 1880، أصبح تشارلز برادلو (1833-1891)، المؤسس المشارك للجمعية الوطنية العلمانية التي ظهرت في عام 1866، أول عضو برلماني منتخب في بريطانيا يجهر بإلحاده (إلا أن إلحاده كان يعني أنه لن يستطيع أن يقسم قسم الولاء؛ ولذا حرم من مقعده لعدة سنوات).
شكل 1-2: مبنى كونواي هول، ميدان ريد لايون، مقر جمعية ساوث بليس الأخلاقية.
شهد القرن التاسع عشر نشأة جمعيات أخلاقية، وهي التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة. وفرت تلك الجمعيات إطارا يمكن للناس من خلاله مناقشة المسائل الأخلاقية والاشتراك في نشاط أخلاقي، مثل العمل الخيري والبرامج الاجتماعية والتعليمية. كان أعضاء تلك الجمعيات مفكرين أحرارا، يشجعون على النقاش المفتوح حول المسائل الأخلاقية والدينية. ورغم أن كثيرا من تلك الجمعيات وصفت نفسها بأنها «دينية»، فإنها لم تكن دينية غالبا إلا من منطلق أنها أخذت على عاتقها التزاماتها الأخلاقية بجدية، وكان الإيمان بوجود إله اختياريا. وقد قال فيلكس أدلر (1851-1933)، مؤسس جمعية نيويورك للثقافة الأخلاقية في عام 1876: «إن الثقافة الأخلاقية دينية لأصحاب العقلية الدينية، وهي أخلاقية فحسب لمن لا يمتلكون تلك العقلية.» وأول جمعية أخلاقية بريطانية - جمعية ساوث بليس الأخلاقية، الموجودة حتى يومنا هذا - تأسست رسميا في عام 1888، بعد أن خرجت من رحم كنيسة توحيدية. وسرعان ما تبعتها جمعيات أخلاقية بريطانية أخرى عديدة.
تحولت مختلف الجمعيات الأخلاقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلى إحدى الركائز الأساسية للحركة الإنسانوية الحديثة. في عام 1896، تجمعت الجمعيات الأخلاقية البريطانية معا لتشكل اتحاد الجمعيات الأخلاقية، الذي أعيدت تسميته في عام 1967 ليكون الرابطة الإنسانوية البريطانية. وفي عام 1952، أصبح الاتحاد الأخلاقي الأمريكي، وهو منظمة جامعة لمختلف الجمعيات الأخلاقية بالولايات المتحدة، عضوا مؤسسا في الاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، وهو الجهة التي تمثل الآن الحركة الإنسانية العالمية. (9) القرن العشرون
في كثير من الدول إبان النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الإنسانوية جزءا من الاتجاه السائد. ففي أوروبا، تراجع الدين على نحو كبير؛ فعلى سبيل المثال، تشير استطلاعات الرأي أنه في نهاية القرن العشرين، تبنى حوالي 36٪ من البريطانيين معتقدات وقيم الإنسانوية والرابطة الإنسانوية البريطانية. وعلى مستوى أغلب أوروبا، أمكن التعبير عن المعتقدات الإلحادية أو الإنسانوية دون كبير خوف من التبعات.
كان كثير من مفكري القرن العشرين البارزين من الإنسانويين؛ وفيهم برتراند راسل، الذي كان لكتابه «لماذا لست مسيحيا؟» تأثير بالغ. وفي نهاية القرن العشرين، زعم عدد قليل نسبيا من الفلاسفة أن الأخلاق تتطلب أساسا إلهيا من نوع ما (في الواقع، أشارت نتيجة استطلاع حديث أن 14,6٪ فحسب من الفلاسفة مؤلهون). وأبرز الأخلاقيين اليوم وأبلغهم تأثيرا، وهو بيتر سنجر، إنسانوي.
إبان القرن العشرين، زادت صعوبة تمييز الدين الذي يمثله كثير من علماء اللاهوت وغيرهم من المفكرين الدينيين؛ إذ إنه من الأسهل بكثير توصيف تدينهم من منطلق ما ليس عليه لا من منطلق ما هو عليه. وفي الواقع، يصعب تمييز معتقدات بعض علماء اللاهوت المتطورين عن معتقدات بعض الإنسانويين.
لكن على مستوى الدينيين في العالم، تلك الأفكار اللاهوتية المتطورة هي الاستثناء لا القاعدة؛ إذ الأصولية الدينية هي السائدة. ففي الولايات المتحدة، تشير استطلاعات الرأي باستمرار إلى أن حوالي ثلث المواطنين يؤمنون بصحة كل ما جاء في الكتاب المقدس؛ ومن ثم بأن عمر الكون بضعة آلاف من السنوات فقط. والملحدون من أقل الأقليات المؤتمنة بالولايات المتحدة؛ إذ أشارت دراسة وطنية إلى أن الملحدين هم أبعد أقلية يسمح الأمريكيون لأبنائهم بالزواج منها. وقالت دوروثي إدجيل، قائدة فريق الدراسة السابقة التي أجرتها جامعة مينيسوتا: «يبدو أن نتائجنا تقوم على نظرة للملحدين مفادها أنهم أفراد لا يهتمون إلا بذواتهم ولا يكترثون بالصالح العام.» فينبغي تناول المفاهيم الخاطئة حول ماهية معتقدات الإنسانويين والتمييز الذي يعانون منه نتيجة لتلك المفاهيم، حتى داخل أكبر الديمقراطيات الليبرالية في العالم.
وحتى في كثير من الدول الليبرالية، تحظى المعتقدات الدينية بوضعية متميزة ترعاها الدولة، ولا تزال المعركة تدور من أجل إتاحة تكافؤ فرص بين الدينيين واللادينيين. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تمول الدولة المدارس الدينية التي بمقدورها التمييز بين كل من هيئة التدريس والطلاب على أساس معتقداتهم الدينية. ويلزم القانون كل مدرسة تمولها الدولة في إنجلترا وويلز بأن تبدأ كل يوم بشعيرة من شعائر العبادة الجماعية، ويجب أن تكون «ذات محتوى مسيحي الطابع على نحو كلي أو رئيسي.»
وفي كثير من البلدان حول العالم، أن يخرج أحدهم عن الدين الذي ولد عليه فإنه يخاطر بنبذه اجتماعيا أو ما هو أسوأ. المسلمون المرتدون يعدمون في السعودية وإيران والصومال وقطر واليمن وموريتانيا. وفي مالاوي ونيجيريا، يدين القساوسة المسيحيون الأطفال لممارستهم السحر، ويعاقبونهم بالضرب والتعذيب، وأحيانا القتل في مراسم طرد الأرواح الشريرة. ونتيجة لممارسات جماعات الضغط الدينية، تنظر أوغندا في إنزال عقوبة السجن مدى الحياة لتكون الحد الأدنى لعقوبة ممارسة الجنس المثلي. وفي بقاع كثيرة من العالم، ينتشر التعصب الديني ولا تزال المعركة من أجل الحقوق والحريات الأساسية دائرة.
وعلى كلا الصعيدين المحلي والعالمي، ثمة عدد ضخم من القضايا المهمة، وأحيانا البالغة الأهمية بالنسبة إلى الإنسانويين؛ قضايا تواصل المنظمات الإنسانوية - مثل الرابطة البريطانية الإنسانية، ومركز البحث، والجمعية الإنسانوية الأمريكية، والاتحاد الإنسانوي الأوروبي، والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي - تنظيم الحملات من أجلها.
عادة ما يكون الإنسانويون إصلاحيين. وكثيرا ما تضعهم آراؤهم في موقف المواجهة مع الدينيين - ولا سيما المتحفظين منهم - حول قضايا مثل تحديد النسل وحقوق المثليين من الجنسين، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، ووضع نهاية لحظوة الدين. ويرجع ذلك إلى أن ما يعارضه الإنسانويون في كثير من الأحيان (لكن ليس دائما) متجذر في التقاليد والمؤسسات الدينية ويحظى بتبرير ديني.
إلا أنه ثمة عدد كبير من الدينيين الذين يتفقون مع كثير مما يقوله الإنسانويون، بل مع كل ما يقولونه حول تلك القضايا - الذين يرون أن التبريرات الدينية التقليدية لمثل هذا التمييز والظلم والحظوة لا يمكن الدفاع عنها - ومن ثم يمكن للإنسانويين التعاون، وأحيانا ما يحدث ذلك، مع الدينيين أفرادا ومنظمات لتحقيق الأهداف المشتركة.
ليس «العداء للدين» هو الذي يوجه مطامح الإنسانويين الإصلاحية كما يفترض بعض الدينيين، وإنما «التزام إيجابي بتناول القضايا الأخلاقية والسياسية بأسلوب رشيد ومحايد.» وبالطبع هذا الالتزام يضع الإنسانويين حتما في صراع مع كثير من الدينيين حول كثير من تلك القضايا، ولكن بالتأكيد ليس معهم كلهم.
والجدير بالذكر أيضا أن الإنسانويين لا يقلون في معارضتهم للقمع والتمييز بغير وجه حق عندما يكون على يد أنظمة «ملحدة»، مثل نظامي ماو تسي تونج وستالين الديكتاتوريين اللذين ظهرا في القرن العشرين (حيث أقدم كلاهما على اجتثاث أصحاب الفكر الحر التنويريين بالقسوة نفسها التي أقدما بها على اجتثاث الفكر الديني). (10) نظرة سريعة على تاريخ مصطلح «الإنسانوية»
لعل أول استخدام لكلمة «إنسانوي» كان لوصف فرع من المناهج التعليمية: العلوم الإنسانية؛ التي تضم النحو والشعر والبلاغة والفلسفة الأخلاقية. وخلال عصر النهضة، كان هناك إعادة اهتمام، كما أشرنا آنفا، بالثقافة الكلاسيكية، وتركيز متزايد على الإنسان. وأطلق المعلقون على القرن التاسع عشر فيما بعد على الحركة الثقافية والفكرية هذه «إنسانوية عصر النهضة».
أما اليوم، فالاستخدام الرئيسي لمصطلح «الإنسانوية»، في كل من المملكة المتحدة والعالم، هو لوصف الاتجاه الذي عرضت ملامحه في مقدمة كتابي هذا. وكان هذا المعنى الرئيسي للمصطلح للأعوام السبعين الماضية على الأقل؛ المعنى الذي بدأ يكتسبه خلال القرن التاسع عشر. وفي الولايات المتحدة، يضع البعض كلمة «العلمانية» قبل كلمة «الإنسانوية»؛ كي يؤكدوا على أن معتقداتهم منفصلة عن أي معتقد ديني. وفي المملكة المتحدة، تعتبر إضافة كلمة «العلمانية» إطنابا لا داعي له.
الفصل الثاني
الحجج المؤيدة لوجود الإله
الإنسانويون إما ملحدون وإما لا أدريون، ويفترضون في المعتاد أن الإيمان بوجود إله أو عدة آلهة غير منطقي أو مبرر، ويزيد آخرون على ذلك؛ إذ يؤكدون على أن الإيمان بالإله غير عقلاني على الإطلاق.
وفي المقابل، فإن المؤمنين بالإله يفترضون في المعتاد أن معتقدهم عقلاني، مع تأكيدهم على أن موقفهم هو «موقف إيماني». إنهم يفترضون أن الإيمان بالإله ليس مثل الاعتقاد في وجود بابا نويل أو الجنيات؛ فالأمر أكثر عقلانية بكثير من ذلك. ربما يعترفون أن وجود الإله لا يمكن «إثباته» على نحو حاسم، لكنهم يصرون دوما على أن الاعتقاد بوجود الإله شيء عقلاني، إلى حد ما، على الأقل بالنسبة إلى شخص بالغ متعلم ومتحضر.
لكن إن كان الإيمان بالإله أكثر عقلانية بكثير من الإيمان بوجود الجنيات، على سبيل المثال، فما سبب ذلك؟ ما الذي يجعل الإيمان بالإله أكثر عقلانية؟ يرد المؤلهون (المؤمنون بالإله) على هذا السؤال بإجابات مختلفة؛ يحاول كثير منها عرض «حجة منطقية» ما تؤيد وجود إله.
ثمة الكثير من مثل هذه الحجج، وسأعرض هنا لحجتين من أشهر الحجج المؤيدة لوجود الإله، وسأشير إلى نقاط الضعف التي يراها نقادها من الإنسانويين. سأبدأ بمثال على الحجة الكونية، ثم سأنتقل إلى بعض صور برهان التصميم، وفي ذلك مثالان معاصران يستند أولهما إلى التعقيد غير القابل للاختزال والثاني إلى التصميم الدقيق. وهدفي هنا هو مجرد عرض لإطلالة موجزة على بعض المشاكل والاعتراضات التي تواجه مثل تلك الحجج في المعتاد. (1) الحجة الكونية: لم توجد أشياء من الأساس؟
نظر أغلبنا في وقت ما إلى السماء المرصعة بالنجوم وخطر له السؤال التالي: «من أين أتى كل هذا؟ لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» هذا سؤال عميق؛ سؤال جدير بدراسة جدية.
بالطبع، وضع العلماء نظريات حول كيفية نشأة الكون، وحاليا يعتقد أغلب العلماء أن الكون بدأ منذ 13 أو 14 مليار سنة تقريبا بالانفجار العظيم؛ ذاك الحدث الذي لم تبدأ معه المادة والطاقة فحسب، وإنما الزمان والمكان أيضا.
إلا أن تلك الإجابات العلمية يبدو أنها تؤجل اللغز فحسب ولا تجيب عنه؛ فنحن نريد الآن أن نعلم: لم كان هناك انفجار عظيم؟ لم كانت هناك - وما زالت توجد - أشياء من الأساس؟
وعند هذه النقطة يبدو أننا نواجه سؤالا لا يستطيع العلم، بالضرورة، أن يجيب عنه؛ فالعلم يفسر الظواهر الطبيعية بالإشارة إلى سمات أخرى من العالم الطبيعي، مثل الأسباب المادية أو قوانين الطبيعة. على سبيل المثال، إذا سألت عالما: لم تجمدت المياه الليلة الماضية بالأنابيب؟ فربما يجيبك بما يلي؛ أولا: من قوانين الطبيعة أن الماء يتجمد تحت درجة صفر مئوي، وثانيا: الليلة الماضية انخفضت درجة حرارة الماء بالأنابيب لتحت الصفر. وهذا سيفسر لك لم تجمد الماء. لكن ما الذي يفسر سبب وجود أي قوانين للطبيعة في المقام الأول؟ بل ما الذي يفسر سبب وجود عالم طبيعي من الأساس؟
بالطبع عند هذه النقطة من المفترض أن يدخل الإله في الصورة. لا يستطيع العلم تفسير سبب وجود الكون؛ لذا، إن لم نفترض أن وجوده حقيقة عمياء لا يمكن تفسيرها، يجب أن نتجه إلى الإله بوصفه الحل لتلك المعضلة. فالإله يقدم التفسير الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، للسبب وراء وجود أشياء من الأساس.
وفي حين يقر كثير من المؤلهين بأن الحجة السابقة لا تشكل دليلا حاسما على وجود إله، يعتقد كثير منهم أن مثل هذه الحجج «الكونية» - الحجج التي تستدل على وجود الإله بوصفه أفضل تفسير أو التفسير الوحيد لوجود الكون - تمنح معتقدهم على الأقل قدرا كبيرا من الدعم العقلاني. (2) مشاكل الحجة الكونية
الحجة الكونية الموضحة ملامحها أعلاه تواجه عدة مشاكل معروفة جيدا، سأشرح الخطوط العريضة لثلاث منها فحسب:
أولا، تفترض الحجة أن السؤال: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» سؤال منطقي، لكن هل هو سؤال منطقي؟ بإلقاء نظرة أعمق على الأمر فإن الأمر ليس بهذا الوضوح. لكن إن كان السؤال غير منطقي فهو لا يحتاج لأي إجابة، فضلا عن احتياجه لإجابة دينية. فيما يلي خط التفكير الذي يخلص إلى أن هذا السؤال لا معنى له في واقع الأمر.
عندما نتحدث عادة عن وجود «عدم»، فإننا نقصد مثلا وجود مساحة خالية من الفراغ؛ فعندما أقول: «لا يوجد شيء في فنجاني»، أقصد بذلك أن المساحة الموجودة داخل فنجاني الآن فارغة. وعندما أقول: «لا شيء أقوم به الآن»، أقصد بذلك أنني في هذه اللحظة لا أؤدي أي نشاط. ويقدم الكون الزمكاني، إن جاز التعبير، الساحة التي قد تظهر عليها تلك الأمثلة من الأشياء والعدم.
لكن عندما نطرح السؤال الفلسفي: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» فنحن نقصد شكلا أكثر راديكالية بكثير من العدم، يمكن أن نطلق عليه العدم «المطلق». والبديل لشيء يفترض أننا الآن نتصوره ليس مجرد غياب للأشياء أو الأمور التي تجري. يفترض بنا أن نفكر في الاحتمال التالي: ليس الأمر غياب الشيء أو عدم حدوث أي شيء فقط، وإنما أيضا لا يوجد زمان أو مكان يمكن أن يوجد فيهما أي شيء أو يمكن أن يحدث أي أمر؛ فالساحة نفسها اختفت الآن.
وهذا نوع عميق ومحير من الغياب؛ محير جدا لدرجة لا يتضح معها إن كانت الفكرة تبدو منطقية أم لا (وهو بالتأكيد يطرح بعض الأسئلة المثيرة؛ مثل: «ما الفرق بين التفكير في العدم المطلق، وعدم التفكير في أي شيء؟»)
قد نسارع بقول «لكن بالتأكيد فكرة العدم المطلق منطقية، فما هي سوى فكرة عن «ما كان موجودا فيما مضى»، قبل وجود أي شيء». لكن في الواقع العدم المطلق ليس ما كان موجودا فيما مضى؛ فلم يأت زمن كان فيه العدم المطلق (لأنه إن كان هناك زمن كذلك، فلن يكون هناك عدم مطلق).
لكن دعونا نقر، وإن كان لغرض المناقشة وحسب، أن فكرة العدم المطلق منطقية، وكذلك السؤال القائل: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» برغم هذا، تظل الحجة الكونية تواجه مشاكل أخرى .
ثمة مشكلة واضحة في افتراض أن الإله هو الإجابة على السؤال: «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» هي أنه بطرحنا الإله يبدو أننا طرحنا شيئا آخر يجب تفسير وجوده هو الآخر، فيبدو أننا زدنا من اللغز فحسب بدلا من أن نحله. وإذا ترك وجود الإله دون تفسير، فما المسوغ لطرح الإله؟ لم لا نتوقف عند الكون فحسب؟
ومن الردود التقليدية للتأليهيين على هذا الاعتراض الإصرار على أن الإله - بعكس الكون الطبيعي - كيان «ضروري»؛ شيء لا بد بالضرورة من أن يوجد.
وكيف يمكن لشيء أن يوجد «بالضرورة»؟ ربما إن كانت فكرة هذا الشيء تنطوي في الواقع على فكرة الوجود. إننا يمكن أن نتصور عدم وجود الكون. لكننا، كما يزعم بعض التأليهيين، لا نستطيع تصور عدم وجود الإله. فإذا تصورت عدم وجود شيء، فلا يمكن أن يكون الإله هو ما تتصوره؛ لأن مفهوم الإله يكتنف مفهوم الوجود. وبذلك فإن الإله، إن اتفقت مع هذا الطرح، «يفسر وجوده»، وتفسير وجود الإله هو «أنه، بطبيعته، يجب أن يوجد.»
لكن إن كان الإله كيانا ضروريا، فإن البحث عن تفسير نهائي لسبب وجود أشياء من الأساس يصل إلى غاية مرضية: لا حاجة إلى البحث فيما وراء الإله عن شيء آخر لتعليل وجوده (ثم عن شيء آخر وراء ذلك الشيء يعلل وجوده، وهكذا إلى ما لا نهاية)؛ ففي ظل وجود الإله، نصل إلى نهاية الطريق.
إلا أن فكرة الوجود الضروري بالتأكيد فكرة خلافية. وفي واقع الأمر، فإن كثيرا من الفلاسفة يتشككون في الزعم القائل بأن شيئا قد يوجد بالضرورة.
لننظر، على سبيل المثال، إلى إحدى الرؤى الفلسفية الأساسية عن الضرورة: إن ما هو ضروري أو أساسي هو في النهاية نتاج لممارساتنا اللغوية و/أو السبل التي نكون بها مفاهيمنا عن الأشياء. وهذا معقول للوهلة الأولى في كثير من الحالات؛ فعلى سبيل المثال، أليس السبب في أن من الضروري لكي يكون كائن من الكائنات فحلا أن يكون ذكرا وحصانا في نفس الوقت الذي يكون فيه هذا هو «تعريف » الفحل؟ فأن يكون الكائن ذكرا وحصانا في نفس الوقت، إن اتفقت مع هذا الطرح، هما مكونان أساسيان لمفهوم الفحل.
ولكن حسب رؤية الضرورة هذه، إن كان الإله، أو شيء آخر، يوجد بفعل الضرورة، فلا يمكن أن يتحقق ذلك إلا «بسبب أن الإله معرف أو متصور بهذا الشكل؛ أي على أنه شيء موجود.»
والمشكلة هنا هي أنه «لا الوجود ولا الوجود الضروري يمكن الجزم بهما مفاهيميا على هذا النحو.» فإن عرفت «ووزل» على أنه أول شخص سار على سطح المريخ في عام 2000، فأنا بذلك أعرف أنه إن كان أي شخص ووزل، فسيكون أول من سار على المريخ في عام 2000. لكن بالطبع لم يسر أحد على المريخ عام 2000. ولاحظ أنني لا أستطيع الجزم بأن مثل هذا الشخص موجود بمجرد إضافة الوجود إلى تعريفي له، مثل الآتي: «ووزل» هو أول شخص يسير على سطح المريخ في عام 2000 «وهو موجود».
وعلى نحو مشابه، حتى إن كان الوجود مشمولا في فكرة الإله، فلن يستتبع ذلك وجود مثل ذلك الكيان، فضلا عن وجوده بالضرورة (ولهذا السبب فإن الفشل مصير تلك الحجج «الوجودية» التي تحاول إثبات وجود الإله عن طريق الإشارة إلى أن مفهوم الإله ينطوي على مفهوم الوجود).
ولذا، إذا كان السبيل الوحيد لإلحاق صفة بشيء على نحو ضروري هو عن طريق تعريفنا أو تصورنا له بطريقة معينة، وليس من الممكن إلحاق الوجود على هذا النحو؛ إذن «فالعدم يمكن أن يوجد بالضرورة.»
حتى إن أمكن التعامل مع جميع الاعتراضات المختلفة الموضحة أعلاه، فستبقى مشاكل أخرى أمام الحجة الكونية، وفيها المشكلة التالية: حتى إن لم تنجح الحجة في إثبات وجود شيء ما موجود بالضرورة يسير الكون، فإنها، بشكلها الحالي، قفزة أخرى ضخمة غير مبررة إلى الخلوص بأن هذا الشيء أشبه بكيان ذكي، بله كيان يتمتع بخصائص أخلاقية مثل الخيرية العليا، ويستجيب لدعواتنا، ويقوم بمعجزات، وما إلى ذلك.
إن الحجة الكونية على ذلك النحو لا تؤيد الإيمان بالإله كما هو في الديانتين اليهودية والمسيحية بالقدر نفسه الذي لا تؤيد به الإيمان بإله عظيم القوة ومتباين أخلاقيا، أو في الواقع بعدد لا يحصى من الآلهة أو الأشياء الأخرى. وهو بالطبع ما تؤيده الحجة بالكاد، في كل حالة، إن كانت تؤيده من الأساس. (3) برهان التصميم
دعونا نلتفت الآن إلى ما يعرف ببرهان التصميم أو الحجج الغائية المؤيدة لوجود الإله. تبدأ هذه الحجج بملاحظة أن العالم الطبيعي - أو العناصر التي يضمها - يبدو أنه يتمتع بسمات مميزة معينة؛ مثل الترتيب والغاية. وتخلص هذه الحجج إلى أنه بما أن الإله هو التفسير الوحيد، أو أفضل تفسير متاح على الأقل، لتلك السمات؛ فالإله موجود إذن.
لعل أشهر حجة من حجج التصميم هي الحجة التي قدمها ويليام بايلي في كتابه «اللاهوت الطبيعي» المنشور عام 1802. يقول بايلي إن رأى أحدهم شيئا معقدا مثل ساعة يد ملقاة على الأرض، فمن غير المعقول افتراض أن تلك الساعة وجدت هناك بالمصادفة، أو أنها وجدت دائما في هذا الشكل. ومع العلم بالغرض الواضح من الساعة - معرفة الوقت - وتكوينها الشديد التعقيد المصمم للوفاء بهذا الغرض، فمن المنطقي افتراض أن الساعة صنعها كيان عاقل من أجل هذا الغرض. لكن إن كانت تلك نتيجة منطقية تخلص إليها في حالة الساعة، فبالتأكيد النتيجة نفسها التي تخلص إليها في حالة العين البشرية، مثلا، لا تقل منطقية عن سابقتها؛ إذ تتمتع العين البشرية بغرض مصممة له هي الأخرى بإتقان. ويفترض بايلي أن هذا المصمم الذكي هو الإله.
وفكرة أن العضو البيولوجي مثل العين البشرية يجب أن يكون له مصمم ما قام بتصميمه، فكرة يقبل بها الكثيرون، وفيهم العالم تشارلز داروين، إلى أن وضع داروين تفسيره التطوري البديل للكيفية التي ظهرت بها العين.
والآلية التي كان داروين يرى أنها يمكن أن تفسر التطور التدريجي للعين هي «الانتخاب الطبيعي». عندما تتكاثر الكائنات الحية، قد تختلف ذريتها قليلا في مناح وراثية. ويستغل مربو الحيوانات وزارعو المحاصيل تلك الطفرات التي تحدث بالمصادفة لإنتاج سلالات جديدة. فعلى سبيل المثال، قد ينتقي مربي كلاب من كل جيل من الكلاب الكلاب الأكبر حجما والأقل شعرا، وفي النهاية ينتج سلالة جديدة بالكامل من الكلاب الضخمة العديمة الشعر.
تمثلت فطنة داروين في إدراك أن البيئة الطبيعية التي توجد بها الكائنات ستنتقي في الواقع من بين ذرية تلك الكائنات؛ فالكائنات التي تمر مصادفة بطفرات تعزز من قدرتها على البقاء والتناسل في تلك البيئة ستزيد احتمالات توريثها لتلك الطفرة، والكائنات التي تمر بطفرات تقلل من فرص بقائها وتناسلها في تلك البيئة ستقل احتمالات توريثها لتلك الطفرة. هكذا، وعلى مدار أجيال كثيرة، تتأقلم الكائنات تدريجيا مع بيئتها. بل وفي ظل ظروف معينة، قد ينشأ نوع جديد بالكامل.
أطلق داروين على هذه الآلية الانتخاب الطبيعي، لتمييزها عن الانتخاب الاصطناعي الذي يستخدمه مربو الكلاب وزارعو المحاصيل. وعلى عكس الانتخاب الاصطناعي، لا يستلزم الانتخاب الطبيعي عقلا ذكيا لتوجيه عملية الانتخاب نحو غاية بعينها؛ فالطبيعة العمياء غير المفكرة تتولى الآن عملية الانتخاب برمتها دون تخطيط.
وتوجد حفريات كثيرة وغيرها من الأدلة على أن العين البشرية تطورت في الحقيقة تدريجيا على مدار ملايين السنين، وربما بدأت بظهور خلية واحدة حساسة للضوء من باب المصادفة لدى كائن كان يعيش منذ ملايين السنين؛ وعلى أن الانتخاب الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي تقود هذه العلمية التطورية.
واكتشاف آلية الانتخاب الطبيعي أدى بداروين إلى رفض برهان التصميم لبايلي؛ فكتب داروين يقول:
إن برهان التصميم القديم في الطبيعة، كما عرضه بايلي، وهو الذي بدا لي فيما مضى برهانا قاطعا، أصبح لا أساس له، منذ أن اكتشف قانون الانتخاب الطبيعي.
رغم أن ظهور نظرية داروين للانتخاب الطبيعي ومن بعدها نظرية الجينات أدى إلى انخفاض في شعبية برهان التصميم، فإن حجج البرهان بصدد العودة إلى الأضواء مؤخرا، وفيما يلي شكلان شهيران أكثر حداثة من تلك الحجج. (4) حجة التعقيد غير القابل للاختزال
يذهب البعض، مثل أستاذ الكيمياء الحيوية مايكل بيهي، صاحب كتاب «صندوق داروين الأسود»، إلى أنه توجد سمات معينة للكائنات البيولوجية لا يمكن لنظرية داروين للانتخاب الطبيعي تفسيرها. وفي حين يقبل بيهي بأن الأنواع الجديدة تتطور وبأن الانتخاب الطبيعي يلعب دورا في ذلك، فإنه يؤكد أن «بعض» الأنظمة البيولوجية معقد تعقيدا غير قابل للاختزال؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون قد تطورت بالانتخاب الطبيعي.
يقصد بيهي بالنظام المعقد تعقيدا غير قابل للاختزال ما يلي:
نظام واحد يتألف من عدة أجزاء عديدة متفاعلة محكمة التوافق تساهم في القيام بالوظيفة الأساسية للنظام؛ بحيث تؤدي إزالة أي جزء من تلك الأجزاء إلى تعطل النظام بأكمله عن أداء وظيفته بفعالية.
ويسوق بيهي مصيدة الفئران باعتبارها مثالا لتوضيح فكرته. افصل أي جزء من أجزائها عنها - القاعدة أو الزنبرك أو الجبن - وستتوقف الآلة بأسرها عن أداء وظيفتها. ويضيف بيهي قائلا:
النظام البيولوجي المعقد تعقيدا غير قابل للاختزال، إن كان يوجد مثل هذا النظام، من شأنه أن يمثل تحديا قويا للتطور الدارويني.
ويبدو أنه توجد أنظمة معقدة تعقيدا غير قابل للاختزال في الطبيعة، ويقدم بيهي عددا من الأمثلة التوضيحية، وفيها نوع من السياط لدى البكتيريا؛ زائدة شبيهة بالسياط تستخدمها البكتيريا لتحريك نفسها، ولكل سوط عند قاعدته محرك جزيئي من نوع ما يضم مكونات عدة، كل منها ضروري من أجل حركة السوط.
شكل 2-1: قاعدة سوط خاص ببكتيريا (هذه الصورة تبالغ في شكله «التصميمي»).
لم يفترض بيهي أن نظاما معقدا غير قابل للاختزال مثل هذا السوط لا يمكن أن يتطور تدريجيا عن طريق الانتخاب الطبيعي؟ لأن بيهي يظن أنه «لا يمكن أن يكون التمتع بجزء واحد فقط من هذا النظام مفيدا للتناسل أو البقاء.» أزل أي مكون من المكونات وستكون النتيجة سقطا لا طائل من ورائه؛ ولذا، لا يمكن أن يتطور النظام على مراحل. واحتمالية ظهور النظام بأسره تلقائيا في جيل واحد نتيجة لطفرة بالمصادفة منخفضة جدا؛ ما يجعل افتراض وجود مصمم ذكي من نوع ما خلق هذا النظام أكثر منطقية بكثير.
وحجة بيهي المؤيدة لوجود تصميم ذكي لها رواج في بعض الدوائر الدينية، والبعض يقول إنه بما أن المجتمع العلمي من المفترض أنه منقسم بشأن مسألة إن كان ذكاء ما قد لعب دورا في ظهور الحياة، فإن نظرية التصميم الذكي ينبغي أن تدرس بالمدارس إلى جانب نظريتي التطور والانتخاب الطبيعي، وهذا الافتراض معد ليداعب إحساسنا بالإنصاف. بالتأكيد لن يكون الوضع منصفا إلا إذا حصل الطرفان في أي جدل علمي على فرصة للاستماع إلى آرائهما.
إلا أن الحقيقة هي أن «الجدل العلمي» حول التصميم الذكي خرافة. لا يوجد جدل علمي؛ فحجج بيهي سقطت علميا بالكامل.
وفي الواقع، ثمة آليات طبيعية معقولة لجميع الأمثلة التي ساقها بيهي على النظم المعقدة تعقيدا غير قابل للاختزال. وكما يوضح أستاذ البيولوجيا كينيث آر ميلر، فإن إحدى الطرق التي يمكن بها للانتخاب الطبيعي إنتاج نظم معقدة تعقيدا غير قابل للاختزال هي عن طريق الجمع بين عناصر قد تطورت من قبل بفعل الانتخاب الطبيعي كي تؤدي وظائف «أخرى». ولأن أي جزء على نحو منفصل من السوط سيكون عديم الفائدة في تحريك البكتيريا، فهذا لا يستتبع أن يكون الجزء عديم الوظيفة. بل إننا نعلم بالفعل أن بعض مكونات سياط البكتيريا لها وظائف في مواضع أخرى:
يكتب [بيهي] إنه في غياب «أي جزء تقريبا» من أجزاء سوط البكتيريا، فإن السوط «لن يؤدي وظيفته.» لكن مهلا! إن مجموعة صغيرة من البروتينات في السوط تؤدي وظيفتها دون بقية أجزاء السوط؛ إذ تستخدمها أنواع كثيرة من البكتيريا كوسيلة لحقن السموم داخل خلايا أخرى. ورغم أن الوظيفة التي يؤديها هذا الجزء الصغير عندما يؤدي عمله بمفرده مختلفة، فإن الانتخاب الطبيعي مع ذلك يمكن أن يفضلها.
إجمالا، إن زعم بيهي الأساسي بأن امتلاك «جزء» واحد من آلية معقدة تعقيدا غير قابل للاختزال لن يكون ذا قيمة على صعيد التناسل أو البقاء بالنسبة إلى الكائن؛ زعم خاطئ تماما. إن كنت تظن أن ميلر يقول هذا لأنه ملحد يرفض أي شكل من التصميم الذكي، فأعد التفكير في الأمر؛ فميلر ديني. يقول ميلر إنه ليس التحيز ضد الدين هو الذي يفسر السبب وراء أن المجتمع العلمي يرفض حجج بيهي:
في التحليل النهائي، فرضية الكيمياء البيولوجية الخاصة بالتصميم الذكي خاطئة، ليس لأن المجتمع العلمي منصرف عن مناقشتها، وإنما لأبسط الأسباب؛ أن الأدلة العلمية تناقضها تمام التناقض.
كتب الفيزيائي لورانس كراوس يقول:
إن تضليل [التصميم الذكي] يكمن في إشارة مؤيديه إلى جدل دائر في حين أنه لا يوجد أي جدل في الواقع. قام صديق لي بإعداد مسح غير رسمي عبر أكثر من عشرة ملايين مقال نشر في كبرى الدوريات العلمية خلال الاثني عشر عاما الماضية. والبحث عن التطور ككلمة دليلية كانت نتيجته 115 ألف مقال، معظمها عن التطور البيولوجي. والبحث عن التصميم الذكي خرج بثمانية وثمانين مقالا، كلها باستثناء أحد عشر مقالا منها كانت بدوريات هندسية؛ حيث لا أمل بالطبع أن تحتوي على نقاش حول التصميم الذكي! ومن بين الأحد عشر مقالا المتبقية، ثمانية كانت تنتقد الأساس العلمي لنظرية التصميم الذكي، والثلاثة المتبقية اتضح أنها مقالات بمنشورات مؤتمرات، وليس بدوريات بحثية. وهذا هو نطاق «الجدل» في الأدبيات العلمية؛ أي إنه لا يوجد جدل.
إن تلقين الأطفال أنه يوجد «جدل علمي» حول التصميم الذكي هو بمنزلة تلقينهم أكذوبة. ربما يوجد جدل في الواقع، لكنه ليس جدلا «علميا». (5) حجة التصميم الدقيق
طبقا لبعض نظريات الفيزياء الحالية، يبدو أن الكون «مصمم تصميما دقيقا» من أجل الحياة. وتفيد بأنه لكي توجد حياة، يجب أن تكون قوانين الطبيعة والأحوال الأولى للكون مضبوطة تماما. فإن كانت قوى معينة أقوى أو أضعف قليلا، وإن كانت أبعاد أو قيم معينة أكبر أو أصغر قليلا، فما كانت الحياة لتتمكن من الظهور أو كانت ستقل كثيرا احتمالات ظهورها. وفيما يلي رأي ستيفن هوكينج في هذا الشأن:
الحقيقة المثيرة للانتباه هي أن قيم هذه الأرقام [الرئيسية] يبدو أنها مضبوطة على نحو بالغ الدقة كي تتيح نشوء الحياة؛ على سبيل المثال، لو اختلفت الشحنة الكهربية للإلكترون اختلافا ضئيلا فقط، لما تمكنت النجوم من حرق الهيدروجين والهليوم، أو لكانت قد انفجرت.
وكثيرا ما يقال إن احتمالية أن يتوافر للكون مثل هذه التوليفة من السمات من قبيل المصادفة فقط في واقع الأمر ضئيلة جدا. إنها احتمالية بالغة الضآلة في الواقع، لدرجة أن البعض يظن أن افتراض وجود عامل ذكي من نوع ما «صمم» عمدا الكون على هذا النحو فرض أكثر منطقية، وسيضيف كثيرون أن هذا الذكاء هو الإله؛ فالإله يقدم تفسيرا مرضيا لما سيكون من دونه مجموعة بعيدة الاحتمال جدا من المصادفات؛ ومن ثم فمن المعقول الإيمان بوجود الإله.
إلى أي مدى تدعم فعليا تلك الملاحظات وغيرها عن العالم الطبيعي الإيمان بوجود الإله؟ إنها بالكاد تدعمه، إن كانت تدعمه من الأساس.
بادئ ذي بدء، لاحظ أن المزاعم العلمية التي تستند إليها حجة التصميم الدقيق ليست بمنأى تام عن الجدل.
يتشكك عدد من العلماء إن كان هناك نطاق محدود جدا فحسب من المعاملات الفيزيائية يمكن للحياة أن تنشأ في إطاره. وقد درس الفيزيائيون، وفيهم فيكتور شتينجر وأنتوني أجيري وكريج هوجان، تلك الأكوان التي تنتج عندما تتغير ستة معاملات كونية في نفس الوقت بعدة قيم أسية، واكتشفوا أن النجوم والكواكب والحياة الذكية يمكن أن تنشأ على نحو يمكن تصوره في إطار كثير منها. وطبقا لهؤلاء الفيزيائيين، بالتأكيد من غير المؤكد أنه لا توجد سوى مجموعة ضئيلة جدا من المعاملات الفيزيائية التي قد تنشأ الحياة في إطارها. فإن كانوا على حق، فالكون ليس مصمما تصميما دقيقا.
يرى علماء آخرون أنه إن كان الكون مصمما تصميما دقيقا فربما هناك أيضا وجود متعدد الأكوان؛ أي عدد ضخم من الأكوان تحكمها مجموعة كبيرة من القوانين الفيزيائية المختلفة. فإن كان هناك وجود متعدد الأكوان، فلا يستبعد أن يتصادف وجود كون مصمم تصميما دقيقا؛ كون يتمتع بصفة مبدأ جولديلوكس - «مضبوط تماما» - للحياة.
لكن دعونا نسلم جدلا أن الجوانب العلمية التي تستند إليها حجج التصميم الدقيق الكوني ثابتة على نحو لا يتطرق إليه الشك؛ لنفترض أن الكون مصمم تصميما دقيقا، وأنه لا يوجد وجود متعدد الأكوان.
ثمة مشاكل أخرى كثيرة في حجة التصميم الدقيق، ثمة فكرة رئيسية تقوم عليها مثل هذه الحجج - وهي أننا يمكن أن نتكلم على نحو واضح عن الكون وسماته الرئيسية على أنها إما «محتملة» أو «مستبعدة» - قد اعترض عليها الفلاسفة مرارا وتكرارا (فبعضهم يقول، على سبيل المثال، إن فكرة الاحتمالية المستخدمة هنا لا يمكن تطبيقها إلا فيما يتعلق بمجموعة معينة من القوانين والحالات المادية، التي بالطبع لا يمكن أن تتاح إلا في إطار كون مادي).
لكن دعونا نفترض جدلا أن الكون مصمم تصميما دقيقا من أجل الحياة، وأنه من المستبعد إلى حد كبير أن يتمتع بتلك السمات الداعمة للحياة من قبيل المصادفة وحسب. إلى أي مدى ستدعم تلك الحقيقة الإيمان بوجود كيان ذكي من نوع ما يتجاوز الوجود المادي قام بتصميم الكون عن عمد على هذا النحو؟
ثمة اعتراض آخر على حجة التصميم الدقيق - طرحه ريتشارد دوكينز وآخرون - وهو أنه بالاحتكام إلى وجود مصمم ذكي للكون، فإننا نحتكم إلى كيان يجب ألا يقل تعقيدا - وكذلك لا يقل استبعادا في سماته - عن الكون الذي من المفترض أنه صممه؛ فإذا كان تعقد الكون سيقودنا إلى الافتراض بأن له مصمما، ألا ينبغي أن يقودنا تعقد المصمم إلى افتراض أنه كان هناك مصمم للمصمم، وهكذا إلى ما لا نهاية؟ (6) هل فرضية الذكاء المتجاوز للوجود المادي منطقية؟
لكن حتى إن نحينا هذا الاعتراض جانبا، تظل هناك مشكلتان أخريان، ربما أكثر عمقا؛ مشكلتان تمثلان تهديدا لجميع حجج التصميم.
المشكلة الأولى هي أنه من غير الواضح أن فكرة المصمم الذكي المتجاوز للوجود المادي منطقية.
يفسر البشر سمات العالم من حولهم بطريقتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في تقديم تفسيرات «خاصة بالمذهب الطبيعي» تحتكم إلى سمات العالم الطبيعي، مثل الأحداث والقوى والقوانين الطبيعية، وتقع تفسيرات الفيزياء والكيمياء في تلك الفئة. وتتمثل الأخرى في تقديم تفسيرات مقصودة؛ أي تفسيرات تحتكم إلى معتقدات ورغبات فاعلين عاقلين بنحو أو بآخر. لم توجد شجرة في بقعة ما؟ لأن تيد أراد أن يرى وهو ينظر من نافذة حجرة نومه شجرة، فغرس فسيلة في تلك البقعة؛ ظنا منه أنها ستنمو وتصير شجرة بلوط عظيمة.
عندما نعجز عن تفسير شيء يتوافق مع المذهب الطبيعي، سيستميلنا بالتأكيد البحث عن تفسير مقصود. وعندما لا نستطيع تقديم تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي لسبب حركة الأجرام السماوية على النحو الذي تتحرك به، نفترض أنه لا بد أنها، أو لا بد أن من يحركها، آلهة من نوع ما. وعندما لم نستطع أن نقدم تفسيرا للأمراض والكوارث الطبيعية، أرجعناها إلى أعمال فاعلين أشرار، مثل السحرة والشياطين. وعندما لم نتمكن من تقديم تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي لنمو النباتات وتعاقب الفصول، استحضرنا مجددا الفاعلين؛ العفاريت والجنيات والآلهة على مختلف الصور.
ومع نمو فهمنا العلمي للعالم، تقلصت الحاجة إلى استحضار الساحرات والجنيات والشياطين وغيرهم من الفاعلين فوق الطبيعيين لتفسير مظاهر العالم الطبيعي. إلا أننا عندما نسأل: «لم يوجد العالم الطبيعي من الأساس؟ وما الذي يفسر سبب تمتعه بالقوانين الأساسية التي يتمتع بها؟» لا نجد تفسيرات تتوافق مع المذهب الطبيعي؛ ولذا، قد يبدو تفسير من منطلق نشاط من نوع ما لفاعل يتجاوز الوجود المادي وجيها، بل ولا مفر منه.
لكن هل هذا التفسير منطقي؟ هب أنني أزعم وجود جبل لا يشغل حيزا من الفراغ، فهو جبل له قمة مدببة وتحيط به وديان وأجراف منحدرة، لكن هذا الجبل غير موجود أو ممتد في الفراغ على الإطلاق، وليس لهذا الجبل أبعاد مكانية؛ فهذا الجبل يتجاوز عالمنا المكاني.
ربما تسأل عن سبب افتراضي وجود مثل هذا الجبل. وإن لم أقدم لك أسبابا وجيهة، فستتشكك في كلامي، ومعك الحق في ذلك. لكن في الواقع، ألا توجد مشكلة أكثر جوهرية في زعمي بوجود مثل هذا الجبل؟ ألا يمكننا أن نعلم، حتى قبل أن نلتفت إلى مسألة إن كان يوجد «دليل» يؤيد وجود مثل هذا الجبل أو ينفيه، أنه لا يمكن أن يوجد مثل هذا الشيء؟ إذ إن فكرة الجبل الذي لا يشغل حيزا من الفراغ في حد ذاتها غير منطقية، ولجبلي الافتراضي قمة وتحفه وديان ومنحدرات، لكن كلها مظاهر تستلزم امتدادا مكانيا؛ فالقمة تستلزم أن يكون جزء من الجبل أعلى من جزء آخر، والوادي يجب أن يكون منخفضا عن الأرض المحيطة به. فمفاهيم الجبل والقمة وغيرها لا تنطبق على نحو محسوس إلا في سياق مكاني. أخرج هذا السياق من المسألة وستجد أننا في النهاية نتحدث عن هراء.
لكن عندما ننتقل الآن إلى مفهوم المصمم المتجاوز للوجود المادي، هل يبدو الأمر منطقيا أكثر بأي شكل من الأشكال؟ لمفهوم الفاعل أصله في إطار زماني؛ فمفهوم الفاعل هو مفهوم لشخص أو لشيء له «معتقدات» و«رغبات» قد «يتصرف» على أساسها على نحو عقلاني إلى حد ما. إلا أن التصرفات هي أحداث تحدث في لحظات معينة من الزمن، والمعتقدات والرغبات حالات نفسية لها مدة زمنية.
والآن عندما نفترض أن الكون الزمكاني من خلق الإله، فإننا نفترض أنه من خلق فاعل لا زماني؛ أي فاعل لا يوجد في حيز الزمان (أو على الأقل لم يكن موجودا حينها)؛ لأنه حينها لم يكن هناك بالطبع أي زمن كي يوجد فيه الفاعل. لكن إن كانت الرغبات حالات نفسية ذات مدة زمنية، فكيف يمكن لهذا الفاعل أن يمتلك رغبة خلق الكون؟ وكيف أقدم على فعل الخلق إن لم يكن هناك أي زمن تؤدى فيه الأفعال؟ من الصعب أن ترى الحديث عن فاعل لا زماني أكثر منطقية بأي صورة من الحديث عن جبل لا وجود له في حيز مكاني.
ربما تتفادى هذه الألغاز بافتراض أن الإله موجود، وطالما كان موجودا، في الزمن؛ فهذا يوفر للإله الإطار الزمني الضروري الذي قد يمتلك من خلاله الرغبة في صنع الكون ووضع تصميم له والقيام بعملية الخلق. لكن هذا يطرح مجموعة كبيرة من الأسئلة المحيرة الأخرى؛ مثل: «لم استغرق الأمر من الإله طيلة هذه المدة كي يجد الوقت لخلق الكون (ومن المفترض أنها فترة طويلة جدا لا يمكن قياسها)؟ هل كان يمتلك دوما الرغبة في خلق مثل هذا الكون؟» إن كانت الإجابة بنعم، فلم انتظر طيلة هذه المدة قبل الشروع في الخلق (وماذا كان يفعل في تلك الفترة)؟ أو إن كانت تلك رغبة جديدة تولدت لديه، فلم تولدت تلك الرغبة تلقائيا لديه؟ (بل كيف يمكن أن تتولد رغبة جديدة إن كان من المفترض أن الإله «غير قابل للتغير»؛ «لأني أنا الرب لا أتغير» [ملاخي، 3: 6].)
ومن جانبنا ربما نصر، مثلما يفعل كثير من التأليهيين، على أن الحديث عن وجود مصمم ذكي ينبغي ألا يفهم «حرفيا»؛ فنحن لا نفترض وجود فاعل ذكي بالمعنى الحرفي، بل شيء «شبيه» بمثل هذا الفاعل.
هل ينجح هذا الاحتكام إلى التشابه في إنقاذ التفسير بالمعنى الوارد في التصميم الذكي؟ هب أنني أحاول تفسير ظاهرة طبيعية ما بالاحتكام إلى وجود جبل لا مكاني، فيشير منتقدي إلى أن فكرة مثل هذا الجبل غير منطقية، فترتسم على وجهي أمارات الضجر وأصر على أنهم يؤولون كلامي على نحو مبالغ جدا في الحرفية والتبسيط؛ فأنا لا أتحدث عن جبل بالمعنى «الحرفي»، بل عن شيء «شبيه» بالجبل؛ هل ينقذ هذا تفسيري؟
هب أن التشابه الذي أطرحه كالتالي: الشعور بالذنب الذي يشعر به بلد من البلدان حيال عمل فظيع أقدم عليه هو مثل جبل شاهق يطأ بوزنه على النفس الجمعية لمواطني هذا البلد، وهذا بالتأكيد تشابه حسن قد نسوقه بمختلف الطرق. والآن هب أن البلد الذي نتحدث عنه ضربه زلزال شديد. سأحاول تفسير الزلزال بالاحتكام إلى هذا الشيء الشبيه بالجبل، بالتأكيد لن يفسر هذا الزلزال؛ فشيء «شبيه» فحسب بالجبل لن يتمتع بالقوى السببية والتفسيرية نفسها التي يتمتع بها جبل حقيقي؛ فالشعور الجمعي بالذنب لا يسبب الزلازل.
ويمكنك الآن أن ترى لم كان من يحاولون تفسير سمات العالم بالاحتكام إلى شيء شبيه وحسب بفاعل ذكي يحملون على عاتقهم الكثير (على أقل القليل) من الأمور التي عليهم تفسيرها! فعليهم مهمة تفسير؛ أولا: ما التشبيه المقصود تحديدا؟ وثانيا: كيف يفترض بالتشبيه الذي يسوقونه أن يتجنب تهمة الهراء الموجهة إلى النسخة المفهومة حرفيا من الزعم؟ وثالثا: كيف يفترض بهذا الشيء الشبيه وحسب بالفاعل الذكي أن تكون لديه القدرات التفسيرية المناسبة التي يتمتع بها الفاعل الذكي الحقيقي؟
هل يمكن لمن يحتكمون إلى شيء «شبيه» وحسب بفاعل ذكي أن يقدموا هذه التفسيرات؟ لا يتضح لي أن بإمكانهم ذلك (وغالبا لا يكلفون أنفسهم عناء المحاولة). وهذه الاحتكامات إلى التشابه تبدو لكثير من المعلقين، وأنا من بينهم، أنها تسحب الجدل حول التصميم الذكي، لا إلى أعلى إلى مستوى التعقيد والعمق العظيم، بل إلى أدنى إلى مستوى المراوغة والإبهام. (7) لم يوجد إله؟ ولم هذا الإله بالتحديد؟
إن طرحنا جميع هذه الاعتراضات جانبا، فيتبقى ما قد يكون أكثر الاعتراضات إسقاطا للحجة على الإطلاق؛ وهو أنه ستكون قفزة ضخمة وغير مبررة، في هذه الحالة، أن نخلص من النتيجة القائلة بأن الكون صنيعة ذكاء إلى نتيجة أخرى تقول بأن هذا الذكاء هو إله المحبة الكلي القدرة المنان بلا حدود، الذي يعبده المسيحيون والمسلمون واليهود.
وكما يوضح الفيزيائي بول ديفيز، الفائز بجائزة تمبلتون، في نهاية كتابه «معضلة جولديلوكس»، فإنه حتى مع طرح جميع هذه المشكلات جانبا:
المشكلة الرئيسية الأخرى في التصميم الذكي هي أنه لا توجد ضرورة كي تكون هناك علاقة على الإطلاق بين هوية المصمم وبين الإله في المعتقد التوحيدي التقليدي. «القوة المعنية بالتصميم» يمكن أن تكون مجموعة من الآلهة، على سبيل المثال. يمكن أن يكون المصمم كيانا طبيعيا أو كيانات طبيعية، مثل عقل فائق أو حضارة فائقة متطورة موجودة بكون سابق، أو في جزء آخر من كوننا، قام بصنع كوننا باستخدام تكنولوجيا فائقة، كما يمكن أن يكون المصمم كمبيوترا خارقا من نوع ما يحاكي هذا الكون؛ ولذا، فإن استدعاء فكرة عقل فائق ... محفوفة بالمشاكل.
ديفيز على حق بالطبع. حتى إن كانت هناك مظاهر معينة في الكون تشير إلى وجود مصمم، فهي لا تشير إلى وجود الإله المسيحي بالقدر نفسه الذي لا تشير به إلى أن الكون عبارة عن محاكاة من صنع كمبيوتر، أو صنيعة حضارة فائقة سابقة، أو بالطبع إله من نوع مختلف.
لم يوجد إله؟ ولم هذا الإله بالتحديد؟ لم نحصل حتى اللحظة على إجابات عن هذين السؤالين.
خاتمة
استعرضنا في هذا الفصل أمثلة على نوعين من الحجج التي يعتبر كثيرون أنها توفر درجة معقولة من الدعم المنطقي للإيمان بالإله: الحجج الكونية وحجج التصميم. وبتناول الموضوع عن كثب، اتضح أن الحجج، على أقصى تقدير، لا تدعم سوى الزعم القائل بأنه يوجد ذكاء من نوع ما، أو ربما شيء ما موجود بالضرورة، يقف خلف الكون (وأنا أعتقد أننا عرضنا لأسباب وجيهة لافتراضنا أنها فشلت حتى في إثبات هذا القدر). ففي كل حالة، وجدنا أن الأمر سيكون، على أساس الحجة المعروضة، قفزة أخرى ضخمة غير مبررة إلى النتيجة القائلة بأن هذا الذكاء هو الإله كما هو موجود في المعتقد التوحيدي التقليدي.
الفصل الثالث
الحجة المعارضة لوجود الإله
ركز الفصل السابق على حجج مؤيدة لوجود الإله، وفي هذا الفصل، سنعرض لحجة معارضة لوجود الإله. (1) إشكاليتا الشر
يتمتع الإله، كما ترى المعتقدات التقليدية للأديان التوحيدية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام، بثلاث خصائص مهمة على الأقل؛ أولاها: أن الإله كلي القدرة أو قوي قوة مطلقة؛ فالإله يمتلك القدرة على خلق الكون وتدميره. وإذ إنه خالق قوانين الطبيعة وصائنها، فله حرية خرقها بإحياء الموتى أو شق البحر الأحمر، على سبيل المثال. وثانيتها: أن الإله كلي العلم؛ فمعرفته لا محدودة، ويعلم حتى بواطن أفكارنا. وثالثتها: أنه من المفترض أن الإله خير خيرا ساميا. وفي الحقيقة، كثيرا ما يتم وصف الإله بأنه يحمينا كأب محب يسهر على رعاية أطفاله، فيقولون إن الإله محبة.
أود الإشارة إلى أنني سأستخدم كلمة «الإله» للإشارة إلى مفهوم الإله حسب المعتقد التقليدي للأديان التوحيدية الثلاثة؛ ومن ثم، سأستخدم كلمة «توحيد» للإشارة إلى الإيمان بهذا المفهوم للإله، أما كلمة «تأليه» فستشير للإيمان بوجود إله أو عدة آلهة، سواء كان الإله أم لا.
إن كان الإله يتمتع بالخصائص الثلاث السابقة، فهذا يمثل تحديا واضحا ومألوفا للمعتقد التوحيدي؛ تحديا معروفا بإشكالية الشر. وفي الواقع، ثمة إشكاليتا شر على الأقل: الإشكالية المنطقية، والإشكالية الإثباتية. (2) إشكالية الشر المنطقية
تبدأ إشكالية الشر المنطقية بفكرة أن الزعم القائل بأن: (1)
هناك إله كلي القدرة، كلي العلم، وسامي الخير.
لا تتسق منطقيا مع الزعم بأن: (2)
الشر موجود.
وبالشر نقصد هنا كلا من المعاناة والأفعال الخاطئة أخلاقيا. والجدل يكون على هذا النحو: الزعم الثاني صحيح؛ ولذا فالزعم الأول خاطئ. لم؟ لأن الإله الكلي القدرة سيتمتع بالقوة لمنع الشر، والإله الكلي العلم سيعرف بوجوده، والإله الواسع الخير سيرغب في منعه.
لاحظ أن مقدار الشر الموجود لا علاقة له بالحجة أعلاه؛ فهي تقتضي وجود «بعض» الشر فحسب، مهما كان صغر مقداره.
كثير من التوحيديين يقولون بأن إشكالية الشر المنطقية لا تمثل تحديا لا يمكن تجاوزه للإيمان بالإله. وفي ردهم عليها، يحاولون توضيح أن الإله الكلي القدرة، الكلي العلم، الواسع الخير؛ قد يسمح بقدر من الشر من أجل مصلحة أعلى.
فعلى سبيل المثال، كثير من هؤلاء يؤمنون أن الإله وهبنا إرادة حرة؛ أي القدرة على الاختيار بحرية بين فعل الخير أو الشر. ونتيجة لتصرفنا بحرية، يوجد الشر. إلا أن هذا الشر تفوقه بكثير مظاهر خير أخرى تجلبها الإرادة الحرة، مثل القدرة على إتيان أعمال خيرة بمحض اختيارنا الواعي. ورغم أن ذلك قد يبدو متناقضا، فهذا عالم أفضل من عالم آخر يفتقر للإرادة الحرة، رغم وجود الحرب والقتل، على سبيل المثال، نتيجة للإرادة الحرة.
لاحظ أن دفاع الإرادة الحرة لا يتناول (عادة) إشكالية الشر الطبيعي؛ أي المعاناة التي تنشأ بمعزل عن أفعال البشر، مثل المعاناة التي تنتج عن الأمراض والكوارث التي تحدث لأسباب طبيعية. لم يوجد مثل هذا الشر؟ كما سنرى لاحقا، غالبا ما يجيب التوحيديون بإجابة مشابهة، وتحديدا أن الشر الطبيعي ضروري من أجل مصلحة أعلى، مثل الاتساق في قوانين الطبيعة أو إتاحة الفرصة للبشر كي يبدوا فضائل مثل الصبر والبسالة أمام النوازل. (3) إشكالية الشر الإثباتية
إلا أنه ثمة إشكالية شر أخرى تواجه المعتقد التوحيدي، أرى أنها أشد خطورة؛ وهي إشكالية الشر الإثباتية. تقوم إشكالية الشر الإثباتية لا على فكرة أن صحة الزعم الثاني تستتبع منطقيا زيف الزعم الأول، بل على فكرة أن الزعم الثاني يقدم لنا «دليلا وجيها» يدحض الزعم الأول.
وهنا يصبح مقدار الشر مهما للحجة. وفي حين أننا قد نقر بأن الإله قد يسمح ببعض الشر (من أجل مصلحة أعلى )، فهل يوجد أي سبب وجيه لسماحه بوجود هذا القدر الكبير من الشر؟ وبإمكاننا أن نذكي جذوة الإشكالية الإثباتية بالإشارة إلى أن الإله من المفترض أنه لن يسمح بوجود معاناة بلا سبب. وإذا كان الإله موجودا، فمن المفترض أن لديه سببا وجيها للسماح بكل هذا الكم من المعاناة.
في نهاية حلقة عرضت مؤخرا من برنامج «الحياة» التليفزيوني، أجري لقاء مع أحد المصورين. وقد ذكر أنه بعد بضعة أسابيع من العمل ضمن طاقم البرنامج، أخذ يفكر في اعتزال تصوير الحياة البرية؛ لأنه وجد التجربة بالغة الإزعاج لدرجة لا يطيقها؛ فقد كان يعاني من أجل التكيف مع المعاناة الاستثنائية التي تقاسيها الحيوانات التي كان يراقبها. وكان هذا النوع من المعاناة - المعاناة المروعة، على مستوى عالمي شاسع - بالطبع مستمرا، ليس لبضعة أسابيع فحسب، بل لمئات الملايين من السنين، قبل ظهور الإنسان الحديث جدا بوقت طويل.
عندما بدأنا التفكير في مقادير المعاناة الضخمة الموجودة - وفيها مئات ملايين السنين من معاناة الحيوانات التي حدثت قبل ظهور البشر - ألا يتضح سريعا أنه لا يمكن تفسير كل ذلك بأنه يخدم مصلحة أعلى؟
إذن، الزعم القائل بأن الإله في المعتقد التوحيدي التقليدي موجود، يبدو خاطئا على نحو واضح على المستوى التجريبي. (4) نظريات العدالة الإلهية
يرد المؤمنون بالإله على إشكالية الشر الإثباتية بعدة طرق مختلفة؛ فالبعض يؤكد على وجود أسس وجيهة لافتراض أنه لا يوجد إله وحسب، بل وأن هذا الكيان يتمتع بالصفات التي يعزوها إليه المعتقد التوحيدي التقليدي. ومن ثم، في حين قد توجد أدلة تعارض وجود الإله، فثمة حجج مؤيدة لوجوده مقابلة لها على الأقل، وسأعود إلى هذا الطرح في وقت لاحق في هذا الفصل. وقد يصر التوحيديون كذلك على أنه بالإمكان دحض إشكالية الشر الإثباتية إلى حد بعيد، وجرى تقديم كثير من التفسيرات للشر من قبل هؤلاء، وفيها الأمثلة الثلاثة التالية: «حل الإرادة الحرة البسيط». خلقنا الإله فاعلين أحرارا متمتعين بالقدرة على اختيار كيفية تصرفنا. والمعاناة تنتج عن اختيارنا القيام بأشياء خاطئة. إلا أن الإرادة الحرة أيضا تتيح صور خير معينة؛ مثل القدرة على إتيان الخير بمحض اختيارنا الواعي. فالمخلوقات الأشبه بالعرائس المتحركة التي دائما ما تفعل كما يأمرها الإله لن ترتكب شرا، إلا أنها تفتقر إلى المسئولية الأخلاقية؛ ومن ثم فهي غير قادرة على التصرف على نحو فاضل بصورة صادقة وحقيقية. والإله بفك القيود عنا وإعطائنا حرية الإرادة الكاملة، سمح حتما ببعض الشر (كالذي أقدم عليه هتلر). إلا أن الإرادة الحرة الخيرة تسمح بما يفوق تلك الشرور. «أعمال الخير من الدرجة الثانية تقتضي شرورا من الدرجة الأولى». لم يكن مفر من أن يقدر الإله كما محددا من المعاناة بحيث يمكن أن تتحقق أعمال خير مهمة معينة. خذ العمل الخيري مثالا؛ فكي أقوم بعمل من الأعمال الخيرية، يجب أن أفترض وجود آخرين محتاجين، قد يستفيدون من عطائي؛ فالعمل الخيري يعتبر من «أعمال الخير من الدرجة الثانية» التي تقتضي وجود «شرور من الدرجة الأولى» مثل العوز والمعاناة (أو مظهرهما على الأقل). ولأن أعمال الخير من الدرجة الثانية تفوق الشرور من الدرجة الأولى، فإن الإله يسمح بها. «حل «بناء الشخصية»». طبقا لعالم اللاهوت جون هيك، هذا العالم عبارة عن «أرض بناء الأرواح». جميعنا نألف فكرة أن المعاناة يمكن أن تصنع منا أشخاصا أفضل وأقوى. على سبيل المثال، الشخص الذي أصيب بمرض مؤلم وخطير سيقول أحيانا إنه لا يشعر بالحسرة حيال ذلك؛ لأنه تعلم الكثير من التجربة. وبإنزال الألم والمعاناة علينا، يعطينا الإله فرصا مهمة، وفيها فرصة التعلم والنمو والتطور أخلاقيا وروحيا؛ فمن خلال تلك المعاناة وحدها نستطيع أن نبني الأرواح النبيلة التي يريد الإله أن نمتلكها.
عندما تقدم تلك التفسيرات كرد على إشكالية الشر الإثباتية، أحيانا يطلق عليها «نظريات العدالة الإلهية»، وقد وضع الكثير منها. يعتقد بعض التوحيديين أنه حتى إن لم تحل تلك النظريات إشكالية الشر الإثباتية بالكامل؛ فهي مجتمعة تقلص من الإشكالية على الأقل إلى حجم يمكن التعامل معه، بحيث يمكننا التوقف عن قول إن المعتقد التوحيدي مزيف خاطئ على نحو واضح على المستوى التجريبي.
مع ذلك ، كثيرا ما سيقر المؤمنون بالإله أنه ليس من السهل بالتأكيد شرح السبب وراء إنزال الإله هذا الكم الضخم من الألم والمعاناة على سكان هذا الكوكب الواعين. لذا، يدعم بعضهم هذه التفسيرات المتنوعة باحتكام آخر إلى عنصر «الغموض»، فيؤكدون على أن الإله يعمل على نحو غامض، فعلم الإله وذكاؤه لا حدود لهما بالتأكيد، ومن المرجح أن مخططه «خارج نطاق معرفتنا» في الأغلب. وبذلك، إن كان سبب كثير من الشر الموجود يفوق نطاق فهمنا، فهذا ليس سببا وجيها لعدم وجود الإله. (5) فرضية الإله الشرير
بالطبع يعتبر أغلب الملحدين هذه التفسيرات المتنوعة للنوازل الأخلاقية والكوارث الطبيعية لا طائل منها مطلقا، ويبدو لكثيرين أن المقدار الضخم من المعاناة والانحلال الأخلاقي الموجود في عالمنا يشكل دليلا قويا على أن الإله كما يصفه المؤمنون به غير موجود. وفي الواقع يبدو جليا إلى حد كبير لكثيرين أنه لا يوجد إله.
هل يمكن أن يتضح بجلاء عدم وجود الإله، حتى مع الاحتكام إلى الغموض ومختلف نظريات العدالة الإلهية وغيرها من الاستراتيجيات التي استحدثها التوحيديون للدفاع عن معتقدهم؟ من وجهة نظري، نعم يمكن ذلك.
فكر في اعتقاد مختلف بعض الشيء، وهو أن الكون صمم وخلق على يد كيان كلي القدرة وكلي العلم، إلا أن هذا الكيان ليس كلي الخير، بل إنه مستطير الشر، فلا تعرف قسوته ولا أذاه حدودا.
لاحظ أنني أسوق فرضية الإله البديلة هذه، لا لأنني أرى أنها من المحتمل أن تكون صحيحة؛ وإنما لطرح السؤال التالي: هل هذه الفرضية أقل معقولية في الواقع من فرضية الإله الخير؟
بالطبع، يعتبر الجميع تقريبا فرضية الإله الشرير عبثية. لم؟ بادئ ذي بدء، ثمة أدلة كثيرة جدا تعارضها، وبالتأكيد فإن كيانا كلي القدرة وكلي العلم وكلي الشر لن يسمح بوجود أشياء طيبة كثيرة بهذا القدر في خلقه؛ على سبيل المثال، لم يقوم مثل هذا الكيان الشرير بما يلي:
خلق جمال طبيعي يمنحنا كل هذا القدر من البهجة؟
منحنا أطفالا نحبهم ويحبوننا حبا بلا حدود؟ فالإله الشرير يزدري الحب؛ ومن ثم لا يحتمل أن يضع دفقات من هذه البهجة في خلقه.
منحنا أجسادا فتية بحيث نستمتع بالرياضة وممارسة الجنس وما إلى ذلك؟
السماح لنا بمساعدة بعضنا بعضا والتخفيف من المعاناة التي نشعر بها، وهذا بالتأكيد ليس التصرف الذي سيسمح به إله شرير، بل كان سيرغمنا على التسبب في معاناة أكبر، بدلا من السماح لنا بالتقليل منها.
الإنعام على بعض الناس على الأقل بوافر الصحة وكثرة المال وجم السعادة؟
ألا تقدم لنا هذه المظاهر التي يمكن ملاحظتها في الكون أدلة قوية تعارض فرضية الإله الشرير؟ بل ألا يتضح بجلاء أنه لا وجود لمثل هذا الكيان، مع وضع تلك الأدلة في الاعتبار؟ ولعلنا نطلق على هذه الإشكالية التي تواجه فرضية الإله الشرير «إشكالية الخير الإثباتية».
لكن ربما نكون قد تعجلنا في رفض الاعتقاد بوجود إله شرير. لاحظ أننا يمكن أن نحاول الدفاع عن فرضية الإله الشرير بتقديم تفسيرات كالتالي: «حل الإرادة الحرة البسيط». خلقنا الإله الشرير فاعلين أحرارا نتمتع بالقدرة على اختيار كيف نتصرف. ينتج كثير من الأعمال الخيرة عن اختيارنا القيام بالأمور الصحيحة. لم إذن خلق الإله الشرير الإرادة الحرة؟ لأنها تسمح بشرور مهمة معينة، مثل القدرة على إتيان الشر بمحض اختيارنا الواعي. فالمخلوقات الأشبه بالعرائس المتحركة التي دائما ما تتصرف حسب أوامر الإله الشرير قد تنزل الألم والمعاناة بعضها على بعض، إلا أنها تفتقر إلى المسئولية الأخلاقية، وستكون من ثم غير قادرة على التصرف على نحو شرير أخلاقيا بصورة صادقة وحقيقية. والإله الشرير بفك القيود عنا وإعطائنا حرية الإرادة الكاملة، سمح حتما ببعض الخير، إلا أن الإرادة الحرة الشريرة تسمح بشرور تفوق تلك الأعمال الخيرة. «الشرور من الدرجة الثانية تقتضي أعمال خير من الدرجة الأولى». ربما يذكرنا التوحيديون بأن الإله كان من المحتم أن يخلق قدرا معقولا من الخير كي يمكن وجود شرور مهمة معينة. خذ الغيرة مثالا؛ فالغيرة رذيلة مهمة، لكنها لا يمكن أن توجد إلا بوجود أناس يمتلكون أشياء خيرة تستحق أن يشتهيها غيرهم؛ مثل الصحة والثروة والسعادة. ويطلق على الغيرة «شر من الدرجة الثانية» يقتضي «أعمال خير من الدرجة الأولى». ولأن الشرور من الدرجة الثانية تفوق أعمال الخير من الدرجة الأولى؛ فإن الإله يسمح بوجود أعمال الخير هذه. «حل «تدمير الشخصية»». هذا العالم أرض لتدمير الأرواح. لم يمطر إله شرير عالمنا بالجمال؟ كي يجعل وحشة الحياة اليومية وبشاعتها أكثر فداحة بكثير. لم ينعم علينا بأجساد شابة فتية؟ حسنا، إنه ينعم علينا بها لوقت قصير، ثم يأخذ منا بلا رحمة صحتنا وحيويتنا ببطء، حتى ينتهي بنا الحال غير قادرين على التحكم في عمليات الإخراج ومصابين بالتهاب المفاصل ونتداعى جراء الشيخوخة. أن تعطي أحدهم شيئا رائعا ثم تأخذه منه لهو أشد قسوة من ألا تعطيه إياه من الأساس. وبالتأكيد فإن الإله الشرير يتأكد أننا حتى عندما نتمتع بوافر الصحة، يملؤنا القلق لمعرفتنا أنها قد تختطف منا جراء مرض أو حادث. لم يهبنا أطفالا نحبهم أكثر من حبنا للحياة ذاتها؟ لأن هذا يسمح للإله الشرير بإنزال صور أشد من العذاب علينا. ولا يسعنا سوى أن نصاب بالجزع حيال أطفالنا لأننا نهتم لأمرهم. وكلما زاد اهتمامنا، زادت درجة المعاناة التي يمكن أن تصيبنا.
لاحظ أنه يمكن تعزيز هذه التفسيرات بمناورة إضافية؛ الاحتكام إلى عنصر «الغموض»، فالإله الشرير يعمل على نحو غامض. وإذ إنه يتمتع بقدرة وعلم لا حدود لهما، فمن المحتمل أن تكون خطته الشريرة «خارج نطاق علمنا» في الأغلب. وبذلك، إن كان سبب كثير من الخير الموجود يفوق نطاق فهمنا، فهذا ليس سببا وجيها لعدم وجود مثل هذا الكيان الخبيث. (6) تحدي الإله الشرير
لعلك لاحظت بعض أوجه التشابه الواضحة بين فرضيتي الإله الخير والشرير؛ فالمؤمنون بوجود الإله الخير يواجهون إشكالية الشر الإثباتية، أما المؤمنون بوجود الإله الشرير فيواجهون إشكالية الخير الإثباتية. المؤمنون بوجود الإله الخير قد يحاولون التعامل مع إشكالية الشر عن طريق وضع نظريات العدالة الإلهية، مثل حلول الإرادة الحرة وبناء الشخصية، والاحتكام إلى الغموض. وعلى نحو مشابه، المؤمنون بوجود الإله الشرير قد يضعون نظريات عدالة إلهية موازية، وكذلك قد يحتكمون إلى الغموض، من أجل التعامل مع إشكالية الخير. وفي الواقع، فإن تلك النظريات الموازية يمكن وضعها فيما يتعلق بأغلب نظريات العدالة الإلهية الأخرى أيضا.
ما مدى معقولية الإيمان بوجود إله شرير، مقارنة بالإيمان بالإله كما هو موصوف في المعتقد التوحيدي التقليدي؟ الجميع تقريبا مقرون، حتى مع اعتبار المناورات الدفاعية المبتكرة كالتي طرحتها أعلاه، بأن الإيمان بوجود إله مستطير الشر يظل ضربا من العبث. وأنا أفترض أنه من «الممكن» وجود مثل هذا الكيان. لكن بالتأكيد هو احتمال بعيد كل البعد، مع اعتبار الأدلة التي نمتلكها.
لكن إن كان ذلك صحيحا، فلم ينبغي أن نعتبر أن الإيمان بوجود إله كلي القدرة، كلي العلم، كلي الخير أكثر معقولية بكثير؟ إن كان مقدار الخير الضخم الذي نلاحظه في العالم دليلا قويا بالفعل على عدم وجود إله شرير، فلم إذن ليس مقدار الشر الضخم دليلا قويا على عدم وجود الإله الخير؟
ومن ثم، فالمؤمنون بالإله حسب المعتقد التوحيدي التقليدي يواجهون تحديا. طالعنا في الفصل السابق أن بعضا من أهم وأشهر الحجج التي يفترض كثيرون أنها توفر درجة مقبولة على الأقل من الدعم العقلاني للإيمان بالإله، لا تقدم في الواقع أي دعم للإيمان بوجود الإله الخير بالقدر نفسه الذي لا تقدم به سندا لوجود إله شرير، على سبيل المثال. وذكرنا أن إشكالية الخير تقدم فعليا دليلا تجريبيا دامغا يعارض فرضية الإله الشرير، رغم مختلف نظريات العدالة الإلهية الموازية والاحتكام إلى الغموض التي قد يتم اللجوء إليها للدفاع عنها. لكن إن كان المؤمنون بوجود الإله الخير يعتبرون معتقدهم، إن لم يكن مؤكدا، فهو على الأقل «عقلاني»؛ فإن المسئولية الآن تقع على عاتقهم لشرح «السبب» الذي يجعلنا نعتبر معتقدهم أكثر عقلانية بكثير من الاعتقاد بوجود إله شرير، ويمكننا أن نطلق على ذلك «تحدي الإله الشرير».
لا أدعي أنه لا يمكن التصدي لهذا التحدي، لكني لا أعرف كيفية التصدي له؛ ولهذا السبب لا أرى أن الإيمان بالإله كما هو في المعتقد التوحيدي التقليدي أكثر عقلانية من الإيمان بوجود إله شرير، وإن كان الأخير غير عقلاني على نحو كبير في واقع الأمر. (7) المعجزات والتجارب الدينية
لنلقي نظرة بإيجاز على بعض الاقتراحات الخاصة بكيفية الرد على التحدي الذي يواجه عقلانية المعتقد التوحيدي. إحدى الاستراتيجيات الواضحة بجلاء ستكون محاولة عرض حجج لافتراض أنه لا يوجد إله خالق فحسب، وإنما هذا الكيان خير أيضا. وفي حين أن حجج التصميم التي جرت مناقشتها في الفصل السابق ربما لا تدعم فرضية الإله الخير بقدر ما لا تدعم فرضية الإله الشرير، فربما تكون هناك حجج «أخرى» تدعم بوضوح فرضية الإله الخير.
أبرز الحجج المرشحة، تلك المستمدة من المعجزات ومن التجارب الدينية. عادة ما يتوجه الناس بالدعاء كي يشفى أحدهم من مرض عضال، ويستجاب إلى هذه الدعوات بين الحين والحين. يتدخل الإله بشكل فوق طبيعي للقيام بمعجزة؛ أليس هذا النشاط فوق الطبيعي دليلا وجيها على وجود إله خير، لا إله شرير؟ علاوة على ذلك، عندما يروي الناس تجارب دينية، فإنهم يروون بوجه عام وقائع بالغة الإيجابية، مثل المرور بشيء طيب وجميل على نحو لا محدود. مرة أخرى، ألا يقدم لنا ذلك بعض الأدلة على الأقل على وجود إله، بل ووجود الله؟
لست متأكدا من ذلك بشدة. إن كنت إلها شريرا، لما كانت هناك ضرورة كي يعلم الناس أني إله شرير، ولا سيما إن كنت بتظاهري بالخير، أستطيع صنع مزيد من الشر في واقع الأمر.
على سبيل المثال، إن كنت إلها شريرا، فقد أظهر لمجموعتين مختلفتين من البشر في شكل إله خير وأقوم بمعجزات فوق طبيعية لأقنع كلا منهما بأنني موجود. فإن قلت لإحدى المجموعتين أشياء تناقض ما أقوله للمجموعة الأخرى، فإن النتيجة يمكن توقعها: صراع شرس لا نهاية له، باعتبار أن كلا من المجموعتين الآن تمتلك «برهانا» على أن الإله الحق إلى جانبها، وأن خصومها ناكرون لحقيقته.
إذن، هل المعجزات والتجارب الدينية أدلة تؤيد وجود الإله الخير أكثر من وجود إله شرير؟ بالتأكيد الإله الخير، بمعرفته بالمصائب الأخلاقية المروعة التي ستنتج إن ظهر على هذا النحو ، سيتجنب القيام بذلك. كان سيتأكد من عدم وجود مثل هذا اللبس حول من يضمن وجود الإله إلى جانبه وما ينبغي أن يؤمن الناس به. أما الإله الشرير في المقابل فسيدرك أن إظهاره نفسه على هذا النحو الملتبس الخادع سيخلق موقفا من المحتمل أن يزداد فيه الشر. وبذلك لا يتضح إن كانت المعجزات أو التجارب الدينية دليلا على وجود الإله الخير أفضل من كونها دليلا على وجود إله شرير. وفي الواقع، قد نذهب إلى أن التوزيع الفعلي لهذه الظواهر يناسب فرضية الإله الشرير أكثر مما يناسب فرضية الإله الخير. (8) نظريات العدالة الإلهية الأخرى
هل توجد نظريات أخرى للعدالة الإلهية أكثر نجاحا في الدفاع عن المعتقد التوحيدي، نظريات ربما لا يمكن وضع نظريات موازية لها؟ من بين نظريات العدالة الإلهية القياسية الأخرى التي يمكن وضع نظريات موازية لها: «الحل الدلالي». المقصود بمصطلحي «الخير» و«الشر»، عندما يتعلقان بالإله، شيء مختلف عن المقصود بهما عندما يتعلقان بالبشر. فبما أن الإله كيان يتجاوز الوجود المادي، فلا يمكن وصفه وصفا مناسبا باستخدام مصطلحات البشر. وهذا يفسر السبب وراء أن فعلا يقوم به البشر ويعتبر فعلا شريرا (مثل إنزال معاناة بالغة بشخص بريء) لا ضرورة لاعتباره شريرا إن قام به الإله.
لن يستغرق الأمر سوى برهة من التفكير حتى تدرك أنه يمكن تقريبا استخدام المناورة نفسها لشرح السبب وراء أن إلها شريرا سيقدم على أشياء، إن ارتكبها بشر، فستعتبر «خيرة».
شكل 3-1: اختار آدم وحواء ارتكاب الخطيئة. (رغم أنهما حينها لم يكونا يعرفان بعد الخير والشر، فكيف يمكنهما ارتكاب الخطيئة؟)
كما أنه من الممكن وضع نظريات عدالة إلهية موازية لتلك النظريات التي تفسر الشرور الطبيعية (مثل الزلازل والأمراض) على أنها ناتجة عن قوانين الطبيعة التي، بأخذ كل العوامل في الاعتبار، تنتج خيرا أكثر مما تنتج شرا، وأيضا لتلك التي تزعم أن أي شرور نقاسيها في هذا العالم سيتم تعويضنا عنها في الحياة الآخرة (سأدعك تكتشف تفاصيل ذلك بنفسك).
إلا أنني أعتقد أنه توجد نظرية واحدة على الأقل للعدالة الإلهية لا يمكن وضع نظرية موازية لها بسهولة؛ فقد حاول القديس أوغسطين تفسير الشرور الطبيعية بافتراض أنها نتيجة خروج آدم وحواء من الجنة. قطن آدم وحواء عالما مثاليا لا تعكر صفوه الكوارث الطبيعية ولا الأمراض؛ وعندما عصيا الإله وأذنبا، لم يفسدا أنفسهما فحسب، وإنما الطبيعة أيضا؛ فالأمراض والكوارث الطبيعية والموت هي نواتج هذا الفساد. وبذلك، فإن هذه الشرور هي في الواقع نتائج الإرادة الحرة. اختار آدم وحواء بحرية ارتكاب الخطيئة، وكذلك نحن نفعل؛ ونتيجة لذلك، نعاني أشد المعاناة، ولن تتوقف هذه المعاناة حتى نكف عن الخطيئة ونستسلم للإله.
لا يتضح لي إمكانية وضع نظرية موازية لنظرية أوغسطين السابقة حول العدالة الإلهية، وستكون كافة أنواع الصعوبات حائلا أمام محاولات وضع رواية مقابلة متماسكة حتى ولو على نحو غامض حول آدم وحواء آخرين، يتسببان بعصيانهما خالقهما الشرير في دخولهما الجنة؛ مما يؤدي إلى أشياء جيدة في الطبيعة. وربما يمكن وضع رواية مختلفة بعض الشيء تتضمن إلها شريرا قد تفسر وجود أشياء جيدة في الطبيعة، لكنه من الصعب معرفة كيف يمكنها أن تنسج رواية موازية للخروج من الجنة بالتفاصيل الكافية كي تكون نظرية عدالة إلهية مناقضة.
ولذا، ربما لا يمكن عكس كل نظريات العدالة الإلهية القياسية الموضوعة للدفاع عن الاعتقاد بوجود الإله الخير من أجل إنتاج نظرية عدالة إلهية مناقضة قد تستخدم للدفاع عن الاعتقاد بوجود إله شرير.
رغم أنه يبدو أن نظرية أوغسطين للعدالة الإلهية غير قابلة للانعكاس، فإنها ضعيفة للغاية؛ فآدم وحواء لم يوجدا من الأساس، وحتى إن كانا قد وجدا، فلا يمكن لخطيئتهما أن تفسر الكوارث الطبيعية المعاصرة، ولا يمكن تفسير الزلازل على أنها نتيجة لخطيئتهما؛ فالزلازل تنتج عن حركة الصفائح التكتونية التي تتسبب، مع وضع قوانين الطبيعة في الاعتبار، في إحداث زلازل على أي حال، سواء أخطأنا أم لا. وبالطبع نحن نعلم أن الزلازل وأمواج المد وثورات البراكين والأمراض وغيرها كانت تحدث لملايين السنين قبل وجود فاعلين أخلاقيين قادرين على ارتكاب الخطيئة؛ فكيف إذن يمكن أن تكون المعاناة البالغة المترتبة على تلك الأحداث نتيجة لخطيئة أو لخروج آدم وحواء من الجنة؟ (9) إشكالية الشر الإثباتية: خاتمة
ألقينا نظرة على إشكالية الشر الإثباتية، التي ربما تشكل الحجة المعارضة الأقوى للمعتقد التوحيدي التقليدي. ونسخة إشكالية الشر المعروضة هنا، التي تتضمن رسم صورة موازية منها في شكل إشكالية الخير، وضعها عدد من الفلاسفة، من بينهم بيتر ميليكان، ستيفن كان، وأنا. وكان هدفي من عرضها هنا هو توضيح كيف أن هذه النسخة من إشكالية الشر الإثباتية تشكل تهديدا خطيرا لمعقولية المعتقد التوحيدي.
شكل 3-2: يقول تشارلز داروين: «لا أستطيع أن أقنع نفسي أن إلها خيرا، كلي القدرة كان سيخلق زنبورا طفيليا بنية أن يتغذى داخل أجساد يرقات الفراش الحية.»
ولاحظ أن تركيزي انصب على الإله بحسب المعتقد التوحيدي التقليدي. قد تشكل إشكالية الشر دليلا قويا يعارض وجود الإله الخير، وتشكل إشكالية الخير دليلا قويا يعارض وجود إله شرير، لكن ثمة فرضيات أخرى عن الإله ربما نأخذها بعين الاعتبار، وهي التي لا تمثل أي من هاتين الحجتين تهديدا لها، ولم يسبق أن اعتقدت، مثلا، في وجود إله كلي القدرة، لكنه محايد أخلاقيا. لكن على الأقل فرضية الإله هذه لا ترقى لتعارض الأدلة التي تتجلى بوضوح لتكذيب كل من فرضيتي الإله الشرير والإله الخير.
لاحظ أن تحدي الإله الشرير يشكل تهديدا لا للمعتقد التوحيدي فحسب، وإنما للمعتقد اللاأدري بخصوص الإله. بالتأكيد، ليست اللاأدرية موقفا عقلانيا بشأن وجود إله شرير. وبالنظر في الأدلة المطروحة، من الواضح أنه لا يوجد مثل هذا الكيان الفائق الخبيث. لكن إن لم يكن المعتقد اللاأدري عقلانيا بشأن فرضية الإله الشرير، فلم ينبغي أن نعتبر اللاأدرية أكثر عقلانية بأي درجة فيما يتعلق بفرضية الإله الخير؟ (10) «بالتأكيد لا يمكن أن يكون من الواضح تماما عدم وجود الإله!»
بالتأكيد الاعتقاد بأنه ربما كان من الواضح تماما أن الإله بصورته في المعتقد التوحيدي التقليدي غير موجود (ربما تماما مثل وضوح الاعتقاد بعدم وجود إله شرير) سيجده كثيرون - وفيهم بعض الملحدين - غريبا. كيف يمكن أن يتضح جليا أنه لا وجود للإله إن كان الملايين من البشر - وكثير منهم أشخاص أذكياء ومثقفون - يؤمنون بالإله؟
لكن بالطبع للدين تاريخ طويل غريب من جعل أناس أذكياء لديهم قدر عال من العلم والثقافة يعتقدون في أشياء زائفة بوضوح. فعلى سبيل المثال، تشير نتائج استطلاعات الرأي بانتظام إلى أن حوالي مائة مليون مواطن أمريكي حاليا، كثير منهم حاصل على قدر معقول من العلم وبعضهم ارتادوا الجامعة، يعتقدون أن الكون بأسره يبلغ عمره نحو 6 آلاف عام فحسب. ينبغي بالتأكيد أن يتضح جيدا لأي شخص حصل على قدر معقول من التعليم أن الكون عمره أقدم من ذلك بكثير. وهناك أشخاص آخرون من مثل هؤلاء يؤمنون بالكثير من المعتقدات الواضحة العبث من كافة الأشكال؛ لأن هذا هو ما يلقنه دينهم لهم (تأمل المؤمنين بالساينتولوجيا الذين يرون أن حاكما من الفضاء أحضر ملايين البشر إلى الأرض في سفينة فضاء على شكل طائرات من طراز دوجلاس دي سي-10، وجمعهم حول براكين فجرها بقنابل هيدروجينية)!
فعندما يأتي الأمر إلى الدين، فإن إيمان كثير من الناس الأذكياء المتعلمين بشيء ليس دليلا وجيها للغاية على أن ما يؤمنون به صادق تماما. (11) «قد لا أستطيع إثبات وجود الإله، لكن لا يستطيع أحد إثبات عدم وجوده»
عندما يواجه التوحيديون تحديا عقلانيا لمعتقدهم، أحيانا ما يكون ردهم: «لا أستطيع إثبات وجود الإله، لكن لا يمكن إثبات عدم وجوده؛ ومن ثم فإن التوحيد والإلحاد يمثل كل منهما «موقفا إيمانيا»؛ ومن ثم فالاثنان منطقيان أو غير منطقيين على نحو متساو.»
لكن ما المقصود تحديدا بكلمة «إثبات» هنا؟ هل المقصود الإثبات بما لا يدع أي مجال «ممكن» للشك؟ الحقيقة أننا لا نستطيع إثبات عدم وجود الإله بما لا يدع مجالا ممكنا للشك. لكننا لا نستطيع بما لا يدع مجالا ممكنا للشك إثبات عدم وجود جنيات أو حيوان اليونيكورن الخرافي أو بابا نويل. ومن الممكن أيضا وجود تلك الأشياء (فربما توجد مؤامرة كبرى محكمة تقودها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لإخفاء الحقيقة عنا). لكن بالطبع لا يصر أحد على أن الاعتقاد بعدم وجود بابا نويل «موقف إيماني»، وبالتأكيد لا يستتبع ذلك أن الإيمان بوجود بابا نويل على القدر نفسه من العقلانية والمنطقية مثل الإيمان بعدم وجوده.
ربما سيكون الاقتراح أنه لا يمكن إثبات وجود الإله أو عدم وجوده بما لا يدع مجالا «معقولا» للشك! لكن هذا اقتراح مثير للجدل بشدة. وفي الواقع، كثير من التوحيديين يعتقدون أنه يمكن إثبات وجود الإله بما لا يدع مجالا معقولا للشك. والجميع تقريبا على قناعة بأن الأدلة التي تحت أيدينا تثبت بما لا يدع مجالا معقولا للشك عدم وجود إله شرير. إلا أن أي شخص يقر بذلك يجب عليه أن يقر إذن على الأقل «بإمكانية» وجود أدلة كافية تثبت بما لا يدع مجالا معقولا للشك عدم وجود الإله الخير أيضا. (12) «إذن ما تفسير الملحدين؟»
إن رفضنا الإيمان بالإله، فكيف إذن نرد على سؤال من الأسئلة التي استهللنا بها الفصل الثاني، وهو: ما سبب وجود الكون؟ فماذا سيكون جوابنا؟ على المستوى الشخصي، لست متأكدا تماما من كيفية الإجابة عن هذا السؤال. إنها معضلة عميقة ومحيرة لا أثق في أنني أملك حلا مرضيا لها.
يعتبر بعض التوحيديين هذا اعترافا مدهشا: «إن لم تكن لديك إجابة على هذا السؤال، فأنت لا تعلم إن كانت إجابتنا غير صحيحة! فرأيك لا يعدو كونه موقفا إيمانيا مثل رأينا.»
لكن اعتراف المرء أنه لا يملك إجابة على سؤال لا يعني أنه لا يمكن إنكار إجابات معينة على نحو معقول. هب أن شيرلوك هولمز يمر بيوم عصيب؛ فقد وقعت جريمة قتل شنيعة، وثمة مئات من المشتبه بهم، وشيرلوك هولمز لا يستطيع اكتشاف من ارتكبها، إلا أنه في حين لا يستطيع هولمز تحديد هوية الجاني، فإنه متأكد أن أناسا بعينهم أبرياء؛ فكبير الخدم، على سبيل المثال، لديه حجة تغيب قوية عن موقع الجريمة؛ ومن ثم فهولمز واثق على نحو مبرر أن كبير الخدم لم يرتكب الجريمة، رغم أنه لا يعرف من ارتكبها.
وبالطريقة نفسها، يمكن أن يقر الملحدون بوجود غموض يكتنف سبب وجود الكون، وبأنهم بالغو الحيرة بشأن هذا الأمر، إلا أنهم في الوقت نفسه يؤكدون على وجود أدلة دامغة، أيا كانت الصورة التي عليها هذه الأدلة، على أن الكون لم يخلقه الإله الكلي القدرة، الكلي العلم الواسع الخير حسب المعتقد اللاهوتي المسيحي. ربما يكونون واثقين بذلك على نحو مبرر قدر ثقتهم بأن الكون ليس من خلق إله كلي القدرة، مستطير الشر، وهو الأمر الذي كلنا تقريبا واثقون بشأنه لأسباب وجيهة. (13) هل يتبنى الملحدون معتقدات غير مبررة؟
ألا نضطر «جميعا» إلى تبني «معتقدات غير مبررة»؛ أي دون أن يكون لدينا دليل عليها في مرحلة ما؛ وفي ذلك الملحدون؟ فالملحدون، فوق كل شيء، يعتقدون أنهم يسكنون عالما ماديا حافلا بالأشجار والمنازل والجبال والبشر، لكنهم لا يعتقدون ذلك إلا بسبب أن هذا هو العالم الذي تكشفه لهم حواسهم؛ فكيف إذن يمكنهم معرفة أن حواسهم مرشد يمكن الاعتماد عليه إلى الحقيقة؟ كيف يمكنهم أن يعرفوا أن خبراتهم نتاج عالم حقيقي، لا كمبيوتر فائق، على سبيل المثال، يولد واقعا افتراضيا معقدا، كما في فيلم «ذا ماتريكس»؟ في كلتا الحالتين، سيبدو كل شيء في النهاية بالطريقة نفسها تماما؛ من ثم، لا يستطيع الملحدون تبرير اعتقادهم بأن حواسهم يمكن الاعتماد عليها إلى حد كبير؛ فاعتقادهم بأن العالم الذي يبدو أنهم يخبرونه هو عالم حقيقي اعتقاد ينطوي على معتقد غير مبرر تماما.
والآن يبدو لكثير من التوحيديين أنهم يتواصلون مع الإله في تجارب دينية على نحو مباشر؛ ولذا، لم لا يثقون في تلك التجارب الإلهية على النحو نفسه الذي يثق به الملحدون في تجاربهم الإدراكية؟ لكن يبدو أن كلا منهما لا يستطيع تبرير معتقداته بناء على خبراته. إلا أننا عادة لا نعتبر ثقة الملحد في موثوقية حواسه غير عقلانية، لكن لم ينبغي إذن أن نعتبر ثقة التوحيدي في موثوقية تجاربه الدينية أقل عقلانية على أي نحو؟
علاوة على ذلك، قد يزعم التوحيدي، بسبب أنه على وجه التحديد يثق في تجاربه الدينية التي يتواصل فيها مع الإله، أنه غير مضطر إلى الوثوق أكثر في تجاربه الإدراكية الطبيعية. إذا كان الإله خيرا بالصورة التي يراه بها الشخص الموحد له، فإنه لن يسمح لحواس الموحد له بأن تخدعه بانتظام؛ ومن ثم، فإن ثقته في حواسه لا تقتضي تبني معتقد آخر غير مبرر.
وعليه قد يخلص الموحد، على الأقل بالنسبة إلى شخص مر بمثل هذه التجارب الدينية، إلى أن الإيمان بالإله وإيمان الملحد بالعالم الخارجي كليهما يمثلان موقفا إيمانيا.
وهذه حجة بارعة، ربما تنطوي على «بعض» الحقيقة. قد تكون حقيقية من منطلق أن الإلحاد موقف إيماني؛ لأن «أي» معتقد يؤمن به المرء حيال الكيفية التي توجد بها الأشياء خارج عقله هو في نهاية المطاف موقف إيماني (رغم أن لدي شكوك حيال هذا الأمر؛ فعلى سبيل المثال، يذهب بعض الفلاسفة إلى أن الرأي القائل بوجود الأجسام المادية والأشخاص الآخرين وما إلى ذلك خارج عقلي هو «أفضل تفسير متاح» لدي لمختلف الخبرات الإدراكية التي أمر بها؛ ومن ثم فهو ليس موقفا إيمانيا على الإطلاق، بل فرضية مؤكدة).
إلا أنه حتى إن كان أي اعتقاد حول الكيفية التي تبدو عليها الأشياء خارج عقل المرء يستلزم تبني معتقد غير مبرر، فلا يستتبع ذلك أنه من العقلاني أن يثق التوحيديون في تجاربهم مع الإله كما يثق الملحدون في تجاربهم الإدراكية الطبيعية.
وإليكم مشكلة جلية تتمثل في الاقتراح القائل بأن الثقة في التجارب الدينية المفترضة لا تتضمن تبني معتقد غير مبرر أكثر من الثقة فيما تقدمه لك حواسك الأخرى.
تكشف الملاحظة أن الناس يمرون بنطاق شديد الاختلاف من التجارب الدينية؛ فمن خلال تلك التجارب، يؤمن البعض بأن هناك آلهة كثيرة، في حين يؤمن البعض الآخر بأن هناك إلها واحدا، ويرى آخرون أنه لا توجد آلهة على الإطلاق (مثل بعض البوذيين). فالبعض يؤمن بالإله حسب المعتقد اليهودي والمسيحي، وآخرون يؤمنون بالإله ثور، والبعض الآخر يؤمن بالإله زيوس، وغيرهم يؤمنون بالإله ميثرا ... وما إلى ذلك. لقد آمن الناس في واقع الأمر بآلاف الآلهة وغيرها من الكيانات فوق الطبيعية (مثل القديسين ، والملائكة، والأسلاف)، وهي كيانات ذات نطاق كبير ومتنوع من الخصائص. ووجود أي من هذه الآلهة عادة ما يستبعد وجود كثير من الآلهة الأخرى، وفي بعض الحالات كلها. ومن ثم، نحن نعلم أنه على الأقل «كثير» من هذه التجارب يجب أن تكون خيالية «في أغلبها» على الأقل. لكن أليس ذلك الشخص، الذي بوضعه كل هذا في الاعتبار ورغم ذلك يصر على أن خبراته الدينية مؤشر للحقيقة يمكن التعويل عليه، شخصا ساذجا؛ بل أكثر سذاجة بكثير من الشخص الذي يعتبر تجاربه الحسية الطبيعية يمكن التعويل عليها إلى حد كبير (لأن حواسنا الطبيعية على الأقل لا تقدم لنا دليلا وجيها على أنها هي نفسها لا يمكن التعويل عليها على نحو كبير)؟
ثمة مشكلة أخرى في الاقتراح السابق؛ وهي أنه على الرغم من أن افتراض التوحيديين بأنهم يمرون بتجارب دينية قد يقودهم إلى الثقة فيما تنقله لهم حواسهم الأخرى، فإن حواسهم الأخرى سرعان ما تقدم لهم الكثير جدا من الأدلة على عدم وجود مثل هذا الكيان المعطاء (انظر إشكالية الشر التي عرضنا لها فيما سبق). وهكذا، على عكس الافتراض القائل بأن حواسنا الطبيعية يمكن التعويل عليها على نحو كبير، فإن الافتراض التوحيدي السابق ينتهي به الحال في الواقع داحضا لنفسه. (14) اللاهوت السلبي
لن يلتفت بعض التوحيديين للحجج التي ناقشتها في هذا الفصل والفصل الذي سبقه، وربما يقولون شيئا من قبيل:
الإله الذي لا تؤمن به، أنا لا أومن به كذلك، فأنت تتعامل مع مفهوم عتيق وساذج عن الإله، فلفظ «الإله» هو الاسم الذي أطلقه على أي إجابة عن السؤال: «لم توجد أشياء من الأساس؟» فهذا الأمر لا سبيل إلى معرفته ولا تحديده، وهو يتجاوز فهمنا. يمكننا أن نحدد الصورة التي ليس عليها الإله؛ فالإله ليس على سبيل المثال «شيئا» ولا «شخصا»، لكننا لا نستطيع أن نحدد الصورة التي هو عليها.
الرأي القائل بأننا لا نستطيع أن نحدد الصورة التي عليها الإله، بل الصورة التي ليس عليها فقط، أحيانا ما يطلق عليه «اللاهوت السلبي». وللتأليه السلبي مزاياه، ربما أوضحها أنك إن لم تحدد أبدا الصورة التي عليها الإله، فلن يستطيع أحد إثبات خطأ رأيك أو مخالفتك.
للوهلة الأولى، التأليه السلبي يجعل الإلحاد غير ممكن؛ فعلى سبيل المثال، إن قلت: «لا وجود لشيء يسمى الإله»، فسيوافقك التأليهي السلبي الرأي قائلا: «نعم، لا وجود في الواقع لمثل هذا «الشيء»!»
عالم اللاهوت دينيس تيرنر من أشد مناصري هذا الشكل من التأليه؛ ففي محاضرته الأولى بوصفه أستاذا للاهوت بجامعة كامبريدج (التي حملت عنوان «كيف تكون ملحدا؟»)، خاطب الملحد قائلا:
لا داعي أن تفترض اختلافك معي إن قلت: «لا وجود لشيء يسمى الإله»؛ لأنني وصلت لهذه النتيجة قبلك بكثير. فما أقول سوى أن العالم خلق من العدم، وهذه هي الطريقة التي يفهم بها الإله. أنكر هذا، وستكون ملحدا جديرا حقا بالاحترام. لكن لاحظ الخلاف الذي بيننا: إنه حول مشروعية ضرب بعينه شديد الغرابة من الفضول الفكري، حول الحق في طرح ضرب بعينه من الأسئلة.
لاحظ أن اقتراح تيرنر الأخير بأن الخلاف بين الملحد والتأليهي مثله هو إن كان الفضول العميق حيال أسئلة على غرار «لم توجد أشياء بدلا من العدم؟» فضولا مشروعا. ويصف تيرنر الملحد بأنه شخص لا يلتفت إلى مثل هذه الأسئلة، شخص لا يشعر بالرهبة أو الحيرة مطلقا إزاء حقيقة وجود أشياء من الأساس.
لكن إن كان هذا هو ما عليه الملحد، فأنا لست ملحدا، ولا أغلب الفلاسفة (الأمر الذي سيتفاجأ به كثير جدا منهم).
بالتأكيد أغلب أنصار اللاهوت السلبي لا يعبرون عن حيرتهم ودعمهم للتأمل الفلسفي فحسب؛ بل إنهم مع اعترافهم بجهلهم، غالبا ما يكون في جعبتهم الكثير والكثير ليقولوه عن الإله، حتى إن كان مستغرقا ومصطبغا بشدة بلغة القياس والمجاز. على سبيل المثال، قال تيرنر في الاقتباس السابق إن العالم «خلق» من العدم، وليس أنه «ظهر» فحسب من العدم أو كان العدم سببا فيه. ولكن لأن فكرة أن العالم مخلوق تقود المرء على نحو طبيعي إلى فكرة أن العالم له خالق أو سبب، فيبدو كما لو أن تيرنر هنا يلمح إلى شيء «مقابل» على الأقل لكيان أو سبب يتجاوز الحدود المادية. وفي هذه الحالة، هو يلمح إلى شيء يمكن للملحدين أن يبدءوا في تحديه.
وبالطبع، فإن كثيرا من التأليهيين أنصار اللاهوت السلبي يعتبرون هذا الكيان الغامض المتجاوز للحدود المادية جديرا بالعبادة والشعور بالعرفان تجاهه؛ الأمر الذي يطرح السؤال التالي: كيف يتأتى لهم أن يعرفوا أن العبادة والشعور بالعرفان موقفان مناسبان لنا كي نكنهما تجاه هذا الكيان، إن كان حقا كيانا لا سبيل إلى معرفته؟
في الواقع، إن كان تيرنر على حق والعالم مخلوق، أفلا يقدم لنا مقدار المعاناة الرهيب الذي يحويه العالم أسبابا قوية لإضافة صفتين إضافيتين إلى قائمة الصفات التي يقول أنصار اللاهوت السلبي إن إلههم ليس عليها: فإلههم ليس جديرا بالعبادة ولا بالشعور بالعرفان له.
خاتمة
في الفصل السابق، تأملنا كيف أن عددا من أشهر الحجج المؤيدة لوجود الإله هي حجج ضعيفة، كما رأينا أنه لا يتضح بأي شكل من الأشكال منطقية أن الكون من خلق كيان خارق أو ذكاء فائق من نوع ما متجاوز للحدود المادية.
وفي هذا الفصل، رأينا أنه ثمة تحد قوي آخر أمام الإيمان بالإله حسب المعتقد التوحيدي التقليدي؛ ألا وهو: تحدي الإله الشرير. ولأنني لا أرى سبيلا للرد على هذا التحدي، فإني أعتقد أنه لا وجود لمثل هذا الإله.
الفصل الرابع
الإنسانوية والأخلاق
من بين «الأسئلة الكبرى» التي تتناولها الإنسانوية الأسئلة الأخلاقية؛ أسئلة حول ما «يجب» علينا وما «يجب علينا ألا» نفعله. والإنسانويون مؤمنون بالصواب والخطأ. وفي الواقع، كثير منهم لديهم التزام أخلاقي شديد.
إلا أن كثيرا من الدينيين يتشككون في الزعم القائل بأن الأخلاق شيء يمكن لمن يرفضون الإيمان بالإله أن يستخدموه في حججهم المعارضة لوجود الإله. وثمة ثلاثة تحديات عادة ما تظهر في هذا الشأن؛ وهي كالتالي:
أولا: «كيف يمكن أن يوجد خير دون وجود الإله؟» بالتأكيد في معرض حديثنا عن الأشياء سواء «الصحيحة» أو «الخاطئة» أخلاقيا، فنحن بذلك يكون لدينا معيار موضوعي من صنع الإله يمكن أن نقيس عليه مثل هذه القيم. فإن لم يوجد الإله، فلا وجود لمثل هذا المعيار؛ ومن ثم لن يعدو مثل هذا الحديث سوى تعبير عن تفضيلات شخصية. وعلى المستوى الأخلاقي، يمكننا جميعا أن نفعل ما يحلو لنا.
ثانيا: «كيف يتأتى لنا أن نعرف الخير من دون الإله والدين ليرشدانا إليه؟» بالتأكيد، دون البوصلة الأخلاقية التي يوفرها لنا الدين، لن نعرف أين نحن ولا وجهتنا الأخلاقية.
شكل 4-1: النبي موسى يهبط من جبل طور سيناء حاملا الوصايا العشر من الإله. وبحسب بعض الدينيين، يجب أن تأتي منظومة الأخلاق من الإله.
ثالثا: «هل سنكون أخيارا من دون الإيمان بالإله؟» بالتأكيد نحن نحسن التصرف فقط لإيماننا بوجود إله مطلع على ما نحن بصدده، سيحكم على أفعالنا ويعاقبنا إن أخطأنا ويكافئنا إن أصبنا. من المهم أن يؤمن الناس بوجود الإله، حتى يظلوا على الطريق القويم.
سيبدأ هذا الفصل بإلقاء نظرة أكثر عمقا على هذه التحديات الثلاثة. (1) هل يمكن أن يوجد خير من دون وجود الإله؟
إحدى أشهر الحجج أنه من دون وجود الإله، فإن منظومة الأخلاق مستحيلة، وهي تسير على النحو التالي:
لا يمكن أن تنبع منظومة الأخلاق منا، ولا يمكن أن تكون من صنيعنا؛ فلو كانت من صنيعنا، لكانت اعتباطية ونسبية؛ وهذا ما ليست عليه.
لم اعتباطية؟ لأنه إن كان لا يوجد صحة أو خطأ قبل إصدارنا حكما على شيء بأنه صحيح أو خاطئ، فلن يستند حكمنا إلى أسباب أخلاقية. ومن وجهة النظر الأخلاقية، أي حكم نصدره يجب أن يكون حتما اعتباطيا بالكامل.
ولم نسبية؟ إذا كان الصحيح أو الخاطئ أخلاقيا يتحدد بما نقول، إذن، لو قلنا إن تعذيب الأبرياء صحيح، لكان صحيحا. وفي الواقع، بالنسبة إلى من يقولون إنه صحيح، هو صحيح بالنسبة إليهم. الصحيح أو الخاطئ يعتمد تماما على ما نحكم به أيا كان.
لكن منظومة الأخلاق بالتأكيد ليست اعتباطية أو نسبية على هذا النحو، فلا يمكننا أن نجعل تعذيب الأبرياء أمرا صحيحا بمجرد قولنا ذلك. مثل هذا التعذيب خاطئ من دون تبرير، وليس خاطئا لأننا نقول عليه إنه خاطئ.
ختاما، وبحسب الحجة، إن لم تكن الأشياء صحيحة أو خاطئة لأننا نقول ذلك عنها، إذن يجب أن تكون صحيحة أو خاطئة لأن الإله هو الذي يقول ذلك بشأنها. لم تعذيب الأبرياء خاطئ مهما كان ما يمكن أن نقوله عنه أو نفكر فيه بشأنه؟ لأن الإله يقول إنه خاطئ.
والنظرية القائلة بأن الأشياء تكون صحيحة أو خاطئة أخلاقيا، طيبة أو خبيثة أخلاقيا، فقط لأن الإله يقول ذلك عنها؛ معروفة باسم «نظرية الأمر الإلهي». وحسب هذه النظرية، يكمن خطأ جريمة القتل ببساطة في أن الإله يأمرنا بألا نقتل. (2) معضلة يوثيفرو
الحجة أعلاه المؤيدة لنظرية الأمر الإلهي جذابة وذات قبول واسع، لكن بنظرة عن كثب، نجدها حجة ضعيفة؛ فثمة خلل كبير بها، أول من كشف عنه كان الفيلسوف أفلاطون في حواره «يوثيفرو».
فالخلل بالحجة يتضح عندما نطرح السؤال التالي:
هل الأشياء صحيحة/خاطئة، طيبة/خبيثة أخلاقيا لأن الإله يقول ذلك، أم أن الإله يقول عنها ذلك لأنه يدرك أنها كذلك؟
أيا من هاتين الإجابتين سيكون رد التأليهي؟ إن قال التأليهي إن الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا لا لسبب إلا لأن الإله يقول بذلك، إذن يتضح أن منظومة الأخلاق لا تزال اعتباطية ونسبية؛ فقبل إصدار الإله لأي أوامر، لا يوجد صواب أو خطأ؛ ومن ثم، أيا كانت الأوامر التي يصدرها، يجب أن تكون اعتباطية أخلاقيا. علاوة على ذلك، إن قال الإله إن تعذيب الأبرياء أمر صحيح، فإنه سيكون كذلك. لكن بالطبع هذا الزعم غير منطقي بالقدر نفسه الذي عليه الزعم القائل بأننا إن قلنا إن تعذيب الأبرياء صحيح، فإنه سيكون كذلك. وهكذا فإننا نواجه المشكلات نفسها مرة أخرى، إلا أنها الآن في جانب الإله.
ويؤكد بعض التأليهيين في ردهم أنه بسبب أن الإله نفسه خير أخلاقيا، فلن يأمرنا بتعذيب الأبرياء. إلا أنه بحسب نظرية الأمر الإلهي، أن تقول إن الإله خير أخلاقيا كأنك تقول إنه يقول إنه خير؛ الأمر الذي يمكنه أن يقوله أيا كانت الأوامر التي يصدرها بشأن تعذيب الأبرياء. من ثم، وحسب نظرية الأمر الإلهي، فإن خيرية الله لا تستتبع أنه لن يأمرنا بتعذيب الأبرياء.
يبدو إذن أن الإجابة الأولى - الأشياء صحيحة/خاطئة أخلاقيا لأن الإله يقول ذلك - غير مقبولة بالقدر نفسه الذي لا يقبل به الزعم القائل إن الأشياء صحيحة/خاطئة أخلاقيا لأننا نقول ذلك، وللأسباب ذاتها تقريبا.
ماذا إذن عن الإجابة الثانية: الإله يقول إن الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا لأنه يدرك أنها كذلك؟ إن الإله لا يجعل تعذيب الأبرياء خاطئا بإصداره أمرا بشأنه؛ فمثل هذا التعذيب سيكون خاطئا أيا كان ما أمر به الإله. وأوامر الإله، على حالها، تصدر لأغراض التبليغ وحسب.
بعض منظري نظرية الأمر الإلهي، بعد تعرفهم على الإشكاليات التي تعترض سبيل الإجابة الأولى، والتي يبدو أنه لا سبيل لتخطيها، يجنحون إلى الإجابة الثانية. لكن لاحظ أنه إن اختار التأليهي الإجابة الثانية، فستنهار «الحجة الأصلية القائلة بأن منظومة الأخلاق تقوم على أوامر الإله»؛ فالتأليهي الآن يقر بأن تعذيب الأبرياء خاطئ على أي حال - إنه خاطئ موضوعيا - سواء أكان يوجد إله يصدر أوامر أم لا. لكن حينها سيكون للملحدين واللاأدريين حرية استخدام هذا المعيار الأخلاقي الموضوعي نفسه؛ ومن ثم، فهما والتأليهيون الآن سواء في إرجاع منظومة الأخلاق إلى التفضيل الشخصي.
ولا ينكر أي مما سبق وجود معضلة بشأن موضوعية منظومة الأخلاق؛ حول الكيفية التي يمكن أن تكون بها الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا بمعزل عن الكيفية التي قد نحكم بها، أو يحكم بها الإله، عليها. ومقصدي هنا هو أن نظرية الأمر الإلهي لا تقدم أي حل حقيقي لهذه المعضلة. (3) ربط الخير بالإله
هذا الزعم لا ينهي بأي حال من الأحوال جميع الحجج التي قد يسوقها التأليهي للنتيجة القائلة بأنه لا يمكن أن يوجد خير من دون الإله. وإليكم اقتراحا مختلفا تماما. هب أن القيمة الأخلاقية لا اعتباطية ولا نسبية، هب أنه يوجد معيار أو مقياس أخلاقي موضوعي، وهب أن «الإله» لا يشير فحسب إلى «خالق» هذا المعيار، بل إلى «المعيار ذاته» (أو - إن شئت - أحد طرفي المعيار: الخير)، لكن حينها إن أقررت بوجود معيار مطلق للصواب والخطأ فهو بمنزلة إقرارك بوجود الإله.
هذا تلاعب ماهر بالكلمات. إن كان «كل» ما يعنيه التأليهي بالإله هو معيارا أخلاقيا موضوعيا ما، وبالتأكيد مع الإقرار بوجود مثل هذا المعيار الأخلاقي؛ بهذه الطريقة يقر المرء بوجود الإله. إلا أن هذا فهم قاصر جدا للمقصود ب «الإله». سيسلم كثير من الملحدين عن طيب خاطر بأنه إن كان هذا هو جل ما يقصده التأليهي بالإله، فإنهم إذن مؤمنون بالإله. إلا أنه بالطبع عادة ما يؤمن التأليهيون بمفهوم أكثر ثراء عن الإله؛ فيتميز فهمهم للإله بأنه لا يشير فحسب إلى هذا المعيار الأخلاقي، بل أيضا إلى أي مما يلي: خالق الكون، مصمم، كيان ذكي، فاعل على معرفة بالأشياء، يضمر نوايا، ولديه مشاعر مثل الغيرة والغضب والحب وما إلى ذلك، كيان خلقنا على صورته، صانع للمعجزات، إنسان كان له شأن في الماضي مات ثم عاد إلى الحياة مرة أخرى، منزل القرآن، عالم الغيب أو كاشف الحقائق، شخص يعدنا بالخلود ... وما إلى ذلك. وبزعمك وجود معيار أخلاقي مطلق فهذا لا يعني القبول بأي من هذه المزاعم الأخرى، كما هي مفهومة حرفيا أو حتى على سبيل القياس. لكن قبولك بوجود معيار أخلاقي مطلق لا يعني قبولك بوجود «الإله»، وذلك على أي مستوى ثري من فهم هذا المصطلح. (4) كيف يتأتى لنا معرفة الصحيح والخاطئ؟
دعونا نلتفت الآن إلى التحدي الثاني: كيف يمكننا أن «نعرف» الصحيح والخاطئ أخلاقيا دون إرشاد الإله والدين لنا؟ هب أنه يوجد معيار أخلاقي موضوعي، فكيف يتأتى لنا معرفة الوجهة التي تشير إليها بوصلة هذا المعيار؟ بالتأكيد، سواء كانت نظرية الأمر الإلهي صحيحة أم خاطئة، فإننا ما زلنا في حاجة إلى الإله والدين كي يرشدانا إلى ما هو صحيح وما هو خاطئ. أين يلتمس الإنسانويون الإرشاد الأخلاقي؟
شكل 4-2: شئت أم أبيت، لمسئولية اتخاذ قرارات أخلاقية طابع ارتدادي يشبه حركة البومرانج؛ جرب قذفها وستجد دائما أنها ترتد إليك.
يمكن أن يقر الإنسانويون - وهم يفعلون ذلك - بأن بعض الأشخاص ربما يكونون أكثر خبرة من الآخرين عندما يتعلق الأمر بمنظومة الأخلاق؛ من حيث إنهم قد يتمتعون بمعرفة أخلاقية أوسع، وقد يكونون حكاما مؤتمنين أكثر من غيرهم على الحكم على الصواب والخطأ. وبالتأكيد قد يمتلك بعض الأفراد حكمة أخلاقية مهمة أو تنطوي عليها بعض النصوص.
ويكمن موضع الاختلاف بين الإنسانويين وكثير من الدينيين في الموقف الذي يتخذه الأخيرون والذي يشجعون الآخرين على تبنيه، فيما يتعلق بمثل هذه المصادر؛ فبعضهم يصر على أفضلية مجموعة مصادر بعينها، وأن منظومة الأخلاق الأساسية التي تعززها تلك المجموعة ينبغي القبول بها بنحو أو بآخر دون شك. أما الإنسانويون في المقابل، فيؤكدون على أهمية «الاستقلال الأخلاقي الفردي».
وبالطبع، لا يفترض الإنسانويون أننا يجب أن نكون أحرارا نفعل ما نشاء؛ فهم يقرون بأن مجتمعنا يحتاج لقوانين وقوة شرطة وسلطة قضائية، لكنهم يفترضون أننا يجب أن نكون أحرارا في «التفكير» لأنفسنا، في إصدار أحكامنا الأخلاقية الخاصة بنا والتعبير عن آرائنا (باستثناء التحريض على العنف أو ما شابه)، وينكرون أنه يجب علينا كلنا أن نعهد بمسئولية إصدار الأحكام الأخلاقية إلى سلطة خارجية ما، مثل قائد سياسي أو ديني.
قد تتساءل حول ذلك. بالتأكيد كثيرا ما توجد مسوغات لعهدنا بمسئولية إصدار الأحكام إلى شخص خبير؛ لا شك أننا نتوجه إلى طبيب من أجل الحصول على استشارة طبية، وإلى فني من أجل رأيه بشأن نظام التدفئة المركزية، وما إلى ذلك. فمن العقلاني غالبا أن تأخذ برأي أصحاب الخبرة في مثل تلك الحالات.
لم إذن لا نقبل، مثلا، بحكم سلطة دينية ما بخصوص المسائل الأخلاقية؟ إن كانت تلك السلطة قد كرست حياتها للتفكير بعمق في القضايا الأخلاقية، فلم لا نذعن لرأيها الخبير؟
بالتأكيد سيكون ذلك ملائما، لكن للأسف ليست منظومة الأخلاق مثل الطب أو الكيمياء. إن نصح أستاذ كيمياء طالبا حديث السن بالتخلص من كتلة بوتاسيوم في الحوض، وقتل طالب آخر نتيجة للانفجار المترتب على ذلك، فلن يتحمل الطالب الأول المسئولية؛ بل يتحملها الخبير. لكن إن نصح معلم الدين طالبه الحديث السن بقتل أي شخص يرفض دينه، وأطاعه؛ فإن الطالب يستحق تحمل الوزر. وبافتراض أنه لم يجبر على ذلك ولم يتعرض لعملية غسيل مخ، فهو مسئول عن الشخص الذي قتله. وبديهيا، لا يمكنه التنصل من المسئولية بقوله: «لكن مرشدي الديني قال لي إنه يجب علي أن أفعل ذلك»، بنفس الطريقة التي يمكن لطالب الكيمياء أن يتنصل من المسئولية بقوله: «أستاذ الكيمياء قال لي إنه يجب أن أفعل ذلك.» لمسئولية إصدار الأحكام الأخلاقية طابع ارتدادي يشبه حركة البومرانج؛ جرب أن تعهد بها لأحد الخبراء، وستجدها دائما ما ترتد إليك.
بالتأكيد سيعتبر كثيرون الاقتراح القائل بأنه يجب علينا أن نقرر بأنفسنا الصحيح والخاطئ، لا أن نعهد بهذا الأمر إلى سلطة دينية، اقتراحا صادما. وقد يقولون لك: «يا للغرور! أتريد أن تؤدي دور الإله؟! عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع المسائل الأخلاقية، يجب أن نعتمد على الدين.»
لكن، شئت أم أبيت، لا مفر من أداء دور الإله، حتى إن قررت أن أتبع ما يقال في كتاب مقدس من الكتب المقدسة أو ما يقوله أحد رجال الدين، ما زلت مع ذلك أصدر أحكامي الخاصة؛ لأني ما زلت مضطرا أن أقرر أي كتاب دين سأختار، وأي أجزاء من هذا الكتاب سأقرأ، ورأي أي مفسر لهذا الكتاب سأتبع، وما إلى ذلك. لا مهرب من تلك الأحكام. حتى مجرد الالتزام بالتعاليم الدينية التي تربيت عليها يقتضي أن أصدر تلك الأحكام، وهي نفسها أحكام أخلاقية؛ فهي تتضمن السؤال: «هل يجب علي أن أتبع النصيحة الأخلاقية التي قيلت لي أم لا؟»
على كل فرد في النهاية أن يعتمد على بوصلته الأخلاقية - إدراكه الخاص للصواب والخطأ - في اتخاذ القرار بشأن الجهة التي سيستمع إليها، وإن كان سيقبل بالنصيحة الأخلاقية التي أعطته إياها أم لا، ويؤيد هذا التأليهيون كما يؤيده الإنسانويون. (5) هل سنكون أخيارا من دون الإله؟
سأتحول الآن إلى التحدي الثالث من تحدياتنا الثلاثة: هل سنكون أخيارا من دون الإيمان بالإله؟ يعتقد كثيرون أنه إن تم تقويض الدين، فستنهار منظومة الأخلاق وسيتمزق النسيج المجتمعي؛ ومن ثم، فالإنسانوية فكرة خطرة.
كثيرا ما يساق هذا الزعم، لكن ما الدليل على صحته؟ تركز إحدى أشهر الحجج على وجود ارتباط بين تراجع الدين، ولا سيما منذ منتصف القرن العشرين، وبين ارتفاع مفترض في مختلف الاعتلالات الاجتماعية على مدار الفترة نفسها، بما في ذلك تزايد معدل الجرائم وجنوح القصر والأمراض المنقولة جنسيا. وترى تلك الحجة أن هذا الارتباط ليس مصادفة؛ فمعدل الجرائم وجنوح القصر والأمراض المنقولة جنسيا يتزايد مع تراجع مكانة الدين؛ فتراجع الدين هو «السبب» الرئيسي لما سبق.
لكن هل صحيح أن مجتمعنا أقل أخلاقا بكثير مما كان عليه في خمسينيات القرن العشرين؟ بالتأكيد لدينا الآن مواقف أخلاقية مختلفة تماما، لكن ليس هذا بالشيء السيئ بالضرورة؛ ففي خمسينيات القرن العشرين، كان رهاب المثلية والعنصرية منتشرين، واعتبر كثيرون أن مكان المرأة هو المطبخ. لقد شهدنا بالفعل أوجه تحسن أخلاقي ضخمة على مدار نصف القرن الأخير أو نحو ذلك.
إلا أنه توجد أدلة تشير، على بعض «الأصعدة» على الأقل، إلى أننا في حال أسوأ. على سبيل المثال، في المملكة المتحدة ترتكب حوالي 6 ملايين جريمة كل عام، أما في عام 1950 فكان الرقم نصف مليون، وفي الولايات المتحدة بين عامي 1960 و1992 زاد معدل جرائم العنف المبلغ عنها (القتل، والاغتصاب، والسرقة، والاعتداء) التي يتعرض لها المواطنون بخمسة أضعاف. حتى مع اعتبار الاختلافات في طريقة التبليغ عن الجريمة، فمن الواضح أنه كانت هناك زيادة كبيرة في الجرائم؛ ألا يمكن أن يعزى ذلك إلى تراجع الإيمان بالدين؟
ليس الأمر بهذه السهولة. رغم ارتفاع جرائم العنف منذ عام 1950، فإنها في الواقع أقل كثيرا (أقل بخمسين ضعفا) مقارنة بعددها منذ قرنين من الزمان، عندما كان مجتمعنا متدينا جدا في الحقيقة؛ من ثم فإن ارتفاع معدلات الجريمة يمكن أن يكون له أسباب - وبالفعل له أسباب - غير انخفاض معدلات التدين (إن كان انخفاض التدين سببا من الأساس).
وفي الواقع، ثمة تغيرات واضحة كثيرة جرت على مدار نصف القرن الأخير أو نحو ذلك ، ربما تفسر جيدا سبب حدوث ارتفاع في معدلات الجريمة. على سبيل المثال، أصبح الناس أكثر تنقلا بكثير، وزادت احتمالات بقاء المنازل خالية أثناء ساعات النهار، وأصبح الناس أقل معرفة بهوية جيرانهم وما هم بصدد الإقدام عليه. والمجتمعات المحلية الشديدة الترابط فعالة في إيقاف الجريمة وجنوح القصر، لكن اختفاء هذه المجتمعات مرتبط بتغير الظروف الاقتصادية أكثر من حدوث انخفاض في الإيمان بالدين وعدم اتباع تعاليمه.
ومن ثم، لا يتضح بأي حال من الأحوال أن تراجع الإيمان بالدين هو السبب وراء ارتفاع معدلات الجرائم؛ فمجرد وقوع أمرين في الوقت نفسه لا يقيم علاقة سببية بينهما (وبافتراضك غير ذلك سترتكب مغالطة «التعاقب الزمني»).
نظرة عن كثب على الأدلة تشير بقوة إلى أن تراجع الإيمان بالدين «ليس» السبب الرئيسي في الزيادة في هذه الاعتلالات الاجتماعية. فعندما نلقي نظرة على ديمقراطيات العالم المتقدم، نجد أن «أكثر» الديمقراطيات تدينا - وفيها بالطبع الولايات المتحدة (حيث يقول 43٪ من مواطنيها إنهم يرتادون الكنيسة أسبوعيا) - عادة ما يكون لديها «أعلى» معدلات جرائم القتل والأمراض المنقولة جنسيا والإجهاض وغيرها من مقاييس الحكم على صحة المجتمع، في حين أن أقل البلدان تدينا، مثل كندا واليابان والسويد، من بين البلدان التي تتمتع بانخفاض تلك المعدلات. إن كان انخفاض معدلات التدين هو السبب الرئيسي وراء تلك الاعتلالات الاجتماعية، فلنا أن نتوقع من البلدان الأقل تدينا الآن أن تعاني من أشد المشاكل. إلا أن العكس هو الصحيح.
ثمة قليل من الأدلة التي تؤيد الرأي القائل بأنه من دون الدين، تجازف الحضارات بانهيارها الأخلاقي، إضافة إلى أن ثمة أدلة كثيرة تعارضه. وكما يشير فرانسيس فوكوياما (المفكر الذي ذاع صيته أكثر ما ذاع لإعلانه «نهاية التاريخ»)، تقدم الصين مثالا مضادا مهما على الرأي القائل بأن النظام الأخلاقي يعتمد على الدين:
كانت القوة الثقافية المهيمنة على المجتمع الصيني التقليدي، بالتأكيد، هي الكونفوشيوسية، التي لا تعتبر دينا على الإطلاق، بل مذهب أخلاقي عقلاني علماني. وتاريخ الصين حافل بفترات الانحدار الأخلاقي والنهضة الأخلاقية، لكن لا يرتبط أي منها بوجه خاص بما يطلق عليه الغربي دينا. ومن الصعب أن نقيم الحجة التي مفادها أن مستويات الأخلاق العادية في آسيا أقل من مثيلاتها في أجزاء العالم التي يسيطر عليها دين غيبي.
في الواقع، ومن وجهة نظر الثقافات الأخرى، إن الافتراض الغربي القائل بأن الناس لن يكونوا أخيارا من دون الإله افتراض محير، وذلك كما يشير الكاتب والمخترع الصيني لين يوتانج في الاقتباس التالي:
بالنسبة إلى الغرب، يبدو من الصعب تخيل أنه يمكن الحفاظ على العلاقة الطيبة بين الإنسان وأخيه الإنسان (منظومة الأخلاق) من دون الالتفات إلى كيان أعلى؛ في حين أن الصينيين يندهشون من الاعتقاد بأن الناس لا يجب أو لا يستطيعون التصرف باحترام بعضهم تجاه البعض من دون التفكير في علاقاتهم غير المباشرة من خلال طرف ثالث.
كما يوجد كم كبير من الأدلة العلمية المتزايدة على أن منظومتنا الأخلاقية هي، إلى حد ما، نتاج تاريخنا الطبيعي التطوري؛ فهناك مواقف أخلاقية معينة موجودة في العالم بأسره، فعلى مستوى العالم، يمتلك الناس الأفكار البديهية الأخلاقية الأساسية ذاتها عن السرقة والكذب والقتل، بغض النظر إن كانوا دينيين أم لا. وكل مجتمع تقريبا منجذب إلى شيء من قبيل القاعدة الذهبية: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك! لم؟
ثمة أدلة على أن أفكارنا البديهية الأخلاقية حول ما يجب علينا، أو ما لا يجب علينا، القيام به مكتوبة، جزئيا على الأقل، في جيناتنا قبل أن تكتب في أي كتاب ديني بوقت طويل (من أجل الاطلاع على تلك الأدلة ونقاشات مفيدة لها، أنصح بكتاب «أصول الفضيلة» لصاحبه مات ريدلي، و«الحيوان الأخلاقي» لمؤلفه روبرت رايت، و«تطور منظومة الأخلاق» لريتشارد جويس). لم يخلق الدين منظومة الأخلاق، بل قامت الأديان فحسب بتقنين منظومة الأخلاق الأساسية المجبول عليها البشر من الأساس. فباعثنا الأول للتصرف على نحو أخلاقي يبدو طبيعيا وغريزيا، وليس مكتسبا عن طريق التعرض للدين. (6) الآثار الاجتماعية الإيجابية للدين
هناك قدر بسيط من الشك يعتري القول بأن الدين قد ساعد بعض الناس على تغيير حياتهم إلى الأفضل. لقد سمعت قصصا عن سجناء «عرفوا الإله»؛ ونتيجة لذلك توقفوا عن ارتكاب الجرائم وبدءوا في مساعدة الآخرين. ولا شك أن التعرض للدين له تأثيرات قوية على سلوك بعض الأشخاص، ولا سيما الأفراد الذين عاشوا حياة بالغة الاضطراب والعبث.
إلا أنه ثمة خلاف على مقدار هذا التأثير الإصلاحي للدين في حد ذاته على السجناء، في مقابل مصادفتهم أشخاصا يبدون اهتماما صادقا بهم (يجب علينا أن نتذكر أيضا أن عددا كبيرا من السجناء وجدوا هذا النوع من الخلاص في الفلسفة والتعليم؛ وربما يتضح أن هذه البدائل أكثر فاعلية في الواقع في مساعدة المساجين لكي يسلكوا حياة أفضل).
علاوة على ذلك، الملاحظة القائلة بأن للدين تأثيرا إيجابيا على سلوك بعض الأفراد ذوي الحياة المضطربة لا يقدم سوى القليل من الدعم لوجهة النظر التي نتدارسها هنا؛ وهي أنه من دون انتشار الدين، لن يكون الناس أخيارا وسيتفسخ نسيج المجتمع. وفوق كل شيء، ربما سيكون للتعذيب وغسل المخ على غرار نموذج الأخ الأكبر تأثير على ضبط السلوك الإجرامي. ولا تدعم هذه الحقيقة الرأي القائل بأنه دون انتشار التعذيب وغسل المخ، لن يكون الناس أخيارا وسيتفسخ نسيج المجتمع.
ماذا عن الأدلة المشيرة إلى أن الدينيين أكثر مشاركة في الأعمال الخيرية من اللادينيين، مثل الأدلة المساقة في كتاب «من يهتم حقا؟» لآرثر سي بروكس، الذي يشير إلى أنه تزيد احتمالات تبرع الدينيين للأعمال الخيرية عن اللادينيين بنحو 25٪، ومن ذلك الأعمال الخيرية اللادينية؟ (لاحظ أنه رغم أن 40٪ من المسيحيين الأمريكيين سيقولون إنهم ارتادوا الكنيسة الأحد الماضي، فقد توصل باحث مسيحي إلى أن 20٪ فحسب منهم هم من ارتادوا الكنيسة؛ ومن ثم فالإحصائية السابقة الخاصة بالمساهمة في الأعمال الخيرية - التي تعتمد على ما «يقول» المسيحيون الأمريكيون إنهم يفعلونه - قد تكون غير جديرة بالثقة هي الأخرى.) أدت مثل هذه الإحصائيات بالبعض إلى الخلوص إلى أنه من دون الدين يستحيل إقامة مجتمع صحي. إلا أنه لا توجد علاقة بين الأمرين، وأكثر ما تكشف عنه الإحصائية السابقة الخاصة بالمشاركة في الأعمال الخيرية هو أنه - على مقياس واحد من مقاييس الصحة المجتمعية - ربما يكون أحد المجتمعات أفضل حالا إن كان معتنقا لدين عما سيكون عليه إن لم يكن معتنقا لدين. ويجب علينا ألا نغفل عن أن - على مقاييس أخرى ربما أكثر أهمية لصحة المجتمع - أكثر الديمقراطيات الغربية تدينا تعيش حياة أسوأ من تلك الأقل تدينا.
لا شك أن الدين له بعض «المنافع» الاجتماعية، التي قد تكون من بينها وجود نزعة أقوى للقيام بأعمال الخير بين الدينيين، لكن من الممكن أن تتحقق هذه المنافع من دون الدين. ربما تكون زيادة الميل للقيام بالأعمال الخيرية نتيجة لإكساب ممارسة الدين الناس عادة التفكير في أحوال الآخرين ومساعدتهم؛ وهو شيء يمكن أن نغفله بسهولة في سياق آخر. قد تكون هناك طرق أخرى لاستمالة الناس إلى هذه العادات الطيبة. سأعرض في الفصل السادس لأدلة تشير إلى أن التعرض لصنوف معينة من البرامج الفلسفية يمكنها «أيضا» أن تساعد على غرس سلوك أكثر اهتماما بالآخرين واحتراما لهم لدى الشباب. (7) حركة «رأس المال الأخلاقي»
كي يتعامل المفكرون الدينيون مع الملاحظة المحرجة - بالنسبة إليهم - أنه في عموم الغرب يسلك الملحدون واللاأدريون بوجه عام سلوكا راشدا (في أغلب المقاييس، بالقدر نفسه على الأقل من الرشد كأقرانهم من الدينيين)، فإنهم يحتكمون إلى فكرة «رأس المال الأخلاقي»؛ فيقولون إن تراثنا الديني أفرز مخزونا من رأس المال الأخلاقي يعول عليه الآن إنسانويو اليوم. في نهاية الأمر، سينفد رأس المال هذا وتتبع ذلك فوضى أخلاقية. نحن إذن في حاجة عاجلة إلى دعم رأس المال الديني هذا إن أردنا أن نتجنب التعرض لكارثة.
ويشيع مصطلح «رأس المال الأخلاقي» على نحو خاص بين المحافظين من الأمريكيين، ويستخدم هذا المصطلح إرفينج كريستول (الذي كثيرا ما يشار إليه بوصفه «الأب الروحي» للمحافظة الجديدة)، وذلك كما يلي:
لما يربو على 150 عاما وحتى الآن، ما برح الناقدون الاجتماعيون يحذروننا من أن المجتمع البرجوازي يقتات على رأس المال الأخلاقي المتراكم من الدين التقليدي والفلسفة الأخلاقية التقليدية.
وكذلك استخدمته جيرترود هيملفارب، التي تزعم أننا:
نعتمد على رأس المال الديني لجيل سابق، وأن رأس المال هذا يستنفد على نحو خطير.
قال القاضي روبرت كيه بورك - الذي رشحه الرئيس رونالد ريجان لعضوية المحكمة الأمريكية العليا - موافقا:
نحن جميعا نعرف أناسا ليس لهم معتقد ديني يبدون مع ذلك جميع الفضائل التي نربطها بالتعاليم الدينية ... يعيش هؤلاء الأشخاص على رأس المال الأخلاقي للأجيال المتدينة السابقة ... بحيث سينفد رأس المال الأخلاقي هذا في النهاية.
ما زال المصطلح يظهر بانتظام في النقاشات الخاصة بالدين ومنظومة الأخلاق، وليس فقط في الدوائر المحافظة في الولايات المتحدة؛ ففي عام 2006، قال الأسقف مايكل نذير علي في مقابلة معه في برنامج «توداي»:
يقوم المجتمع البريطاني على رؤية مسيحية وقيم مسيحية ... وما لم يعرف الناس المصادر التي تغذي قيمنا، فإن النبع كله سيجف ... إننا ربما في واقع الأمر نعيش اعتمادا على رأس مال قديم.
وقد كتب ريتشارد هاريس، أسقف أكسفورد، يقول في عام 2007: ... كثير من الذين لديهم التزام أخلاقي شديد دون أساس ديني تشكلوا على يد آبائهم أو أجدادهم الذين كانوا متمسكين على نحو أساسي بمبادئ الأخلاق والدين ... إلى أي مدى نعيش على رأس المال الأخلاقي؟
الاحتكام إلى رأس المال الأخلاقي يقدم للمتشائمين الدينيين تفسيرا مؤاتيا لحقيقة أن الملحدين واللاأدريين اليوم يسلكون مسلكا رشيدا على الأقل كأقرانهم من الدينيين؛ فاللادينيون يعيشون على رأس المال الأخلاقي الديني، الذي يتعرض للنفاد، لكنه لم ينفد كله «بعد».
ثمة مشكلتان خطيرتان على الأقل في هذا الاحتكام إلى رأس المال الأخلاقي.
الأولى: قد نسأل: «ما الأدلة التي تشير إلى أن تفسير «رأس المال الأخلاقي» صحيح بالفعل؟» لا أرى سوى القليل جدا منها. بينما يؤكد الدينيون كثيرا على أننا نعتمد على رأس المال الأخلاقي الذي سينفد في النهاية، ومن المحتمل أن يصاحب ذلك تداعيات كارثية، فإنهم لا يقدمون عادة سوى أدلة أو حجج قليلة مؤيدة للتفسير، إن وجدت.
الثانية: تفشل تماما حركة رأس المال الأخلاقي في التعامل مع كثير من الأدلة المخالفة للزعم القائل بأن الإيمان بالإله شرط أساسي لكوننا أخيارا. على سبيل المثال، تفشل الحركة فشلا ذريعا في تفسير أسباب استمرار بلدان مثل الصين، وأحيانا ازدهارها أخلاقيا، دون منظومة أخلاق أساسها الدين. كما تفشل في التعامل مع الأدلة العلمية المتنامية المشيرة إلى أن الباعث على التصرف على نحو أخلاقي هو على الأقل طبيعي وغريزي إلى حد ما، وليس معتمدا على التعرض للدين.
وإجمالا، في دوائر دينية معينة، أصبح الزعم القائل بأن الناس لن يصيروا أخيارا دون الإله يتكرر كثيرا، لدرجة أن الجميع يفترضون ضرورة صحته، إلا أنه غير مدعوم جيدا بالأدلة، ويبدو جليا في الواقع أن كثيرا من الأدلة تكذبه ببساطة. (8) بم تتميز منظومة الأخلاق الإنسانوية؟
ألقينا نظرة على ثلاثة تحديات شائعة تواجه الإنسانوية بخصوص منظومة الأخلاق، وفي كل حالة واجهنا التحدي وكان لنا رد عليه. دعونا الآن نتأمل الصورة التي يمكن أن يكون عليها نهج إنسانوي متفرد لمنظومة الأخلاق.
فمثلا، ما موقف الإنسانوي من زواج المثليين أو القتل الرحيم أو الإجهاض أو حقوق الإنسان؟ لا يوجد أي موقف إنسانوي من هذه القضايا يزيد عن موقف الدين منها. يختلف الإنسانويون حول تلك المسائل، كما يختلف الدينيون عليها.
فما يميز وجهة النظر الأخلاقية الإنسانوية إذن، إن لم تكن تلك المعتقدات الأخلاقية بعينها؟ هل يعتنق جميع الإنسانويين نظرية أخلاقية عامة معينة، على سبيل المثال؟
مرة أخرى، لا! لكن من الصحيح أن الإنسانويين كثيرا ما يصفهم خصومهم بأنهم يعتنقون شكلا بدائيا إلى حد ما من النفعية، وعلى أساسه لا يهمهم - من وجهة النظر الأخلاقية - سوى تعظيم المتعة التي يحصلون عليها وتقليص الألم والمعاناة اللذين يتعرضون لهما للحد الأدنى.
تواجه النفعية، في أبسط أشكالها، بعض الاعتراضات المعروفة جيدا؛ فيبدو مثلا أن النفعية تقتضي أنه سيكون من الصواب قتل شخص لتوفير أعضاء بشرية يمكن أن تنقذ حياة عدة أشخاص آخرين؛ وهو الفعل الذي يعتبره الجميع، تقريبا، خاطئا أخلاقيا. من الممكن الرد على تلك الاعتراضات، لكن حتى إن لم يمكن الرد عليها، فهذا لا يستتبع تفنيد الإنسانوية؛ فالإنسانويون، حسب ظني، غير ملزمين بأن يكونوا نفعيين، وفي الواقع كثير منهم يرفض النفعية .
يوافق بالطبع أغلب الإنسانويين على وجهة النظر النفعية القائلة بأن تبعات أفعالنا - وفي ذلك الألم أو المتعة الناتجين عن تلك الأفعال - مهمة، على الصعيد الأخلاقي؛ فالإنسانوي يميل أكثر إلى إعطاء ثقل أخلاقي أكبر لتبعات الأفعال عما سيفعل، مثلا، الديني الذي يعتقد أن الأمر الصحيح أخلاقيا هو أن تقوم بما يأمرك به الإله، بغض النظر عن التبعات، و/أو أن أي عاقبة سيئة تترتب على اتباع أوامر الإله في هذه الحياة ستعوض بما يفوقها في الحياة الآخرة. ويعتقد الإنسانويون في الغالب أنه إن كان فعل ما سيسبب قدرا كبيرا من المعاناة، فهذه حقيقة متعلقة بالمغزى الأخلاقي، وهي حقيقة ينبغي وضعها في الحسبان عند الحكم على مدى صحة الفعل من الناحية الأخلاقية.
لكن الإقرار بأن تبعات أفعالنا - وفي ذلك مدى تعظيمها للمتعة وتقليصها للألم إلى الحد الأدنى - مهمة أخلاقيا لا يعني القول بأنها هي «وحدها» الأشياء المهمة أخلاقيا. وكما قلت، الإنسانويون غير مضطرين لأن يكونوا نفعيين.
وكما طالعنا في الفصل الأول، ثمة إرث فكري طويل يمكن أن يعتمد عليه الإنسانويون - وهم يعتمدون عليه بالفعل - في صياغة التزاماتهم وحججهم، وفي ذلك التزاماتهم وحججهم الأخلاقية. فبعضهم يستقي أفكاره من أخلاقيات الفضيلة عند أرسطو، والبعض الآخر يستقيها من أخلاقيات الواجب عند كانط.
ينجذب كثير من الإنسانويين لفكرة مثل التبرير «البراجماتي» التالي لمبادئهم الأخلاقية الأساسية. تخدم المعايير الأخلاقية مقاصد معينة، مثل السماح لنا بالحياة معا في تناغم نسبي، وتسهيل النشاط التعاوني، والحد من الظروف التي تضر بنا. وبافتراض أننا نرغب في السعي وراء تلك الأهداف، فثمة معايير جوهرية معينة يجب الالتزام بها، تساعد في تفسير المعايير الأساسية الشائعة في كل ثقافة تقريبا، مثل منع السرقة والكذب والحنث بالعهود. ومع وضع نقاط ضعف البشر في الاعتبار، وفي ذلك عدم استطاعتنا الاستمرار في الحياة بمفردنا، لا مفر من وجود مجموعة أساسية من المعايير الأخلاقية.
تعرض الكاتبة الإنسانوية مارجريت نايت (1903-1983) تبريرا إنسانويا في هذا الإطار:
لم يجب علي أن ألقي بالا للآخرين؟ يمكن أن تكون تلك الأسئلة الأخلاقية الأساسية ، مثلها مثل الأسئلة الأساسية كافة، عسيرة الإجابة للغاية، كما يعرف كل من يدرس الفلسفة. أعتقد أن الإجابة الوحيدة الممكنة عن هذا السؤال هي الإجابة الإنسانوية؛ وهي: لأننا كائنات اجتماعية بالفطرة، ونحن نحيا في مجتمعات، والحياة في أي مجتمع، من الأسرة حتى الأطر الأكبر، تكون أسعد وأثرى وأخصب عندما يكون أفراد المجتمع متوادين ومتعاونين عما ستكون عليه إن كانت تسود بينهم العداوة والبغضاء.
فإن لم تكن هناك نظرية عامة لمنظومة الأخلاق يجب أن يتبعها الإنسانويون، أو يجب عليهم اتباعها، فماذا إذن يميز منظومة الأخلاق الإنسانوية؟ في حقيقة الأمر، ما يجعل وجهة نظر أخلاقية تتصف بأنها إنسانوية «ليس محتواها بقدر ما تكون الطريقة التي تم بها التوصل إليها.» وبشكل خاص، تبرز أربع سمات للمنظور الأخلاقي الإنسانوي:
أولا: كما رأينا بالفعل، يؤكد الإنسانويون على «استقلالنا الأخلاقي». سيرمي الإنسانوي إلى تبني موقف أخلاقي، ليس لأنه لقن ذلك، أو بسبب أن شخصا آخر يتبنى هذا الموقف ويشعر الإنسانوي بالتزامه بالإذعان له، لكن لأنه هو الموقف الذي توصل إليه بنفسه بعد دراسة متأنية. ومن المرجح أن يكون هذا تحديا أكثر استنزافا بكثير من الالتزام الآلي بأمر في كتاب مقدس أو توجيه من قائد ديني ما. يؤكد الإنسانويون على أهمية مساعدة المواطنين الجدد على الوصول للنضج الفكري والعاطفي الذي يحتاجونه من أجل مواجهة هذا التحدي.
ثانيا: يرفض الإنسانويون «التبرير الأخلاقي المستند إلى مزاعم الحقيقة الموحى بها من السماء.» لن يحتكم الإنسانوي إلى المعتقدات التي ترسيها الكتب المقدسة بخصوص الحياة الآخرة، مثلا، والأرواح الخالدة، والثواب والعقاب الإلهي، والخطيئة، وما إلى ذلك في تبرير موقفه الأخلاقي. وقد يظل الإنسانوي على معارضته للإجهاض أخلاقيا، لكنه لن يعارضه لأنه يقبل، مثلا، بالمعتقد الديني القائل بأن الإله ينفخ روحا خالدة في خلية لحظة حمل الجنين.
ثالثا: من وجهة نظر الإنسانوي، «منظومة الأخلاق مرتبطة على نحو أساسي برفاهية الإنسان» (لكنها ليست قاصرة عليه؛ فالأنواع الأخرى مهمة أيضا). عند تفكيرنا فيما يجب أن نفعل وما يجب ألا نفعل، ينبغي إذن أن تكون أحكامنا مطلعة على الأدلة العلمية وغيرها من الأدلة بشأن ما سيساعد، أو يعوق، جهود الإنسان من أجل عيش حياة ثرية وسعيدة ومرضية.
شكل 4-3: بينما العقل «وحده» قد لا يكون قادرا على الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية، فلا يزال يقدم لنا أداة مهمة للغاية لمساعدتنا على إيجاد طريقنا الأخلاقي.
رابعا: الإنسانويون «يؤكدون على دور العقل في إصدار الأحكام الأخلاقية.» ويعتقدون أن علينا التزاما باستخدام قوى عقلنا بأفضل ما يمكننا عند تناول المسائل الأخلاقية. وليس معنى هذا أن الإنسانويين يفترضون أن العقل وحده قادر على التعامل مع أي معضلة أخلاقية؛ لا شك في أن هذا سيكون ضربا من السذاجة! لكن للعقل دور مهم يؤديه. على سبيل المثال، في الكشف عن التبعات غير الملحوظة وأوجه عدم الاتساق المنطقي في موقف من المواقف الأخلاقية، وفي اكتشاف قيام موقف من المواقف الأخلاقية على استدلال خاطئ، وفي الكشف عن حقائق علمية وغيرها من الحقائق ذات الصلة بالنسبة إلى قضية من القضايا الأخلاقية (على سبيل المثال، الكشف عن أن النساء على القدر ذاته من الكفاءة العقلية كالرجال؛ ومن ثم دحض الحجة القائلة بأن النساء لسن متطورات عقليا بالدرجة الكافية التي تسمح لهن بحق التصويت). تحقق قدر كبير من التقدم الأخلاقي الذي أحرز على مدار القرون القليلة الماضية؛ لأن الأفراد - الدينيين واللادينيين على حد سواء - تمتعوا بالشجاعة لاستخدام عقولهم والتشكيك في الحكمة الأخلاقية المقبولة في زمانهم. وبتشغيلهم قوى عقلهم، وصلوا إلى الإقرار بأن المعاملة المعاصرة للنساء أو أصحاب البشرة السوداء أو المثليين قائمة على استدلال خاطئ، أو غير متسقة مع بعض معتقداتهم الأخلاقية الأساسية. عندما يتعلق الأمر بإحراز تقدم أخلاقي، فالعقل أداة لا غنى عنها. (9) الإنسانوية ونسبوية «كل شيء ممكن»
ختاما، أود الحديث عن أحد الاتهامات التي توجه عادة إلى الإنسانوية - اتهام كشفنا عنه النقاب في هذا الفصل - وهو ذلك الخاص بالنسبوية الأخلاقية. كثيرا ما يقال إن كان الإله موجودا، فيمكن أن تكون الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا فحسب «لأننا نقول ذلك عنها»، إلا أن الإنسانوية هكذا تنطوي على توجه لنسبوية أخلاقية فجة؛ نسبوية «كل شيء ممكن»، بناء عليها تكون حقيقة الصحة أو الخطأ هي أي شيء نقوله عنها.
لكن الحقيقة أن هذا ليس ما يعتقده الإنسانويون، وقد أصبحنا الآن في موقف أفضل كثيرا لإدراك السبب إدراكا كاملا.
صحيح أن منظومة الأخلاق الإنسانوية تركز أكثر علينا نحن البشر (والأنواع الأخرى ذات القدرة على الإحساس)، لكن ليس معنى ذلك أن نقول إن الصواب والخطأ هما أي شيء يقوله الأفراد من البشر، أو حتى المجتمعات البشرية، عنهما. فيمكن أن يكون، وأحيانا ما يكون، الأفراد - بل ومجتمعات بأسرها - مخطئين خطأ أخلاقيا بالغا، والإنسانويون كلهم تقريبا يقبلون بذلك.
وفي واقع الأمر، إن اعتقاد الإنسانوي بأهمية استخدام العقل للإجابة عن الأسئلة الأخلاقية ينطوي - على نحو واضح - على رفض وجهة النظر النسبوية القائلة بأن الحقيقة الأخلاقية هي أي شيء نقوله عنها. وإن كان هذا الضرب من النسبوية الأخلاقية صحيحا، فلن يكون هناك طائل من استخدام ملكاتنا النقدية في التوصل إلى ما هو صحيح وما هو خاطئ؛ لأنه أيا كان الرأي الذي سنخلص إليه، فلن يكون أكثر صدقا من الرأي الذي بدأنا به.
بالتأكيد سيصر البعض على أنه رغم أن الإنسانويين قد لا يعتنقون رسميا هذا الضرب من النسبوية الأخلاقية، فإن رؤيتهم الكونية تلزمهم به مع ذلك. لكن مجددا، هذا خطأ.
سأكرر نقطة ذكرتها في موضع مبكر من هذا الفصل، وكذا في المقدمة: «الإنسانويون - بحسب وصف هذا الكتاب - لا حاجة بهم لاعتناق المذهب الطبيعي» (وإن كان بعضهم يعتنقونه بالتأكيد)؛ ومن ثم، رغم أن الإنسانويين لا يؤمنون بالآلهة وغيرها من الفاعلين فوق الطبيعيين، فقد لا يزالون يفترضون وجود حقائق أخرى غير الحقائق الطبيعية، وأن الحقائق الطبيعية تتضمن حقائق أخلاقية موضوعية.
لكن حتى إن لم يكن أحد الإنسانويين يعتنق المذهب الطبيعي، فلا يستتبع ذلك أنه سيلزم نفسه بالرأي القائل إن الحقيقة حول الصواب والخطأ هي أي شيء نقوله عنها؛ ومن ثم «كل شيء ممكن».
ذكرنا قبل ذلك أن الإنسانويين يرون أن «منظومة الأخلاق مرتبطة على نحو أساسي برفاهية الإنسان »، وكما رأينا، فإن رفاهية الإنسان تقتضي أن نعتنق جميعا مبادئ أخلاقية أساسية معينة بخصوص السرقة والكذب والقتل وما إلى ذلك، لكن الفرد الأناني الذي يقول: «أقول إنه لا ضير بالنسبة إلي من السرقة والغش والقتل، إذن لا ضير منها؛ وليذهب الآخرون إلى الجحيم»، لا يمكن وصفه بأنه يعتنق منظومة أخلاق إنسانوية.
الفصل الخامس
الإنسانوية والعلمانية
(1) ما العلمانية؟
تنطوي الإنسانوية على اعتناق للعلمانية، لكن أولا ما العلمانية؟
يستخدم مصطلح «علماني» بطريقتين مختلفتين على الأقل؛ فأحيانا، لا يعدو معناه سوى «لا ديني». وغالبا عندما يصف الناس مجتمعا من المجتمعات بأنه يصبح «أكثر علمانية»، فهم لا يقصدون سوى أنه يصبح أقل تدينا.
إلا أن الكلمة لها معنى آخر على الأقل. عندما يقول الإنسانويون إنهم يريدون «مجتمعا علمانيا»، فعادة ما ينادون برؤية معينة عن الكيفية التي ينبغي بها تنظيم المجتمع سياسيا؛ رؤية حول نوع العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والدولة.
المجتمع العلماني، بناء على ما تقدم، ليس بالضرورة مجتمعا يوجد به تجسيد قليل أو غير علني للمعتقد الديني؛ فالمجتمع العلماني قد يكون مجتمعا كل من فيه بالغو التدين، وفيه يجري التعبير عادة عن الآراء الدينية علانية. المجتمع العلماني هو ببساطة مجتمع فيه «الدولة نفسها» تتخذ موقفا محايدا فيما يتعلق بالدين؛ فلا تنحاز الدولة إلى أي وجهة نظر معينة دينية أو مناهضة للدين.
الدولة العلمانية، من المنطلق الذي نناقشه الآن، تحمي «حريات» معينة؛ فهي تحمي حرية الأفراد في الاعتقاد، أو عدم الاعتقاد، وفي العبادة، أو عدم العبادة. تدافع الدولة العلمانية عن حق الأفراد في اعتناق دين معين والتعبير عن معتقداتهم الدينية. لكنها أيضا تحمي حقهم في رفض اعتناق أي دين وكذلك في التعبير عن آراء منتقدة للدين.
وبتوصيف العلمانية على هذا النحو، يتضح الاختلاف الكبير بينها وبين الإلحاد؛ فدولة دينية إسلامية أو مسيحية من الواضح أنها ليست علمانية؛ لأن دينا واحدا بعينه يهيمن على الدولة. لكن دولة إلحادية مثل روسيا تحت حكم ستالين أو الصين تحت حكم ماو لا يمكن وصفها بأنها دولة علمانية كذلك.
إذن، المجتمع العلماني هو المجتمع الذي تكون الدولة فيه محايدة دينيا، وليس المقصود بذلك أن تكون محايدة حيال كل شيء؛ فهي ليست محايدة بشأن أهمية حماية حريات معينة، لكنها قائمة على مبادئ اتخذت شكلها ووجدت تبريرها بمعزل عن أي اعتقاد مؤيد للدين أو مناهض له؛ مبادئ يجب علينا أن نكون قادرين على اعتناقها سواء كنا دينيين أم لا.
المجتمع العلماني هو المجتمع الذي قد يشعر فيه الدينيون بالقدر نفسه من الاطمئنان الذي يشعر به الإنسانويون. وفي الواقع، إن كثيرا من الدينيين هم علمانيون سياسيا (وفي ذلك أعضاء، على سبيل المثال، في منظمات مثل «إكليزيا» و«مسلمون بريطانيون من أجل ديمقراطية علمانية»). وهم يقدرون الحريات الدينية التي يكفلها المجتمع العلماني.
أحيانا ما يصف معارضو العلمانية إياها بأنها تمثل الرأي القائل بأن الدولة ينبغي أن تكمم أفواه الدينيين، ولا تسمح لهم بالتعبير عن وجهات نظرهم الدينية علانية. لكن هذا من شأنه أن يكون تصويرا كاريكاتيريا لما أقصده بالعلمانية، وما يقصده أغلب مؤيديها بالمصطلح. الرابطة البريطانية الإنسانية، على سبيل المثال، تنادي بالعلمانية، لكنها لا تطالب بمنع الأفراد والمنظمات من التعبير العلني عن الآراء الدينية. وفي واقع الأمر، إن العلمانية التي تطالب بها الرابطة البريطانية الإنسانية تحمي حرية التعبير عن مثل تلك الآراء، وهي لا ترفض سوى منح وضع مميز للآراء الدينية.
رغم أن كثيرا من الغربيين يعتبرون حريتهم في دعم وجهات نظر دينية معينة أو انتقادها علانية أمرا مسلما به، فهذه الحرية في حالات كثيرة لم تكن سهلة المنال، وعبر كثير من دول أوروبا، لم توجد إلا منذ بضع مئات الأعوام فقط؛ فالمجتمع العلماني في الغرب ظاهرة حديثة نسبيا.
ومن الجدير بالذكر أيضا أن دولا غربية كثيرة «ليست على هذا القدر من العلمانية»؛ فالدولة البريطانية تكفل بالتأكيد الحرية الدينية، إلا أنها تعطي دينا واحدا - كنيسة إنجلترا - وضعا مميزا. فعلى سبيل المثال، تخصص بريطانيا 26 مقعدا في مجلس اللوردات للأساقفة - جميعهم من الرجال بالطبع - الذين يستطيعون استغلال سلطتهم في محاولة حجب التشريعات التي تتمتع بتأييد شعبي ديمقراطي، مثل مشروع قانون القتل الرحيم. ورأس الدولة، الملك/الملكة، هو أيضا رأس الكنيسة الوطنية. كما تستخدم الدولة البريطانية الأموال العامة لتمويل المدارس الدينية، وتصر - مع بعض الاستثناءات الطفيفة - على أنه في كل مدرسة تمولها الدولة في إنجلترا وويلز، يجب على كل تلميذ في كل يوم دراسي أن يشترك في شعيرة من شعائر العبادة الجماعية، «ذات محتوى مسيحي الطابع على نحو كلي أو رئيسي». (2) إحدى ميزات المجتمع العلماني
لم الحاجة إلى مجتمع علماني؟ أحد التبريرات الواضحة يتسم بالبراجماتية. نشأت المجتمعات العلمانية بأعداد كبيرة لأن الناس أدركوا أنه ثمة مخاطر في تحالف الدول مع الأديان؛ فتاريخ العديد من الدول الحديثة لطخه العنف المتمخض عن جماعات دينية متنافسة تتصارع مع بعضها من أجل السيطرة على الدولة: الكاثوليك في مواجهة البروتستانت، والسنة في مواجهة الشيعة، والسيخ في مواجهة الهندوس، واليهود في مواجهة المسلمين. لقد أدركوا في النهاية أن الدولة العلمانية توفر سبيلا للحد من هذا النوع من الصراعات، من خلال موافقة جميع الأطراف على العيش في ظل دولة محايدة دينيا تحمي حرياتهم كافة على نحو متساو ولا تحابي أحدا على حساب الآخر. (3) التهديدات التي تواجه الدولة العلمانية
أحد السبل التي يمكن بها أن يبدأ طابع المجتمع العلماني في التآكل هو أن يبدأ الدينيون في الإصرار على أن آراءهم الدينية جديرة بأشكال مؤسساتية خاصة من التمييز أو الاحترام، وثمة خمسة نماذج بريطانية حديثة على هذه المطالبات:
يجب أن تنتسب الدولة إلى دين بعينه.
يجب على الدولة ألا تسمح بالمسرحيات والمنشورات وما إلى ذلك من المواد التي تتهكم على معتقدات دينية معينة، أو تسيء إساءة بالغة على نحو ما لمن يعتنقون تلك المعتقدات.
يجب على شركات الطيران والمدارس عدم السماح باستمرار قواعد الملبس التي تمنع مضيفي الطيران أو تلاميذ المدارس من ارتداء رموز دينية، إن كان دين الفرد، أو ضميره الديني، يقتضي هذا (وهكذا، في حين أن قواعد الملبس لدى المدارس وشركات الطيران قد تمنع ارتداء الحلي، يجب أن يكون هناك استثناء للصلبان ، على سبيل المثال).
يجب على الدولة أن تمول المدارس الدينية التي هي على نفس دين الدولة، والتي يسمح لها بالتمييز ضد كل من الطلبة والمدرسين على أساس المعتقد الديني.
القوانين المانعة للتمييز التي تسري على الجميع ينبغي ألا تطبق على العاملين بمؤسسات التبني، على سبيل المثال، الذين هم من الكاثوليك، والذين يطلب منهم مساعدة الأزواج من المثليين على تبني أطفال.
شكل 5-1: مسيحيون يحتجون على بث شبكة بي بي سي للمسرحية الموسيقية «جيري سبرنجر».
في بعض الحالات، هذه الامتيازات توجد بالفعل.
يعتقد كثير من الأشخاص أن هذه المطالب مشروعة، حتى إن بعض اللادينيين يؤيدون بعضا منها على الأقل، لكن هل مثل هذه المطالبات مبررة؟ (4) تحد للمناهضين للعلمانية
هب أننا حذفنا كلمة «ديني» من كل من المطالبات السابقة، وأحللنا كلمة «سياسي» محلها؛ ما مدى معقولية الناتج؟
ينبغي أن تنتسب الدولة علانية إلى حزب سياسي بعينه.
يجب على الدولة ألا تسمح بالمسرحيات والمنشورات وما إلى ذلك من المواد التي تتهكم على معتقدات سياسية معينة، أو تسيء إساءة بالغة على نحو ما لمن يعتنقون تلك المعتقدات.
يجب على شركات الطيران والمدارس عدم السماح باستمرار قواعد الملبس التي تمنع مضيفي الطيران أو تلاميذ المدارس من ارتداء رموز سياسية، إن كان حزب الفرد السياسي، أو ضميره السياسي، يقتضي هذا (وفي حين أن قواعد الملبس لدى المدارس وشركات الطيران قد تمنع الحلي، يجب أن يكون هناك استثناء للشارات الحزبية، مثلا).
يجب على الدولة أن تمول المدارس المنتسبة إلى أحزاب سياسية والمسموح لها بالتمييز ضد كل من الطلبة والمدرسين على أساس المعتقد السياسي.
القوانين المانعة للتمييز التي تسري على الجميع ينبغي ألا تطبق على العاملين بمؤسسات التبني، على سبيل المثال، الذين ينتمون إلى حزب سياسي عنصري والذين يطلب منهم مساعدة الأزواج المختلطي الأعراق على تبني أطفال.
أغلبنا، وفينا أكثرنا تدينا، سيرفض المطالبات الخمس كلها، ولسبب وجيه. ثمة أسباب وجيهة وراء أنه يجب على الدولة ألا تتحيز لحزب سياسي معين، بغض النظر عن مدى سماحة أو نبل مقاصد هذا الحزب. وبالطبع ينبغي السماح لنا بالسخرية من معتقدات الآخرين السياسية والتهكم عليها، بصرف النظر عن الإساءة الناتجة؛ فهذا الحق سمة موجودة في أي ديمقراطية قوية.
لكن التحدي الماثل أمام المؤيدين لنسخ دينية من تلك المطالبات، رغم رفضهم للنسخ السياسية منها، هو تفسير سبب تبرير هذين الموقفين المختلفين من مجموعتي المطالبات المختلفتين.
يمكن إذكاء هذا التحدي بملاحظة أن المعتقدات الدينية هي، في أغلب الأحيان، معتقدات سياسية. تأمل مثلا المعتقدات الدينية المتعلقة بالموقف الأخلاقي من المثليين، ودور المرأة في المجتمع، وأبحاث الخلايا الجذعية، والإجهاض، والجهاد، ودولة إسرائيل، ومسئولياتنا الأخلاقية والمالية تجاه الفقراء؛ هذه المعتقدات كلها سياسية حتى النخاع. وفي واقع الأمر، المنظمات الدينية غالبا ما تكون نشطة سياسيا، وتشكل جماعات ضغط سياسية قوية. إذن، لم ينبغي أن يستتبع إضافة بعد ديني إلى مجموعة من المعتقدات السياسية استحقاق تلك المعتقدات حينها ميزات ممنوحة رسميا لم تكن لتحصل عليها بوضع آخر؟ (5) ردود على التحدي
كيف يمكن أن يرد من يعتقدون بأن الدولة ينبغي أن تنتسب إلى دين وأن تمول المدارس المنتسبة إلى هذا الدين وما إلى ذلك على هذا التحدي؟ إن كانوا ينشدون ألا يتهموا بالتحيز غير المبرر، فعليهم إيجاد اختلاف بين المعتقدات الدينية وغيرها من المعتقدات يبرر تمييز المعتقدات الدينية. دعونا نلق نظرة على أربعة اختلافات قد يفترض أنها تقدم هذا التبرير.
أول الاختلافات بين المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية الأخرى هو أن المعتقدات الدينية تنطوي عادة على إشارة إلى «فاعل أو فاعلين فوق طبيعيين» (الجاينية والبوذية استثناءان لهذه القاعدة). إلا أن هذا بالتأكيد لا يفسر السبب وراء أنه لا ينبغي، على سبيل المثال، السخرية من المعتقدات الدينية. فبعض الناس يؤمنون بكيانات فوق طبيعية أخرى مثل الأشباح والجنيات، إلا أننا لا نفترض أن الدولة ينبغي أن تتدخل لمنع التهكم على تلك المعتقدات.
ثاني اختلاف يفترض البعض أنه يبرر ضرورة تعامل الدولة مع المعتقدات الدينية معاملة مختلفة هو أن المعتقدات الدينية غالبا ما تكون «معتنقة بحماس وعاطفة شديدين». في الواقع، الناس مستعدون للموت في سبيل معتقداتهم الدينية. هل يفسر هذا السبب وراء أن هذه المعتقدات ينبغي أن تمنح مكانة خاصة؟ بإلقاء نظرة عن كثب على الأمر، يسقط هذا التبرير أيضا. فالمعتقدات السياسية اللادينية يمكن اعتناقها بالدرجة نفسها من الحماس والعاطفة. كما أن الناس مستعدون للموت للذود عنها، وهذا أمر واقع بالنسبة إلى كثير من الشيوعيين مثلا. إذن، هل ينبغي أن تمول الدولة المدارس الشيوعية التي تمارس التمييز ضد غير الشيوعيين؟ وهل يجب على الدولة أن تمنع السخرية من المعتقدات الشيوعية؟ بالتأكيد لا.
ثالث اختلاف يفترض البعض أنه يبرر تعامل الدولة مع المعتقدات الدينية معاملة مختلفة هو أن المعتقدات الدينية كثيرا ما تشكل جزءا من «هوية» الشخص على نحو لا تقوم به المعتقدات الأخرى، وفيها معتقداته السياسية. يعرف الناس أنفسهم على أنهم مثلا مسيحيون أو مسلمون أو يهود أو هندوس، وغالبا ما يشعرون بتقارب قوي مع أبناء دينهم الآخرين كثيرا ما يسمو فوق أي اختلافات في العرق والجنسية وما إلى ذلك (بالطبع هذا غير صحيح بالنسبة إلى كل الأديان، لكنه صحيح بالنسبة إلى بعضها). وفي المقابل، إن العضوية في الحركات أو الأحزاب السياسية نادرا ما تكون جزءا مهما من إحساس المرء بهويته الأساسية على النحو نفسه بأي درجة (إلا أنها في ظل أنظمة شمولية معينة قد تكون كذلك).
لا شك في أن شخصا تربى على حضور الشعائر الدينية بانتظام، ويسافر كي يؤدي الحج في أماكن أخرى، ويتخطى مجتمعه الديني الحدود الوطنية، وتعكس ملابسه و/أو حليه التزامه العميق بدينه، ويقتطع من وقته كل يوم للقراءة في الموضوعات المرتبطة به، ويحفل منزله بالمعلقات ذات الصلة من أيقونات وصور، وربما يحمل جسمه علامات دائمة تدل على عبادته؛ هو شخص أصبح هذا الالتزام بالنسبة إليه جزءا لا يتجزأ من إحساسه بهويته الأساسية. لكن هل هذا البعد العميق المشكل للهوية يبرر منح الدولة معاملة خاصة؟ بالطبع لا، فإن كانوا مشجعين متعصبين لنادي مانشستر يونايتد، فإن كثيرا منهم ستنطبق عليه المعايير أعلاه. ومرة أخرى، لم ينبغي معاملة الالتزام الديني معاملة مختلفة ؟
إن بعض المتدينين يكونون ملتزمين التزاما شديدا بدينهم، بحيث يصبح جزءا من إحساسهم بهويتهم، لدرجة أنه من المحتمل أنهم يحملون تعرض هذا الدين للنقد أو التهكم على محمل شخصي جدا؛ ونتيجة لذلك، قد تثور ثورتهم، بل ربما يقومون بأعمال عنيفة.
ومن ثم، يجب على منتقدي المعتقد الديني أن يتوخوا الحذر حيال القالب الذي يصوغون فيه نقدهم. ويجب عليهم ألا يشغلوا أنفسهم بتهكم أو هجوم لا طائل كليا من ورائه والهدف الوحيد منه هو مضايقة المتدينين المتحمسين. ومع وضع النتائج المتوقعة لهذا الفعل في الاعتبار، فهو يعد فعلا غير مسئول على نحو واضح.
ولكن هذا لا يستتبع أن تكون الدولة نفسها مبررة في تجريم نقد المعتقد الديني أو التهكم عليه. فلا يزال النقد - وكذلك التهكم والمحاكاة الساخرة والاستهزاء والهجاء الشديد - مهما. والحقيقة أن السخرية كثيرا ما يكون الهدف من ورائها هو الإهانة التي لا طائل منها، لكنها قد تتخذ أيضا شكلا فنيا عظيما، يقدم لنا الحقيقة بطرق أخاذة ومتبصرة (خذ على سبيل المثال، أعمال جوناثان سويفت الساخرة).
في كل الأحوال، منع التهكم بالمعتقدات الدينية على أساس أن من يعتنقونها من المحتمل أن يلجئوا للعنف ردا على هذا التهكم في أغلب الظن يشجع الناس على اللجوء للعنف عند الهجوم على معتقداتهم. والمغزى هنا: «لتثر ثائرتك وتمارس العنف، وحينها ستمنع الدولة الناس من التهكم على معتقداتك أيضا، أيا كانت هذه المعتقدات.» وهكذا، سيتم حظر كافة أعمال سويفت الساخرة، اللهم إلا تلك الموجهة إلى معتقدات أشخاص أقل حدة في طباعهم.
والاقتراح الرابع، وأكثرها حنكة إلى حد ما بشأن السبب وراء أن الدولة ينبغي أن تمنح المعتقدات الدينية وضعية خاصة، هو أن الحقوق والحريات التي نتمتع بها في المجتمعات الليبرالية الحديثة نبعت، ووجدت مسوغاتها في الأصل، من وجود إطار وقيم دينية، وأنه إن لم يوجد دعم مستمر وواضح لهذا الإطار وتلك القيم، فستزداد احتمالات تعرض هذه الحقوق والحريات للتهديد. وإليكم، على سبيل المثال، الفيلسوف البريطاني روجر تريج يعبر عن قلقه في هذا الشأن في كتابه «الدين في الحياة العامة»:
كحقيقة تاريخية، نشأت معايير المجتمع الغربي من خلفية مسيحية ... والباعث على احترام مختلف المعتقدات، وإعلاء قيمة حرية الفرد، يجب تشجيعه علنا، وإن كانت الآراء الدينية هي التي أفرزته في الأصل، فسيقفز السؤال: إلى متى سيظل هذا الاحترام دون دعمها الواضح؟
لاحظ أن هذه صورة أخرى من الاحتكام إلى «رأس المال الأخلاقي» المتناقص، المولد دينيا، على غرار ما عرضناه في الفصل الرابع، فنحن نعتمد على إرث ديني؛ إرث إن لم يجر دعمه، فسينفد في النهاية، مع احتمال أن يكون لذلك عواقب كارثية.
لا يزعم تريج أن كل مجتمع ليبرالي يقتضي دعما دينيا كي يستمر؛ فهو يزعم زعما أبسط مفاده أن تلك المجتمعات الليبرالية التي كان لها أساس ديني في الأصل معرضة للخطر إن فقدت هذا الأساس. ويرى تريج أن هذا سبب وجيه للحفاظ على الأساس الديني. ويضيف:
لم ينبغي احترام الحرية، والإبقاء على المساواة بين البشر؟ لهذين السؤالين إجابة حاضرة في السياق الديني؛ لأن الإله، كما سيقال، خلقنا سواسية، ويعتني بنا على نحو متساو، ووهبنا إرادة حرة كي ننتقي خيارات عقلانية. وبمجرد استبعاد السياق الديني، يمكن أن يبدو وجود الحقوق متقلقلا.
ويذهب تريج إلى أنه بمجرد أن يفقد هذا الأساس الديني، فثمة خطر حقيقي في أن المجتمع سينزلق إلى الشمولية. فقط في حالة إدراك الدولة وجود شيء أعلى - شيء يراقب تجاوزها - سيكون ميل الدولة الطبيعي للانزلاق إلى الشمولية تحت السيطرة. يقول تريج في هذا الشأن:
سيرغب كثيرون في رؤية المزيد من إقرار الدولة العلني بسلطة الإله؛ لأن هذا وحده، كما يبدو، قد يعد قيدا على سلطات المؤسسات البشرية.
بمجرد أن تتنصل الدولة من أي أساس ديني لها، فهي تقر بعدم وجود أي مراقبة على سلطاتها عدا تلك المستعدة للإقرار بها.
وهكذا يبرر تريج تحالف الدول الغربية مع الكنائس المسيحية على أساس أن هذا يوفر وسيلة الكبح الضرورية لميل هذه الدول إلى التحول إلى الشمولية؛ وهذا تبرير ذكي! لكن هل يصمد أمام النقد؟ لا أعتقد ذلك.
بادئ ذي بدء، لا يتضح إطلاقا وجود دعم من الشواهد التاريخية لزعم تريج أن الدين يعمل كوسيلة لكبح الميل الشمولي للدولة. وأثناء إحدى مراحل حياتي المبكرة، كانت دولة شمولية تجتاح معظم أوروبا. كيف استجابت الكنائس المسيحية للتهديد المتصاعد؟ في كثير من البقاع، رحب أقطاب الكنائس بقدوم النازيين.
صحيح أنه كانت هناك احتجاجات دينية من وقت لآخر على المعاملة المتزايدة الوحشية لليهود، لكن ينبغي النظر في هذه المسألة في مقابل السياق الأكبر الذي شهد تفشي معاداة السامية التي ساعدت الكنائس المسيحية على نشرها.
فعلى سبيل المثال، في عام 1936، بعث كبير أساقفة بولندا بخطاب يعترض فيه على العنف ضد اليهود. قد ترى أن هذا أمر محمود دون تحفظ من جانبه، لكن إليك مقتطفا من خطابه:
الحقيقة أن اليهود يحاربون الكنيسة الكاثوليكية، وهم مصرون على التفكير الحر، وهم في طليعة دعاة الكفر، والداعمون للبلشفية وإسقاط النظام القائم. والحقيقة أن لليهود تأثيرا خبيثا على منظومة الأخلاق، ودور نشرهم تنشر المواد الإباحية. والحقيقة أن اليهود مخادعون ومرابون وقوادون. والحقيقة أن التأثير الديني والأخلاقي لشباب اليهود على الشباب البولندي تأثير سلبي.
هذا الخطاب، الذي كتبه أعلى قامة كاثوليكية في بولندا، قرأه الواعظ بكل كنيسة كاثوليكية بولندية في عام 1936. وبينما عارض الخطاب العنف الممارس ضد اليهود، فقد أوضح الازدراء الذي كان يكنه كثير من المسيحيين الأوروبيين لليهود قبل محرقة اليهود.
وانتشرت كذلك معاداة السامية في الكنائس البروتستانتية الألمانية الرئيسية. ففي كتابه «جلادو هتلر الطوعيون»، يورد دانيال جولدنهاجن أن أحد إصدارات كنيسة بروتستانتية: ... حسب تعبير مراقب معاصر: «لن نتوقف عن وصف اليهود بمنتهى الحماس بأنهم جسم غريب يجب أن يتخلص منه الشعب الألماني، وأنهم خصم خطير يجب أن نشن عليه حربا لا تبقي ولا تذر.» كان الاختلاف على هذا الرأي نادرا ... ويقول أحد رجال الكنيسة في مذكراته إن معاداة السامية انتشرت في الدوائر الكنسية لدرجة أنه «لم يتجرأ أحد على الاعتراض العلني عليها.»
قال الكاثوليكي كونراد أديناور، أول من شغل منصب المستشار بألمانيا بعد الحرب فيما يتعلق بمحرقة اليهود :
أعتقد أنه لو أن الأساقفة جميعهم اتخذوا موقفا علنيا [بمعارضة معاداة السامية] من منبر الوعظ، لأمكن تجنب الكثير. لكن لم يحدث ذلك، ولا عذر لهم في ذلك.
لكن ربما كانت ألمانيا النازية استثناء. ماذا عن الدول الشمولية الأخرى، مثل إيطاليا الفاشية؟ كيف استجابت الكنائس المسيحية لصعود الشمولية هناك؟ كانت الكاثوليكية هي دين الدولة الوحيد المعترف به. ماذا عن صعود الفاشية في إسبانيا؟ كيف قاومت الكنيسة الكاثوليكية إطاحة فرانسيسكو فرانكو بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا؟ لم تقاومها!
لا تتمتع الكنائس المسيحية بسجل تاريخي جيد بخصوص مقاومة الشمولية الأوروبية. وكثيرا ما ارتضت التعاون مع أنظمة شمولية، بل وبناء تحالفات معها، وذلك على الأقل حتى بدأت تلك الأنظمة تهدد مصالحها. وبالطبع ثمة استثناء وحيد لاتجاه التقارب الوثيق هذا لدى الكنائس المسيحية مع الدول الشمولية؛ وهو الأنظمة الشيوعية الإلحادية بشرق أوروبا، التي طالما اجتهدت الكنيسة الكاثوليكية من أجل الإطاحة بها.
كما ينبغي أن نتذكر، منذ وقت ليس ببعيد، أن الكنيسة الكاثوليكية نفسها كانت لا تزال تنظم عمليات الإعدام خنقا التي تنفذها الدولة الإسبانية بحق المواطنين الذين لا يؤمنون بما قالته لهم الكنيسة.
إذن، فالاقتراح القائل بأن انتسابهم للكنائس المسيحية هو أفضل وقاية للدول الأوروبية من الانزلاق إلى الشمولية ليس اقتراحا مدعوما جيدا بالشواهد التاريخية. وفي الواقع، إن التحذير الذي يسوقه التاريخ الأوروبي، إن وجد، هو ضرورة ألا نعتمد على الكنائس لحمايتنا من الشمولية. (6) التسليم بشيء أعلى من الدولة
من المهم بالتأكيد التسليم بوجود مبادئ أعلى من الدولة، وأغلبنا، الديني منا واللاديني، يقر بأن هذا صحيح بشأن المبادئ «الأخلاقية»، وما تفرض الدولة صحته أو خطأه أخلاقيا ليس بالضرورة كذلك.
حاليا «يمكن» أن تكون أي كنيسة من بين من يقدمون نقدا أخلاقيا للدولة عندما تبدأ في الانزلاق نحو الشمولية. ولا شك في أن التعاون الوثيق مع الدولة قد يزيد من نفوذ وسلطة الكنيسة لتكون بمنزلة كابح لسلطة الدولة. المشكلة هي أنه بمجرد أن تدخل الكنيسة في مثل هذا الاتفاق، ستقل كثيرا احتمالات تقديم أي نقد كهذا إلى الدولة . وبمجرد أن تدخل الكنيسة والدولة في اتفاق دعم متبادل، سيكون إذن لكل منهما مصلحة خاصة في حماية نفوذ وسلطة الآخر. وبالتأكيد أغلب الظن أن الكنيسة ستقدم مثل هذا النقد عندما تكون مستقلة حقا عن الدولة، وليس متعاونة عن قرب معها. (7) ماذا عن أسسنا الدينية؟
ماذا عن اقتراح تريج بأن قيمنا الليبرالية الحديثة لها أساس ديني من دونه يحتمل أن تتآكل هذه القيم؟ صحيح أن حرياتنا وحقوقنا السياسية الحديثة غالبا ما نجد تبريرها في الأصل على نحو ديني، لكن هذا بسبب أنه آنذاك كانت العادة تبرير كل موقف أخلاقي وسياسي على نحو ديني. وكما يوضح واضعو نشرة الرابطة البريطانية الإنسانية التي تحمل عنوان «الحجة المؤيدة للعلمانية»:
كانت المسيحية هي الثقافة المهيمنة؛ ومن ثم لا غرو أنها قدمت المفردات لطرفي أغلب الانقسامات الأخلاقية والاجتماعية المهمة. فمن عملوا من أجل إلغاء تجارة العبيد أقاموا حجتهم بقيم مسيحية؛ وكذلك فعل تجار العبيد. وكثير ممن سعوا إلى تحسين ظروف العمل القاسية في المصانع والمناجم استحضروا قيما مسيحية؛ وكذلك فعل أصحاب المصانع وأصحاب المناجم. والبعض على الأقل ممن نظموا حملات للوصول إلى مزيد من تكافؤ الفرص، أو من أجل توسيع نطاق حق الانتخاب، أو من أجل تحرير المرأة، أو من أجل وضع حد للتمييز العنصري استدعوا قيما مسيحية، وكذلك فعل من دافعوا عما رأوه التراتب الاجتماعي والتفاوت المفروضين من السماء، وغير القابلين للتغيير.
وكحقيقة تاريخية، رغم أن قيمنا الليبرالية الحديثة دار حولها جدل في الأصل على أسس دينية، فقد قدم الفلاسفة الأخلاقيون والسياسيون مجموعة كاملة من التبريرات التي يمكن أن نعتمد عليها أيضا، بما في ذلك التبرير البراجماتي الذي ألقينا عليه الضوء في موضع سابق من الفصل. لا توجد ضرورة لتبرير حقوقنا وحرياتنا على أسس دينية.
بالطبع، قد يصر منتقدو العلمانية على أن هذه التبريرات اللادينية لا تفي بالغرض، إلا أن التبريرات القائمة على الافتراض بأن الإله كما هو في الديانتين اليهودية والمسيحية موجود تبدو تبريرات أقل منطقية في أعين أغلب المنظرين والفلاسفة السياسيين.
كما ينبغي أن نلاحظ أنه في بلد مثل المملكة المتحدة، يوجد عدد كبير ومتنام من المواطنين - الثلث - غير مستعدين حتى للقول بوجود علاقة ثقافية مع المسيحية؛ فنتيجة إعطائنا قيمنا الأساسية تبريرا مسيحيا بالخصوص هي أنه تزيد، ولا تقل، احتمالات تجاهل أو رفض تلك القيم من عدد كبير من المواطنين. وبالتأكيد، إن كنا نريد من «الجميع» اعتناق قيم أساسية معينة، مثل حقوق الإنسان، أفلا يكون من الأفضل تقديم تبرير محايد دينيا لها؟
خاتمة
يفترض بعض الدينيين، لكن بالتأكيد ليس كلهم، أنه عندما تأمر شركة طيران أحد أفراد طاقمها بعدم ارتداء صليب، أو عندما يكره كاثوليكي يعمل بمؤسسة تبني على تقديم الخدمة نفسها التي يقدمها للجميع إلى زوجين من المثليين، يعد هذا شكلا من التمييز المجحف بحق أصحاب العقائد الدينية القوية، وأن الدينيين أصبحوا ضحية للظلم، وأننا لا نولي معتقداتهم «الاحترام» الجديرة به.
لكن هذا ليس هو الحال في واقع الأمر؛ ليس إذا كانت شركة الطيران تفرض قواعد ملبس تقتضي حظرا شاملا للحلي، وليس إذا كان العاملون العنصريون بمؤسسة التبني مجبرين على تقديم الخدمة نفسها التي يقدمونها للجميع إلى الأزواج المختلطي الأعراق. لم يجب على شركة طيران لها قواعد ملبس معينة تحظر على العاملين ارتداء الحلي أن تجبر على عمل استثناء للحلي الدينية؟ وإن لم نسمح للمتعصبين لأسباب لا دينية بالتمييز الظالم ضد الآخرين، فلم يجب علينا أن نمنح هذا التمييز للمتعصبين لأسباب دينية؟
لقد عرضت أربع إجابات مختلفة عن السؤال: لم يجب على الدولة منح المعتقدات الدينية أوضاعا تمييزية لا تبسط نطاقها إلى المعتقدات الأخرى، مثل المعتقدات السياسية (المحضة)؟ ولم تثبت كفاية أي من الإجابات. بالطبع يمكن تقديم الكثير من الإجابات الأخرى؛ فهذه الإطلالة مخصصة من أجل توضيح نقطة معينة؛ وهي أنه بينما قد يجد الكثير منا فكرة أن المعتقدات الدينية مستحقة لمعاملة خاصة فكرة بديهية، تفشل العديد من التبريرات التي يمكن تقديمها لتوفير مسوغ لذلك، وما زلت أبحث عن أي تبرير أفضل.
الفصل السادس
الإنسانوية والتعليم الأخلاقي والديني
ذات مرة حكت لي زميلة أنها وهي طالبة بمدرسة كاثوليكية في بريطانيا في ستينيات القرن العشرين سألت في الفصل عن «السبب» وراء اعتبار استخدام وسائل منع الحمل خطأ أخلاقيا. لم تعبر عن اختلافها مع الفكرة؛ لقد سألت فحسب عن تبرير للأمر. كانت النتيجة أنها أرسلت إلى ناظر المدرسة كي يعنفها. إن الثقافة التي غرستها المدرسة، على الأقل فيما يتعلق بالتعليم الأخلاقي والديني، كانت ثقافة الإذعان للسلطة؛ ثقافة القبول السلبي غير الناقد للعقيدة الدينية. وأضافت زميلتي، التي لم تعد كاثوليكية، أنها حتى اليوم، بعد مضي أكثر من نصف قرن، لا تزال تشعر بالذنب لأنها تجرأت على التشكيك في معتقد كاثوليكي. وقد نجحت تنشئتها نجاحا بالغا، لا في فرض الرقابة عليها وحسب، وإنما في إكسابها عادة فرض الرقابة على نفسها أيضا. وهذا الميل تأصل فيها بعمق لدرجة أنه ظل موجودا حتى الآن، بعد مضي وقت طويل من تبخر إيمانها الديني.
سعى كثير من الأديان، تاريخيا، لترسيخ مثل هذه المواقف المذعنة المنصاعة بين المؤمنين بها. وفي بعض الحالات، لا تزال تفعل ذلك. لكن ليست الأديان وحدها المتهمة بحبس عقول الشباب على هذا النحو. الملحدون متهمون بذلك أيضا؛ فالملاحدة ستالين وماو وبول بوت كانوا جميعا مهووسين بالسيطرة لا على سلوك الناس فحسب، وإنما الأهم من ذلك على أفكارهم كذلك.
شكل 6-1: فرض الأخ الأكبر رقابة لا على أفعال الناس فحسب، وإنما على أفكارهم أيضا. واليوم، يتفق كثير من الدينيين واللادينيين على أن التعليم الأخلاقي ينبغي ألا يقوم على الخوف، وألا يدور حول تقييد الفكر.
عادة ما يعارض الإنسانويون تلك الأساليب الدينية التقليدية في التعليم الأخلاقي التي تقدم منظومة الأخلاق بوصفها مجموعة من الحقائق تمررها السلطة وعلى الأفراد القبول بها دون أي تشكيك من قريب أو بعيد. إلا أن معارضتهم لتلك الأساليب «التعليمية» لا تقل شدة عندما تستخدمها أنظمة ملحدة.
بوجه عام، يفضل الإنسانويون اتباع منهج ليبرالي في التعليم الأخلاقي؛ منهج يؤكد على المسئولية الأخلاقية للفرد. في الفصل الرابع، عرضت حجة مفادها أنه لا مفر من مسئوليتنا الفردية عن إصدار الأحكام الأخلاقية؛ إنها جزء لا يتجزأ من كوننا بشرا. إن مسئوليتنا هي إصدار الأحكام الأخلاقية الخاصة بنا، لا أن نحاول العهد بهذه المسئولية إلى سلطة خارجية ما - مثل قائد ديني أو سياسي - لتصدرها بالنيابة عنا.
لكن إن كان هذا صحيحا، فلم لا نحرص على أن نربي الشباب على نحو يدركون من خلاله أن كلا منهم عليه هذه المسئولية، ويمتلكون عبره المهارات الفكرية والاجتماعية والعاطفية وغيرها من المهارات التي سيحتاجونها لإصدار أفضل ما يمكنهم من أحكام؟ هاتان السمتان من بين السمات المميزة للمنهج الإنسانوي في التعليم الأخلاقي.
يبدو أن كثيرا من الناس يعتقدون أن البديل للتعليم الديني التقليدي هو ترك الأطفال يبتكرون منظومتهم الأخلاقية من البداية، وإخبارهم أن كل رأي أخلاقي على الدرجة نفسها من الصحة كغيره، والسماح لهم بفعل أي شيء يريدونه. لكن هذا من شأنه أن يكون تصويرا كاريكاتيريا للتعليم الأخلاقي والديني الذي ينادي به أغلب الإنسانويين.
بادئ ذي بدء، لاحظ أن تشجيع الأطفال على التفكير والشك «لا» يقتضي أن نهجر القواعد وأسس الانضباط. ما ينادي به الإنسانويون في الفصل الدراسي هو حرية «الفكر»، لا حرية «الفعل». مما لا شك فيه أن الأطفال في حاجة إلى انضباط، وهم في حاجة إلى غرس عادات طيبة فيهم، ولكن حتى ونحن نطبق القواعد، يمكننا أن نتيح للصغار الفرصة للتشكيك في تلك القواعد والتعبير عن اعتراضهم عليها.
ثانيا، لاحظ أن تشجيع الأطفال على التفكير والتشكك «لا» يعني أننا لا نستطيع أن نشرح لهم ماهية ما نؤمن به وسبب إيماننا به. وفي الحقيقة، لا يوجد سبب يمنع مدرسة دينية تدعو لدين بعينه من تشجيع تلاميذها على التفكير والشك؛ فقد يقول مدرسوها: «هذا ما نؤمن به، وإليكم الأسباب التي نفترض على أساسها صحة هذه المعتقدات، ونود منكم الإيمان بها أيضا، لكننا لا نريد منكم أن تسلموا بما نقوله لكم عنها. إننا نشجعكم على الشك والتفكير وإعمال عقولكم.» سيرغب الإنسانويون كذلك في إقناع أطفالهم بحقيقة الرؤى الإنسانوية، لكنهم لن يريدوا من أطفالهم القبول بهذه الرؤى على نحو سلبي دون تشكيك.
ثالثا، لاحظ أن أي منهج إنسانوي «لا» يتضمن إخبار الأطفال أنه لا توجد رؤية أخلاقية صحيحة وأخرى خاطئة. في الواقع، وكما رأينا في الفصل الرابع، يرفض الإنسانويون هذا الضرب من النسبوية الأخلاقية. إن كانت كل رؤية أخلاقية صحيحة كالرؤى الأخلاقية الأخرى، إذن فلا طائل من التفكير في القضايا الأخلاقية؛ لأن الرؤية التي ستخلص إليها لن تزيد صحة عن الرؤية التي بدأت بها. سيكون التفكير مضيعة للوقت وبلا جدوى. وفي المقابل، يفترض الإنسانويون أن التفكير والاستدلال يساعداننا على اكتشاف ما هو صحيح وما هو خاطئ على وجه الدقة؛ وبذلك يكونان أبعد ما يكون عن اللاجدوى. (1) الفلسفة في الفصول المدرسية
لا يوجد منهج إنسانوي بعينه للتعليم الأخلاقي للتلاميذ الصغار الذين يعدون بمنزلة مواطنين جدد؛ فيمكن استخدام الكثير من الأساليب لتشجيع الصغار على البدء في التفكير في القضايا الأخلاقية، وعلى وجه التحديد، سيعتمد جزئيا نوع النشاط التعليمي الذي يوصي به الإنسانويون ومستواه على سن التلاميذ وقدراتهم.
بتشجيع الأطفال على التفكير بشكل ناقد ومستقل في القضايا الأخلاقية، نحن نشجعهم على التفكير على نحو فلسفي. فكما طالعنا، يوجد تقليد فلسفي علماني طويل يمكن للإنسانويين الاستقاء منه عند بحثهم عن مصادر لمساعدتهم في التعليم الأخلاقي للتلاميذ الصغار، إلا أنه لا داعي أن تتخذ الفلسفة في الفصول شكل تعليم الأطفال هذا التقليد؛ تعليمهم من قال هذا ومتى ولم (هذا العرض لتاريخ الأفكار قد لا يناسب أو قد يكون مثيرا لاهتمام غير الأطفال الأكبر سنا). ثمة منهج بديل جرت تجربته بنجاح في الفصول المدرسية وحمل أسماء مثل «الفلسفة للنشء» أو «مجموعة الاستقصاء». وينطوي المنهج على تشكيل مجموعات من الأطفال وفيها يشتركون في نقاش منظم حول معضلة فلسفية معينة (غالبا ما يختارونها بأنفسهم). وطبق هذا النشاط على جميع المراحل العمرية، وأثمر بعض المنافع القابلة للقياس.
على سبيل المثال، فيما بين عامي 2001 و2002، درس عالم النفس كيث توبنج، بالتعاون مع جامعة دندي، تأثير إدخال هذا البرنامج الفلسفي بواقع ساعة واحدة أسبوعيا بثلاث مدارس ابتدائية في كلاكمانشاير . في تلك الدراسة، حصل المدرسون على يومين من التدريب، واشتملت الدراسة على مجموعة كاملة من الاختبارات وكذلك مجموعة ضابطة من المدارس التي لم تقدم بها أي برامج فلسفية، وانتهت هذه الدراسة بعد عام واحد إلى ما يلي:
تضاعف دعم الأطفال لآرائهم بأدلة، لكن ظلت فصول «المجموعة الضابطة» دون تغيير.
كانت هناك أدلة على ارتفاع معدلات ثقة الأطفال بأنفسهم وتقديرهم لذواتهم ارتفاعا ملحوظا.
تضاعف طرح المدرسين للأسئلة المفتوحة المشغلة للذهن (لتحسين عملية الاستقصاء).
كانت هناك أدلة على تحسن روح الفصل ومستوى الانضباط به تحسنا ملحوظا.
نسبة حديث المدرسين إلى حديث التلاميذ انخفضت للنصف بالنسبة إلى المدرسين وتضاعفت بالنسبة إلى التلاميذ، وظلت فصول «المجموعة الضابطة» دون تغيير.
حققت جميع الفصول تحسنا كبيرا (إحصائيا) في الاستدلال اللفظي وغير اللفظي والكمي، ولم يطرأ أي تغيير على فصول المجموعة الضابطة. وهذا يعني أن الأطفال أصبحوا أذكى (بلغ متوسط نسبة ذكائهم 6,5 نقاط) بعد عام واحد من تطبيق البرنامج.
شكل 6-2: أطفال يمارسون الفلسفة في الفصل.
عندما أجريت الاختبارات مجددا للأطفال وهم في سن 14، بعد عامين بالمدرسة الثانوية دون حصولهم على برامج فلسفية، حصل الأطفال على الدرجات نفسها بالضبط في اختبار القدرات الإدراكية (أي إنهم احتفظوا بالتحسينات التي اكتسبوها قبل ذلك)، في حين انخفضت بالفعل درجات المجموعة الضابطة. اشتركت في الدراسة ثلاث مدارس ثانوية، وتكررت النتائج بكل مدرسة.
بالتأكيد هذه دراسة واحدة وقد يجري التشكيك في نتائجها، لكن ثمة عددا متناميا من الأدلة التجريبية التي تقول بأن هذا النوع من النشاط الفلسفي له منافع اجتماعية وفكرية وعاطفية قابلة للقياس للأطفال. إنه ينتج أفرادا أكثر وعيا وثقافة، لا على المستوى الفكري وحسب، وإنما على المستوى الاجتماعي والعاطفي والأخلاقي أيضا.
على سبيل المثال، بعد أن طرحت مدرسة بوراندا ستيت، وهي مدرسة ابتدائية صغيرة بأستراليا، بجميع فصولها برنامجا فلسفيا على النحو السابق، ذكرت في تقريرها عن الأمر أنه حدث «تحسن كبير في النتائج» على مستوى السلوك الاجتماعي للطلاب:
إن احترام الآخرين وزيادة تقدير الطالب لذاته ... تغلغلا في جميع جوانب الحياة المدرسية . والآن قلت المشاكل السلوكية بمدرستنا (فنحن لدينا بالفعل بعض الطلاب العسيرو الانقياد). قلت درجة نفاد الصبر بين بعض الطلاب وبعضهم، وزاد استعدادهم لتقبل أخطائهم باعتبارها جزءا من التعلم، وهم يناقشون المشاكل حال حدوثها. وحسب كلام طالب في الخامسة من عمره: «الفلسفة نموذج جيد للطريقة التي ينبغي أن نتصرف بها مع أصدقائنا بالملعب» ... يندر وجود السلوك المتنمر بمدرسة بوراندا؛ إذ لم يتم التبليغ عن أي حادث تنمر هذا العام حتى تاريخه. كان تعليق أحد الزوار من الأكاديميين: «أطفالكم لا يتعاركون، بل يتناقشون ويتجادلون» ... ودائما ما يشير زوار المدرسة إلى «طابع» أو «روح» المكان. نحن نرى أن هذا هو النهج الذي يجب على أطفالنا أن يعامل بعضهم بعضا به. إن احترام الآخر المتولد في مجموعة الاستقصاء تغلغل في جوانب الحياة المدرسية كافة.
والآن يقر مفتشو المدارس التابعون للحكومة البريطانية بالمنافع التعليمية لمثل هذه البرامج؛ فعلى سبيل المثال، ذكر تقرير صادر عام 2001 عن مدرسة كولبي الابتدائية في نورفك ما يلي:
ثمة مكمن قوة متمثل في تدريس الفلسفة ومهارات التفكير؛ ففي تلك البرامج، يتعلم التلاميذ الإنصات إلى أفكار الآخرين وتدبرها والرد عليها على نحو ناضج. بلغ هذا العمل مبلغا راقيا، وهو له بالتأكيد تأثير إيجابي على نشاط الطلاب طوال العام الدراسي؛ إذ يمنحهم الثقة للتحدث ومناقشة الأفكار.
وبالطبع، من يرتابون في أن إيمانهم الديني لن يصمد أمام التعرض المبكر للفكر المستقل الناقد سيلتمسون جميع أنواع الأعذار من أجل حماية معتقداتهم الدينية من الاستقصاء لأطول فترة ممكنة. إلا أن الأدلة تشير إلى أن تشجيع الأطفال على التفكير باستقلالية في الأسئلة الكبرى هو أمر محمود للغاية؛ إذ إن له منافع اجتماعية وعاطفية وفكرية شتى. السؤال الآن: هل سنسمح لبعض المدارس بعدم التشجيع على هذا النشاط أو منعه لأسباب دينية، وما يترتب على ذلك من ضياع تلك المنافع على طلابها؟ لا أستطيع أن أرى أي تبرير لفعل ذلك. (2) المدارس الدينية
للإنسانويين مواقف مختلفة من المدارس الدينية؛ فبعضهم (وإن كان عددا قليلا نسبيا في رأيي) يعتقد أنه لا ينبغي القبول بالمدارس الدينية بعد الآن؛ فقد يقولون إن لم نكن نسمح بالمدارس السياسية، مثلا، التي تنتقي طلابها على أساس المعتقدات السياسية، وتبدأ كل يوم بإنشاد جماعي للأناشيد السياسية، وتعلق صور القادة السياسيين على حوائط الفصول، وتشجع الآراء الحزبية (وهي مدارس سوف تشكل بالتأكيد خطرا على أي ديمقراطية قوية)؛ إذن فلم ينبغي أن نسمح لنظيراتها الدينية؟
إلا أن كثيرا من الإنسانويين مستعدون للقبول بالمدارس الدينية، ما دامت هذه المدارس تستوفي الحد الأدنى من معايير معينة. على سبيل المثال، قد يرون أن المدارس الدينية المستقلة ينبغي أن تشجع على التفكير والشك، وينبغي أن تطلع الأطفال على مجموعة من الآراء الدينية واللادينية (ويفضل أن تكون على لسان معتنقيها فعليا)، وينبغي أن توضح بجلاء لكل تلميذ أن المعتقدات الدينية التي يعتنقها مردها إلى اختياره الحر. وحاليا، كثير من المدارس البريطانية لا تستوفي هذا الحد الأدنى من المعايير.
شكل 6-3: على مر التاريخ، كان محور تركيز أديان كثيرة غرس الإذعان السلبي بين المؤمنين بها.
إن القبول بالمدارس الدينية أمر، وافتراض أنه يجب على الدولة تمويلها أمر مختلف تماما. يعارض بشدة كل الإنسانويين تقريبا تمويل الدولة للمدارس الدينية؛ فأفكارهم العلمانية تؤدي بهم إلى افتراض عدم وجود تبرير لمنح الدولة المعتقدات الدينية مثل هذه الوضعية المميزة المكفولة من الدولة. ويجد كثيرون أنه من المثير للحنق على نحو خاص أن تستخدم أموال دافعي الضرائب الإنسانويين البريطانيين في تمويل المدارس الدينية التي لن تسمح لأطفال الإنسانويين بدخولها. (3) سبب آخر للحث على تبني نهج فلسفي
ثمة سبب آخر وراء أن التشجيع على ملكة الشك، بدلا من الإذعان للسلطة، قد يكون فكرة طيبة. أجرى جوناثان جلوفر، مدير مركز قانون الطب وأخلاقياته بجامعة كينجز كوليدج بلندن، أبحاثا حول خلفيات من اشتركوا في عمليات القتل في بقاع مثل ألمانيا النازية ورواندا والبوسنة؛ وكذلك خلفيات من عملوا في إنقاذ الأرواح. وبحسب حوار جلوفر في جريدة «ذا جارديان»:
إن تأملت في حال الذين كانوا يئوون اليهود إبان سيطرة النازيين، فستكتشف عددا من الأمور بشأنهم؛ أحدها أنهم عادة ما نشئوا على نحو مختلف عن الشخص العادي، فهم في الغالب قد نشئوا على نحو لا سلطوي، وتربوا على التعاطف مع الآخرين ومناقشة الأمور لا مجرد تنفيذ ما يقال لهم.
ويضيف جلوفر:
أعتقد أن تعليم الناس التفكير على نحو عقلاني وناقد يمكن حقا أن يحدث فارقا في قابلية المرء للتأثر بالأيديولوجيات الزائفة.
في كتابهما «الشخصية الإيثارية: منقذو اليهود في أوروبا النازية»، يورد صامويل وبيرل أولينر نتائج دراستهما الممتدة والمفصلة حول خلفيات من اشتركوا في القضاء على اليهود في ألمانيا النازية ومن أنقذوا الضحايا. واكتشفا أن أهم اختلاف بين آباء منقذي اليهود وآباء من لم ينقذوهم تمثل في مدى حرص الآباء على تفسير الأمور لأبنائهم، لا على عقابهم وتعنيفهم. فيما يلي بعض المقتطفات من الكتاب في هذا الإطار:
اعتمد آباء منقذي اليهود على نحو أقل كثيرا على العقاب البدني وعلى نحو أكبر كثيرا على التفكير المنطقي.
اختلف آباء منقذي اليهود عن آباء من لم ينقذوهم في اعتمادهم على التفكير المنطقي وتقديم التفسيرات واقتراح سبل لعلاج الضرر الواقع والإقناع والنصح.
وبحسب ما كتبه المؤلفان: «التفكير المنطقي يوصل رسالة قوامها أن احترام الأطفال والثقة بهم تتيح لهم الشعور بفاعلية الذات والدفء نحو الآخرين.» أما من لم ينقذوا اليهود، فعادة ما كانوا «مجرد بيادق، تعيش تحت سيطرة سلطات خارجية.»
من يفترضون أن الإيمان الديني هو أفضل خط دفاع متاح لنا ضد تلك الكوارث الأخلاقية يجب أن يلاحظوا النتيجة التي خرج بها المؤلفان، والمتمثلة في أن المعتقد الديني كان عاملا من العوامل؛ «كان للتدين تأثير ضعيف على إنقاذ اليهود.»
الخطر الحقيقي في مناهج التعليم الأخلاقي التقليدية القائمة على الخضوع للسلطة هو أنها تشجع على أخلاق الخراف؛ أي مواطنين مجهلين قد يصلون للشيء الصحيح ويفعلونه، لكن لا لسبب إلا أن هذا هو ما تقوله لهم السلطة. فإذا ما تولت المقاليد سلطة أقل اعتدالا، فسيفتقد هؤلاء المواطنون المجهلون خطوط الدفاع الفكرية والانفعالية التي سيحتاجونها لمقاومة ذلك.
إن كنا نريد تنشئة مواطنين يقاومون الانزلاق إلى النوائب الأخلاقية التي لطخت القرن العشرين، ينبغي أن ينصب محور تركيزنا على التعليم الأخلاقي، ولكن ليس من النوع التقليدي الخاضع للسلطة. وينبغي أن نركز على تنشئة مفكرين ناقدين مستقلين.
الفصل السابع
معنى الحياة
يرى البعض أن الأسئلة المطروحة عن معنى الحياة هي أسئلة مرتبطة بشدة بالأسئلة المتعلقة بالإله والدين؛ فيعتقدون أنه من دون الإله، لا تعدو الإنسانية سوى بقعة قذرة على كرة من الحجارة ضائعة في كون شاسع جدا لن يحمل في النهاية أي أثر لوجودنا في يوم من الأيام، وسينهار في طيات العدم. إذن، لم نزعج أنفسنا بالاستيقاظ في الصباح؟ لكن إن كان الإله موجودا، فنحن نسكن كوكبا مخلوقا «لنا»، خلقه الإله الذي «يحبنا»، والذي جعل لنا «غاية مقدسة»؛ فهذا يعطي حياتنا معنى.
لكن هل الإله، أو المعتقد الديني، شرط أساسي كي نعيش حياة ذات معنى؟ كيف - تحديدا - يجعل وجود الإله حياتنا ذات معنى؟ إن كان بلوغ حياة ذات معنى ممكنا سواء الإله موجود أو غير موجود، فما الذي يقيم وجودا ذا معنى؟ يتناول هذا الفصل هذه الأسئلة وأسئلة أخرى مرتبطة بها. (1) ما الذي نقصده ب «حياة ذات معنى»؟
إحدى الصعوبات التي نواجهها عند تفصيل كيف أن الإنسانوية - أو أي رؤية أخرى لتلك المسألة - يمكنها أن تتيح إمكانية وجود حياة ذات معنى؛ هي في تعيين ما يشكل حياة ذات معنى من الأساس. وأتصور أن ثمة إجماعا عاما على عدم وجود تصورات محددة لذلك.
شكل 7-1: كثيرا ما تزعم الأديان أنها تجعل حياتنا ذات معنى، لكن ألا يمكن أن يكون الدين أحيانا عائقا أمام عيشنا لحياة ذات معنى بحق؟
بادئ ذي بدء، إن عيش حياة ذات معنى يتضمن بالتأكيد أكثر من مجرد الشعور بسعادة غامرة وبرضا كبير مثلا؛ فالشخص الذي يحقن باستمرار بعقاقير باعثة على السعادة قد يحظى بوقت ممتع، إلا أن هذا ليس ضمانة لحياة ذات معنى أو جديرة بالعناء.
ثانيا، من المفترض وجود طرق لعيش حياة ذات معنى أكثر من مجرد القيام بالأعمال الصحيحة أخلاقيا؛ ففي حين أن عيش حياة مستقيمة جدا دون زلل «أحد» السبل التي ربما يتسنى للمرء بها أن يتمتع بحياة ذات معنى؛ لكنه ليس السبيل الوحيد. كثير من عظماء الفنانين والعلماء والمستكشفين والموسيقيين والكتاب والرياضيين عاشوا بالتأكيد حياة ذات معنى، رغم أنه لم يظهر عليهم أنهم أكثر فضيلة من بقيتنا (بل كان بعضهم غير ملتزم أخلاقيا في واقع الأمر).
يبدو أن قضاء العمر بأكمله في القيام بالأعمال الطيبة ليس ضروريا وحسب لعيش حياة ذات معنى، وإنما هو غير كاف أيضا. هب أن رجلا يعيش في ظل نظام حكم شمولي يكرس حياته كلها لمساعدة المرضى من الأطفال لكن لا لسبب إلا لأنه يخشى العواقب الوخيمة التي ستترتب على مخالفته أوامر هذا النظام في هذا الشأن. هل عاش حياة ذات معنى؟ رغم أعماله الطيبة، لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إنه عاش حياة ذات معنى. ربما ما يوضحه هذا المثال الذي ضربناه هو أنه كي تكون حياتك ذات معنى بحق، يجب أن تبدي تمتعك بنوع من «الاستقلالية»؛ فيجب أن تكون أنت من يوجه أفعالك، لا أن تتبع تعليمات غيرك وحسب.
وأظن أن كثيرا منا سيضيف أن أحدهم قد «يعتقد» أن حياته كانت مضيعة للوقت بلا هدف لكنها كانت في الواقع ذات معنى عظيم. وفي المقابل، أظن أن أغلبنا سيقر بأن شخصا قد «يعتقد» أن حياته ذات معنى عظيم لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك.
على سبيل المثال، هب أن سيدة كرست حياتها بنجاح لقيادة حركة تنادي بسيادة البيض، هل ستكون بذلك قد عاشت حياة ذات معنى؟ قد تظن هي وأتباعها ذلك، لكن هل يضمن ذلك أنها عاشت حياة ذات معنى؟ يبدو لي أن الإجابة هي «لا»! فكي تعيش حياة ذات معنى، أنت لست مضطرا لأن تكون أخلاقك سامية. لكن إن كان مشروع حياتك الأساسي غير أخلاقي تماما، فلا يمكن إذن أن يمنح حياتك معنى. وبسبب الطبيعة غير الأخلاقية لمشروع هذه السيدة العنصري، لا يمكن أن يجعل هذا حياتها ذات معنى (رغم أن حياتها يمكن أن تكون ذات معنى لأسباب أخرى بالتأكيد). هكذا يمتد حبل أفكاري البديهية (مع إقراري باختلاف آخرين معي).
لاحظ كذلك أن حياة ذات معنى يمكن أن تنتهي بفشل مشروعها الرئيسي. تأمل روبرت فالكون سكوت الذي ناضل ببسالة كي يكون أول من يصل إلى القطب الجنوبي، ورغم فشله في ذلك، يرى كثيرون أن حياة سكوت كانت مثالا مشرقا على حياة عاشها صاحبها كما ينبغي. والقول نفسه ينطبق على كثير من المحاولات البطولية الفاشلة، ومنها - مثلا - الألمان الذين حاولوا، لكنهم فشلوا في اغتيال هتلر من أجل إنهاء الحرب العالمية الثانية نهاية سريعة.
لقد علمنا أن هناك سمات معينة ينبغي أن تتمتع بها الحياة كي تكون ذات معنى. على سبيل المثال، مشروع أخلاقي أو هدف يسعى صاحبه وراءه بتوجيه ذاتي، لكن هل حتى هذا كاف؟ لا يبدو ذلك؛ فسعي شخص غير كفء - وإن كان متحمسا لهدفه - طيلة حياته وراء هدف جدير بالعناء غالبا ما يكون هزليا أكثر من كونه ذا معنى. (2) هل البحث عن معنى الحياة سعي وراء سراب؟
الغرض من القسم السابق هو توضيح الصعوبة البالغة لوضع تعريف فلسفي محدد لما يجعل الحياة ذات معنى.
ربما جزء من الصعوبة التي نواجهها هنا هو أننا نفترض أنه من أجل تحديد ما يجعل الحياة ذات معنى، يجب أن نعين سمة واحدة تتمتع بها كل الحيوات ذات المعنى ولا تتمتع بها سواها؛ السمة التي تجعلها ذات معنى. ولكن لم يجب وجود مثل هذه السمة الوحيدة؟ ربما يكون البحث عن معنى الحياة - تلك السمة الوحيدة المراوغة التي تمنح الحياة معناها - سعيا وراء سراب. ربما يكون مفهوم الحياة ذات المعنى هو ما يطلق عليه الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين «مفهوم التشابه العائلي»؛ فأفراد العائلة الواحدة قد يشبه بعضهم بعضا، رغم عدم وجود سمة واحدة مشتركة بينهم جميعا (أنف كبير أو أذنين صغيرتين). ويفترض فتجنشتاين أن الأمر نفسه ينطبق مثلا على ما نطلق عليه «ألعابا»؛ فأشياء مثل الطاولة ولعبة الورق سوليتير وكرة القدم والشطرنج وكرة الريشة؛ كلها يشبه بعضها بعضا بدرجات مختلفة، لكن هل توجد سمة واحدة تشترك فيها جميع الألعاب، ولا تتمتع بها سواها، بمقتضاها تكون كلها ألعابا؟ لا يعتقد فتجنشتاين ذلك، ويقول:
لا تقل: «يجب وجود شيء مشترك بينها، وإلا فلن تكون «ألعابا»»؛ لأنك إن تأملتها، فلن ترى شيئا مشتركا بينها جميعا، لكن هناك تشابهات وعلاقات ومجموعة كاملة من الأنماط على ذاك النحو. مرة أخرى: لا تفكر، بل انظر! انظر على سبيل المثال إلى الألعاب اللوحية بعلاقاتها المتعددة، ثم انتقل إلى ألعاب الورق حيث ستجد الكثير من أوجه التشابه مع المجموعة الأولى، لكن ستسقط الكثير من السمات المتشابهة وستظهر سمات أخرى، وعندما ننتقل إلى ألعاب الكرة، ستظل كثير من السمات المشتركة، لكن سيزول الكثير منها أيضا. هل الألعاب كلها «مسلية»؟ قارن الشطرنج بلعبة إكس-أو؛ هل يوجد دوما فوز وخسارة، أم منافسة بين اللاعبين؟ تأمل جانب الصبر. في ألعاب الكرة يوجد فوز وخسارة، لكن عندما يلقي طفل بكرته إلى الحائط ويلتقطها ثانية، تختفي تلك السمة ... نتيجة هذا الاستعراض أننا نرى شبكة معقدة من أوجه التشابه المتداخلة والمتقاطعة؛ أحيانا تشابهات عامة، وأحيانا أخرى تشابهات في التفاصيل. لا يسعني التفكير في تعبير لوصف هذه التشابهات أفضل من «التشابهات العائلية»؛ لأن التشابهات المتنوعة بين أفراد الأسرة - البنية والملامح ولون العينين والمشية والمزاج وغيرها - تتداخل وتتقاطع على النحو نفسه. ويمكنني القول إن «الألعاب» تكون أسرة.
إن كان فتجنشتاين مصيبا، فإن البحث عن السمة الوحيدة التي تتمتع بها الألعاب دون غيرها سعي وراء سراب؛ إذ لا وجود لها. لكن بالطبع لا يستتبع ذلك عدم وجود ما نطلق عليه اللعبة، أو أن السمة التي تجعل شيئا لعبة يجب أن تكون خصيصة غامضة ما لم نحددها بعد.
وربما نقترف الخطأ نفسه عندما نفترض أنه إن كان بالإمكان أن نعيش حياة ذات معنى؛ إذن يجب وجود سمة وحيدة تشترك فيها الحيوات ذات المعنى لا يتمتع بها غيرها. وعجزنا عن تعيين تلك السمة من بين جملة السمات المادية في حياتنا قد يضللنا فنخلص إلى أن حياتنا تفتقر للمعنى، أو أن السمة المراوغة التي تمنح الحياة معناها لا بد أنها تنتمي لعالم آخر غير عالمنا.
عندما نتأمل الحيوات ذات المعنى ونقارنها بالحيوات الخالية من المعنى، قد لا نجد سمة وحيدة تشترك فيها الأولى كلها وتفتقر إليها الثانية، لكننا سنجد الكثير جدا من العوامل التي لها تأثير على إكساب الحياة معنى، من ذلك بعض العوامل التي ألمحنا إليها بالفعل: مشروع جرى اختياره بمحض إرادة الفرد، أو مشروع أخلاقي إلى حد كبير، أو مشروع يتم تنفيذه بتفان ومهارة كبيرين، أو الاشتراك في أنشطة تساعد الآخرين أو تثري حياتهم ... وما إلى ذلك. والفكرة القائلة بأنه لا تكفي أي من تلك السمات المادية - وأن مكونا سحريا ما لا ينتمي إلى هذا العالم ضروري كي يكون لحياتنا معنى فعليا - قد ترجع جزئيا إلى فشلنا في إدراك أن مفهوم الحياة ذات المعنى، مثل مفهوم اللعبة، هو مفهوم التشابه العائلي. والحديث عن معنى الحياة «الوحيد» قد يكون عرضا لهذا الارتباك. (3) هل الإله ضروري من أجل الوصول لحياة ذات معنى؟
في الوقت الذي نسعى فيه بصعوبة إلى وضع تعريف فلسفي محدد لما يجعل الحياة ذات معنى، عادة ما سيتفق أغلبنا على الحيوات ذات المعنى والحيوات المفتقدة للمعنى؛ فثمة إجماع واسع النطاق على أن ماري كوري، مثلا، وسقراط وروبرت فالكون سكوت عاشوا حيوات عظيمة المعنى وبالغة الأهمية، في حين أن متبعي الأوامر دون تفكير أو شخصا كرس حياته كلها لتعذيب الحيوانات الصغيرة لم يعش مثل هذا الحياة.
إلا أن بعض التوحيديين يقولون إن لم يكن الإله موجودا، فلا توجد حياة ذات معنى، حتى حياة ماري كوري أو سقراط أو روبرت فالكون سكوت. والآن دعونا نلق نظرة على ثلاث من تلك الحجج. (3-1) الحجة الأخلاقية
إحدى الحجج البسيطة التي قد تستهوي البعض هي أن الحياة ذات المعنى هي حياة مستقيمة أخلاقيا؛ لكن منظومة الأخلاق متوقفة على الإله؛ ومن ثم لا يمكن أن توجد حياة ذات معنى من دون الإله.
سبق أن طالعنا سببين مفضيين إلى عدم استقامة هذه الحجة.
أولا: بالتأكيد كانت حياة كبار الفنانين والموسيقيين والمستكشفين والعلماء عظيمة المعنى، رغم أن هؤلاء الأفراد لم يكونوا ذوي أخلاق سامية على نحو خاص. وبينما يمكن أن تكون الحياة الأخلاقية حياة ذات معنى، لا توجد ضرورة كما يبدو كي تكون الحياة ذات المعنى حياة أخلاقية على نحو خاص (رغم أنه كما رأينا ثمة خلاف حول أن مشروعاتهم الرئيسية يجب أن تكون أخلاقية إلى حد كبير). في هذه الحالة، حتى في حالة عدم وجود ما يعرف بمنظومة الأخلاق، لا يزال بالإمكان وجود حياة ذات معنى.
ثانيا: «تفترض» هذه الحجة في كل الأحوال أن منظومة الأخلاق متوقفة على الإله؛ وهو زعم سبق وطالعنا أنه تكتنفه الشكوك (انظر الفصل الرابع). (3-2) حجة الغاية الأساسية
حجة أخرى مؤيدة للنتيجة القائلة بأن الحياة ذات المعنى تقتضي وجود الإله، محور تركيزها «الغايات أو الأغراض الأساسية». بالطبع تكون الحجة كالتالي: تتمتع أي حياة بمعنى بسبب تمتعها بمسعى أو هدف نهائي ما. لا بد من وجودنا في هذا العالم لغاية ما، لكن الإله وحده هو الذي يمكنه تحديد مثل هذه الغاية.
بعض الدينيين، مثلا، يعتقدون أن الغاية الأساسية هي محبة الإله وعبادته، ويفترضون أنه دون الإله، لا يمكن أن يوجد مثل هذه الغاية، التي من دونها تكون الحياة بلا معنى.
لكن هل الإله ضروري من أجل أن تكون هناك غاية لوجودنا؟ لا يبدو الأمر كذلك. لكل كائن حي غاية يسعى وراءها؛ وهي التكاثر ونقل مادته الوراثية إلى الجيل التالي. كل منا موجود لغاية ما، غاية تحددها الطبيعة، سواء أكان الإله موجودا أم لا.
ما يبرزه أيضا هذا المثال هو أن مجرد امتلاك غاية لا يكفي وحده لتوفير معنى للحياة؛ فاكتشاف أن الطبيعة صممتني ليس لغاية سوى نقل مادتي الوراثية للجيل التالي لا يجعل حياتي تبدو ذات مغزى كبير. وقياسا على ذلك، فحياتي لا تزيد أهمية عن حياة دودة تتمتع بالغاية نفسها تقريبا التي هي لحياتي.
ردا على ما تقدم، يمكن القول إنني أغفل فارقا جوهريا بين الغايات؛ تلك التي تطورنا من أجلها، وتلك التي وهبنا إياها كيان ذكي أعلى صمم الحياة. ويمكن التأكيد على أن النوع الثاني من الغايات هو الذي يوفر المعنى لحياتنا. لكن هل هذا صحيح؟ كلا! من السهل جدا أن نسوق أمثلة مقابلة عن كائنات فضائية خارقة الذكاء؛ وإليكم مثالا من ابتكاري:
هب أن البشر تمت تربيتهم على هذا الكوكب لسبب ما، وهو غسل الملابس الداخلية القذرة لجنس فضائي بالغ التقدم؛ سيأتي الفضائيون لالتقاطنا وأخذنا إلى مغسلتهم الفضائية الضخمة. هل ستملأ هذه الحقيقة، أو اكتشافها، حياتنا بالمعنى؟ لا!
لعلنا سنسلم بأن مجرد تصميمنا من قبل كيان ذكي أعلى لغاية ما ليس كافيا ليوفر معنى لحياتنا، يجب أن تكون الغاية غاية نسعى من أجل تحقيقها على نحو إيجابي وتجعلنا نشعر بالرضا. وغسل ملابس الفضائيين الداخلية لا يحقق أيا من هذين الأمرين.
هب الآن أن الفضائيين صممونا بحيث نكتشف أننا نستمتع بغسل ملابسهم الداخلية استمتاعا كبيرا. في الحقيقة، بمجرد أن نبدأ بالعمل في مغسلتهم، نشعر في النهاية بالرضا على نحو لم نشعر به من قبل، ونسترخي كل أمسية ونحن نشعر بشعور جم بالرضا لأننا نقوم الآن بالهدف «المنوط» بنا دوما. هل من شأن هذا أن يجعل حياتنا ذات معنى؟ لا يتضح بأي حال أنها سيكون لها معنى (أيا كان اعتقادنا).
ردا على ما تقدم، قد يقال إنني أركز على غاية سخيفة، وبالتأكيد ليست كذلك الغاية التي من أجلها أوجدنا الإله على هذه الأرض. لقد خلقنا الإله لغاية معينة؛ ألا وهي: محبته. إنه هذا الغرض الذي يجعل حياتنا ذات معنى.
لكن مرة أخرى تبدو الحجة مثيرة للشك. هب أن امرأة تريد أن تحب شخصا هو يحبها بشدة في المقابل، ويخطر لها أنها يمكنها أن تنجب طفلا لهذا الغرض، وتنجبه بالفعل؛ هل الغرض الذي أنجبت من أجله هذا الشخص الجديد يمنح حياتهما معنى على نحو تلقائي؟ لا يبدو أن الأمر كذلك! ربما أتى بعضنا إلى الدنيا لهذا الغرض. لكن القليل سيشير إلى هذه النقطة من أجل تفسير السبب وراء أن لحياته معنى، ولا أستطيع رؤية السبب وراء أن خلق الإله لي كي أحبه سيمنح حياتي أي معنى إضافي.
وفي الواقع، أليس خلق البشر، لا لسبب سوى غاية ما، أمرا ينطوي على انتقاص وحط من قدرهم، بوجه عام؟ لكن إذن، لم سيمثل هذا أي اختلاف إن كان من فعل الإله؟ ثمة جدل حول إن كان الإله يرغب حتى في خلق البشر من أجل غرض بعينه، إن كان إله المحبة موجودا أصلا.
من ثم، يبدو أنه لا توجد إجابة سهلة للسؤال عن كيف يمكن أن يوجد معنى لحياتنا بالاحتكام إلى غرض إلهي. وعلى وجه التحديد، السؤال المتعلق بكيف أن هناك غرضا من وجودنا في هذه الحياة حدده لنا الإله يجعل حياتنا ذات معنى؛ لم يجب عنه جوابا شافيا، بحسب اعتقادي. وغالبا ما يقدم لنا تأكيد على نحو غامض يتعذر فهمه بأن وجود الإله يجعل حياتنا ذات معنى، لكن لا يقدم لنا تفسير واضح لكيفية حدوث ذلك. (3-3) حجة الحكم الإلهي
إليكم حجة ثالثة. يبدو أن الحياة لا تكون ذات معنى لمجرد أننا نحكم عليها بذلك؛ فالمفترض أن حياة مكرسة للإضرار بالناس وحسب في كل فرصة سانحة لن تعتبر حياة ذات معنى، حتى إن اعتقدنا جميعا أنها كذلك.
إلا أن التوحيدي قد يضيف الآن: إن لم تكن الحياة ذات معنى لمجرد «أننا» نصدر عليها الحكم بذلك، إذن فهي ذات معنى لأن «الإله» يصدر عليها الحكم بذلك؛ ومن ثم فإن حياة ذات معنى تستلزم وجود الإله في نهاية المطاف.
هذه حجة مشهورة، إلا أنها للأسف تواجه صعوبات مشابهة لتلك التي تواجه الحجة الموازية القائلة بأنه إن لم تكن الأشياء صحيحة أو خاطئة أخلاقيا لأننا نصدر عليها الحكم بذلك، فيجب إذن أن تكون صحيحة أو خاطئة لأن الإله يصدر عليها الحكم بذلك (انظر الفصل الرابع). وتبرز معضلة يوثيفرو هنا أيضا. ويمكننا الآن أن نطرح السؤال التالي:
هل تكون الحياة ذات معنى لأن الإله يصدر عليها الحكم بذلك، أو أن الإله يصدر عليها الحكم بذلك لأنه يدرك أنها ذات معنى؟
يبدو الافتراض الأول مضحكا ؛ بالتأكيد إن حكم الإله بأن الإضرار بالناس في كل فرصة سانحة هو ما يجعل الحياة ذات معنى، فهذا لن يجعلها كذلك. إلا أن الافتراض الثاني - الإله يدرك وحسب ما من شأنه أن يشكل حياة ذات معنى - يسلم بوجود حقائق، تستقيم بكل الأحوال، بخصوص ما يشكل حياة ذات معنى، سواء أكان الإله موجودا أم غير موجود ليصدر تلك الأحكام، لكنها حقائق يستطيع الإنسانويون الوصول إليها مثل التوحيديين بالضبط؛ فلا حاجة إذن للإله. (4) هل أن يكون للحياة معنى يقتضي الخلود؟
لم نجد حتى الآن حجة جيدة تؤيد الافتراض بأن الحياة ذات المعنى تقتضي وجود الإله. دعونا الآن نطرح مثل هذه الحجج جانبا، ونتأمل زعما مختلفا بعض الشيء؛ ألا وهو: سواء كانت الحياة ذات المعنى تقتضي وجود الإله أم لا، فهي تقتضي على الأقل أن نكون خالدين. أحيانا ما يطرح التوحيديون السؤال التالي: هل يمكن لحياة أن تكون ذات معنى أو مغزى إن انتهت بالموت؟ صحيح أننا قد نحقق إنجازات تعيش بعد مماتنا، مثل كتب نؤلفها وبنايات نشيدها وأطفال ننجبهم، لكن في النهاية هذه الكتب سيكون مصيرها النسيان، والمباني سيكون مآلها التداعي، وسريعا ما ستخور قوى أطفالنا ويقضون نحبهم. وفي الواقع، إن الجنس البشري كله سيختفي في النهاية تماما دون أن يترك أي أثر. لكن إذن، أليس وجودنا دون خلود بلا جدوى؛ مضيعة للوقت لا طائل من ورائها؟
يبدو لي أنه رغم أن طول العمر قد يكون مرغوبا لكنه ليس بالضرورة ذا معنى أكبر. صحيح أنك إن عشت لمدة أطول فقد تحقق إنجازات أكبر وتقوم بالمزيد من الأعمال الخيرة وما إلى ذلك، لكن هل تكون حياة طويلة تقوم فيها بمثل هذه الفضائل ذات معنى أكبر من حياة أقصر منها؟ من المفترض أن الإجابة هي لا! ولا يوجد سبب يجعل إطالة مثل هذه الحياة إلى ما لا نهاية يضفي عليها أي قدر أكبر من المعنى.
في واقع الأمر، أحيانا ما تكتسب حياتنا معنى ومغزى خاصين بسبب الطريقة التي نموت بها. فالشخص الذي يضحي بحياته من أجل إنقاذ الآخرين غالبا ما يحتفى به باعتباره مثالا لشخص كانت حياته ذات معنى متفرد. أرى أننا إذا قارنا تضحية شخص ديني اعتقد طوال حياته أنه سيبعث مجددا في الجنة، بشخص ملحد اعتقد طوال حياته أن الموت هو النهاية له، فالشخص الثاني بالتأكيد هو الذي يقدم التضحية الأكبر؛ ومن ثم، فإن فعله أكثر نبلا وذو معنى أكبر.
وحتى إن لم يضح أحد بحياته من أجل الآخرين، فإن الطريقة التي ستنتهي بها يمكن في الغالب أن تكون هي ما يميزها عن غيرها. نحن نعجب، ولنا الحق في ذلك، بمن يواجهون الموت ببسالة وكرامة؛ فالموت غالبا فصل مهم في قصة حياتنا، حدث يختتم حكاية حياة على نحو مرض ويضفي معنى عليها. وحقيقة أننا نموت وأن الموت هو النهاية الحقيقية لا تجعل حياتنا دون معنى. بل إن نهائية الموت تقدم لنا فرصة لجعل حياتنا ذات معنى أكبر مما ستكون عليه في حال آخر. (5) الدين في مقابل الفردية السطحية الأنانية
والآن دعونا نلتفت إلى الممارسة الدينية. إذا طرحنا جانبا مسألة هل الإله موجود أم لا، فربما سيستمر الجدل بأن التأمل الديني أو الشعائر الدينية ضرورية إن كنا نريد ألا تكون حياتنا سطحية وبلا معنى. إليكم حجة من هذا القبيل.
أحيانا يوجد من يزعم، مع وجود تبريرات لهذا الزعم، أن الدين يشجع الناس على تأمل الصورة الكلية للأمور والتفكر في الأسئلة الكبرى. بل إن كثيرا، حتى من اللادينيين، يفترضون أن حياة عاشها صاحبها حتى نهايتها في غياب مثل هذا التأمل من المحتمل أن تكون حياة سطحية جدا. إن المجتمع الغربي المعاصر مهووس بأشياء هي في الحقيقة عديمة القيمة نسبيا: المال، والشهرة، والممتلكات المادية. إننا نعيش يومنا من بدايته حتى نهايته في دائرة مغلقة من الشواغل الأنانية على نحو أساسي، دون أن نولي أي وقت أو نولي وقتا قليلا لتدبر الأسئلة الكبرى. وكانت التقاليد والممارسات الدينية هي التي وفرت الإطار الذي طرحت فيه هذه الأسئلة في السابق. لكن مع غياب الدين، انزلقنا إلى الفردية الأنانية السطحية. وإذا أردنا أن يتمتع الناس بحياة ذات معنى أكبر، ينبغي أن نحيي مجددا التقاليد والممارسات الدينية (سيضيف البعض أننا في حاجة خاصة إلى التأكد من استغراق الصغار كما ينبغي في القيام بهذه الممارسات بالمدارس).
ثمة «قدر» من الحقيقة في الحجة السابقة. «يمكن» أن يشجع الدين الناس على تأمل الصورة الكلية للأمور والتفكر في القضايا الكبرى. كما يمكنه أن يساعد على فك التعويذة السحرية التي يمكن أن تفرضها الثقافة الفردية السطحية الأنانية على عقول الشباب.
إلا أن الدين نفسه يمكن أن يعزز أشكالا من الأنانية؛ مثل الهاجس المتمحور حول الذات، الخاص بتحقيق المرء خلاصه أو تنويره الشخصي. وبالطبع، استخدم الدين لتعظيم شأن الثروة المادية، بالإشارة إلى أن التمتع بثروة كبيرة هو علامة على اصطفاء الإله للشخص.
هل صحيح أن الدين «وحده» يشجعنا على التفكير في الأسئلة الكبرى؟ الإجابة هي لا! في الفصل الأول، طالعنا أن هناك تقليدا فكريا طويل الأمد تعود أصوله إلى العالم القديم يتناول أيضا الأسئلة الكبرى؛ وهو تقليد علماني «فلسفي». إن أردنا بالناس، لا سيما الأطفال، التفكير في مثل هذه الأسئلة، فلسنا مضطرين أن نسلك المسلك الديني، يمكننا أن نشجعهم على التفكير على نحو فلسفي.
وكما أوضحت في الفصل السادس، توجد أدلة على أن إدخال برامج فلسفة في المنهج الدراسي يمكن أن يكون له تأثير كبير جدا على سلوك التلاميذ وكذلك على روح مدارسهم والمستوى التعليمي بها.
يساور أغلب الإنسانويين المعاصرين القلق حيال الفردية السطحية الأنانية بالقدر نفسه الذي يساور الدينيين، ويعتقدون أيضا أنه من المهم أن نتأمل أحيانا الصورة الكلية للأمور ونتفكر في الأسئلة الكبرى. ويعترضون على أن السبيل الوحيد للتشجيع على تبني موقف أكثر مسئولية وتدبرا من الحياة هو تشجيع الأطفال على أن يكونوا أكثر تدينا.
إن كنا نريد حقا تشجيع الصغار على «التفكير» في الأسئلة الكبرى، فالفلسفة منهج واعد على نحو أكبر كثيرا في هذا الشأن. تطرح كنيسة إنجلترا السؤال التالي: «هل الحياة مجرد هذا؟» على لوحات الإعلانات والحافلات، وتعد من يشتركون في الدورة الخاصة بالتعرف على أساسيات الدين المسيحي التي تقدمها ب «فرصة لاستكشاف معنى الحياة». إلا أنه عندما يطرح الدينيون مثل هذه الأسئلة، فغالبا ما تكون لغرض بلاغي ليس إلا. لا تطرح هذه الأسئلة من منطلق الاستقصاء العقلاني المفتوح، لكن كمجرد مناورة في محاولة لاستقطاب مشتركين جدد. وعلى عكس الدين، لا تدنو الفلسفة من تلك الأسئلة وقد ألزمت نفسها مسبقا بإجابات معينة (مع أنها لا تسقط الإجابات الدينية بالطبع)؛ فالفلسفة تشجعك فعليا على التفكير والشك وإصدار الأحكام؛ وهو منهج للإجابة عن الأسئلة الكبرى كان كثير من الدينيين حريصين عادة على قمعه.
والزعم بأن الدين «وحده» يشجعنا على التفكير في الأسئلة الكبرى ليس خاطئا وحسب، بل مثير للسخرية عندما تطرحه أديان ذات تاريخ طويل وأحيانا عنيف من حجب الفكر المستقل. (6) هل يغفل الإنسانويون شيئا؟
قد يبدو أننا نغفل شيئا إن تخلينا عن الدين. تأمل الاعتقاد في بابا نويل؛ فالطفل الذي يعتقد في وجود بابا نويل، يبدو العالم له وقد تحول على نحو بديع. فمن منظور وهمه الاعتقادي، يكتسب العالم - بحلول ديسمبر - معنى ومغزى جديدين، هالة وردية سحرية؛ إذ يوجد شيء يتعلق بهذا الوهم الاعتقادي بالنسبة إلى الطفل المؤمن الموقن به، شيء من العسير جدا فهمه إن لم تكن قد مررت به من قبل.
شكل 7-2: الطفل الذي يعتقد في وجود بابا نويل، يبدو العالم له وقد تحول على نحو بديع؛ إذ يوجد شيء يتعلق بهذا الوهم الاعتقادي بالنسبة إلى الطفل المؤمن الموقن به، شيء من العسير جدا فهمه إن لم تكن قد مررت به من قبل.
عندما يشب الطفل قليلا ويزول وهم بابا نويل، يمكن أن يكون هذا مؤلما له؛ فالهالة الوردية تتلاشى، وتترك العالم حزينا وقاتما مقارنة بما كان عليه.
لا شك في أن زوال وهم الاعتقاد الديني يمكن أن يكون مؤلما لصاحبه. قد يبدو أن السحر والمعنى ينفدان من العالم، تاركين إياه على حالة باردة مجدبة؛ أليس من الأفضل أن نعيش داخل ذلك الوهم الديني إن أمكننا ذلك؟
لا أعتقد ذلك؛ إن لم يكن الإله موجودا، فالهالة السحرية التي يكتسي بها العالم في أعين المؤمنين بالوهم كانت دوما خدعة. وعندما يزول الوهم، قد يبدو العالم أكثر قتامة بعض الشيء لفترة من الزمن. لكني أفضل أن أرى العالم على حقيقته على أن أراه على الحال التي أحب أن يكون عليها.
في الواقع، أليس من المحتمل أن يحجب مثل هذا الوهم إدراك الأشياء المهمة حقا في الحياة؟ تأمل الاعتقاد في بابا نويل ومشغله في القطب الشمالي وحيوان الرنة الطائر وما إلى ذلك. عندما يزول الوهم، تتلاشى هذه الشخصيات البراقة جميعها، لكن كل ما كان مهما دوما بحلول 25 ديسمبر - الحب والتجمع مع الأصدقاء وأفراد الأسرة وما إلى ذلك - يظل كما هو. وبالنسبة إلينا نحن البالغين، ألن يعتبر الاعتقاد في وجود بابا نويل - وما يصاحبه من أنشطة مثل إرسال الخطابات إلى القطب الشمالي ووضع فطيرة اللحم المفروم والفواكه، واللبن في الخارج له - نوعا من الإلهاء المعجز يمنعنا من إدراك المسائل المهمة حقا؟
أعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على الإيمان بالآلهة والملائكة والشياطين وبالحياة الآخرة وما إلى ذلك. والحقيقة أننا من دون المعتقد الديني قد نغفل شيئا، مثل رؤية العالم باعتباره مملكة محكومة من السماء، والاطمئنان للوعد بأننا سيجتمع شملنا مع من نحب بعد الممات. إلا أننا يمكن أن نحصل على أكثر من ذلك، مع رؤية أنضج وأوضح لما هو مهم وقيم حقا في الحياة.
وكما قال الكاتب دوجلاس آدمز ذات مرة: «ألا يكفي أن نرى الحديقة بديعة دون الاضطرار إلى الاعتقاد بأن الجنيات هي السبب في وجودها؟» (7) الإنسانوية ومعنى الحياة
قد يشعر بعض القراء بخيبة الأمل لأنهم لم يعرفوا حتى الآن الإجابة الإنسانوية على السؤال الذي كان محور هذا الفصل، وهو: «ما الذي يجعل الحياة ذات معنى؟» الحقيقة هي أنه لا توجد «إجابة إنسانوية» محددة.
الحقيقة هي أن أغلب الإنسانويين يتفقون مع الدينيين (مع بضعة استثناءات واضحة، مثل الحياة المكرسة للدين) حول أي الحيوات ذات معنى وأيها خالية من المعنى. فمثل أغلب الدينيين، يرى الإنسانويون أن تربية أطفال صالحين والسعي الجاد وراء الاستقصاء الفكري وإنتاج فن أصلي وأخاذ وما إلى ذلك، كلها سبل يمكن أن نتمتع من خلالها بحياة ذات معنى. وباستثناء الجوانب الدينية، يطبق الإنسانويون «المعايير» نفسها تقريبا في الحكم على أي الحيوات ذات معنى وأيها خالية من المعنى.
الإنسانويون يختلفون فحسب عن بعض الدينيين في افتراضهم أن تلك الحيوات التي نتفق جميعا على أنها ذات معنى تظل كذلك حتى في حالة عدم وجود الإله، وأن الاعتقاد في وجود الإله يمكن أن يكون في واقع الأمر حائلا دون أن نعيش حياة كاملة ذات معنى؛ عن طريق إلهائنا عن التفكير في الأسئلة الكبرى - على سبيل المثال - أو إجبارنا على أن نعيش على نحو معين بدافع من الخوف من العقاب الإلهي، أو تبديد حياتنا في تأييد معتقدات زائفة بسبب الترقب الخاطئ لوجود حياة أخرى.
من وجهة النظر الإنسانوية، إن حياتنا الحالية وجملة ما فيها من ثراء هي المهم حقا.
الفصل الثامن
المناسبات الإنسانوية
ثمة خدمة مهمة يقدمها العديد من المنظمات الإنسانوية لمجتمعاتهم؛ وهي إقامة الاحتفالات والمراسم الإنسانوية، ولا سيما الجنازات، وكذلك حفلات تسمية الأطفال وحفلات الزفاف واحتفالات البلوغ. وتنشر الرابطة البريطانية الإنسانية كتيبات إرشادية لمن يفكرون في إقامة احتفالات إنسانوية، وتوفر منظمي احتفالات مدربين من الإنسانويين. والجنازات الإنسانوية شهيرة على نحو خاص؛ ففي عام 2009، أقام منظمو الاحتفالات المعتمدون من قبل الرابطة البريطانية الإنسانية أكثر من 7 آلاف جنازة من تلك الجنازات. وأكثر من 70٪ من الزيجات التي تعقد اليوم في إنجلترا وويلز زيجات لا دينية.
ما السبب في الشعبية المتزايدة للاحتفالات والمناسبات الإنسانوية؟ (1) أهمية الطقوس والاحتفالات
ذهب السير جيمس فريزر، عالم الميثولوجيا وصاحب كتاب «الغصن الذهبي»، إلى أن الشعوب البدائية تمارس طقوسا لأنها تؤمن بنظرية ساذجة حول الكيفية التي يسير بها الكون. خذ على سبيل المثال الرجل القبلي الذي يغمد سكينا في دمية تمثل عدوه، لم يفعل ذلك؟ يرى فريزر أن هذا يرجع إلى أن الرجل القبلي يفترض أنه قد يكون لهذا تأثير فعلي على عدوه؛ فيعتقد أن طعنه الدمية في إطار هذا الطقس الذي يمارسه، قد يؤدي بعدوه إلى الموت. ويمارس الناس مثل هذه الطقوس لأنهم يعتقدون فيما يسميه فريزر «قانون التشابه»؛ المبدأ القائل بأن «الشيء يسفر عن مثيله». طبقا لفريزر، لأن كثيرا من الثقافات البدائية تعتقد في هذا القانون فإنها تنثر الماء على الأرض لإنزال المطر، وتقوم بتمثيل عمليات صيد ناجحة قبل الخروج للصيد الفعلي. وبالطبع، نحن سكان العالم المعاصر لدينا فهم علمي ومتطور للكيفية التي يسير بها العالم؛ فنحن نعلم أن نثر الماء لن ينزل المطر، وأن طعن الدمية لن يقتل العدو.
يرفض الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين تفسير فريزر للسبب وراء أن الشعوب المفترض أنها «بدائية» تمارس مثل هذه الطقوس، ويذهب فتجنشتاين إلى أن الرجل القبلي لا يطعن الدمية لأنه يعتقد في قانون التشابه؛ فيقول:
الشخص البدائي نفسه الذي نظن أنه يطعن دمية خصمه كي يقتله، يبني كوخه من الخشب ويشذب سهامه بمهارة.
بالتأكيد، لو كان الرجل القبلي يؤمن حقا بقانون التشابه، لاعتقد إذن أنه ببنائه نموذجا صغيرا لكوخ، يمكنه أن يتسبب في ظهور كوخ حقيقي من العدم. إلا أنه بالطبع لا يتوقع حدوث هذا؛ فالرجل القبلي لا يطعن الدمية لأنه يعتقد أن سيكون لذلك أثر حقيقي، بل يقوم بذلك لسبب آخر. لكن ما هو؟
وفقا لفتجنشتاين، هذا النوع من ممارسة الطقوس ليس بدائيا، وإنما هو جزء من طبيعتنا البشرية. إنه شيء نمارسه جميعا، إلى حد ما؛ فنحن، مثلا، نقبل صور من نحب، أو نمزق بغضب صور من نكره، نلمس الخشب من أجل جلب الحظ، وحتى لاعبو كرة القدم من الملحدين ينظرون إلى السماء ويرفعون أيديهم لأعلى في رجاء عندما يهدرون ركلة جزاء؛ فلم هذا إذن؟ يقول فتجنشتاين:
حرق الدمية وتقبيل صورة من نحب وغيرها أمور لا تستند كما هو واضح إلى اعتقاد أنه سيكون لهذا تأثير فعلي على صاحب الصورة أو الشخص الذي تمثله الدمية، بل يهدف إلى الشعور بالرضا على نحو ما وهذا يحققه، أو إنه لا يهدف إلى أي شيء؛ نحن نتصرف على هذا النحو ثم نشعر بالرضا.
السبب الذي يجعلنا نرشق السهام في صور من نكره ليس أننا نؤمن بمبدأ التشابه ونفترض أننا بقيامنا بذلك سيكون تأثير مقابل على الأشخاص المعنيين (إن نجحت هذه الطقوس، لكانت مارجريت ثاتشر الآن - التي انتشرت طباعة صورتها على لوحات السهام في ثمانينيات القرن العشرين - مغطاة بالعديد من الثقوب الدقيقة). في الواقع، إن هذه الطقوس تتيح لنا التعبير عما يموج في أعماقنا من مشاعر، وبإمكانها أن تعزينا وتلهمنا وتساعدنا كي نكون أكثر ثباتا.
أعتقد أن فتجنشتاين محق على الأقل في جزء مما قاله؛ فمن يمارسون هذه الطقوس لا حاجة بهم إلى افتراض أن مثل هذا النشاط سيكون له، أو ربما يكون له، نتيجة سحرية أو خارقة للطبيعة. (لكن على عكس فتجنشتاين، أعتقد أن بعضا منهم يفترضون ذلك؛ فبالتأكيد بعض ممن يصلون يؤمنون بوجود كيان في الأعلى يستجيب لصلواتهم، كيان قد يتدخل بالنيابة عنهم على نحو خارق للطبيعة!) وهذه الطقوس ليست بالضرورة دينية؛ فالناس يمارسونها طيلة الوقت، داخل السياقات الدينية وكذلك خارجها.
وبالطبع، وفر الدين الإطار الرئيسي الذي أقيمت فيه الطقوس المنظمة. وقد لعبت الطبيعة الرسمية لهذه المراسم والاحتفالات دورا مهما في لم شمل أفراد الأسر المهجرة - مثلا - وتعزيز الإحساس بالقرابة والانتماء، والسماح للناس جميعا بالتعبير عن عميق التزاماتهم ورغباتهم.
ومع أفول نجم الدين في كثير من أرجاء الغرب، ضاعت الفرصة للاشتراك في مثل هذه الطقوس المنظمة. لكن بالطبع الحاجات التي تشبعها مثل هذه الطقوس لا تزال موجودة، ونشعر بهذه الحاجات على نحو قوي، خصوصا مع المراحل المهمة في الحياة؛ مثل الميلاد والزواج والوفاة. فلا عجب إذن أن اللادينيين يبحثون عن طقوس واحتفالات بديلة في مثل هذه الأوقات.
وفي إطار إقامة المنظمات الإنسانوية لمثل هذه الطقوس، هل تنصب تلك المنظمات نفسها باعتبارها أديانا بديلة؟ لا! فاشتراك أحدهم في مثل هذه الطقوس معناه عدم الاعتقاد بوجود الإله، أو كيانات أو قوى سحرية، أو أي شكل من الواقع الخارق للطبيعة. فالمنظمات الإنسانوية لا تقوم إلا بإشباع الحاجات العاطفية العميقة ، الحاجات التي تشكل جزءا لا يتجزأ من طبيعتنا البشرية. (2) حفلات الزفاف الإنسانوية
في الوقت الراهن، ليس للزيجات الإنسانوية أي صفة قانونية في إنجلترا وويلز، على عكس بلدان مثل النرويج واسكتلندا. من ثم، ومن أجل عقد الزواج بصورة قانونية، فعلى الشريكين ترتيب زفاف مدني بأحد مكاتب السجل المدني. إلا أن أغلب الأزواج الذين يتزوجون على هذا النحو يعتبرون الحفل الإنسانوي هو الزفاف «الحقيقي»، وأن الزفاف بالسجل المدني مجرد إجراء قانوني.
توجد ميزة واضحة في إقامة حفل زفاف إنسانوي مستقل عن حفل الزفاف القانوني؛ ففي إنجلترا وويلز، لا تقام حفلات الزفاف القانونية إلا في أماكن محددة، مثل مكتب السجل المدني والكنيسة والمسجد والمعبد. أما حفلات الزفاف الإنسانوية، فيمكن إقامتها في أي مكان مناسب. اقترنت بزوجتي على يد منظم احتفالات إنسانوي في الهواء الطلق على رابية قلعة متهدمة في نورثمبرلاند، وسط صحبة كبيرة من الأصدقاء والأسرة. بالطبع أنا لست محايدا، لكني أرى أن زفافي كان مناسبة سعيدة ومحركة للمشاعر على نحو بديع، على الأقل على القدر نفسه من الرونق والمدلول كأي مراسم زفاف ديني حضرته.
شكل 8-1: حفل زفاف إنسانوي. (3) الجنازات الإنسانوية
تقام الجنازات الإنسانوية دون أي إشارة إلى أن المتوفى قد «انتقل» إلى العالم الآخر، فهي تمثل نهاية حياة شخص، وليست عملية انتقال ما إلى شكل آخر من الوجود. وتقدم الجنازات الإنسانوية للأصدقاء والأهل فرصة للاحتفاء بحياة من الحيوات بأمانة وكرامة وحزن وفرح معا، لكن دون أي وعود مشكوك فيها بالالتقاء مرة أخرى بعد النزول للقبر.
لعل أحد الأسباب وراء أن الجنازات الإنسانوية، خصوصا، أصبحت أكثر شهرة، هو أنه في حين أن كثيرا من غير المؤمنين، كي يحظوا بجنازة تقليدية، مستعدون للقبول بإقامة مراسم خاصة بمعتقدات لا يؤمنون بها حقيقة، فثمة رغبة مفهومة بعدم إقامة جنازة بدافع المحافظة على معتقدات المتوفى ومن يتركهم خلفه. وتعلق تانا وولين، رئيسة المراسم بالرابطة البريطانية الإنسانية قائلة:
إلزام المتوفى بإله أو آلهة لا تؤمن أنت بوجودها أو توديعه إلى حياة أخرى تعتقد أنها خيالية، حتى بصحبة الطقوس الدينية المهيبة ، لا يبدو صحيحا.
قد يكون من الأسباب الأخرى لتنامي شعبية الجنازات الإنسانوية أن الأشكال الدينية المختلفة من الجنازات عادة ما تركز على تعظيم الإله، وأحيانا ما لا يذكر المتوفى إلا نادرا. أما الجنازات الإنسانوية، فهي في الأساس احتفاء بحياة الشخص الذي توفي، وهي بالمقارنة بالطقوس الدينية التقليدية توفر فرصة أكبر للأصدقاء والأقرباء للتعبير عن مشاعرهم والإعراب عن تقديرهم للإنسان الذي انتهت حياته.
قيل لي مؤخرا، وأعتقد لأسباب وجيهة، إن ازدياد شعبية الجنازات الإنسانوية كان له تأثير غير مباشر على الكيفية التي تباشر بها الجنازات الدينية اليوم. ففي بريطانيا اليوم، تميل الجنازات الدينية إلى التركيز على الاحتفاء بحياة المتوفى أكثر مما اعتادت أن يكون عليه الحال، وكثيرا ما تمنح الأصدقاء والأهل فرصة أكبر بكثير للإعراب عن تقديرهم للشخص المتوفى والاحتفاء بحياته، بل وربما اختيار موسيقا وقراءات غير دينية إن استشعروا أنها ستلائم المناسبة أكثر. والحقيقة أن بعض الجنازات الدينية اليوم لا يمكن تفريقها عن نظيراتها من الجنازات الإنسانوية، اللهم إلا أن من يباشرها شخص يرتدي ملابس دينية.
لا يستحسن الجميع هذا الاتجاه. أعرب مؤخرا أحد القساوسة بمقاطعة كنت - القس إد توملينسون - عن توجسه من عدد الجنازات التي يباشرها دون محتوى مسيحي أو قدر بسيط منه، وهو يرى أن الجنازة المسيحية تؤدي وظيفتين:
أولا: أن تتيح الفرصة لتوديع المتوفى، وثانيا: أن نعهد بأحبائنا إلى الإله الحي راجين أن يغفر ذنوبهم وأن يهبهم حياة أبدية ... وما أتحسر عليه كثيرا هو أن النقطة الثانية تغيب عن المشهد، وتطغى عليه كليا النقطة الأولى.
وقد شكك القس توملينسون في طبيعة الجنازات الإنسانوية، مشيرا إلى أن أفضل ما يمكنها تقديمه هو:
قصيدة تلقيها الجدة مع رسالة عذبة الكلمات من أحد نجوم البوب قبل أن يوضع المتوفى بالمحرقة دون أي أمل معقود على نشوره.
مما لا شك فيه أن الجنازات الإنسانوية «يمكن» أن تكون سطحية وغير مرضية، إلا أن الأمر نفسه ينطبق على الجنازات الدينية. فبالنسبة إلى اللادينيين، يمكن أن تبدو الطقوس الدينية عديمة الفائدة وغير مرضية إن كان هدفها الرئيسي تعظيم الإله، ولا يقال سوى القليل، إن قيل أي شيء من الأساس، حول شكل وطبيعة الحياة التي عاشها الشخص المتوفى. وغالبا ما تكون الجنازات الإنسانوية مبهجة ومحركة للمشاعر، بل يمكنني القول إنها تكون مناسبات روحية، رغم غياب الوعود المشكوك فيها بالنعيم في السماء عندما نموت. وأرى أنها تقدم نسخة أكثر نضجا من القيم الروحية. (4) ماذا تكشف المناسبات الإنسانوية عن الإنسانوية؟
النحو الذي تطورت به المناسبات والاحتفالات الإنسانوية ويجري مباشرتها به يكشف قدرا كبيرا مما يعتبره الإنسانويون الأولى بالأهمية؛ فجنازات الإنسانويين - بوجود الإنسان في محور تركيزها وطابعها المخصص - هي احتفاء بهذه الحياة، لا حياة مستقبلية خرافية. وينصب تركيز حفلات زفاف الإنسانويين على التعبير عن حب الشريكين أحدهما الآخر والتزام كل منهما تجاه الآخر، وليس إبرامهما عقدا من نوع ما تفرضه عليهما الدولة أو السماء. والاحتفالات الإنسانوية لإطلاق الأسماء على الأطفال لا تركز على إلزام الطفل بإله أو دين معين لبقية حياته الطبيعية وما بعدها، بل على السماح للأبوين وغيرهما من الأصدقاء المقربين والأهل بالتعبير عن التزامهما بمساعدة الإنسان الجديد القادم للحياة على النمو على نحو طبيعي؛ الأمر الذي يتضمن عند الإنسانويين مساعدته على اكتساب النضج والمهارات الضرورية لتحمل مسئولية تكوين معتقداته الخاصة وإصدار أحكامه الأخلاقية بنفسه.
وأحد أسباب ذيوع شهرة الاحتفالات الإنسانوية هو ازدياد إدراك الناس أن الرؤية الإنسانوية لما هو أولى بالأهمية حقا في الحياة هي نفس رؤيتهم.
مراجع
مقدمة
The survey indicating the views of professional philosophers on naturalism and theism was conducted by philosophers David Chalmers and David Bourget in November 2009. The results are available at:
http://philpapers.org/surveys/ , accessed 24 August 2010.
الفصل الأول
The Allen Bloom quote is from
The Closing of the American Mind (New York: Touchstone, 1988), p. 25.
Ruchard Lamm is quoted disapprovingly at
http://www.slate.com/id/2100437/
and approvingly at:
http://www.christianitytoday.com/ct/2004/119/42.0.html , accessed 24 August 2010.
The Cardinal Ratzinger quote is from his 2005 Homily at the Mass for the election of the Roman Pontiff.
The Nick Tate quote is from a speech to the SCAA on 15 January 1996.
The Cardinal Ratzinger quote on Galileo: Joseph Ratzinger,
Corriere della Sera,
30 March 1990; 30
Dias , January 1993, p. 34.
The Alisdair MacIntyre quotes are from Alisdair MacIntyre,
After Virtue,
2nd edn. (London: Duckworth, 1985), p. 222; and MacIntyre’s 'A Partial Response to My Critics’ is in J. Horton and S. Mendus (eds.),
After MacIntyre (Notre Dame, IN: University of Notre Dame Press, 1994), p. 289.
الفصل الثاني
The Darwin quote is from Charles Darwin,
The Autobiography of Charles Darwin 1809-1882. With the original omissions restored. Edited and with appendix and notes by his grand-daughter Nora Barlow (London: Collins, 1958), p. 87.
The Behe quotes are both from his
Darwin’s Black Box: The Biochemical Challenge to Evolution (New York: The Free Press, 1996), p. 39.
The Miller quotes are from
The Flaw in the Mousetrap: Intelligent Design Fails the Biochemistry Test . Published online at:
http://www.actionbioscience.org/evolution/nhmag.html , where it is reprinted with permission from
Natural History Magazine
in April 2002, accessed 24 August 2010.
Krauss is quoted from
Free Inquiry , volume 26, number 3, April/May 2006; and from
Top of Form , pp. 36-40, available online at (
http://genesis1.asu.edu/~krauss/freeinqart.html ), accessed 24 August 2010.
The Hawking quote is from his
A Brief History of Time (New York: Bantam Books, 1988), p. 125.
The Davies quote is from his
The Goldilocks Enigma (London: Penguin, 2007), p. 300.
الفصل الثالث
That around 45
of American citizens (actually, around 135 million citizens) believe the entire universe is around 6,000 years old (polls usually use the phrase 'less than 10,000 years’) is supported by a range of polls, such as a 2008 Gallup poll in which 44
of respondents said 'God created human beings pretty much in their present form at one time within the last 10000 years or so’-for a range of poll results, see
http://www.pollingreport.com/science. htm , accessed 24 August 2010.
John Hick uses the expression 'vale of soul making’ in John Hick (ed.),
Classical and Contemporary Readings in the Philosophy of Religion,
2nd edn. (Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1970), p. 515.
الفصل الرابع
The Fukuyama quote is from
The End of History and the Last Man (London: Hamish Hamilton, 1992), p. 328.
The Lin Yu Tang quote is from his
My Country, My People (London: Heinemann, 1938).
The Kristol quote is from
Neoconservatism-the Autobiography of an Idea (Chicago: Elephant, 1999), p. 101.
The Himmelfarb quote is from her
One Nation, Two Cultures (New York: Knopf, 1999), p. 146.
The Bork quote is from his
Slouching towards Gomorrah (New York: HarperCollins, 1996), p. 275.
The Bishop Ali quote appeared on the
Today
programme on Radio 4, 6 November 2006, and is quoted in BHA’s 2007 pamphlet
The Case for Secularism .
The Bishop Harries quote is from his comment piece 'It is
The Observer , 30 December 2007; available online at (
http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2007/dec/30/religion.world ), accessed 24 August 2010.
The Knight quote is from a talk she gave on the BBC’s Home Service (now Radio 4) in 1955 and is available on a webpage at (
http://www.humanism.org.uk/humanism/humanist- tradition/20century/margaret-knight ), accessed 24 August 2010.
الفصل الخامس
The various Trigg quotes are all taken from his book
Religion in Public Life: Must Faith Be
(Oxford: Oxford University Press, 2007), pp. 3-4, 73, 12, 125.
David Ranan’s
Double Cross: The Code of the Catholic Church (London: Theo Press, 2006) is the source of the quotations from the Primate of Poland (p. 196) and Konrad Adenaur (p. 218).
الفصل السادس
For the Topping study, see S. Trickey and K. J. Topping, '“Philosophy for Children”: A Systematic Review’,
Research Papers in Education,
Vol. 19, No. 3, September 2004. Also see, e.g., Ofsted reports for schools participating in philosophy for children projects summarized in the document
Extracts from Ofsted Inspection Reports Highlighting the Use of Philosophy , available from SAPERE.
The Buranda school source is the Buranda State School Showcase 2003 Submission Form.
Jonathan Glover, 'Into the Garden of Good and Evil’,
The Guardian,
13 October 1999.
Much of this chapter draws on my book
The War for Children’s Minds (London: Routledge, 2004).
الفصل السابع
The Wittgenstein quote is from
1, sections 66-7.
الفصل الثامن
The Tomlinson quotes come from (i) his blog:
http://sbarnabas.com/blog/2009/10/19/clarification-on-funerals/ ; and (ii) the
Telegraph
website (
http://www.telegraph.co.uk/news/newstopics/religion/6375631/Vicar- feels-like-lemon-as-Tina-Turner-playedat-funerals.html ), both accessed 24 August 2010.
The Wittgenstein quotes are from
Remarks on Frazer’s Golden Bough (Oxford: Basil Blackwell, 1975), p. 4.
قراءات إضافية
Excellent longer introductions to humanism have been written. Among the best are:
Jim Herrick,
Humanism: An Introduction (Amherst, NY:
2005).
Richard Norman,
On Humanism (London: Routledge, 2004).
Humanism: A Beginner’s Guide (Oxford: Oneworld, 2009).
What Is Secular Humanism? (Amherst, NY:
2006).
I also recommend the BHA’s pamphlet
What Is Humanism? , available directly from the BHA.
معلومات إضافية عن الإنسانوية
The national UK charity promoting humanism is the British Humanist Association (BHA). The BHA campaigns for an open society and a secular state, and provides non-religious celebrations and ceremonies for important events such as funerals and weddings. It has been supporting non-religious people and promoting humanism since 1896, and it works in a wide range of contexts from schools to Parliament to achieve its aims. It provides many resources and educational materials online: (
http://www.humanism.org.uk ) (
http://www.humanismforschools.org.uk ) (
www.humanistlife.org.uk )
The Center for Inquiry (CFI) is one of the United States’ largest humanist organizations, with branches around the world. It aims to foster a secular society based on science, reason, freedom of inquiry, and humanist values. The CFI website provides many links and resources: (
http://www.centerforinquiry.net/ )
The American Humanist Association (AHA) works to establish, protect, and promote the position of humanists, and has a website here: (
http://www.americanhumanist.org/ )
The umbrella organization for all humanist organizations internationally is the International Humanist and Ethical Union, which represents 100 humanist, rationalist, secular, ethical culture, atheist, and free-thought organizations in more than 40 countries: (
http://www.iheu.org/ )
مصادر الصور
(1) Courtesy of the British Humanist Association. (1-1) © Luisa Ricciarini/TopFoto. (1-2) © Roberto Herrett/photographersdirect.com. (2-1) © John Woodcock/Dorling Kindersley. (3-1) © The Granger Collection/TopFoto. (3-2) © Scott Camazine/Alamy. (4-1) © Ivan Burmistrov/iStockphoto. (4-2) © Galyna Andrushko/Fotolia. (4-3) © Nikada/iStockphoto.com. (5-1) © Stephen Hird/Reuters/Corbis. (6-1) © Columbia/The Kobal Collection. (6-2) © Dan Sullivan/Alamy. (6-3) © Hulton Archive/Getty Images. (7-1) © TopFoto. (7-2) © Blue Lantern Studio/Corbis. (8-1) © Carole Kinziger.
نامعلوم صفحہ