ثم أنحى المؤلف على أساس مذهب التحول؛ لأنه قائم على افتراض تعدد الأنواع بعد انفرادها أو قلتها، وليس هذا الافتراض باللازم ضرورة من قياس العقل، ولا من نتائج الواقع: «ومن الطريف في هذا الرأي أنه كما يمكن أن يعلل به القول باتحاد أصول الأنواع أو قلتها، كذلك يمكن القول بعكس ذلك والتعليل له أيضا، فيقال: إن أصول الأحياء كانت في بدء الخلق أفرادا متباينة بأقصى ما يكون من التباين وعدم التشابه، فلم يزل كل حي يخلف نسلا يشبهه بناموس الوراثة، ويباينه بناموس المباينة، لكن بما يقربه إلى فرد آخر.
فلم تزل تلك المباينات مع الأجداد تزيد المشابهات مع سائر الأفراد، وتنازع البقاء يلاشي الضعيف، والطبيعة تنتخب القوى حتى صارت التباينات التي قلنا: إنها مع غير المشابهات ثابتة، فتألفت منه الأنواع الموجودة، وله شواهد على مذهب هؤلاء، فالحية مثلا تعد الآن من جنس الدبابات، ولا تجتمع معها في الأصل، بل أصلها من ذوات الأرجل، وقل مثله في الحيوانات المنحطة التي يذكرها بخنر وغيره، فإنها الآن تؤلف جنس المنحطات وهي بعيدة في الأصل منها.»
قال: «وهذا الاحتمال وإن لم أجد أحدا قال به في أصول الأنواع، ولكنه أحد القولين المشهورين في أصل اللغات. وعند العلماء مذهبان شهيران؛ الأول: أن لغات البشر متشابهة، وهي كلها من أصل واحد، وهذا الأصل قد تفرع وتنوع فتولدت منه لغات البشر المختلفة، فما اللغات سوى لهجات من لغة واحدة، ولكنها بعدت عن الأصل كثيرا، وتغيرت بالزيادة والنقصان، والنحت والحذف؛ حتى بعدت بعضها عن بعض هذا البعد الشاسع، وتعذر رد بعضها إلى بعض لفقد الحلقات الكثيرة من بينها، والمذهب الثاني: أنه كانت للغات البشر أصول مختلفة بحسب عدد طوائفها، وأنه مع الزمان اقتربت هذه اللغات بعضها من بعض، فتمازجت وتشابهت بتمازج أهلها وتشابههم إلخ. وعند الكاتب أن المذهب الثاني أقرب إلى الصحة وأقدر على حل المشكلات من الأول.»
وتابع المؤلف بحثه في النشوء، فاستطرد منه إلى البحث في الارتقاء وسأل: «أي معنى لارتقاء ذوات الأربع عن الطيور، وارتقاء الإنسان عن ذوات الأربع مع اشتراك الكل في حصول التغير؟»
وانتهى المؤلف إلى أن المذهب كله ناقص الإسناد، لا توجد فيه حجة قاطعة غير قرائن الترجيح والتغليب، ولا غنى له عن المزيد من البحث والتنقيب، كما قال بعد أكثر من خمسمائة صفحة على هذا المنهج مستندا إلى قول فيرسو العالم الألماني: «إنه في بعض طوائف الناس صفات يشاركهم القرد فيها، كما في بروز الفك وفطس الأنف؛ مما يجعل العلاقة قريبة بين تلك الطوائف والقرود حتى يحتمل ارتقاؤها من القرود.
ولكن بين الاحتمال والقطع بونا شاسعا؛ لأن الصفات المشار إليها لا تقوم نوع القرد، بل المقوم له خواص أخرى، وكل قدة من جلده كافية لتمييز نوعه من غيره من الأنواع، ولا أظن أن واحدا من المشرحين يرتاب في ذلك، والفرق بين الإنسان والقرد واضح جدا؛ حتى أن كل قطعة من الواحد كافية ليستدل منها على النوع المقطوعة منه؛ فالأدلة على النشوء الفعلي قاصرة جدا لا يبنى عليها حكم، ولا بد من أن يزيدنا البحث والتنقيب للوقوف على أدلة أخرى قوية.» •••
ويتبين من مراجعة «المكتبة النشوئية» في الشرق العربي، أن الاهتمام بالمذهب كان على أشده بين أتباع الكنائس الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية؛ لأنها هي الكنائس التي تصدى علماء اللاهوت منها لمناقشة مذهب دارون عند إعلانه في موطن ظهوره، وشاركهم في ذلك علماء الطبيعة المسيحيون ممن أنكروا المذهب، واستندوا في إنكاره إلى الأدلة العلمية، وطالبوا النشوئيين بمزيد من الأدلة القاطعة لإثبات نظرياتهم؛ لأنها نظريات تنقض بعض المقررات الدينية، ولا يكفي في مثل هذه الحالة أن تستند النظرية إلى الترجيح والتغليب، أو إلى الظن والتقدير.
وقد يعزى إلى هذا السبب كثرة الدراسات التي تعرضت لمذهب النشوء من الناحية الدينية، أو من الناحية العلمية، بأقلام فضلاء الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية من كتاب اللغة العربية، وبخاصة في البلاد التي كان اللاهوتيون يشرفون على معاهد التعليم فيها، ويأخذون بزمام ثقافتها وآدابها.
ونحن نختار هنا من الدراسات النشوئية التي كتبت باللغة العربية، ولا نستقصيها لكثرتها وخروج معظمها عن موضوعه، ولم نجد بينها ما هو أولى من دراسات الأساتذة إبراهيم الحوراني، والأب جرجس فرج صفير الماروني، والأسقف خير الله أسطفان، والدكتور حليم عطية سوريال، ومنهم من كتب عن هذا المذهب قبل خمس وسبعين سنة، وأحدثهم كتابة عنه من تصدى لمناقشته بعد ظهور كتب الدكتور «شبلي شميل» في موضوعه، وهي مؤيدة للنشوئيين المنكرين للأديان.
فالأستاذ إبراهيم حوراني - وهو عالم لغوي مطلع على المباحث العلمية - ألف في الرد على مذهب دارون رسالة «مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء»، ثم أتبعها برسالة «الحق اليقين في الرد على بطل دارون»، وطبعها ببيروت (سنة 1886) ردا على مناقشة الدكتور «شبلي شميل» لرسالته الأولى، فصب حملته الكبرى على موطن الضعف في المذهب، وهو افتقاره إلى الدليل القاطع، وتعويله على الشواهد التي توحي بالرأي، ولا تستأصل الشكوك أو تسكت المعترض المطالب بدليل لا يضعفه الاحتمال.
نامعلوم صفحہ