ونحن نعرف الآن كثيرا؛ أي: أكثر مما كان يعرف داروين، ولكن لداروين فضل التوجيه وتعيين الخطط للبحث، وأنه زودنا برؤية بشرية جديدة، فقد نقلت نظرية التطور من الأحياء في الطبيعة إلى الناس في المجتمع، وصار من المألوف أن نجد دراسات منظمة عن الأخلاق والأديان وفق النظرية التطورية ما كنا لنراها لولا داروين.
وانبسطت للبشر آمال في المستقبل، وتغير معنى الارتقاء البشري؛ لأننا نقلنا هذا المعني من وسط الإنسان إلى الإنسان نفسه، بل أصبح التطور فنا نمارسه في إيجاد سلالات جديدة من القطن أو القمح أو الفاكهة وقد اجترأ هتلر وأعوانه على أن يفكروا في سلالات بشرية جديدة.
البيئة تغير الأحياء
لم يكن داروين أول من دعا إلى مذهب أو نظرية التطور؛ فقد سبقه إلى ذلك «لامارك» و«بوفون» وهما فرنسيان من رجال النهضة الثانية أو الاشتعال الذهني الثاني في أوروبا.
والاشتعال الذهني الأول هو ما يسمى النهضة الأوروبية فيما بين عامي 1450 و1550 ومعظم رجاله من الإيطاليين، وإليهم ينتمي من جاء في أعقابهم «بيكون» الإنكليزي، و«ديكارت» الفرنسي.
ولكن هناك اشتغالا ذهنيا ثانيا سطح نوره في جميع أرجاء أوروبا هو النهضة الفرنسية التي بدأت بفولتير وروسو وديدرو وانتهت بالثورة الكبرى.
وكان لامارك وبوفون من العلميين الذين حرروا أذهانهم ورفض هؤلاء العلميين قصة الخلق كما روتها التوراة وعمدوا إلى استقراء الكائنات، وكانت ثمرة تفكيرهم أن الأحياء تطورت من أصل أو أصول قليلة، وأن أعظم العوامل لهذا التطور - بل يكاد يكون العامل الوحيد - أن الحي الذي يعيش في بيئة تطالبه بعادات معينة تقتضيه جهدا، يورث هذه العادات أبناءه رويدا رويدا وجيلا بعد جيل إلى أن يظهر جيل ثبتت فيه العادة وصارت جزءا من كيانه الفسيولوجي - كالزرافة تعتاد مد العنق إلى الغصون العالية أو الأعشاب البعيدة على الأرض فتنشط العضلات ويطول العنق بالمجهود الفردي - ثم تتوالى هذه العادة جيلا بعد جيل فإذا بنا نصل بعد إلى جيل قد تطورت فيه الأعناق فطالت.
أو اعتبر الجمل، فقد اعتادت أسلافه أن تبرك ويتصادم جلدها بالحصى الجارحة، وكما يحدث لنا أن يؤدي ضيق الحذاء إلى تقسية الجلد كذلك أدت الحصى إلى تقسية الجلد في مواضع اللمس للحصى، ثم انتهت هذه العادة بأن صارت وراثية ينشأ بها صغار الجمال ولها ثفنات خشنة.
وكان هذا التعليل كافيا للتسليم بصحة التطور، ولكن أوروبا لم تكن قد وصلت إلى نقطة الإيمان بهذه النظرية، وقد كان جد داروين «أرازموس داروين» يعتمد على وراثة العادات، ولكن جاء حفيده تشارلز داروين فأخرج كتابه «أصل الأنواع» في عام 1859 واستعرض فيه شأن العادات أو كما كان يقال وقتئذ «الصفات المكتسبة»، وجعل جل اعتماده على تنازع البقاء والانتخاب الجنسي.
وكان منطق داروين واضحا يجذب بل يفتن العقل، فقد ضرب مثلا بالحيوانات المدجنة كالحمام والأرانب والكلاب، وقال: إننا ندجنها؛ أي: نجعلها دواجن ونختار تلك الصفات التي نريد استبقاءها ونشرها فنقصر التناسل على الأفراد التي امتازت بها، ونحن نرى مئات من السلالات التي أوجدناها في الدواجن نرى صفة ما فنستلقح أفرادها حتى تكثر هذه الصفة، وفي الوقت نفسه نستبعد غيرها مما لم تحز هذه الصفة فتنقرض.
نامعلوم صفحہ