وبعد، فهذه شذرات من التعليقات الدينية والعلمية التي قوبل بها مذهب التطور في الغرب وفي بلاد الشرق العربي، نحسب أننا أتينا فيها على كل رأي من آراء الباحثين الدينيين والعلميين في هذا المذهب، وأن الكتب التي اخترناها للاقتباس منها تمثل جوانب التفكير جميعا في هذا الموضوع.
وقد مضى أكثر من سبعين سنة على ظهور أقدم الكتب التي ذكرناها في هذه العجالة، ومضى نحو ثلاثين سنة على أحدثها، فإذا أردنا أن نعود إليها لنحكم عليها حكم الزمن الممحص للآراء، فالذي نراه اليوم أن الدينيين قد وقفوا الموقف المنتظر منهم في معارضة النشوئيين الماديين، فليس من المنتظر أن يقابل إنكار الدين بغير الإنكار من أهل الدين، وقد أصاب العلامة الشيخ محمد رضا حين قال: إنه يدفع الشبهات عن العقيدة الإلهية في كل ملة، ولا يقصر دفاعه على عقيدة الإسلام. •••
ولكن الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع من الوجهة الدينية قد أخطئوا - دينيا وعلميا - في إنكارهم باسم الدين أمورا لا تزال قيد البحث بين الإثبات والنفي، ويجوز أن تسفر بحوث الغد عن إثباتها بما يقطع الشك فيها، كما يجوز أن ينفيها بما يزيل مواضع الخلاف فيما بين عقائد الدين وحقائق العلوم، وقد كان لبعضهم عذره لقلة المعلومات الصحيحة التي وصلت إليهم عن مذهب دارون ومذهب التطور على العموم، وكان لبعضهم عذر مثل هذا العذر قد يسوغ اندفاعهم إلى درء الخطر عن العقائد الإلهية يوم تعجل ثراثرة التقليد، فهجموا على المذهب على غير علم به كعادتهم في الهجوم على كل جديد مستغرب، وانتحلوه للثرثرة بأحاديث الإلحاد والمروق، فكان تعجلهم هذا داعيا إلى مقابلتهم بتعجل مثله من الدينيين.
بيد أنه - ولا ريب - تعجل وخيم العاقبة، قد ظهرت عواقبه الوخيمة مرة بعد مرة منذ ابتدأ العلم الحديث في نشر كشوفه المتوالية، ووجب الاتعاظ بعواقب التصدي للمباحث العلمية وهي في معرض التحقيق بين الإثبات والنفي، أو التغليب والاستضعاف، وقد علم رجال الدين في الغرب ماذا كان من أثر تحريمهم للقول بدوران الأرض حول الشمس، وإيجابهم تعليم النشء أن الشمس تدور حول الأرض كأن وجود الخالق جل وعلا مرتبط بدوران هذه أو تلك، وكل في فلك يسبحون.
لقد كان في ذلك التعجل من رجال الدين عظة لهم تنهاهم أن يعيدوا مثل هذه الغلطة في التصدي للمذاهب العلمية التي لم ينقطع الشك في ثبوتها أو بطلانها، وقد ينقطع الشك غدا بما يثبت على منكريها أنهم كانوا مخطئين في فهم الدين والعلم على السواء، فإن زلزال المادية الذي اضطرب له الغرب اضطرابه العنيف لم يكن له حجة على العقائد الإلهية أقوى من هذه الحجة على الدين، كما تصوره المتعجلون من «المؤمنين» على غير يقين. •••
ويشبه هذا الخطأ المنكر خطأ آخر لم ينفرد به الدينيون، بل شاركهم فيه زمرة من العلماء لم يحسنوا التمييز بين قضايا العلم وقضايا الحقوق «المدنية» أو الجنائية في المحاكم ودواوين التشريع؛ فصاحب الدعوى في المحكمة أو الديوان مطالب بإثبات دعواه لأنها مصلحته الخاصة، وفيها - إذا لم تثبت - إضرار بمصالح الآخرين، ولكن الدعوى العلمية ليست كذلك، ولا يصح أن يناط أمر إثباتها بمن يدعيها وحده، وهي مصلحة الناس أجمعين، ومن ينكرها بغير حق يضر بالناس أجمعين.
وقد أفرط النقاد جدا في التشبث بمسألة الأنواع الوسطى، ولم يصطنعوا الأناة ليدركوا ما في هذه الحجة من الضعف والعنت، ويعلموا أن التشبث بها إلى هذا الحد إحراج للخصم من قبيل إحراج الخصوم المتنازعين على دعاوى المحاكم والدواوين.
فكيف يخطر على بال الناقد المخلص أن الأنواع الوسطى تبقى لها ذرية، مع العلم بأن الوراثة لا تتم قبل استكمال خصائص النوع؟ وكيف يفوتهم أن يلمحوا هذه الحقيقة، ويرتبوا عليها ما ينبغي أن يترتب عليها من التريث والانتظار، وهم يرون اليوم أمثلة بارزة من توقف النسل بين الخيل والحمير، أو بين الذئاب والكلاب؟
وإذا كان القائل بالنشوء يعجز عن إقامة الدليل على تناسل النوع المتوسط، فكيف يحال هذا العجز إليه ولا يحال إلى الواقع الذي لا حيلة له فيه؟ إن كثيرا من الأحياء الباقية إلى اليوم لم يبق منها أثر يدل على وجودها في عصور الحفائر المطمورة بين طبقات الأرض، فإذا جاز هذا في أمر الأنواع التي بقيت، ولا شك في بقائها إلى اليوم، فكيف نستكثره على أنصاف الأنواع التي لم تستكمل خصائص النسل والتوريث؟
فليس من الرأي السليم - دينا ولا علما - أن يرتيط رفض النشوء بعجز النشوئيين عن إبقاء أنواع وسطى من الحيوان غير قابلة بطبيعتها للبقاء والتوريث.
نامعلوم صفحہ