جواب رابع: وهو أن يقال لهم: خبرونا عن قولكم إن الله تعالى متكلم بأصوات وحروف، أهي هذه الحروف والأصوات الجارية الدائرة في سائر كلام الخلق، أو غيرها؟ فإن قالوا: هي هذه فقد جعلوا جميع كلام الخلق قديما كله؛ وإن قالوا: بل هي غير هذه الحروف والأصوات الجارية في كلام الخلق. قلنا: فصح حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى، بل هو غائب عنا، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضا يجب أن لا يكون في المصحف قرآن؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق، وكل هذين القولين باطل؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم: خبرونا: أيصح خروج حرف من غير مخارج ؟ فإن قالوا: لا. قلنا: فتقولون أن الباري تعالى عن قولكم ذو مخارج من شفة للفاء؛ وحلق للحاء؛ ولسان للثاء؛ وإن قالوا: نعم جسموا بإجماع المسلمين؛ وإن قالوا: لا تحتاج الحروف إلى مخارج؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم، وذلك أن كلامه منه خرج، وكلامه عندهم حروف، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج؛ وكل هذا القول كفر وضلال، وسفه وحمق وجهل عظيم.
فصل
فإن احتجوا بقوله تعالى " حم " و" الم " ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله، فصح أن كلامه حروف، قلنا: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف، ولام، وميم نفس الكلام القديم، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل قديما، هذا جهل ظاهر. وإن قلتم المفهوم من " الم " و" حم " ونحو ذلك هو كلام الله تعالى عند نظر الناظر إليها، وأن المسموع عند قراءة القارىء " الم " و" حم " ونحو ذلك هو كلامه تعالى، وهذا صحيح، وصح بذلك أن الكلام القديم يفهم بالحروف المنظومة، على اختلاف نظمها بين أرباب تلك الخطوط والأشكال كلام الله تعالى، فكذلك صح أن القراءة هي حروف وأصوات بها يسمع كلام الله القديم على حسب اختلاف اللغات بين أربابها، لا أنها نفس كلامه القديم. وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف المقطعة في أوائل السور على ثمانية أقوال: أحدها: أنها أسماء من أسماء القرآن، كالذكر والفرقان، وهذا قول قتادة وابن جريج.
الثاني: أنها اسم لكل سورة ذكرت في أولها، وهذا قول زيد بن أسلم.
والثالث: أنها يعبر بها عن اسم الله الأعظم، وهذا قول السدي، والشعبي.
والرابع: أنها أقسام أقسم بها الله تعالى، وبه قال ابن عباس، وعكرمة.
والخامس: أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال، فالألف من أنا، واللام من الله، والميم من أعلم. فكان معنى ذلك أنا الله أعلم. وهذا قول ابن مسعود، وسعيد بن جبير ونحوه عن ابن عباس أيضا؛ والعرب قد تعبر عن الكلمة بحرف منها، كقول القائل: قلت لها قفي. قالت: قاف. أي وقفت، ومثله في كلام العرب كثير. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: " كهيعص " الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم ، والعين من عليم، والصاد من صادق.
السادس: أن كل حرف منها يدل على معان مختلفة، فالألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد، والألف آلاء الله، يعني نعمه، واللام ملكه، والميم مجده، والألف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون سنة، آجال ذكرها.
صفحہ 46